رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الفصل السابع 7 بقلم أمل نصر
رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الجزء السابع
رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) البارت السابع
رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2) الحلقة السابعة
وصل في ميعاده الصباحي اليومي، ليباشر عمله في متابعة المزرعة الكبيرة لتربية الدواجن، بعد ان أسسها ووظف بها عدد من أفراد البلدة ليس بالهين، في خطوة اولى ، يتبعها العديد من الاستثمارات، قد وعد وأعلن عنها سابقًا، لمساعدة العاطلين والمحتاجين، كما يدعي.
دلف بهيبة اكتسبها حديثًا، تتبعه ابصار المعجيين والمنبهرين، في روتين أصبح ينعشه لبعض الوقت قبل ان ينغمس في عمله.
وقعت عينيه على تلك المرأة التي قَبل بتوظيفها على مضض ولغرض ما في نفسه ، تتمايل بخطواتها امام رئيس العمال بعدما وبخها كما يبدوا من هيئته المتجهمة، لتتركه ذاهبة بعدم اكتراث، حتى زادت من غضب الاَخير، ليغمغم من خلفها بازدارء، وكلمات بدت واضحة:
– مرة معوجة وبترسم الدور علينا، انا عارف ايه اللي حدفك علينا؟ ضربة دم تاخدك
– عبد الصبور.
هتف عليه كي يُنبئه بمجيئة، مما جعل الرجل ينتفض بإذعان كي يلحق به حتى اذا دلف الى المكتب من خلفه، تمتم له بالتحية مرددًا بلهجة لم يجيد تحسينها:
– حمد الله ع السلامة يا عمر بيه
طالع الاَخير ووجه المتغير، وهذه الوجوم الذي اكتسى تعابيره ليعلق:
– مالك مجلوب ليه وبترد من غير نفس؟ ليكون مش طايجني كمان؟
– العفو يا بيه.
تمتم الرجل على الفور بأسف، ثم ما لبث ان يردف معبرًا عما يجيش بصدره بعدم احتمال :
– معلش سامحني، بس انا متغاظ من اللي اسمها نفيسة دي، مرة مشجلبة، لا تعرف خشا ولا حيا ولا حتى حرام ولا حلال، انا عارف ايه اللي حدفها علينا؟ عليا النعمة بخاف ع البنتة اللي شغالة معانا منها ، دي فالحة بس تتمايص وتلهي البنتة في سيرة فلانة ولا علاتة، ولا بتعرف تسد في شغل ولا تجعد محترمة وفي حالها، جاعدة بس لفجع مرارتي.
تبسم عمر بخفة لقول الرجل، ويرد مخففًا:
– معلش يا عبد الصبور، هي مرة معوجة انا عارف، بس دي وجعت في عرضي ان اشغلها عشان مش لاقية توكل نفسها، كنت عايزني اردها خايبة الرجا يعني؟ مش طبعي يا واد الناس.
جادله الرجل:
– يعني نسيبها كدة وسط البنات كيف البطاطسية المعفنة وسط الجفص الزين تجوم تخصره كله؟
رغم حدة الرجل والتشبيه المبالغ فيه، إلا أنه كان يتحدث بعقلانية اجبرت عمر على مهادنته:
– لا يا سيدي واحنا مش هنسيبها تخسر البنات ، إنت شد عليها من بينهم ان شالله حتى تخصملها، وخلينا ندوس عل نفسينا شوية، ولو متعدلتش الباب مفتوح، عشان تغور وتريحنا منها..
صمت عبد الصبور ليومئ له على مضض، يدعي الاقتناع ، حتى صرفه، ليخرج ويتركه ، يفكر في القادم على ضوء ما يلمسه من مستجدات
❈-❈-❈
على جهاز الحاسوب الصغير، كان يستمع لها ويدون به ما تمليه عليه من رؤى ورغبات تريدها في مشروعها الجديد، وعلى ضوء ذلك يفعل هو دراسة الجدوى الخاصة به، ويحدد حجم الدعم المادي المطلوب له، وهي تتحدث بشغف يزيده هياما بها:
– عايزاه كبير يا عارف ، قسم للخياطة والمكن والأدوات الازمة تبجى كاملة من كله، قسم للإشغال اليدوية وطبعا بأجهزته والمواد الخام، قسم للأكل البيتي زي الفطير المشلتت وصواني الأكل، والفراخ والمحشي والحلويات……
– حيلك حيلك .
قاطعها فجأة ليردف بابتسامة غزت ملامحه:
– انتي مجنونة يا روح؟ مالنا احنا بقسم الأكل والطبيخ؟ طب الاعمال اليدوية والخياطة فهمنا عشان تساعدي البنات، إنما الأكل بجى ليه؟
– عشان العشية والغداوي يا عارف .
طالعها باستفهام، فلم تتأخر عنه في الأجابة لتضيف شارحة:
– ما انت عارف عوايد البلد في الجواز والخطوبة والبلاوي اللي بتصرف ع العشية بس، دا غير الجهاز والشوار، اشي اربيعين جوز حمام وكام كيلو لحمة دا غير صواني البسبوسة والكيك ومش عارف ايه، حاجات ما ليها اي ستين عازة، بس الاهالي مجبرة تجيبها عشان الأصول ، انا بجى حابة اساعد بأن اوفر الحاجات دي بالطلب، يعني الست بدل ما يطلع عنيها في
التجميع والشرا، تاجي عندي واديها بأسعار مخفضة، بس بعدد ما يزيدش عن الحد المعجول، بحيث ان اخفف بمساعدتي، بس مشجعش على الإسراف والمظاهر المبالغ فيها.
بدهشة لا تخلو من إعجاب متزايد، عقب بمشاكسة:
– ما شاء الله يا ست روح، دا انت كدة عايزة ميزانية حكومية مش من جيب العبد الغلبان
اطبقت على ذراعه بين يديها الاثنين، لتتملقه بدلال اصبحت تجيده:
– ومالوا يا حبيبي، ما انت برضوا سداد، وجيب السبع دايمًا عمران، دا غير ان انا كمان هشارك معاك بالفلوس، وع العموم برضوا انا جاصدة اخليه مشروع ربحي بس بفايدة ضعيفة.
– جصدك معدومة
– لا والله هيبجى في ربح ، لكن الاهم عندي هو اني اساعد الستات والبنات، يجيبوا جرش يعرفوا يصرفوا به على نفسهم، مش الواحدة يبجى تكالها غير ع الراجل، ان كان حد من أهلها، أو جوزها؛ لو كان عفش كمان؛ يضربها ويهينها ويشتمها، وهي ما تجدر تجول بم حتى عشان عارفة انها متحجاله.
افتر فاهه بابتسامة مستترة يعبر عن سخط يدعيه، كي يخفي انبهاره برجاحة تفكيرها، وتميزها عن الجميع:
– كمان عايزة تجلبي الستات على اجوازاها ، طب ما تجولي كدة من الأول يا عسل ، ان دا غرضك من الاول عايزة الحريم تعمل انقلاب ع الرجالة، لا يا عم بلاها، انا مش عايز اتاخد في الرجلين معاكي.
تشبثت تزيد من ضغطها على ذراعه لتطالبه بإلحاح:
– لا انت شاطر ومش هترجع في كلامك، وغلاوتي عندك ما ترفض يا عارف صح، انت عمرك ما رفضت لي طلب اساسا.
أعجبه التصاقها به، والإصرار عليه لتنفيذ مطلبها وكأنها طفلة تدلل على والدها، ولكنه أبى أن يمرر الأمر دون أن يستغل لهفتها:
– ماشي يا ست البرنسيسة، هساعدك تحججي حلمك، بس انا هيبجالي شرط ، لازم استفيد في مقابل ذلك، وتنفذي شرطي للموافجة
نزعت نفسها عنه فجأة باحتجاج:
– شرط ايه تاني كمان؟ انا نفذت يا حبيبي ولا انت ناس الرجص وبدلة الرجص ؟
غمز بطرف عينيه يخجلها برده:
– لا طبعا منستش، وانا اجدر انسى البدلة والا الحشو اللي جوا البدلة……. بس دي متتحسبش يا حلوة، انا عديتها بس عشان الحمل، ولا انتي افتكرتي ميلة الشمال واليمين دي تتحسب رجصة.
شهقت مجفلة لانقلابه الوقح، لتلكزه بقبضتها على ساعده:
– دا انت مش بس مستغل، دا انت بجح وجليل أدب كمان.
عقب ببساطة:
– عادي مش فارق معايا رأيك فيا، المهم عندي المقابل، جبال التعب والصرف والمشاكل لو حصلت ما انا لازم استفيد
– زفرت بغيظ واستسلام امام اصراره؛
– جيب من الاَخر، عايز ايه تاني يا عارف؟
تبسم بخبث يمسك على طرف ذقنه بسبابته والإبهام، ثم أجابها بتفكير:
– بصراحة مكنتش عامل حسابي، ومتهيألي عايز فرصة على ما اجيب في دماغي اللي يستاهل التضحية اللي هجوم بيها.
رددت خلفه بحنق:
– تضحية ! ماشي يا عم المضحي، مشيلي طلبي وادخل في الإجراءات بجى، على ما تفكر وتخطط مع نفسك.
اومأ يلاعب حاحبيه بسعادة فاقت الأنتشاء:
– عيوني، عيوني يا روح عارف.
❈-❈-❈
منذ الأمس وهي تتجاهل، تمارس حياتها الطبيعية معه، دون أن تتطرق ولو بإشارة حتى نحو هذا الموضوع الهام ، ذاك الذي يمني نفسه بتحققه، باشتياق لسماع البشرة له، وهو ايضا يتعامل بطبيعية معها ، وينتظر ان تاتي المبادرة منها ، وقد فاض به الاَن، ولم يعد به قدرة على الانتظار أكثر من ذلك .
وقف يراقبها من خلف نافذة غرفة مكتبه، وقد كانت في هذا الوقت تداعب صغيرها بجوار جدته التي اتخذت مقعدها في الجهة المشمسة اسفل المظلة، في الحديقة، كالعادة تعمل على رعاية المرأة والحديث معها بمودة ومرح، انها دائما ما تثير بقلبه الغبطة والسرور بافعالها، لا ينقصه معها سوى شيء واحد فقط، ان تستجيب لنداء قلبه الملتاع بعشقها.
انتفض متحفزًا فور ان ابصرها تتحرك باتجاه مدخل المنزل، ف اتجه بخطواته هو ايضا، ليتلقاها في المدخل،
– ناادية، تعالي عايزك.
تلقت ندائه بإسمها ، لتتبعه على الفور نحو غرفة المكتب، وفور ان دلفت خلفه سألته باستفسار وقد وجدته جلس خلف مكتبه، كي يخفي توتره:
– ايوة يا غازي عايز حاجة؟
اشار لها لتجلس امامه، ف انصاعت مذعنة لطلبه، وسكينة تعلو ملامحها في النظر نحوه باستفهام يقتله:
– اديني جعدت،
عض على نواجزة بضغط كبير يحاول السيطرة والرد باتزان يدعيه:
– يعني انا كنت جايبك عشان أسألك عن صحتك بعد دوخة امبارح والبرشام اللي جيبته بالليل……. عاملة ايه دلوك؟
ردت بابتسامة مشاكسة:
– ما جولتلك زينة والحمد لله ، انت سألتني يجي مية مرة من امبارح يا غازي .
– عايز اطمن على صحتك، هو حرام السؤال؟
صدرت منه بنزق اختلط بيأسه، فكانت اجابتها بتسامح كالعادة:
– لا يا سيدي مش حرام ولا حاجة، على العموم تشكر ع الاهتمام .
ردد خلقها باستنكار:
– ايه تشكر دي؟ انتي مرتي يا نادية والكلام دا شيء عادي ما بينا، احنا مش اغراب.
قالها بانفعال اثار اندهاشها لتعلق ملطفة:
– طب براحة طيب، ليه العصبية من الأساس؟
زفر يشيح بوجهه ضاربَا بكف يده على سطح المكتب بعدم احتمال، هذه المرأة سوف تصيبه بجلطة من فرط برودها، حتى لم تعد به قدرة على التمالك او الانتظار:
– نادية انتي عملتي الاختبار؟
– اختبار ايه ؟
برقت عينيه وازداد الحنق في مخاطبتها:
– اختبار الحمل، الانبوبة البيضة اللي جيبتهالك في كيس الدوا امبارح…… اوعي تجولي مخدتيش بالك، دي حاجة باينة زي عين الشمس عاد، دا غير انك مخلفة جبل كدة وعارفة، ولا هو جديد عليكي؟
كان مسترسرلًا بعصبيته لتقابله باتساع ابتسامتها، تلوح امامه بيدها كي يتريث:
– براحة يا غازي .
– لا اله الا الله، وانا عملت ايه دلوك؟
كبتت بصعوبة ضحكتها :
– يا بوي معملتش حاجة، انا بس عايزة افهمك ان الامر بسيط مش مستاهل الجلج دا كله، انت لو كنت كلمتني من الاول انا كنت هفهمك ان مفيش داعي منه اساسا، ما هو مش عشان دوخت يعني، ولا عندي شوية هبوط أو حتى الحاجة اللي انت عارفاها مغيباني كام يوم، دا معناه اني كدة اشك واجري على طول على الاختبار، انت جولت بنفسك اني مجربة جبل كدة، يعني عارفة نفسي……..
سألها بتوجس:
– يعني ايه؟
– يعني انا طول فترة جوازي اللي فات وهو سبع سنين، محبلتش غير تقريبا تلت مرات ، الأولى كانت بجوز التوأم ودول ماتوا لما نزلوا جبل اوانهم، والتاني سجط مني في الشهر الخامس والتالت كان معتز…….
اصل انا حملي عزيز .
شحب وجهه حتى ظهرت امامها تفاحة ادم التي كانت تتحرك امامها في زعر يكتسحه:
– يعني انتي عارفة نفسك مش حامل؟
– انا مجولتش كدة يا غازي.
– وووه
صدرت منه بنفاذ صبر ، فجاء ردها بتلاعب
– يا بوي انا بجولك على ظروف حملي في جوزاي اللي فات، ودا اللي كنت بانية تفكيري عليه…….
اجفلها بضربة قوية بكفه يده على سطح المكتب، لينهض عن محله سريعًا فتجده امامها ، يأمرها بحزم:
– جومي يا نادية اعمليه، بلا بانية على جوازك اللي فات بلا زفت.
– نهضت تقابله واقفة:
– مينفعش يتعمل دلوك، دا ليه وجت معين يتعمل فيه، بس انت ليه مستعجل جوي كدة، هي طارت؟ ولا احنا ممعناش لا سمح الله.
افتر فاههه فجأة للحديث ثم اغلقه، بماذا يخبرها؟ وهي تتحدث معه بهذا البرود، غير مقدرة للهفته من الانجاب منها، يريد تقوية الرابط بينها بينه، يريد منها اطفال لا حصر لهم، لكن ماذا بيده؟ إن صدق حديثها واتضحت وجهة نظرها ، او حتى لا يوجد انجاب بينهما من الأساس؟ أرادة الله فوق كل شيء ، وهو لن يكون طامعًا، لتكفيه هي وطفلها، وحبات قلبه صغيراته الاميرات الثلاثة،
سحب شهيقًا كبيرا ثم اخرجه بزفير، كي يهدئ من هدير الصخب بداخله، ثم يجلس قائلًا لها:
– ماشي يا نادية زي ما تحبي، وكيف ما يريد ربنا، انا راضي، حتى لو مفيش خالص.
اطرق رأسه عنها بإحباط يفتك به، وصمت فمه عن اي حديث، ثم ما لبث ان يرفعها فور سماعه قولها:
– انا عملته يا غازي
برقت عيناه في النظر إليها، وازداد خفقان قلبه بسرعة فائقة، بقلق بالغ، حتى تحركت شفتاها:
– النتيجة طلعت ايجابية……
زاد اتساع عينيه وتجمد محله بلحظة فارقة من الزمن، كأنه انفصل عن الوعي امامها، لتعيد الكرة مرة ثانية، وقد ذهب ظنها انه لم يسمعها جيدًا:
-، يا غازي بجولك طلعت حا……..
لم تكد تكملها حتى وجدت نفسها، تختطف من محلها وتعتصر بين ذراعيه، ليصيح بفرح شابه العتاب
– حرام عليكي ، حرام عليكي يا شيخة وكل دا سيباني اهاتي ، بتمرجحيني ما بين ايديكي يا ناادية.
تأوهت بألم حقيقي تذكره بوضعها، وقد أفقده الفرح رشده:
– براحة يا غازي على ضهري، انا كدة هسجط على يدك.
تركها على الفور بمسافة امنة بعض الشيء ولكنه اكمل التعبير عما يغمره بالداخل، بتكويب وجهها بين يديه وامطارها بالقبلات الحارة على وجنتيها والشفاه التي تفوهت بأغلى الكلمات على قلبه، حتى أوقفته مرة أخرى:
– خلاص كفاية طيب، لحد يدخل علينا الأوضة من العيال، كفاية يا غازي.
تركها اخيرا ومازال وجهها بين كفيه، يتطلع اليها بوله، لا يصدق كم الفرح الذي يشعر به الاَن ، بأنفاش لاهثة،، وكأنه لم يعرف الانجاب قبل ذلك، لتعقب هي باندهاش له:
– انت لدرجادي فرحان يا غازي؟ هو دا اول عيل ليك
– اول عيل منك انتي؟
قالها وبريق عينيه يأسرها، يتابع:
– العيل دا غير اي عيل، حتى لو كل عيل ليه غلاوته ، ان كان معتز ولا البنات ، انا كنت مشتاج جوي اخلف منك، جوي يا نادية.
بح صوته في الأخيرة، حتى اهتزت له جداران قلبها العاصي ، لتربت بكفيها على ذراعيه بإشفاق ، غير قادرة على الكلام، ثم ضمت نفسها اليه تريح رأسها على الصدر الرحب، فيشدد هو من عناقها بلطف ، وبصيص من ألأمل يلوح امام ابصاره بقرب الوصول، حتى عاد لوعيه اخيرًا على مخاطبتها له:
– ممكن يا غازي تصبر شوية على اعلان الخبر،
اخرجها من حضنه سائلًا:
– ليه يا نادية الصبر؟ دا انا عايز انشرها في الدنيا كلها، عايز اعلنها في ميكروفون.
اردفت ترد بصوت حرج:
– معلش يا غازي، عشان خاطري اصبر حبتين، ممكن؟
اومأ لها بتفهم يعيد ضمها اليه مرة أخرى:
– ماشي يا نادية، نصبر عشان خاطرك.
❈-❈-❈
انعطفت بخطواتها نحو الطريق المؤدي للجامعة، بعدما خرجت من محيط موقف السيارات التي تحمل الأفراد من والى البلدة، كالعادة كانت تسير بتركيز شديد ، لا تلتلف يمينا او يسارًا حتى وهي تسمع لصوت غريب خلفها ، لم تلتف على الإطلاق، لتجيره على توقيفها باعتراض طريقها.
أعتلى الإجفال تعابيرها على الفور ، لكن سرعان ما تماسكت حينما تأكدت من هويته، ليلفها الغضب فجأة حتى كادت ان تهتف غاضبة به، لولا ان سبقها بقوله:
– ايه بقى؟ هفضل اليوم كله انا ماشي وراكي؟
زفرت ترمقه بشعور خلط ما بين الفرح برؤيته، وما بين الضجر لجرأة فعله، ولكنه واصل بخفة ظله :
– اوعي تفهميني غلط، ولا تقولي عليا اهبل ومش مراعي سني ولا مركزي، بس انتي اللي اجبرتيني على كدة بقى، عشان بقالي ساعة ببسبسلك وانتي زي القطر في طريقك.
تخصرت تعقب على قوله:
– يا سلام، وافرض يعني مردتش ولا انتبهت من اساسه، فيها ايه يعني؟ ثم انا كمان مش بسة عشان لما حد يبسبسلي ارد عليه .
ضحك بصوت مكتوم، وقد راقته حدتها، ليعقب بمشاكسة يسألها:
– طب يعني كنتي عايزاني اندهلك باسمك مثلا في وسط الشارع، ولا اقولك يا زينهم أقرب؟
– ها ها….. ظريف
تفوهت بها تزيد من تسليته، وتزداد هي سخطًا:
– ما كفاية ضحك بجى، وجولي انت كنت عايزني في ايه؟ عايزة احصل محاضراتي.
سحب شهيقًا كبيرًا ليتوقف عن الضحك ويتمالك صوته في الرد :
– قطري خلاص باقي عليه نص ساعة بالكتير، وانا بصراحة كنت جاي اسلم عليكي .
– تسلم علينا انا !
صدرت منها بدهشة قابلها بابتسامة متسعة:
– قولي عليا مجنون بقى، ولا عقلي ضارب، لكن يعني هي فيها غلط مثلا ان اقفلك مخصوص عشان اسلم عليكي ولا اكلمك؟
تحركت مقلتيها بتشتت أمامه، لا تعرف بما تجيبه، حتى اهتز كتفها بحركة بسيطة، فتجيبه ببرائة تناقض تمامًا شراستها منذ قليلًا:
– ببصراحة مش عارفة .
انها حقًا تجفله بردودها ، وتثير داخله الاهتمام لمعرفة المزيد عنها:
– ورد هو انتي ازاي كدة؟
– ازاي كدة كيف يعني؟
رد يجيبها متكتف بذراعيه فوق صدره متمعنًا النظر بها:
– بتدهشيني دايما ، شخصية تبان قوية ومتوحشة احيانا، دا طبعا بالتعامل مع زينهم وغيره، وشخصية تانية تجمع براءة الدنيا فيها، لا تفهم في أساليب البنات ، ولا تعرف حتى ترد على سؤال بسيط زي ده.
تجهمت وقد زادها حديثه حيرة، لترسم الجدية امامه:
– والله انا تربية اخويا، هو اللي اتولى ربايتي بعد امي ما ماتت ، يعني شغل الحريم ده هعرفه كيف وانا وجتي موزع ما بين رعايتي لبهايمنا وبين كليتي اللي بحضرها بس على وجت المحاضرة بالعافية.
– ربنا يخليك اخوكي، اللي قدر يحافظ على وردة برية زيك من أي تلوث، حتى وهي في قلب المدينة وقي عز الاختلاط بالبشر.
قالها بابتسامة توسعت بوجهه، ثم تابع وهو يتحرك على الفور متذكرًا ميعاد القطار:
– ورد انا مسافر دلوقتي عشان اشوف حالي والشغل اللي متعطل، بس اوعدك اني راجع قريب ، قريب اوي .
لوح بيده ثم اسرع ليستقل السيارة التي سوف تذهب به إلى المحطة، وتظل هي واقفة محلها تتبع اثره حتى اختفى من امامها، لتغمغم بعدم فهم:
– طب بتوعدني انا ليه؟ ما تيجي براحتك، هو انا منعتك!
وبداخل السيارة التي كانت تقطع الطريق بسرعة كي يلحق بموعد القطار ، تلقى الاتصال الذي كان يتوقعه: ليجيب على الفور:
– ايوة يا غازي يا حبيبي، روحت قابلتها وكسرت كلامك.
– كسرت كلامي يا بارد، انا مش منبه عليك يا……
– ايوة منبه يا غازي، بس انا دلوقتي مسافر، لكن اوعدك ان المرة الجاية مش هيبقالك حق تحوشني من الأساس ، سامعني يا صاحبي، يالا بقى سلام
انهى الاتصال واستند برأسه على النافذة ينظر إلى الخارج بحالمية، وبداخله يغمغم:
– حبيبي يا زينهم.
❈-❈-❈
وفي الناحية الأخرى
تبسم غازي بفراسة وقد فهم ما يقصده، ليتنهد بارتياح قبل أن يعود للجلسة العائلية التي كانت تضمه وشقيقته مع زوجها وفتياته الصغار حول جدته، وبضيافة زوجته الحبيبة، التي لا تدخر جهدا في الترحيب بالجميع
– كلي فاكهة يا روح واتغذي كوبس بدل ما انتي وشك اصفر كدة، شكل العيل دا هيطلعه على عينك.
عقبت روح بجزع:
– وه، وانا شكلي صح اصفر يا نادية؟ جولي يا غالية، انا بجالي كام يوم شاكة فيها دي .
– وفيها ايه لما وشك يصفر ولا يخضر حتى، مش دي برضوا شهور الوحم اللي بيجولوا عليها ودا الطبيعي، ولا ايه يا جدعان؟
قالها غازي بطرافة أثارت ضحك الثلاثة ، لتضيف جدته :
– لا طبعا مغلطتش يا حبيبي، دا هي اللي مجلعة، وهتعمل فيها مخضوضة، امال لو شجيوا نص اللي شجناه احنا في شبابنا، كان بجي منظرهم ايه بس؟
– بنتة مجلعة يا جدة ،
قالها عارف، ليزيد من مشاكستها وهو يتناول من عنقود العنب في كفه:
– ياما كان نفسي تشتغل في الزرع زيك يا جدة، عشان تعرف ان الله حق .
– يا حبيبي، بجى جوزي ما اشتغلش ولا عزق ولا سجا زي باقي عيال عمه، جوم اشتفل انا
قالتها بانفعال قابله بابتسامة يلاعب حاحبيه ، مما أستنفرها للرد مرة أخرى، ولكن نادية تدخلت:
– جلبك ابيض يا روح، واد عمك مبسوط بعصبيتك ، ما تخلهوش يفرح زيادة.
اضاف على قوله غازي ايضا وهو يلاعب صغاره:
– يا بت ابوي متحسهوش، دا بارد انا عارفه، ممكن يجيبلك جلطة دلوك
قهقه عارف بالضحك عاليًا، فردت هي بزهو:
– ومين هيحسه اصلا؟ دا انا بكرة هعمل مشروعي والبلد كلها هتشهد عليه، لما اشغل معظم بنات البلد فيه.
قطب غازي يسألها باهتمام:
– مشروع ايه يا ست روح؟ ناوية تهببي ايه يا بت؟
ابتلعت بقلق تنظر لزوجها تطلب منه الدعم، ليتمتم ردًا لها بهمس:
– جولي يا ناصحة، خليه يتمجلت علي ودا المتوقع، لكن انا برضوا هكوم في لستة التعويض عليكي.
❈-❈-❈
خطا بثقة داخل المحل الشهير، والذي قد اشار عليه سابقًا لها؛ كطعم يجتذبها به ، وكما توقع انطلت عليها الخدعة، وأتت بقدميها تنتظره الاَن
جالسة بتعالي وعجرفة ترتشف القهوة وتقلب في الهاتف وكأنها لم تنتبه له من خلف الزجاج منذ بداية حضوره.
رائعة هذه المرأة في ادعاء عدم الاهتمام امام رجل قضى نصف عمره في جولات ومغامرات مع العديد من النساء، فاز وخسر، وخسر وفاز، حتى امتص خبرته وحفظ كل خلجة وكل همسة منهن، فما بالك بامرأة مثلها واضحة امامه وضوح الشمس، بالإضافة لما جمعه عنها من معلومات من صديقه اللدود عمر.
خطا حتى اقترب من طاولتها ليلقي التحية وبيده يسحب احد المقاعد ليجلس دون انتظار الاستئذان منها:
– صباح الخير. تسمحيلي اقعد
اجقلت لحركته السريعة، فبرقت عينيها امامه بشر:
– اسمحلك فين عاد؟ ما انت سحبت الكرسي وجعدت ولا اكنه مطرحك، حد جالك ان هرضى ولا اسمحلك باقتحام خصوصيتي .
– اقتحام خصوصيتي.
تمتم بها داخله بشيء من سخرية، ولكنه تمالك ليرسم الجدية امامها:
– اسف طبعًا لو ازعجتك، بس انا متأكد ان ليدي وهانم زيك لا يمكن هتكسف راجل زيي ولا تقل مني، حتى لو انا فعلا غلطان .
غمرها الزهو تأثرًا بوصفه، لتفرد ظهرها وترفع ذقنها امامه بثقة تقارعه:
– ويعني عشان ما انت شايف اني هانم، دا يديك الجرأة في التصرف معايا بالشكل؟ ولا يمكن فاكرني صدجت لعبتك والكلام اللي جولته المرة اللي فاتت عن بحثك عن سكن والكلام الفارغ ده.
تبسم يضغط على شفته في الرد :
– واضح ان انتي زكية وفهمتيني من اوله، وبصراحة مش هنكر، ما هو انا كمان غلبت الاقي حجة ادخلك بيها عشان اتعرف عليكي، وانتي مصدرة كدة الوش الخشب قدام اي حد يكلمك ولا يعبرلك عن إعجابه.
– يا سلاام
تمتمت بها تعود للخلف واضعة قدمًا فوق الأخرى، قائلة بعنجهية:
– انا شايفة ان حضرتك اتعديت حدودك معايا، لانك مهما شكرت ولا ذكرت في مميزاتي برضك انا مش ساهلة ليك ولا لغيرك عشان اتساهل في الحديت، انا بت سعيد الدهشان، كبير العيلة والبلد كلها، مسمعتش انت عن نجع الدهشان.؟
توسعت ابتسامته ليردف لها بتملق:
– دا انا يزدني شرف وارفع القبعة لجمال حضرتك ولأصل عيلتك الكريمة، بس تسمحيلي بقى اعرفك انا كمان عن نفسي، انا صلاح صابر ، رجل اعمال عصامي، والدي توفاه الله من وانا طالب في اعدادي وجدي عبد المنعم الفيومي، عين أعيان الفيوم، دا غير ان والدتي سهير الطمبشاوي، ، حفيدة الطمبشاوي باشا .
– باشا كيف يعني؟ زي اللي بنسمعوا عنيهم دول ولا دا لقب عادي؟
سألته بعدم تصديق ولكنه عاد يؤكد لها:
– لا طبعا باشا حقيقي، ورث الباشوية ابا عن جد، دا حتى لسة قصره موجود، وانا جددته وعايش فيه كمان.
لاح على وجهها البلاهة وهي تطالعه بعدم تصديق حتى كاد ان يضحكه مشهدها ولكنه تمالك، حتى يخرج لها الهاتف ، ثم يريها على شاشته:
– شوفي كدة، اهو ده بقى القصر بتاع جدي، شايفة كبير ازاي وفخم، وزارة الثقافة حفيت عشان ياخدوا مننا احنا الورثة، لكن انا بقى دايمًا واقف لهم، لا يمكن ابدا اسمحلهم ياخدوا ولا يعملوه متحف زي ما بيقولوا، ولا يمكن هفرط في ورث جدي.
ابتلعت بتشتت تسأله:.
– ليه يعني؟ هو مفيش غيرك ورثة؟
اجابها بتفاخر:
– لا طبعا كان في، بس انا اشتريت حق الجميع وبقى ليا لوحدي، تعرفي بقى انا اتعرض عليا من رجال أعمال وناس عرب فلوس بالهيل وبرضوا رفضت، دا انا مش برضى اقعد في الفيلا اللي في الكمبوند، ولا حتي الشقة اللي ع النيل، مش بلاقي راحتي غير فيها، وسط العراقة والأصل ، بالظبط زي انتي ما بتحبي تفتخري بأهلك ، مابالك بقى لو اهلك دول باشوات واصول عثمنلي،
استطاع بحنكته ان يخطف تركيزها، ليواصل بمكر:
– بس عارفة بقى انا كل اللي ناقصني فعلا، وجود حد يشاركني النفس جواها، اصل انا وحيد يااا……. يا نهار ابيض.. انا نسيت ما اعرف اسمك.
تبسم باندهاش قابلته بزهو ترفع رأسها شامخة في الرد عليه:
– انا فتنة، فتنة سعيد الدهشان. .
– ما شاء الله، اسم على مسمى بحق وحقيقي، انا بجد بهني الوالد اللي عرف بختار الاسم اللي يليق على انسانة في جمالك، بجد شابوه.
عقبت ببعض الزوق ردا له:
– شكرا على المجاملة.
– لا مجاملة ايه؟ طب تعرفي بقى ان انتي فيكي شبه من جدتي التركية، تحبي تشوفي صورتها وتتأكدي بنفسك ان كنت بكدب ولا لأ.
❈-❈-❈
– طالع وراح فين يا وش النصايب، انا هلاجيها منك ولا بوز الاخص ابوك اللي هاجج ورا السنيورة ، ومش سائل في اهل بيته ، رايح فين يا مالك؟
هتفت بها شربات توقف الأخير، قبل ان يصل لمقبض الباب الخارجي، لتضطره للعودة مهادنًا:
– الله يسامحك ياما، انا برضوا مش هرد عليكي عشان عارف بسبب البلاوي كلها .
وكأنها وجدت الفرصة، تلقت قوله لتنطلق بالولولة والنحيب مرددة :
– منه لله يا مالك، منه لله ابوك اللي مبهدلني ومشحططني ، طول عمره معندوش خير لحد، لكنه زودها جوي يا ولدي، مش سائل ولا معبر ، سايبنا نضرب راسنا في الحيط.
اكملت بالبكاء ، ليزفر هو بصوت مكتوم يمنع نفسه بصعوبة من التفوه بسبة قبيحة، ليلطف بالدعم لها:
– معلش ياما ، بكرة هو اللي يجري ورانا، وما يطول ضفرنا، وانا وحياة غلاوتك، لا اخليه يندم على عفاشته دي معاكي، اصبري بس انتي وانا هفرحك جريب متجلجليش.
توقفت عن ذرف الدموع لتسأله بعدم فهم:
– جصدك ايه يا مالك؟ انا مش فاهمة حاجة يا ولدي .
اوما لها بابتسامة مطمئنة قبل ان يتحرك ويذهب:
– هتروج وتحلى ياما، خديها كلمة مني، ومفيش منها رجوع، ياللا بجى سلام
خرج على الفور يصفق الباب ويغلقه، لتتمتم هي في اثره:
– وه، هو الواد ده بيوعدني ولا بينيمني، هتروج ولا تحلى كيف يعني؟
❈-❈-❈
ومن جهته، اتخذ مالك طريقه نحو الجهة المقصودة ، ليصل حتى خلف المنزل الكبير، حيث المنطقة الخالية من المارة في هذا الوقت، ثم صعد على جزوع الشجرة الكبيرة، ليصل الى الطابق الثاني، وبهدوء شديد سار فوق السطح ، حتى وصل لنصف الحائط في الجهة المؤدية نحو الفناء في الوسط، حيث جبل النراب الكبير، بفضل الحفر داخل الغرفة المحددة، ليجلس على عقبيه يراقب بهدوء، حركة الثلاثة في انتظار الفرصة، سند و عيسى، وهذا الشيخ الذي كان في هذا الوقت يخابر أحدهم عير الهاتف:
– ايوة يا بيه، احنا خلاص على بعد خطوة واحدة، جهز نفسك وتعالى، عشان تحضر الافتتاح
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نسائم الروح (ميراث الندم 2))