رواية في قبضة الأقدار الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم نورهان آل عشري
رواية في قبضة الأقدار الجزء الثاني والخمسون
رواية في قبضة الأقدار البارت الثاني والخمسون
رواية في قبضة الأقدار الحلقة الثانية والخمسون
خلف جدار الكبرياء يوجد خيبات عظيمة و آلام مريرة و
أرواح تحرق قهرًا بينما القلوب معبأة بـ استفهامات مؤلمة تطوف في فلكها علي غير هُدى !
هل تلك هي النهاية ؟ ام أن للقدر الذي جمعنا يومًا قد يُشفِق علي قلوبنا من جراح لن تندمل ولن يفلح في براءها شئ ؟
نورهان العشري ✍️
🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁
” انت ململمتش ورايا . انت اتجوزتها عشان حبيتها. طمعت فيها لنفسك .. فسيبك بقي من دور سوبر مان اللي عايز تلبسه علي قفايا و عمومًا انا رجعت و هصصح غلطي… “
صمت لثوان يتابع وقع حديثه علي ملامح« سليم» التي اسودت من فرط الصدمة فتابع «حازم» بتشفي
” و هشيل شيلتي كاملة .. متقلقش ..”
انحبست الأنفاس بصدره و شكل الغضب سحابة سوداء مظلمة انعكست علي ملامحه و خيمت علي نظراته التي توحشت و كذلك لهجته التي كانت وعِرة حين قال
” شيلتك ! طب لو راجل فكر بس تنطق اسمها ! وقتها انا اللي هدفنك حي . بس المرة دي مش هتلاقي حد يخرجك من القبر تاني ..”
لا ينكر خوفه الذي غذا سائر جسده من كلمات «سليم» ولكنه لم يستطيع الوقوف أمام تهديده صامتًا فصاح مهددًا
” و ابني هتمنعني اجيب سيرته بردو ؟”
أوشك «سليم» علي الحديث فاوقفته كلمات «سالم» الصارمة
” انا اللي همنعك ! “
التفت الجميع الي «سالم» الذي بدت ملامحه مرعبة و كذلك نظراته فلامس الذعر قلبه لذا سلك طريق الضعف الذي يعلم جيدًا أن «سليم» لن ينجرف إليه ولو بكلمة واحدة
” بس انت كدا بتظلمني يا سالم . انا كنت ضحية لتار قديم من قبل مانا اتولد .. عارف اني غلطت بس دفعت تمن غلطي كبير اوي ..”
كان أكثر من يعرفه حتي تلك النظرات التي أتقن تزييفها لم تكن لتؤثر به ولكنه يعلم أن «سالم» لطالما كان يعتبره ابنه و ليس شقيقه لذا اقترب منه يحاول أن يمنعه من الانجراف خلف تيار الخديعة فتفاجئ من يد« سالم» التي امتدت لتوقفه بمكانه و كذلك نظراته التي كانت قاسية وهي تناظره فهوي قلبه رعبًا من القادم و خاصةً حين وجد تلك اللمعة الشامتة بعيني «حازم» والتي سرعان ما انمحت لدي سماعه جملة «سالم» التي كانت كالصاعقة علي آذانهم
” المساواة في الظلم عدل ! و انت ظلمتنا كلنا يبقي تاخد نصيبك..”
تحولت تظراته الزائفة الي رعب حقيقي وهو يقول بشفاة مرتجفة
” سالم…”
قاطعه سالم بصرامة
” اخرس … ”
التفت إلي كلاً من «مروان» و «سليم» المتجهم و قال بأمر
” سليم خد مروان و اسبقوني عالمستشفي متسبش عمتك لوحدها هناك ..”
«سليم» بجفاء
” و انت ؟”
«سالم» بوعيد
” انا وحازم بينا كلام لسه مخلصش .. ”
تدخل «مروان» مستفهمًا بقلق
” طب و ناجي يا سالم دا هرب و هروبه دا مش مريحني انا خايف ليعمل مصيبة ولا يأذي حد بعد اللي حصل دا ..”
التقت عيني الشقيقان فتولي «سليم» الرد بدلاً عن «سالم» حين قال بجفاء
” البيت والمزرعة متأمنين كويس.. و صفوت كمان زمانه وصل المستشفي دلوقتي و عامل حسابه لأي حركة غدر . “
ثم التفت إلي «حازم» الذي كان يتابع ما يحدث بخوف وترقب ثم أردف ساخرًا بمراره
” و لو أن الغدر دلوقتي بقي بييجي من اقرب الناس ! “
يود لو يطلق العنان لعبراته أن تنهمر ولكنه يخشي أن لا يتسع العالم لاستيعابها. كما لم يعد صدره يتسع لهذا الألم الذي يفتك به الآن فهذا الذي يقف أمامه هو شقيقه الأصغر الذي كان يعتبره بيوم من الايام ولده علي الرغم من قسوة طباعه ولكن بداخل قلبه كان يحمل الكثير والكثير من الحب و قد بلغ ألمه حدود السماء ذلك اليوم الذي أعلن فيه خبر موته. حتي أنه كان يتمني لو يكن معه و يفديه بروحه و يلقي بنفسه في أحضان الموت بدلًا عنه !
و الآن ها هو يقف أمامه بصدر محترق وعقل ممزق
و روح تائهه تراه عدوًا لا يقدر علي أذيته و حبيب لا يستطيع الاقتراب منه !
بدد الصمت المحيط بهم صوت هاتف «سالم» الذي تأجج قلبه حين رأي اسمها و ود لو كانت الي جانبه في تلك اللحظات العصيبة و الأصعب في حياته لذا لم يتواني عن الرد وهو يشير بعينيه إلي «مروان» الذي لامس كف« سليم» و أشار له بالمغادرة بينما أجاب «سالم» بتعب
” ايوا يا فرح..”
” الحقني يا سالم جنة مشيت و مش عارفين راحت فين ؟ ”
صدح صوت بكائها فدوي صداه بين جدران قلبه فصاح مهدئًا
” اهدي يا فرح و بطلي عياط و فهميني ايه اللي حصل ؟”
اخترقت كلمات «فرح» المشجبة قلب «سليم» الذي ارتج مذعورًا حين سمع اسمها و قطع الخطوات الفاصلة بينه وبين «سالم» ليعرف ماذا حدث فهوي قلبه بين أقدامه حين استمع الي حديثها
” كانت معاهم في المستشفي و تعبت شويه فعمار حجزلها اوضه ترتاح فيها و سابها مع الممرضة و راح يتبرع بالدم لشيرين … وبعدها جت الممرضة تقوله ان جنة مشيت والامن شافها وهي خارجه من المستشفي بتجري و مش عارفين راحت فين ..”
لم ينتظر لسماع كلمة أخري بل هرول إلي سيارته و كذلك «مروان» خلفه فقد أظلمت عينيه بذعر وهو يتخيل ألف سيناريو سيء قد يحدث معها ..
” فرح بطلي عياط عشان نعرف نفكر . أنتِ اكتر واحده عارفه جنة . تفتكري تكون راحت فين؟”
هكذا تحدث «سالم» بخشونة فالمصائب لا تنفك عن الوقوع فوق رأسه الذي قاب قوسين أو أدني من الانفجار من كثرة الضغط الواقع عليه
” جنة خايفه يا سالم . و اكيد مش عارفة هي بتعمل ايه ؟ انا مرعوبة ليحصلها حاجة “
هكذا تحدثت «فرح» بشفاة مرتجفة من بين عبرات غزيرة و قلب يتألم علي شقيقتها و ما يحدث معها و قد هاله صوت بكائها فكان أكثر من قدرته علي التحمل فقال بلهجة حانقة
” المرة الكام اللي هقولك بطلي عياط . هتبقي مبسوطة لو وقعتي يعني ؟”
تأثرت من طريقته معها وهمست بألم
” غصب عني.. انا خايفة علي جنة..”
غضب من نفسه لصراخه عليها و قال بخشونة
” كلنا خايفين عليها. و ان شاء الله هنلاقيها. ياريت تتماسكي شويه.”
أخذ نفسًا طويلًا عله يطفيء ما بجوفه من حرائق ثم تابع بلهجة مبحوحة مُشددًا علي حروفه
” اتماسكي لحد ما اجيلك بس يا فرح.. “
لم يكن غزلًا ولا إعلان صريح بالحب ولكنها كانت كلمات عميقة تحوي في طياتها مقدار خوفه عليها و عدم رغبته في أن تنهار وهو بعيد عنها .. لكم تعشق هذا الرجل الذي و هو في أحلك لحظاته وغمرة مصائبه يخشي عليها ولا ينساها أبدًا لذا همست بلهجة عاشقة أكثر منها مطمئنة
” حاضر يا حبيبي. بس عشان خاطري خلي بالك من نفسك … “
لثمت كلماتها جراحه الدامية و هدأ فؤاده بهمسها الناعم فأجابها بخشونة
” و أنتِ كمان خلي بالك من نفسك..”
“حاضر بس الله يخليك لو عرفت حاجه طمني علي طول .. ”
هكذا أجابته بلهفة فأجابها باختصار
” أن شاء الله..”
اغلق الهاتف فتفاجئ بكلمات «حازم» المندهشة
” معقول سالم الوزان بجلالة قدره بيحب ؟”
التفت «سالم» وقد تبدلت ملامحه لأخرى قاتمة فتراجع «حازم» خطوتين وهو يرى «سالم» يتوجه إليه قبل أن يقول بقسوة
” كلامنا هيتأجل لحد ما اخلص اللي ورايا . ولحد ما نقعد و تحكيلي اللي حصل اعرف انك ميت! ولو حاولت تثبت العكس هتموت بجد…”
تصدعت ملامحه خوفًا فقد كان يعلم أن ما حدث لن يمر و أن القادم أسوأ بكثير مما مضي ولكنه حاول أن يلامس اللين في زوايا قلب «سالم» فقال بصوت متحشرج يحوي بكاءً مريرًا
” مش هعمل اي حاجه تضايقك من تاني . و مش خايف من عقابك علي فكرة انت ابويا وانا عارف انك حتي لو عاقبتني اكيد مش هتأذبيني ..”
لم يتلاشي جموده ولم تهتز ملامحه انما تحدث بجفاء
” انا مش ابوك يا حازم .. انت متشرفش اي حد…
و الحمد لله أن ابوك مات قبل ما يشوفك في الوضع دا.. يالا قدامي ..”
****************
مرت دقائق كانت دهرًا الجميع متأهب والجو متوتر مشحونًا بموجات كهربائيه تجعل الصدور تعلو وتهبط من فرط الإنفعال و الأنفاس تتخبط و كلًا يملك بقلبه وجعًا أقسى من الآخر
” الله يخربيتك يا حازم الكلب . قارفنا عايش و ميت ..”
هكذا هدر «طارق» بنفاذ صبر وهو يتحدث مع «مروان» علي الهاتف فزفر الأخير حانقًا
” دا حيوان. لو تعرف اللي عمله وقاله لسليم . لولا سالم كان موجود كان دفنه مكانه..”
«طارق» بحدة
” المشكله ان اللي هيطوله هيطولنا احنا كمان . انا معرفش سالم هيعمل ايه في حوار البت اللي اغتصبها دي ؟ “
صاح «مروان» بقسوة
” لا و الباشا بيقولك قمت لقيتها غرقانه في دمها . و مكنش حاسس بحاجة .”
«طارق» بصدمة
” يعني اعترف أنه فعلًا اغتصبها ..؟”
” بقولك بيقول كان شارب و مكنش في وعيه …”
«طارق» بسخرية
” الواد دا بيكذب .يعني ايه مكنش في وعيه .هو موصلش لدرجة الإدمان عشان يغيب عن الوعي. الحاجه اللي ممكن تعمل كدا الخمرة . “
تصدعت ملامحه من فرط الصدمة و صاح بحنق
” يا ابن ال…. بيدور علي اي حاجه تشفع له عند سالم و تخفف من عقابه . بس لا انا هلفت نظره بردو .. عشان يأدبه صح “
زمجر «طارق» متوعدًا
“هنأدبه ! اسمها هنأدبه . وحياة امي شيرين تقوم بالسلامه بس و هفرتك أمه..”
أخذ عقله منعطفًا آخر و عقب ساخرًا
” اه صحيح ايه دور شاروخان اللي انت عايش فيه دا ؟ “
أوقفه قبل أن يتمادي في سخريته فهو يعرف كم أنه لعين لذا تحدث بفظاظة
” لسانك لو هلفط هقطعهولك .. سامعني صح !”
«مروان» بحنق
” سامعك ياخويا… بس تعرف لايقين علي بعض.. هنعمل قصتكوا فيلم ونسميه العقرب و الأفعي.. من اول بوسه هتموتوا مسمومين أن شاء الله..”
لم يكد ينهي جملته حتي وجد الهاتف قد أغلق في وجهه فلم يبالي إنما التفت إلي «سليم» الذي كان وجهه مكفهرًا و عينيه مشتعلة بنيران الفقد و الخوف و الضياع فاندفع «مروان» باستفهام
” ها في جديد ؟”
اختصر وجعه بكلمة واحدة
” لا ..”
التفت صاعدًا الي السيارة و كذلك «مروان» الذي تابع استجوابه قائلًا
” طب ما يمكن الست دي بتكذب عليك .!”
زفر «سليم» بغضب تجلي في قيادته المتهورة و نبرته المرتفعة حين قال
” مجتش عندها يا مروان.. حلفتلي ستين يمين أن من يوم ما سافرت هي و فرح مشافتهمش واصلًا المفتاح معاها يعني لو كانت جت هنا اكيد هتروح تاخده منها.. “
تعاظم القلق بداخله فقد أمضوا أكثر من خمس ساعات يبحثون بكل مكان حتي أوشك الليل علي إسدال ستائره و تشعب الغضب بصدر «سليم» فباتت كل خليه به تؤلمه احتقنت عينيه بنيران القهر و الخوف فلما غادرته بتلك الطريقة؟ و تركته فريسه شهية لأنياب القلق و الخوف الذي كان يقطر من لهجته حين همس قائلًا
” انتِ فين يا جنة؟ روحتي فين بس ..”
في المقابر تحديدًا عند قبر المرحوم «محمود عبد الحميد عمران» كانت تجلس طفلة تحمل بين يديها طفلًا صغيراً و هي تستند بكامل ثقلها علي القبر خلفها وكأنها ترجو من في داخله أن يحتضنها حتي يهدأ ذلك الوجع الذي ينخر عظامها دون رحمة ناهيك عن قلبها الذي أكله جمر الخوف الساكن بمقلتيها فذرفته علي هيئة انهار غزيرة روت الأرض تحت أقدامها و كأنها بحار لا تنضب كما لا ينضب الحزن داخلها
” بابا .. انا خايفة .. خايفة اوى .. و مش عارفه اعمل ايه ولا اروح لمين؟ “
هكذا خرج صوتها جريحًا كحال قلبها و خالط الدمع حروفها الواهنة حين تابعت
” لقيت نفسي بجري .. قعدت اجري لحد ما نفسي اتقطع.. و لقيت نفسي جيالك .. زي ما كنت بعمل زمان ، و نفسي اوي اترمي في حضنك و تطبطب عليا و تقولي متخافيش .. “
كانت كلماتها تخرج من بين نهنهات متقطعة تعالت حتي بدد صداها الهدوء حولها و خاصةً حين صرخ «محمود» بين أحضانها فأخذت تناظره بألم و قلة حيلة تجلت في نبرتها حين قالت
” حتي محمود خايف … انا .. انا مش عارفه اطمن ابني ولا اكونله ام حقيقة .. انا تعبت اوي … تعبت يا بابا تعبت ..”
” جنة…”
كانت الكلمات تخرج متقطعة من بين دموع الوجع الذي ارتد بصدر «سالم» الواقف منذ دقائق يتابع حديثها المتألم ولم يريد مقاطعتها فقد تركها حتي تفرغ ما بجوفها اولًا عل ذلك يساعدها ولو قليلًا ولكن صراخ «محمود» كان اذنًا له بأنه حان أوان تدخله فنادي باسمها فارتعبت حين اخترقت لهجته خلوتها فهبت من مكانها تلتفت اليه فإذا به يتقدم منها بهيبته و حضوره الذي لطالما أخافاها منه ولكنها لم تستطيع منع نفسها من السؤال حين همست
” انت عرفت مكاني ازاي ؟”
«سالم» بخشونة
” سهل اوي اتوقع تفكيرك هيوديكي فين ؟”
” فين ؟”
استفهمت بشفاة مذمومة تجاهد سيل العبرات من الهطول فأجابها بسلاسة
” لأكتر حد يطمنك. و اكتر مكان هتكوني في امان فيه .. بس للأسف اختارتي المكان الغلط يا جنة..”
قال جملته الأخيرة بعتب فتبددت نظراتها المندهشة من إجابته و قد اربكها بُعد نظره و فطنته و كيف أنه توقع مكان وجودها ولكن جملته الأخيرة آلمتها فخفضت رأسها لذا أردف بهدوء
” مينفعش تسيبي كل اللي عندك و تدوري عاللي مبقاش موجود !”
وصل إلي مسامعه صوت نحيبها فاقترب يأخذ «محمود» من بين يديها وهو يقول بتفهم
” انا عارف اللي أنتِ حاسة بيه .. و خوفك من اللي جاي.. بس هروبك مش حل .. دا بيزود المشكلة اكتر ..”
همست بيأس
” طب اعمل ايه ؟ انا كل حياتي انهارت و اتدمرت ..”
«سالم» بخشونة
” هتنهار لو أنتِ سمحتي بدا .. ”
اجتاحت عينيها موجة من التساؤلات فعقب قائلًا
” أنتِ عارفه حالة «سليم» عاملة ازاي دلوقتي ؟”
كيف لا تعلم حال ذلك الذي سكن قلبها و استحوذ علي وجدانها فقد كانت أكثر من يشعر به ؟ ولكن موجة من الضياع جرفتها فلم يعد عقلها يعمل كل ما كان يدور بمخيلتها أنها أصبحت بلمح البصر زوجة لرجلين ..
” عارفه .. انا اكتر حد حاسس بيه و عارفه ايه جواه..”
” طب يرضيكِ حالته دي ؟”
كان استفهامًا يحوي عتابًا قاسيًا علي قلبها ولكنه لم يتيح لها الفرصة للرد إذ تابع قائلًا
” انا كان ممكن أقوله علي مكانك . بس حبيت اتكلم معاكِ الاول ..”
رفعت رأسها دلالة علي انصاتها الي ما يريد قوله فقال ويديه تجذبانها الي السيارة حتي يقيها هي و الصغير من هذا البرد القارس
” تعالي نقعد في العربية عشان نعرف نتكلم ..”
بالفعل اطاعته حتي استقرت الي جانبه في السيارة التي أدارها ليصل الي أحد المحلات التي تصنع المشروبات الساخنة و قام بطلب كوب من الشيكولاته الدافئة التي أخبرته «فرح» يومًا بأنها تحبها و ناولها الكوب حتي يدفئ جوفها و انتظر أن تهدأ قليلًا قبل أن يقول مشددًا علي كل حرف يخرج من بين شفتيه
” انتِ مش لوحدك يا جنة . أنتِ حواليكي ناس كتير بتحبك فمينفعش أبدًا تهربي وتسبيها هيتجننوا من القلق كدا .. “
أوشكت علي الرد فاوقفها بحركة من يده حين تابع بصرامة
” هخلص كلامي و قولي اللي أنتِ عيزاه بعدها.. “
اومأت بالإيجاب فتابع بلهجة اهدأ قليلًا
” بخصوص الوضع اللي أنتِ فيه دا فأتأكدي ان محدش هيقدر يفرض عليكِ حاجه . و اللي أنتِ عيزاه بس هو اللي هيحصل . “
همست بضياع
” تقصد ايه؟”
«سالم» بحزم
” اقصد انك مسئوليتي انا من النهاردة. أنتِ و ابنك و كذلك حازم و سليم . شوفي ايه اللي هيريحك وانا معاكي فيه . واوعي تخافي من حد وانا موجود.. سمعاني؟”
لا تنكر شعور الراحة الذي تسرب الي قلبها جراء كلماته فهمست بامتنان
” انا مش عارفه اشكرك ازاي؟”
سالم مقاطعًا
” متشكرنيش و متكرريش اللي عملتيه النهاردة تاني . الهروب عمره ما كان حل بالعكس .. دا هيضرك و هيضر اللي حواليكي ..”
نجح في إضرام نيران الذنب بقلبها فقالت بأسف
” انا عارفه انكوا اكيد قلقتوا عليا و أكيد فرح اتجننت.. انا كان نفسي تكون جنبي و اترمي في حضنها كان نفسي اخدها هي و محمود و اهرب لبعيد …”
تحفزت خلاياه من حديثها و قاطعها بحدة
” فرح دي ملكية خاصة مينفعش تتحرك خطوة واحدة بعيد عني .. “
لاحت ابتسامة باهتة علي شفتيها من حديثه عن شقيقتها و همست بخفوت
” فرح محظوظة بيك.. و بتحبك اوي علي فكرة ..”
اي حب الذي يمكن أن يصف ما بينهم أنه تخطي حتي العشق شيء أشبه بالهوس يجعل شوقه لها لا ينضب ابدًا بل كلما اقترب منها يتعاظم الشوق بداخله أكثر فلا يستطيع الابتعاد عنها أبدًا
“عارف … فرح دي تميمة الحظ بتاعتي .. “
هكذا خرجت الكلمات من جوفه محملة بأشواق عاتية لوجودها بجانبه و عشقًا محمومًا خلق لها فقط..
” ربنا يخليكوا لبعض ..”
هكذا همست حين شاهدت تبدل ملامحه وهو يتحدث عنها و نظراته التي رقت ولكن تبدلت لهجته ما أن لاحظ تغيير مسار الحديث فأعاد الدفة الي الموضوع الأساسي مرة أخرى حين قال بخشونة
” قرري أنتِ عايزة ايه ؟ وعرفيني “
لم تستطيع منع نفسها حين قالت بلهفة
” طب . طب انا ممكن اطلب طلب ؟”
” اطلبي ..”
تحشرجت نبرتها وهي تقول
” انا محتاجه اقعد لوحدي شويه مش قادرة اتواجه مع حد . ولا أتكلم حتي ..”
لم تكن تعرف كيف تصيغ كلماتها ولكنه فطن ما تريده فقال باختصار وهو ينطلق بسيارته
” زي ما تحبي …”
************
لم يكن يحتمل حتي النفس الذي يُبقيه علي قيد الحياة و ود لو يتوقف قلبه عن النبض يعلن نهايه حياته و ألمه الذي جعله يقف بتلك البقعة النائية في أرضهم وهو يبكي كطفل صغير ضاع عن والدته و الحقيقة أنه لم يكن بكاء بل كان نحيبًا وسط نهنهات قويه تردد صداها بصدره المنقبض وكأن العالم كله يرسو فوقه..
اختار تلك البقعة المعزولة يبكي امرأة لم يتردد في إعطائها قلبه الذي قدمته قربانًا لشياطين الجحيم بخيانتها !
تلك الكلمة تقسم قلبه إلى نصفين كيف لملاكًا مثلها أن يفعل ذلك ؟ إن لم يكن رآها بعينه لم يكن يصدق بل لم يكن يتردد في إفراغ طلقات سلاحه علي من يخبره عنها امرًا كهذا…
كم من التساؤلات تدور في فلك عقله الذي كاد أن يجن كلما تذكر مشهدها بين ذراعيه حتي أنها لم تُكذب ما حدث ! لم تكن تملك إجابة بل تركت له نفسها ليزهق روحها بيديه دون مقاومة منها !
صرخة قويه شقت جوفه تعبر عن الوجع الكامن بصدره الذي أخذ يضرب عليه بقوة حتي يوقف سيل نزيفه و ذلك الألم الذي سيقضي عليه حتماً
ضاق ذرعًا بهاتفه الذي أخذ يرن و يرن دون توقف وقد ظن انها والدته فقام بالتقاطه ليجيب بنفاذ صبر
” عايزه ايه مني يا ماما ؟”
” الكلب اللي اسمه حازم لساته عايش يا ياسين !”
اخترقت جملته أذن «ياسين» الذي صمت لثوان من تأثير الصدمة ثم هدر باستنكار
” انت اتجننت يا عمار حازم مين اللي لسه عايش ؟”
«عمار» بحدة
” بجولك لساته عايش واني شفته بعيني .. و مش أكده وبس دا الكلب طلع عامل بلاوي زرجا .. ده مغتصب بنت و كانت هتروح فيها بسببه ..”
انهالت الصدمات علي مسامعه فلم يكد يستوعب ما حدث حتي أضاء عقله بفكرة فوثب واقفًا و قد تعالت أنفاسه و أخذ يدور حول نفسه واضعًا يده الحرة فوق جبهته ثم قال صارخًا وهو يقاطع حديث عمار الذي أخذ يسرد ما سمعه من مكالمة طارق و مروان
” تعرف توصفلي شكله ؟ طوله عرضه هيئته !”
«عمار» باندهاش
” ايه اللي عتجوله ده ؟ اوصفلك ايه ؟ هو أني بجولك چايبلك عروسه ولا اي؟”
لم يتمالك نفسه فصرخ بعنف
” مش وقت سخافتك يا عمار بقولك اوصفهولي ..”
اطاعه «عمار» و أخذ يصف له هيئة «حازم» و قد كانت الحروف وكأنها تحرق صدره و علا هدير أنفاسه أكثر و تقاذف الدمع من عينيه وهو يهمس بينه وبين نفسه
” حلا مش خاينه .. مش خاينه.. “
لم ينتظر أكثر انما اغلق الهاتف بوجه «عمار» و أخذ يهرول الي المنزل ليقر عينيه برؤيتها و ليطلب منها الصفح حتي وإن كلفه الأمر أن يتوسل لها أن تسامحه و أخذ يردد عبارات الحمد أن والدته تدخلت في الوقت المناسب لمنعه من اقتراف جرمه العظيم بحقها فو لم تتدخل و أزهقت روحها بين يديه لم يكن يكفيه حتي و إن قتل نفسه بدل المرة ألف
اقتحم المنزل فوجد والدته تجلس بتعب تستند برأسها فوق كفها وهي متجهمة فصاح من بين أنفاسه اللاهثة
” حلا فين ؟”
هبت «تهاني» من مقعدها بخوف تجلي في نبرتها حين قالت
” عايز اي منيها ؟ بجولك ايه يا ياسين..”
قاطعها بلهفه
” عايز اعتذر لها يا ماما . انا ظلمتها ظلم كبير اوي وهي معملتش حاجه .”
صاعقة اصابت «تهاني» التي ضربت بعنف علي صدرها وهي تولول
” يا مُري هو انت عرفت ؟”
أثارت فعلتها حفيظته فتحدث بترقب
” عرفت ايه؟ ماما .. حلا حكتلك حاجه ؟”
لم يكن أمامها بُد من من مصارحته حين اخذت تقص عليه ما أخبرتها به «حلا» و أنهت حديثها محذرة
” يكون في علمك اني مش هجبل اني اخسرك زي ما خسرت اخوك . ابعد عن الموضوع ده. واني اتفجت معاها. جعادها اهنه معاك جصاد انك تبعد عن المچرم ده ..”
أيقظت كلماتها جيوش غضبه هل بعد ما حدث لازالت تدافع عن ذلك المغتصب ؟ زمجر باهتياج وهو يتوجه إلي الأعلي و كأنه يتشاجر مع خطواته الي أن اقتحم غرفتهم فوجدها راقدة علي مخدعهم وهي تنظر إلي السقف مغمضة عينيها فاستفهم بلهجة حادة كالسيف
“اللي معاكِ دا كان حازم صح ؟
هكذا استفهم بغضب و ترقب فهبت من مخدعها بجزع وبلهفه اضرمت التوتر بكلماتها حين قالت نافية
” لا . لا . مش حازم ..”
لهفتها و نفيها السريع لم يكونا سوي مرآة أظهرت كذبها الذي أضاف نيران آخري غاضبة الي نيران ذنبه العظيم تجاهها
” مستغربتيش سؤالي يعني ! مش حازم دا مفروض ميت ولا ايه ؟”
تبلور الألم مُعانقًا الخوف بمقلتيها التي ذرفت مياهها بغزارة دون أن تملك بداخلها أي كلمات لتجيبه فاقترب خطوتين قبل أن يقول بجفاء
” كنتِ هتسبيني اموتك في أيدي عشان تحميه مش كدا ؟ “
تجاهلت منحني الرد و التفتت مولية ظهرها لنظرات قاسية تخشي ما يكمُن خلفها فهدر بعنف
” كنت هتضحي بحياتك و تحرميني منك العمر كله عشان كلب زي دا؟”
” ايوا و عندي استعداد لحد دلوقتي أضحي بنفسي عشانه ..”
هكذا صاحت بقوة وهي تلتفت تناظره بعينين تحويان التوسل الذي لم يلاقي صدي بداخله بل قست نظراته و شابهتها لهجته حين قال
” علي الرغم من أنه ضحي بيكوا و مفرقتوش معاه لا ومش كده وبس ! دا حط ايده في ايد عدوكم عشان يدمركم ..”
تعلم أنها الحقيقة المرة ولكنها لم تملك سوي النفي لا تعلم إذا كان حماية لشقيقها العاق ام انقاذًا لما تبقي لها من ماء الوجه أمامه لذا صرخت بحدة
” محصلش .. محدش يعرف ايه اللي حصل معاه طول الفترة دي ..”
اغضبه دفاعها عنه و تحدي نظراتها أمامه فبصق الكلمات بوجهها
” طب اعرفي بقي .. البيه اخوكي هرب و عمل ميت بعد ما اغتصب بنت قاصر و سابها بين الحيا و الموت. “
أصابتها كلماته كسهم نافذ اخترق قلبها و خاصةً حين تذكرت كلمات شقيقها بأنه لم يكن في وعيه و أنه شعر بالخوف عليهم لذا هرب !
كل خلية بها تشتهي الانهيار ولكنها لم تعتد علي ذلك فاستجمعت كل ما تملك من ثبات خلت منه لهجتها حين قالت
” كل دا كلام مش عليه دليل . وأنا مش ظالمه عشان احكم من غير ما اسمع منه…”
قاطعها بانفعال
” تسمعي ! أنتِ مجنونه ؟ فكراني هسيبك تعرفي الكلب دا تاني ؟ “
تعلم كم أن الحق في صفه ولكنها كانت يائسة بقلب محترق و عقل ممزق جعلها تقول بصراخ
” هتمنعني عن اهلي يعني؟”
ضرب الجنون عقله فصاح بانفعال
” ايوا همنعك … ”
” ولو سمعت كلامك هتبعد عنه و مش تأذيه؟”
هكذا تحدثت بقهر قابله الغضب والقسوة من قبالته حين قال
” انا مش بس هأذيه انا هفرمه تحت رجلي …”
دق قلبها بعنف حتي آلمتها دقاته و انفطر قلبها خوفًا من تلك القسوة التي تنبثق من عينيه و كلماته فاستخدمت آخر ما بيدها من حيل حين قالت بجمود
” لو فعلًا ناوي علي كده يبقي مش هعيش معاك لحظة واحدة ”
“الباب يفوت جمل ! “
باغتتها قسوته خاصةً أنه لم يفكر للحظة و كأنها لا تساوي شيئًا بالنسبة إليه فأصاب كبريائها في مقتل فتولد العنفوان واستملك مكان العشق لتقول بجمود
” تمام يا ياسين بس اعمل حسابك اني لو خرجت من البيت دا مش هرجع تاني ابدًا لو عملت ايه “
اخترقت كلماتها صدره مُحدثه آلام عظيمة تغلب عليها عناد أهوج فقال بلهجة قاطعه
” مش هعمل يا حلا ..”
اومأت بصمت وهي تتوجه الي المرحاض لتتركه خلفها يتلظى بنيران الغضب و الذنب فقد كان ذاهبًا لإسترضائها كيف وصل معها الي تلك النهاية ؟
لم يتمالك نفسه وقام بالتوجه الي المرحاض ليدفع الباب بعنف فوجدها تجلس باكيه علي جدار حوض الإستحمام فجذبها بقوة من رسغها لترتطم بسياج صدره وهو يزمجر بوحشية
” اسمعيني كويس. انا ماصدقت لقيتك و انك بقيتي ليا و مش هسمحلك ولا لأي حد يبعدك عني . فاهمه ؟”
علي صوت نحيبها فتابع وهو يهزها بعنف
” الكلب دا بره عنك ملكيش دعوة بيه ولا باللي هعمله فيه “
لم تستطيع التحمل فحاولت نزع نفسها منه وهي تصرخ من بين عبرات ملتهبه أحرقت وجنتيها
” حرام عليك . دا اخويا بالرغم من كل حاجه . عايزني اعيش معاك ازاي وانا عارفه انك عايز تأذيه .. انام في حضنك ازاي وانت ايديك متلوثه بدمه . مش هو دا اللي انت ناوي عليه ..”
انتفض قلبه متألمًا لحالها ولكنه كان هناك نيرانًا من نوعًا آخر تجتاحه لتنال من كرامته و مروئته و يود لو يحرق هذا الشاب حيًا لذا هدر بغلظة
” كدا كدا هو كان ميت .. اعتبري انك مشوفتيهوش و أنه مرجعش ..”
جن جنونها و برقت عينيها من كلماته ولم تستطيع سوي ان تصرخ بقهر
” انت اكيد اتجننت و أنا فعلًا معدش ليا مكان هنا و روح خد تارك بقي و انساني ..”
هكذا تحدثت وهي تتجاوزه و تخرج الي الغرفة لتلتقط حقيبتها وهاتفها فتفاجئت بكلماته العنيفة حين قال
“ابقي وريني هتخرجي من هنا ازاي ؟”
لم تكد تتجاوز حديثه حتي تسمرت بمكانها وهي تستمع الي ثقل الباب فالتفتت لتجده أغلقه بالمفتاح قاصدًا أن يحبسها بالداخل
في الخارج هبت «تهاني» حين وجدته يهرول للأسفل فصرخت توقفه
“ياسين ولدي .. جولي ناوي علي ايه ؟ ”
لا يعرف كيف يصيغ كلماته فقال بحرج
” ماما . انا محتاج مساعدتك ضروري..”
” حوصول ايه ؟”
«ياسين» بيأس
” حلا عايزة تمشي و تسيب البيت وانا عايزك تمنعيها ..”
انكمشت ملامحها بصدمة وقالت باستنكار
” اوعي تكون مديت يدك عليها تاني ؟”
سارع بالنفي
” لا لا . مفيش حاجه من دي .. ”
ثم قام بسرد ماحدث بينهم باختصار لينهي حديثه وهو يقول بلهجة يشوبها بعض التوسل
” أنا مش هقدر اخسرها ولا اسببها تمشي من هنا يا ماما.”
فاجأته حين قالت بصرامة
” كويس انك جولت أكده . عشان لو مشيلتش حكاية اخوها دي من عجلك اني بنفسي اللي هوديها عند أهلها..”
*********
تعالي ادخلي يا جنة .. ”
هكذا ناداها «سالم» بصوته القوي لتدخل الى تلك الغرفة التي قام بحجزها لها في أحد افخر الفنادق في القاهرة لتحظي بوقت منفرد تعيد فيه حساباتها و تفكر بطريقة صحيحة..
” شكرًا يا أبية سالم ..”
تحدثت بامتنان أطل من عينيها بعد أن استقرت في الغرفة و وضعت «محمود» علي السرير بعد أن تناول غذائه فغط في نومًا عميق
” متشكرنيش قولتلك أنتِ مسئولة مني .. و تحت حمايتي ..”
ابتسمت بوهن فأمرها بهدوء
” اقعدي خلينا نكمل كلامنا ..”
اطاعته بصمت يتنافى مع ضجيج الاستفهامات بعينيها فجلس هو الآخر و ما أن استقر في مقعده حتي تحدث بجمود
” قولي اللي عندك ..”
تحمحمت بخفوت قبل أن تقول بحرج
” هو . هو سليم عارف انا فين ؟”
«سالم» باختصار
” بعتله رساله انك معايا .. فين بالظبط مقولتش .”
اخفضت رأسها قبل أن تقول بألم
” انا دلوقتي بقيت مرات اتنين ؟”
أطلق الهواء المكبوت بصدره دفعة واحدة قبل أن يقول بخشونة
” مش هقدر افتى غير لما اتأكد بنفسي من حكم الشرع في الموضوع دا .”
لاحظ كدرها الذي طغي علي معالمها أكثر فتابع بلهجة ودودة
” بس انا مش عايزك تقلقي من حاجه. مش هيحصل غير اللي أنتِ عيزاه..”
همست بتردد
” بس .. بس الاتنين اخواتك.. هتتحل ازاي لو حازم مقبلش..”
قاطعها بفظاظة
” اخواتي بس مش هقبل بالظلم.. و حازم مالوش يقبل أو يرفض حاجه . الموضوع في ايدك أنتِ “
ودت لو تصرخ بما تريد ولكنها لم تستطيع سوي اخفاض رأسها فوثب «سالم» قائمًا وهو يقول بفظاظة
” فكري و خدي وقتك … وكلميني .. تقدري تقعدي هنا براحتك “
هبت من مقعدها تناظره بلهفة و كلمات لم تتجاوز حدود شفتيها فأردف باستفهام
” عايزة سليم يعرف مكانك ؟”
” أنا مش عارفه ابص في وشه .. ولا عارفه هقوله ايه ؟”
هكذا رددت بألم فشعر بالشفقة علي حالها لذا هدأت لهجته حين قال
” هسيبك ترتاحي دلوقتي و هنأجل كلامنا لبعدين .. لو عوزتي اي حاجه اطلبيها من خدمة الغرف .. هما مكلفين بتوفير كل اللي تحتاجيه.. و في أي وقت كلميني ..”
اومأت بامتنان فتوجه الي باب الغرفة ثم امطرها بوابل أوامره
” تقدري تكلميني في أي وقت . واهم حاجه متنزليش من اوضتك من غير ما اعرف ..”
إجابته بإذعان
” حاضر ..”
ما أن خرج من عندها حتي قام بفتح هاتفه الذي كاد أن ينفجر من اتصالات «سليم» الذي ما أن أرسل له رسالة نصية يخبره أن «جنة» معه و هو كالمجنون ولكنه قد حمل علي عاتقه حمايتها ولن يتواني عن فعل ذلك أبدًا
دق هاتفه مجددًا ولكن كان المتصل «فرح» فضغط علي زر الإجابة ليأتيه صوتها الغاضب
” ممكن اعرف قافل تليفونك ليه ؟ بقالي ساعتين بتصل عليك مش عارفه اوصلك .. طمني لقيت جنة؟ هي معاك بجد ؟”
توالت استفهامها في أكثر الأوقات خطأً لذا أجابها باختصار و نفاذ صبر
” بجد ..”
إجابته كانت مختصرة للحد الذي جعل الغضب يتشعب في أوردتها أكثر فصاحت بانفعال
” ممكن ترد عليا زي الناس انا مش بشحت منك ..”
صاح محذرًا
” صوتك يا فرح .. و بعدين هو أنتِ مدياني فرصة اتكلم اصلًا !”
تعاظم الغضب بداخلها مما جعلها تصرخ بدون احتراز
” يمكن عشان حضرتك راميني هنا و مش معبرني واختي هربت ومعرفش راحت فين و البيه اخوك بعد ما عمل كل المصايب دي طلع عايش و راجع يهد كل حاجه علي دماغنا ..”
دهست شاحنة كلماتها علي جرحه الغائر و مصابه الي فاحت منه رائحة الخزي فزمجر بقسوة
” تعرفي تخرسي؟ قولتلك اختك معايا يبقي عايزة ايه تاني مني ؟ “
انفجرت براكين الغضب و قذفت حممها علي هيئة عبرات مشتعله ذرفتها عينيها فخالطت حروفها التي خرجت مرتجفة من فرط الألم
” مش عايزة منك حاجة يا سالم . و عمومًا انا كنت هموت من القلق علي اختي عشان كدا اتصلت عليك ؟ ومش هضايقك تاني ولا هسمعك صوتي اصلًا ..”
أنهت كلماتها و انهت المكالمة علي الفور بينما ظل هو علي حاله ممسكًا بالهاتف يستند برأسه علي مقعد سيارته بتعب تجلي في نبرته وهو يهمس بحروفها يائسًا
” فرح …”
أفرغ صدره من الهواء الحارق المشتعل بداخله في زفرة قوية آلمت رئتيه و ظل قابعًا في مكانه للحظات حاول استجماع نفسه التي انهكها التعب و كثرة الصدمات حين رن هاتفه مرة أخرى فوجد المتصل «سليم» فأجاب بعد لحظات ليأتيه صوته الغاضب
” سالم انت بتستهبل مش كدا ؟ قافل تليفونك ليه عايز تجنني ؟”
تجاهل ثورته وغضبه الحارق حين اجابه بفظاظة
” قابلني علي المستشفي .. نص ساعه هكون هناك..”
لم يتيح له الفرصة للإجابة بل اغلق الهاتف و أدار محرك سيارته لينطلق الي المشفى ..
*********
هدأت الأمور قليلًا حين طمأنهم الطبيب علي حالة «شيرين» التي لم تستفق من المخدر للآن و أيضًا عندما زف إليهم «مروان» خبر عثور «سالم» علي «جنة» فتنفس الجميع الصعداء إلا هو ! مع كل دقيقة تمر يتعاظم ألمه و شوقه و غضبه حتي تحولت عينيه الي بركة من الدماء المتقدة بنيران اضعافها بقلبه صار ينفسها بقوة وهو يستند بجزعه علي الجدار فكان مشهده من بعيد مروعًا فلم يجرؤ أحد من الاقتراب منه و هكذا طال صمتهم الي أن قطعه وقع أقدام «سالم» علي الارض الصلبة فتوجه «سليم» إليه وهو يرعد بجنون
” مراتي فين يا سالم ..”
تجاهل صوته المرتفع و قال بجفاء
“في الحفظ والصون ..”
تجمع كلًا من «مروان» و «طارق» حولهم فهدر «سليم» بعنف
” سالم متجننيش ..”
قاطعه «سالم» بزئير
” اهدي عشان تسمع الكلمتين اللي هقولهم . جنة حالتها سيئة و نفسيتها تحت الصفر و طلبت تفضل كام يوم لوحدها عشان تقدر تفكر و تقرر هتعمل ايه ؟”
بهتت ملامحه كما اخترقت الكلمات صدره وكأنها أسهم مشتعلة و خاصةً حين تابع «سالم» بلهجة قوية
” وأنا وعدتها أن مش هيحصل غير اللي هي عيزاه.. و انها تحت حمايتي ..”
انكمشت ملامحه بألم لم يفلح في اخفائه و انبثق من بين حروفه حين قال
” حمايتك ! و هتحميها من مين يا سالم مني؟”
يشعر بوجع شقيقه بل حتي اضعافه ولكنه يجب أن يضرب بيد من حديد و يعيد الأمور إلى نصابها حتي ولو طالهم بعض الأذى ولكنه سيضمن سلامة الجميع
” لا مش منك يا سليم . بالعكس . جنة زعلانه عشانك اكتر من نفسها.. بس هي محتاجه أنها تستوعب اللي حصل..”
شوهت وسامته ابتسامة ساخرة جراء حديث «سالم» الذي نال من كبرياءه مرورًا بقلبه ولكنه حاول ابتلاع جمرات الوجع وقال بصوت متحشرج
” اااه.. تستوعب .. وماله.. براحتها.. “
تدخل «مروان» مؤيدًا لحديث «سالم» حين قال
” اديها وقتها يا سليم . الوضع الي هي فيه مش سهل !”
استنكر حديثه وقال بتهكم
” وضع ! أي وضع ؟”
اجابه «سالم» بفظاظة
” أنها بقت مرات اتن…”
” اوعي تكملها يا سالم …”
هكذا صدح صوته الغاضب للحد الذي جعل شفاهه ترتعش بمرور أنفاسه المتلاحقة فوقها فرق قلب «سالم» لحال شقيقه فقال بلهجة تحوي الطمأنينة بين طياتها
” اوعدك الوضع دا مش هيطول … “
التفت للجميع وهو يتابع
” اللي احنا فيه مش سهل ! و هروب الكلب دا يقلق . لأني واثق أنه هيقلب الدنيا بعد اللي حصل ..”
تدخل «طارق» الصامت منذ بدأ الحديث وهو يؤكد علي حديث «سالم»
” فعلًا يا سليم . احنا لازم نصحصح و نعرف هنعمل ايه مع الحيوان دا ..”
لم يتحدث إنما أومأ بصمت فأردف «مروان» باستفهام يشوبه بعض الحرج
” انت . وديته فين ؟”
نظر «سالم» الي ساعته وهو يتحدث بفظاظة
” سيبك منه . خلينا في المهم . انا هروح اطمن علي ماما و شيرين و بعدين هنزل اسماعيليه عشان فرح ..”
هتف «طارق» باستنكار
” اسماعيليه ايه اللي تنزلها دلوقتي يا سالم ؟ و لوحدك !”
” خليك في نفسك..”
هكذا أجاب «طارق» بجفاء فتدخل «مروان» مؤيدًا
” طارق عنده حق . استني للصبح نكون روحنا و خد الحراسة معاك و روح هاتها هي و سما.. “
«سالم» بفظاظة
“عيل صغير قدامك أنا مستنيك تقوله يعمل ايه و ميعملش ايه ؟”
أجاب «سليم» بدلًا عن «مروان»
“لا مش عيل صغير بس الظروف دي علينا كلنا ولازم كلنا نتحملها و العيلة ليها حق علينا.. ولا ايه؟”
تبلور الغضب في عينيه و كذلك نبرته حين أرعد بوجههم قائلًا
” لو الحرب قايمه بره مش هسيبها لوحدها و دا موضوع غير قابل للنقاش .”
أوشك «سليم» علي الرد ولكن صدح صوت هاتف «مروان» الذي تبدلت ملامحه فألتقم «سالم» توتره فامتدت يده تلتقط الهاتف وقد صح ظنه عن هوية المتصل فانسحب من بينهم وهو يضغط علي زر الإجابة فصدح صوتها المختنق باللهفة و الخوف
” طمني يا مروان سالم وصل عندكوا ولا لسه ؟”
لعن نفسه كونه احزنها بهذا الشكل فأجابها بلهجة تحمل اعتذار لم يتجاوز حدود شفتيه
” اطمني يا فرح ..”
شهقت متفاجئة حين سمعت صوته و اهتز قلبها معلنًا رايه العصيان أمام رجل يندثر أمامه ثباتها و يتحامل عليها قلبها لأجله فقالت بلهجه جافة
” انا بتصل علي مروان اديهولي لو سمحت ..”
زفر بتعب قبل أن يقول بخشونة
” حقك عليا ..”
ذرفت مياه عينيها تأثرًا بذلك الشجن في صوته ولكنها لم تستطع تجاوز حزنها منه فعاندت قائلة بجفاء
” اديني مروان ..”
” حقيقي مكنتش اقصد ..”
لم يستطيع تجاوز حزنها كما لم تستطيع تجاوز ألمها منه فواصلت تمردها قائلة
” مش عايزة اكلمك ..”
” بس انا عايز.. “
لا يمكنها معاندة رجل له سطوة مطلقة علي كل ذرة من كيانها فرقت لهجتها قليلًا معلنة قرب استسلامها
” ماليش دعوة بيك..”
زفر بتعب تجلي في نبرته حين قال
” فرح انا فعلًا مش متحمل “
تغلب عليها قلقها و همست باهتمام
” فيك ايه ؟ “
” نار ..”
كان هذا أبلغ وصف لما يشعر به الآن فتقاذفت عبراتها تشكو له نيرانها هي الأخرى
” من وقت ما عرفت اللي حصل وانا هتجنن عليك و لما رنيت ولقيت تليفونك مشغول كنت هموت من القلق بس كلامك وجعني اوي ..”
وجعها كان ثقلًا هائلًا أُضيف الي حقيبة جراحه فهمس بصوتًا أجش
” سلامتك من الوجع يا حبيبتي.. “
صمتت تاركه العنان لعبراتها أن تصف له أي وجع تشعر به فتنهد بحرقة وهو يزمجر باعتراض
” للدرجادي زعلانه مني !”
لملمت جراحها بصعوبة وحاولت إضفاء القوة علي نبرتها وهي تقول باهتمام
” طمني عليك ..”
أفصح عن احتياجًا قاتلًا يجتاحه إليها
” محتاجلك يا فرح…”
همست بحب
” انا جنب….”
لم تفلح في إكمال جملتها إثر صوت طلقات الرصاص الذي دوي في أرجاء المكان و اخترق مسامعه فصدح صوته مرتعبًا
” فرح …..”
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية في قبضة الأقدار)