روايات

رواية وبها متيمم أنا الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم أمل نصر

موقع كتابك في سطور

رواية وبها متيمم أنا الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم أمل نصر

رواية وبها متيمم أنا الجزء الثالث والثلاثون

رواية وبها متيمم أنا البارت الثالث والثلاثون

وبها متيمم أنا
وبها متيمم أنا

رواية وبها متيم أنا الحلقة الثالثة والثلاثون

على أطراف اصابعها كانت تسير بخفة داخل الحجرة التي احتوت شقيقتها والاَن اكتملت بطفلها أيضًا، بابتسامة حانية اقتربت من الفراش، الذي كان يضم الإثنين، وبصوت خفيض خاطبتها برقة:
– رباب يا رباب.
استيقظت الأخيرة على اثر الصوت رغم ضعفه، لتناظرها بتساؤل، تبسمت كاميليا لها قائلة:
– لساك نومك خفيف برضوا؟
اعتدلت لتفك ذراعها عن ابنها الذي ظل طول الليل بأحضانها ولم يغب عنها، وردت بصوت متحشرج بهمس:
– انا تقريبًا مبنمش أو يمكن بخطف ساعة ولا ساعتين بالعافية، لكن انتي بتصحيني ليه؟ عايزة مني حاجة؟
تجاهلت كاميليا الجزء الأخير لتسألها بقلق:
– ليه يا حبيبتي قلة النوم، هو انتي مش مستريحة في الأوضة؟
لعقت شفتيها بتوتر، وحيرة تكتنفها بشدة، تريد الأفصاح أو التحدث في هذا الأمر الثقيل على صدرها، فعواقب ما ارتكبته على وشك الوقوع، وزوجها لا يرحم.
طال صمتها في التفكير العميق مما جعل القلق يعصف بكاميليا لتعيد سؤالها بتوجس:
– أنتي في حاجة مخبياها عني يا رباب؟
مررت بكف يدها على جانبي رأسها لتزيح الشعيرات المتبعثرة حتى تعيدها للخلف وعقلها ما زال يدور بتفكير مضني حسمته فجأة بقرارها:
– أنا عايزة اقولك على سر.
❈-❈-❈
بخطوات واسعة كان يخترق بقدميه لداخل القصر، بعد استجابته للاتصال الذي وصله من والدته، وهي تخبره بضرورة الحضور حالا وفورًا، وقد سبقه مجموعة من الإتصالات والرسائل التي غفل عنهم في غمرة نومه الذي والصدفة تأخر اليوم .
– إيه في إيه؟
صدر منه السؤال فور أن وقعت عينيه نحو الجالستين في بهو المنزل وكأنهن في انتظاره، اشاحت بهيرة بأنظارها عنه، وتكلفت نور بردٍ خرج كتأنيب:
– اتأخرت ليه يا عدي؟ دا احنا من الصبح قالبين الدنيا عليك؟
اقترب بوجه ازداد غرابة، يجيب سؤالها بسؤال:
– وليه تقلبوا الدنيا بقى؟ إيه المهم اوي عشان يستدعي اتصلاتكم الكتيرة أوي دي؟
طرقت بهيرة بالعصا التي تتحامل عليها هذه الأيام كثيرًا، بعد اشتداد وطأة المرض عليها، لتصدر صوتًا مزعجًا على الأرضية، وهدرت بوجه ممتقع لم يألفه عدي من قبل ذلك نحوه، لتهدر به:
– وليك عين كمان تسأل وتتحاكى؟ سايب مراتك وولادك وهربان في أحضان عشيقاتك، من غير ما تعرف باللي بيجرالهم ولا اللي حاصل معاهم؟
زفر دفعة كبيرة من الهواء، يقلب عينيه بسأم، فقد وضح بعقله الاَن أن ما يحدث معه قد يكون بسبب ميسون التي بدأت تفتعل المشاكل هذه الأيام، فقال باستخفاف:
– طيب ما تجيبوا من الاخر، وقولوا الهانم عملت إيه؟ بدال الفوازير دي.
زاد الغضب بوجه والدته حتى اشتعلت عينيها بحريق نحوه، فقالت نور بلهجة اَسفة:
– الموضوع مش محتاج فوزاير يا عدي، ميسون خدت الولاد وسافرت على تركيا بيهم، وبتبلغك تبعتلها ورقة الطلاق، يا إما تحصلها على هناك وتفترقوا باتفاق قانوني.
– إيه؟ انتي بتقولي ايه؟
تفوه بها بعدم تصديق، بل هو لا يستوعب، حتى انه اعاد السؤال بصيغة أخرى:
– ازاي يعني تاخد الولاد ازاي وتسافر بيهم؟ هما اولادها لوحدها؟
– أيوة أولادها لوحدها؟
هتفت بها بهيرة لتردف بتشفي:
– وانت ايه دورك في حياتهم غير ضيف؟ بتيجي تقضي وقت حلو معاهم، كل فترة بتعدي بالأسابيع.
احتدت أنفاسه في الصعود والهبوط بتسارع، وقد بدأ يستفيق للصدمة التي لم يعمل لها حساب قبل ذلك، وتوجه بخطابه لزوجة أخيه:
– هو الموضوع بجد ولا ايه يا نور؟ ازاي جوزك يسمح بكدة؟ سيبتوها خرجت ازاي من القصر بيهم؟ دا مصطفى عزام بجلالة قدره.
بانفعال لم تقوى على كتمانه هتفت به هي الأخرى:
– وكنت عايزه يعمل ايه يعني؟ جدها بعت واحد من طرفه عشان ياخدها هي والولاد، ولما اتصل بيه مصطفى، معرفش يلاحق في الرد ع الراجل، ميسون كانت مخببة عن أهلها كل اللي بيحصل ما بينكم وهجرك ليها بالشهور، لكن بقى لما فاض بيها بلغتهم بكل شيء وهما بقى ما تحملوش على بنتهم، ودول ناس مش قليلين، وانت أدرى.
– وما بلغتونيش ليه؟ أنا كنت اتصرفت مع الناس دي، أنا أولي بيهم.
صاح بها بصوت عالي وقد خرج عن طوره الهاديء، ردت نور بعصبية هي الأخرى:
– ما احنا بنتصل بيك من الفجر وانت مبترودش، كنت عايزنا نعمل ايه؟
استمر بانفعاله يوزع النظرات بينها وبين والدته التي ظلت تطالعه بتجهم:
– ازاي يعني معرفتوش تتصرفوا يا نور؟ الهانم تخرج من البلد بولادي، قيمتنا ايه على كدة في البلدة دي؟
– احنا قيمتنا أكبر من الأفعال الخسيسة دي يا استاذ عدي
هتف بها مصطفى والذي كان عائدًا من الخارج، ليتلقفه شقيقه محتجًا:
– ليه يا مصطفى تسيب الست دي تخرج بولادي؟
ناظره الاَخير بقوة قائلًا:
– دا انا مش سيبتها وبس، لا دا انا كمان وصلتهم المطار.
وكأنها صاعقة ضربته بقوة ليعود مرتدًا للخلف بخطوة، وقد ظن أنه على وشك الترنح، قبل أن يتماسك ليرد بصدمة امتزجت بلومه:
– إنت يا مصطفى، وهان عليك اخوك ولا اولاده اللي انت مربيهم أكتر مني.
حافظ على رباط جأشه ولم يظهر تأثرًا في قوله:
– أديك قولت بنفسك، يعني مش محتاج توصية عليهم، ولادك مكنش ينفع أبدًا يستمروا على الوضع ده، ومراتك اللي انت فضلت راميها، كان لازم يجي عليها اليوم اللي تنفجر وفيه، واحنا ولاد أصول، ومنرضاش بالظلم.
برفض للواقع وعدم تقبل لما حدث، انتقض صارخًا
– دا كلام فارغ انا لا يمكن اقبل بيه، الهانم خيرتها، يبقى تروح في داهية، مش تهرب بولادي لدولة تانية، ان كنت انت سكت ووافقتها، انا لا يمكن اسكت ، فاهم يا خويا يا كبير، لا يمكن اسكت.
ظل يردد بها حتى غادر القصر نهائيًا، تاركًا شقيقه الذي كان يتبادل النظرات بأسى مع زوجته ووالدته، التي بدا عليها الحزن الشديد لفراق الأحفاد والكنة المفضلة إليها.
❈-❈-❈
بتثاقل شديد كانت ترفع رأسها عن الوسادة بصعوبة، لتطفئ صوت الهاتف الذي كان يدوي باستمرار مزعج لورود المكالمات، حتى أجبرت نفسها تتناوله لترى من المتصل، انتفضت بانتباه فور ان وقعت عينيها على اسمه، لتجيبه على الفور:
– ألوو يا ابراهيم، صباح الخير يا حبيبي.
– صباح الخير يا ختي.
قالها بقرف، ثم استطرد بغيظ:
– هو انتي لسة نايمة يا بت؟
اعتدلت بجذعها لتجيبه بارتباك وقد ذهب عنها النوم إلى غير رجعة:
– وفيها ايه يعني لما انام يا ابراهيم؟ هو انت كنت طالب مني حاجة وانا نسيتها؟
صاح بها بصوته العالي:
– حاجة ايه يا بت الهبلة؟ انا بتكلم عن شغلك اللي اتأخرت عليه، دا الساعة داخلة على تسعة دلوقتي، ولا تكوني عملتي اللي في دماغك، وصرفتي نظر عنه يا أمنية؟ عشان تبقى ليلتك طين.
زفرت ببعض الإرتياح رغم ضيقها من تهديده المستمر لها في هذا الأمر، بالإضافة إلى التوبيخ المتعمد، فردت بهدوء:
– لا يا ابراهيم، لا انا صرفت نظر، ولا هو في شغل اساسًا، المحروسة واخدة أجازة النهاردة، وعبد الرحيم بيتابع الشغل في الموقع مع نفسه.
سألها باستغراب شديد:
– ليه بقى الأجازة، لا احنا في اخر الأسبوع ولا هي أجازة رسمية؟
لأ يا ابراهيم، مهياش أجازة رسمية، بس يا حبيبي النهاردة هي مش فاضية، المحروس وامه هيعدوا عليها بعد شوية، عشان يجيبولها الشبكة، واخد بالك يا حبيبي.
– يعني هتلبس دبلته؟.
دمدم بها وكأنه يحدث نفسه، تكتنفه حاله من عدم التوازن، لا يستوعب بل لا يتقبل من الأساس، أوغر صدره بحقد دفين، ومراجل الغليل بداخله، قادرة على إحراق الأخضر واليابس، حتى أنه اغلق ينهي المكالمة، بعدم اكتراث أو استأذان، ليترك غرفته متوجهًا إلى الشرفة؛ والتي وقف بها، يمرر بأطراف أصابعه على جانبي فكه، شاردًا بنقطة ما في الفراغ، وقد عاد بذاكرته لعدة سنوات مضت، وقت الوعود، ثم الإخلال بها، وقت أبيها، العم ناصر الدكش، والذي دفع حياته ثمنًا لعدم الوفاء بوعده!
❈-❈-❈
في جلستها معها وقد تركت صغيرها على فراشها في غرفتها، ليتم الحديث بأريحية على انفراد بينهما هنا في غرفة المعيشة، فتحدث اللسان بما عجز عنه طوال الفترة الماضية، لتسرد أمامها كل ما حدث، فكان رد كاميليا المباشر:
– يا نهار اسود يا رباب، يا نهار اسود يا نهار اسود، عملتيها ازاي دي؟ معقول؟
ردت مطرقة رأسها بخزي وعينيها لا تجرؤ على النظر بخاصتي شقيقتها تقر بخطأها:
– عارفة اني غلطت، وغلطي لا يغتفر كمان، بس انا ساعتها كنت فاكرة اني بجيب حقي، أو بمعنى أصح بنتقم لكرامتي.
– كرامة إيه؟
تفوهت بها كاميليا وشعور بالعجز أمام هذه المعضلة يجعلها على وشك البكاء، وهي تتابع:
– الانتقام الحقيقي مكانش يجب انه يتاخد من الست وحدها يا رباب، جوزك عيبه اخطر منها، دا كان بيتسغل ضعفها قدام وسامته وشبابه، مقابل جوزها العجوز اللي اتظلمت ودفنت شبابها معاه، مهما مثلت قدام الناس انها مبسوطة والفلوس بتسعدها.
خرج صوتها بدفاع واهي:
– هي مظلومة وانا كرامتي راحت فين؟ لما واحدة زي دي ترخص نفسها وتديلوا كل اللي هو عايزه منها، قيمتي أنا ايه ما بينهم؟
على صوت كاميليا في الرد بانفعال نحوها:
– اديكي قولتيها بنفسك ما بينهم…… كان يجب تواجهيه وهو ساعتها يختار، ما بين الانغماس في خطيئته وما بينك، مش تصوري وتسجلي وكمان تبتزيها…. قدرتي ازاي تعمليها دي؟ ازاي يا رباب؟
بصوت ازداد ارتعاشه وإحساس اختلط ما بين الندم والقهر الذي كانت مكتومًا داخلها، ردت تجيبها:
– انتي عارفة كارم أكتر مني، المواجهة معاه معناها الخسارة، لا كنت هقدر اَخد حقي منه، ولا كنت هقدر أبعد واسيبه، بعد ما اختارته وبعت الكل،
تابعت بصوت مس شغاف قلب شقيقتها:
– انا كنت وحيدة يا كاميليا، وهو جبار مبيرحمش، نار الخيانة كانت بتحرقني وانا واقفة مشلولة قدام سكوتي ومش عارفة اتصرف ازاي معاه؟ فكرت كتير اظبطه متلبس بالخيانة، لكن خوفت، خوفت ليكسرني ويستغل ضعفي لو اتحديتوا، وساعتها كان هيجبرني اعيش معاه بالقانون بتاعه، انا عارفة كويس وشه التاني، عشان كدة كنت بتجنبه قدر الإمكان.
– ومع ذلك شكلنا هنشوفه قريب.
قالتها كاميليا، وزفرت تطرد دفعة كثيفة من الهواء المحبوس بصدرها، تغمض عينيها بتعب، ثم التفتت نحو شقيقتها التي كانت تموت من الرعب أمامها. منكمشة على نفسها، تخشى القادم المجهول، رق قلبها لتسحبها إليها وتضمها بقوة مرددة:
– احنا معاكي وفي ضهرك، مش هنسيبك أبدًا، انتي خلاص معدتيش لوحدك.
خرج صوتها برجاء تخاطبها:
– انا نفسي جاسر يوصلهم الأول، يمكن ساعتها نعرف نلم الموضوع.
دمدمت كاميليا بجدية:
– في كل الحالات احنا لازم ناخد حرصنا، مينفعش ابدًا نسيب حاجة للظروف.
استلت نفسها منها لتسألها بتوجس:
– يعني ايه؟
تطعلت لها بقوة تجيبها:
– في كل الحالات جوزك هيعرف، ف انا من رأي انها تيجي منك أحسن.
جحظت عينيها وانسحبت الدماء من وجهها لتردد برعب وعدم تصديق:
– عايزانى اعترفلوا يا كاميليا؟
ردت بابتسامة جانبية تخلو من أي مرح:
– للأسف أنتي معندكيش أي اختيار تاني.
❈-❈-❈
– حمد الله ع السلامة يا أبو ليلة.
قالتها زبيدة بلهفة اصابت صدرها بنهاج خفيف، وهي تستقبله من مدخل المنزل كطفلة صغيرة، لا تعرف المكر في إخفاء مشاعرها، ليتلقفها هو بقبلة على أعلى رأسها، بعد أن ضمتها ذراعه القوية، بابتسامة مشرقة لرؤيا مهجة قلبه، مرددًا:
– يسلمك ويحفظك ليا يا غالية.
تدخلت صبا بسماجة تقصدها، وقد حضرت المشهد من أوله:
– طب افتكروا طيب ان انتوا جاعدين في الصالة، ومعاكم اَنسة كعذراء الربيع واجفة تتفرج، ومستنية دورها.
ضحكت لها زبيدة بخجل تنحي بوجهها للناحية الأخرى، لتجعل زوجها يتقدم بغيظ نحو ابنته:
– كسفتيها يا بت الفرطوس، وانتي يعني محتاجة عزومة عشان تستجبليني.
– لا ما انا لازم اخد فرصتي كاملة ومحدش يشاركني فيك.
قالتها صبا وهي تلقي بنفسها عليه وتلف ذراعيها حول عنقه، تتلعق به كالعلقة متابعة:
– وحشتني يا ابو ليلة يا حبيبي.
حاول فك ذراعيها عنه مرددًا بحنق يدعيه:
– يا بوي ع التناحة، خفي يدك عني يا بت هتخنجيني.
ضحكت بدلال لتقبله فوق وجنته باستمرار في غيظه:
– انا أكتر واحدة بحبك يا بوي، مش أي حد تاني.
– وه .
تفوه بها أبو ليلة وعينيه انتقلت نحو زوجته التي كانت تخفي بيدها ابتسامتها وقد وصلها ما ترمي إليه ابنتها، ليشاركها الضحك غامزُا:
– البت دي مش معدلة، ونيتها مش صافية يا زبيدة.
خرج صوتها بصعوبة لتندمج في مزاحهم:
– إهي بتك وانت حر فيها عاد.
– اَه والله عندك حج، أنا بجول اخلص منها واجوزها، كدة كدة ربنا مسهلها وشكلنا كدة هنفرح بيها جريب.
قالها ابو ليلة وقد نزل بعينيه نحو ابنته التي انتبهت على هذا التغير في نبرته، لتستل عنه باضطراب، تشعر أن به شيئًا ما، وتأكدت من نيته مع قوله التالي:
– المرة دي ملكيش حجة، العريس كامل ومكمل، لا هو ساكن في البلد، ولا هو واد عم من نفس البطن.
❈-❈-❈
على كرسيه الذي كان يلتف به يمينًا ويسارًا كالأرجوحة، بعقل شارد في هذه القضية الغريبة، وهذه الفتاة التي تُثير بداخله الشفقة نحوها، رغم غضبه منها وتحميلها مسؤلية كل ما حدث وما تسببت به لنفسها، ولكن لا يتمنى لها العقاب بضياع مستقبلها، خصوصًا وقد رأى بنفسه المستوى المتدني الذي تعيش به، ومعاشرتها لإمرأة كجدتها، نفس الإحساس الذي يجعل فتاة كصبا تتمسك بمساعدتها رغم علمها الأكيد بعيوبها، ولكن لما يونبئه حدسه ان هذا الموضوع يدور حول الاَخيرة بصفة أو بأخرى؟
زفر يخرج كتلة من الهواء ليجلي عقله قليلُا من أفكاره، وتناول هاتفه من فوق سطح المكتب، حتى يجري اتصالًا قد يغير من مزاجه ولو قليلًا:
وصله الصوت الناعم الحاد.
– الوو يا حضرة الظابط.
– الوو يا لينا عاملة ايه؟
قالها بابتسامة اتسعت حينما سمع تذمرها:
– الحمد لله يا سيدي، انا كويسة وبمارس حياتي عادي، بس دا مينمعش اني مدايقة طبعًا عشان الحاجة اللي غايبة مني.
رد بتسلية لا تخلو من المكر:
– قصدك يعني ع القلب اللي ضاع في عربيتي يا لينا؟ مكنتش اعرف انه غالي اوي عندك كدة، دا شكله له ذكرى جميلة معاكي.
ردت بعفوية وقد غاب عقلها عن مقصده:
– ذكرى ايه؟ هو انت فاكرني واخداه هدية، دا انا جايباه من كدي وشقايا ايام ما كنت بشتغل وبدرس في نفس الوقت ايام الجامعة.
– طب براحة شوية يا ستي هو احنا هنتخانق؟ دا بس مجرد سؤال يعني.
قالها مشاكسًا، ولم يرى الإبتسامة الجميلة التي لاحت على محياها وهي ترد ببعض اللطف:
– لا يا سيدي مش خناقة ولا حاجة، وانا كمان كنت برد عادي يعني، لكن انت بقى بتاخد كل حاجة على انها خناق.
– أيوة بقى.
تمتمتم بها داخله وقد اعجبه ردها، يشعر ببدء استجابة او تغير من ناحيتها نحوه، ورد ضاحكًا:
– ما هو برضوا لازم تعذريني يا لينا، هو انتي ناسية تاريخنا من أول مقابلة كان ازاي؟
وصله ردها بنعومة كادت ان تذهب بعقله:
– لا طبعا مش ناسية، وانسى ازاي يعني؟…
توقفت برهة، وكأنها لا تريد الإنزالاق أكثر من ذلك في هذا الحديث الخاص بينها وبينه، لتردف بتذكر:
– المهم بس حاول تشوف ولا تدور من تاني ع القلب، ممكن يا حضرة الظابط؟
لم يجيبها على الفور بل انتظر لحظات من الترقب، بابتسامة شملت كل ملامحه، ليرد اخيرًا بخبث:
– من عيوني الاتنين يا لينا، هحاول بقى الاَقي وقت ادورلك فيه براحتي، اصل بصراحة اليومين دول مشغول جدًا في الشغل، دا غير كمان خطوبة حسن على صاحبتك، ناوية بقى تيجي الخطوبة يا لينا؟
– طبعًا لازم اجي، هي دي محتاجة سؤال؟ شهد دي اختي مش صاحبتي.
قالتها بتأكيد قابله برده الواثق:
– كويس اوي ده، واهو بالمرة لو لقيت القلب اديهولك في المناسبة الحلوة دي.
– تمام .
انهى المكالمة وقد اكتنفه ابتهاجًا لا ينكره، يعجبه حالة الشد والجذب، ثم المهادنة والتوقف قليلًا قبل العودة لطبيعتها المناكفة، والتي كانت أكثر ما جذبه نحوا.
– سعادة الباشا.
اجفله عصام بقولها، قبل أن يتذكر ويطرق بخفة على باب الغرفة الذي كان مفتوحًا من الأساس، ليستأذن معتذرًا:
– أنا أسف سعادتك، ممكن دقيقة؟
رد بتريث لا يخلو من الإندهاش:
– ادخل يا بني، بس خد نفسك الأول، ليه اللهفة دي؟
سمع عصام ليتقدم نحوه على الفور، واضعًا إحدى المستندات الهامة ليرد مفسرًا:
– ما انا جايلك بمعلومات مهمة اوي، البنت اللي كنت كلمتك عنها قبل كدة في قضية مودة، طلع لها تاربخ مذهل، وملف قديم في الأداب
قلب أمين سريعًا في الأوراق ليغمغم بصحة ما يؤكده زميله:
– دي كانت متربية في ملجأ كمان، رغم ان خالها كان عايش؟ اي ده؟ اي ده؟ تلت قضايا تدخلهم وتطلع منهم زي الشعرة من العجين؟
رفع انظاره إليه متابعًا:
– دي مش سهلة ولا هينة بقى؟
– ما انا قولتلك يا فندم، شكلها معجبنيش.
قالها عصام متفاخرًا بعض الشيء، بصدق حدسه، فجاءه قول ألاَخر الحازم:
– طب اسمعني كويس بقى، تجيب مودة وتعرف منها خط سيرها مع البنت دي من ساعة ما خرجوا في اليوم ده واتفسحوا ولفوا ع المحلات لحد اما روحت بيتها، وانت بشاطرتك تجيب تسجيلات الكاميرات من المول وأي حتة تانية راحوها.
❈-❈-❈
– أيوة حاضر أنا جاية.
صدر الصوت المستفز من داخل المنزل قبل أن يفتح الباب فتطل بهيئتها التي تشعل الدماء بالرأس، لتزيد عليها بوقفتها المائلة، ترمقها من تحت أجفانها، ثم ليخرج الصوت من بين تلويكها للعلكة بداخل الفم:
– إيه ده؟…. هو انتي؟
اهدتها صبا ابتسامة صفراء وهي تجيبها:
– اه انا يا أنسة سامية، عندك مانع ادخل اطمن على جارتنا وبنتها التعبانة.
ردت بميوعة وبصوت يطرقع ليثير القشعريرة على أسماعها:
– لا طبعا معنديش وبنفس الوقت مقدرش اقولك ادخلي كدة من نفسي، دقيقة بقى اروح استئذن أهل البيت، عن اذنك .
قالتها وتحركت للداخل بحركات بطيئة بتمايل، لتريها جمال قدها في هذه العبائة القطنية التي تقسم جسدها لمناطق منعزله، كل جزء يمثل خريطة مع نفسها، اندمجت صبا معها حتى اختفت بداخل إحدى الغرف لتمتم بحنق مع نفسها:
– يخربيتك، دي سابينها ازاي كدة؟ ما حد يلمها ويتجوزها؟
– واقفة عندك بتعملي ايه يا صبا؟
هتف بها شادي وقد كان خارجًا من غرفة والدته، سمعت هي لترسم على وجهها العبوس قائلة:
– أنا موجفتش كدة من نفسي، البت دي بنت خالك هي اللي جاتلتلي استنى على ما تستأذن حد منكم يدخلني، عشان بقولها عايز اطمن على جارتنا.
قالتها بنبرة لائمة جعلته يقترب على حرج مرحبا بلطف:
– طب وانتي برضوا محتاجة استئذان من حد؟ ادخلي يا صبا ادخلي.
فور ولوجها لداخل المنزل، اغلق الباب ليتبعها، فقد بدا من هيئتها تغيرًا لم يخفى عليه، حتى وهي ترفع رأسها إليه بسؤالها العادي:
– رحمة النهاردة عاملة ايه؟ هي والست الوالدة؟
أجاب بلهجة عادية رغم تحرقه للسؤال عما بها:
– رحمة كويسة والحمد لله.
اومأت بشبه ابتسامة جانبية ليس لها معنى، أدخلت في قلبه القلق، فهذا الغموض وهذا التردد أبعد ما يكون عن شخصية صبا، لذلك لم يقوى على منع نفسه من سؤالها:
– أنتي كويسة يا صبا؟
ردت بصوت كان أشبه بالهمس، وبكلمات متقطعة:
– الحمد لله…. كويسة……… انا بس كنت عايز اسأل عن رحمة.
– ما قالك كويسة، ولا هو تكرار وخلاص.
قالتها سامية التي خرجت من غرفة الأطفال على صوت حديثهم، التفت إليها صبا بنظرة مغتاظة واكتفت بالصمت حينما تولى شادي الرد عنها:
– في إيه يا سامية وانتي مالك؟
احتقن وجهها بعد إفحامه لها، حتى كادت أن تجادله برد قوي، ولكن صبا لم تنتظر، وتحركت باستئذان نحو غرفة رحمة، لتتبقى هي مع شادي الذي أجفلها بسؤاله:
– هو انتي لما قولتي لصبا استني استأذن اصحاب البيت، كنت داخله عند الأطفال تأخد منهم الأذن.
سهمت بوجهها أمامه، لتردد بعدم تركيز وقد طارت من رأسها كل الحجج.
– هااا
❈-❈-❈
– يعني ايه من بطن تانية؟
سألتها رحمة باستفسار ملح، وقد كانت جالسة على طرف التخت بجوارها مطرقة الرأس، كالذي يحمل فوق ظهره همًا ثقيلًا، حتى إجابتها صدرت بخواء:
– يعني من نفس البدنة، بس مش نفس الجد، أو بمعنى أصح واد عمي من بعيد.
– لكن من نفس العيلة.
– هو فعلًا من نفس العيلة.
– امال ابوكي عمل ايه بقى؟ ما هو نفس الأمر.
– لأ مش نفس الأمر.
قالتها صبا لتتوقف دقيقة زافرة بقنوط، قبل أن تتابع:
– المرة دي العريس مش ساكن في البلد، ولا هيسكني فيها، دا غير انه شغال مهندس في شركة بترول على حسب كلام ابويا، وابوه مأصل من كبارات العيلة، يعني ع الفرازة زي ما بيجولوا
بتفرس شديد في ملامحها وكل رد فعل يصدر منها، سألتها رحمة:
– طب وانتي ايه مزعلك؟ مش يمكن لما تشوفيه يعجبك، ما هو طول ما والدك بيتكلم بالحماس ده، يبقى ابوكي، اتأكد انه هيعجب.
– يعجبه هو مش انا.
قالتها بعصبية جعلت رحمة عادت لتسألها بنفس المنطق:
– وانتي ايه اللي يعجبك يا صبا؟
تلبكت باضطراب تبحث عن إجابة في عقلها المتشتت من الأساس، حتى خرج ردها:
– مش عارفة، بس انا حاسة نفسى مش عايزة.
– مش عايزة تتجوزي يا صبا؟
للمرة الثانية تسألها بشكل مباشر، وازدادت هي اضطرابًا في قولها:
– ما انا جولتلك مش عارفة……. ومش لاجية رد يرجع ابويا عن قراره، يعني مضطرة احضر المقابلة دي اللي حددها مع العريس وأهله، وربنا يستر بجى.
– يستر في إيه يا صبا؟ انه يطلع مش حلو عشان ترفضيه بقلب جامد، ولا يطلع كويس عشان تراضي ابوكي؟
حيرة ارتسمت على صفحة وجهها بشكل واضح، مع شيء الاَخر، بدا في نظرتها غامضًا وغير مقروء، جعل رحمة تشاركها الصمت، في انتظار رد مقنع لها علّها تفهم.
قطع شرودها صوت هاتفها، قبل أن تستجيب في الرد:
– ألوو يا مدام صفاء………. ازيك انتي عاملة اية؟……….
نعم مالها مودة؟………. ايه؟ يا نهار اسود……….. لا طبعا وهعرف منين.
أنهت المحادثة لتنتفض بحزن زاد على توترها:
– عن اذنك يا رحمة انا ماشية.
اعترضت توقفها بقلق:
– قلقتيني يا صبا، ايه اللي حاصل مع صاحبتك؟
اشارت بكف يدها، تقول بصوت مختنق:
– صاحبتي مستجبلها ضاع، الله يكون في عونها بقى،
نهضت تود الذهاب، ولكن توقفت على دخول شادي يحمل ابنة اخته يداعبها كالعادة وهي تطلق الضحكات بصوت عالي، ظلت لبعض الوقت ترمقه بصمت، قبل أن تجبر قدميها على التحرك مردفة:
– عن اذنكم يا جماعة.
قالتها وذهبت على الفور، نظر في أثرها باستغراب، قبل أن يعود لشقيقته متسائلًا:
– إيه الحكاية؟ مالها صبا؟
❈-❈-❈
على الكرسي الذي ظل مقيدًا به لعدة ايام، هتف العم كريم فور رؤية رئيسه الذي ولج إليه الاَن، يستعطفه، علّ قلبه القاسي يستجيب:
– مش ناوي بقى تسيبني يا بيه؟ ربنا يخليك انا عندي عيال .
اقترب كارم مع بعض رجاله ليجلس واضعًا قدمًا فوق الأخرى، يقول بلطف زائف:
– يا عم كريم انا عايز اساعدك، بس كمان انت لازم تساعدني.
– والله يا باشا لو اعرف مش هتأخر، انا قولت على كل اللي اعرفه، اساعدكم بإيه تاني بس؟
لم يتأثر او تهتز به شعرة لهيئة الرجل المزرية واستجدائه له، يعلم ببرائته، ومع ذلك لا يطمئن له، كما أنه يريد الحصول على أي معلومة منه قد تفيده، لا يصدق أن كل هذه الفترة من مرافقة الاَخر، لم يرى بها ولو مرة واحدة شيء لفت انتابهه.
اهتز هاتفه في جيب السترة، ليوقف الرجل عن الكلام بكف يده، وباليد الأخرى، وضع الهاتف على أذنه ليجيب محدثه من الجهة الأخرى:
– أيوة يا عدي أنا معاك اهو……… ايه؟ امتي حصل الكلام ده؟…….. يعني انت مسافر دلوقت؟……….. لا يا سيدي ما تشلش هم الشغل، روح انت شوف مصلحتك.
تروح وترجع بالسلامة ان شاء الله .
انهى المكالمة ينهض عن مقعده سريعًا وقد حسم أمره:
– سعادة الباشا، انت هتسبني وتمشي تاني برضوا؟ ابوس ايدك افرج عني بقى.
القى بنظره نحو الرجل ليأمر إحدى الرجال المرافقين له،
– فكوا عمي كريم، وخلوه يرجع لبيته.
سمع الرجل ليهلل بكلمات الشكر والإمتنان نحوه:
– ربنا يعمر بيتك يا بيه، إلهي يا رب ما يحطك في ديقة أبدًا وينصرك على مين يعاديك.
حدجه بنظرة مخيفة يحذره:
– مش عايز اوصيك يا عم كريم، اليومين اللي قضتهم معانا يتمحوا من ذاكرتك، تمام ولا احب افهمك؟
بجزع شديد ردد من خلفه بإذعان:
– والله العظيم فاهم، دي مش محتاجة وصاية، دا انا ابقى راجل غبي لو عملت غير كدة.
رمقه بابتسامة جافة لا تخلو من التهديد:
– برافوا يا عم كريم، وانا هوصي الرجالة يقبضوك قرشين حلوين، تروق بيهم عن نفسك وعن ولادك، مش هما بنتين والولد برضو؟.ربنا يخليهملك.
❈-❈-❈
أمام الصائغ الذي كان ينتقي أجمل القطع، ويضعها أمام العروس بتشكيلة راقية، تجعلها تحتار في الأختيار،،
– ها يا عروسة، نقيتي إيه؟
سألها حسن مشجعًا حتى تتكلم بدون حرج، فتدخلت نرجس تسبقها بأعين كادت أن تخرج من محجريها من الأنبهار:
– هتنقي ايه ولا ايه؟ دي كلها حاجات تهبل، يا ريتنا جينا هنا يوم البت أمنية، ابراهيم الخايب دخلنا عند واحد سكة، كل حاجته أي كلام .
صعق حسن من رد المرأة التي احرجت شهد كما، احرجته هو ووالدته، فجاء رد الصائغ بزوق يخفي ضيقه:
– معلش يا هانم دي ارزاق، ربنا يوسع ع الجميع، خلينا احنا مع عروستنا القمر.
قال الأخيرة مخاطبًا شهد التي امتقع وجهها من فعل زوجة أبيها المستفز، تشتت تركيزها، عن الإختيار الأمثل، حتى كادت أن تشير على أي واحدة ، لولا
مجيدة التي قالت بمزاح تقصده:
– عروستنا القمر تنقي براحتها يا عم جورج، بلاش تستعجلها، وتعالى انت ركز معايا انا .
بفلعلتها الزكية في سحب الرجل نحوها، لتتبادل معه الحديث ومع هذه المدعوة نرجس في بعض الأمور الخاصة بعمل الحلي، والأنواع الجديدة والقديمة منها، تركت المجال للعشيقين، حتى يتم الأختيار بدون ضغط، بعد هذا التوتر الذي انتشر في الأجواء، وقال حسن ملطفًا:
– اللي يشوفك وانتي كيوت كدة ومش عارفة تردي ع الراجل، ما يصدقش ان دي سيادة المقاول اللي بتتحكم في رجالة بشنبات.
استطاع بخفته زرع ابتسامة جميلة على ثغرها، لتقول باعتراض:
– ما بلاش، لاطلعلك بالمقاول اللي جوايا، وانتي حر ساعتها بقى، محدش هيتكسف غيرك..
ضحك بتوسع يقارعها:
– والله ولو عملتيها في الشارع حتى، هعرف برضوا اتصرف وارجعك لأصلك، رقيقة وكيوت من تاني، انا خلاص بقيت مالك مفاتيحك، عرفتيها دي ، ولا تحبي اقنعك بيها؟
باندهاش شديد ردت تجادله بمرح :
– تقنعني بإيه يا مجنون؟
– اقنعك بالمفاتيح.
– مفاتيح إيه؟
– مفاتيح قلبك، هي دي محتاجة زكاء يا شهد.
قالها بانفعال مصطنع، جعلها تنطلق بضحك مكتوم، لا تعرف التوقف عنه، وقد استطاع أن يجبرها بخفة ظله على الاندماج معه، الأخد والرد بأريحية دون التعب بتفكير مضني، فيما يصح أو لا يصح، يعلم ما يحزنها، وما يضحكها، وكأنه بالفعل قد ملك مفاتيحها.

يتبع……

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وبها متيمم أنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى