روايات

رواية بين دروب قسوته الفصل الرابع عشر 14 بقلم ندا حسن

موقع كتابك في سطور

رواية بين دروب قسوته الفصل الرابع عشر 14 بقلم ندا حسن

رواية بين دروب قسوته الجزء الرابع عشر

رواية بين دروب قسوته البارت الرابع عشر

بين دروب قسوته
بين دروب قسوته

رواية بين دروب قسوته الحلقة الرابعة عشر

“اعتراف بالحب المكنون داخل قلب مُفتت من الحزن”
ألقاها في قاع بئر فارغ في صحراء جرداء، تركها وحيدة مع سواد الليل وصوت الذئاب البشرية التي نهشت في جسدها دون أن تدري..
منذ أن رحل وتركها وهي تبكي على عمر أضاعته في رفقة خائنة كانت تكذب عليها وتقوم بخداعها لأنها غبية..
كانت تقوم بخداع من أحبتها كشقيقة لها، جعلتها صديقة “سلمى القصاص” ابنة أحد أهم الأشخاص في البلدة بأكملها، جعلتها تدلف حياتها وتسرد عليها كل ما يحدث بها وأحيانًا تأخذ رأيها وتقوم بتنفيذه عندما يروق لها..
إلى هذه الدرجة كانت عمياء عنها؟ ولكنها لم ترى منها حقًا أي مما يثير ريبتها، لم ترى أي شيء سيء منها وإلى الآن تعترف بهذا الشيء ولكنها كانت تخفيه داخلها، تظهر إليها ورود الربيع وكأنها ملاك مُجنح.. وفي الحقيقية كانت شيطان أسود معذب لقلبها..
الآن تندب حظها العثر وعقلها الغبي الذي لم يصدق “عامر” متى كان يريد أن يؤذيها؟ متى كان يريد لها الشر؟ لقد كان الحامي الأول لها، كان كل شيء وأي شيء تريده.. لما لم تستمع إلى حديثه المُحذر إياها؟..
لا تعلم إن كان هذا تخطيط إلهي أو أنه تخطيط من هؤلاء الحيوانات المُفترسة ليجعلوها تقع في فخهم المنصوب إليها بكل ترتيب..
السؤال هنا هي لما فعلت بها ذلك؟ هي لم تفعل معها أي شيء سيء بل بالعكس، حتى أنها تعرفت عليها في البداية صدفة بحته أو ربما لم تكن صدفة كان كل ذلك تخطيط والآن كانت الفرصة المناسبة..
ربما “عامر” لم يخونها كما قال وهي من أرسلت الفتاة إليه؟ إنه قال لم يراها ولم ينادي إياها بل وجدها فجأة تقف معه وتضع يده عليها والأخرى قامت بتصويره هذا متوقع.. بل مؤكد هذا ما حدث..
وضعت يدها فوق فمها تكتم تلك الشهقات والقهر المُنبعث من داخلها، الآن فقط علمت أنها من كانت الخطأ منذ البداية، لو ابتعدت عنها لم يكن ليحدث كل ذلك، لو حتى وثقت به وقالت أنه بريء كما قال ولم تُصر على الرحيل لم يكونوا أهلها قد تركوها، لم تكن انفصلت عنه لمدة عامان وجعلت نفسها إليه القاضي والحاكم في قضية ليس له بها ذنب وقامت بالحكم عليه ظلمًا وأعطته المؤبد!..
يا الله كيف فعلت كل ذلك، كيف تركت نفسها إلى تلك الحقيرة تحركها بسهولة هكذا!.. أنه كان محق عندما قال أنها السبب الأول في موت عائلتها، لقد أتضح أنها السبب في كل شيء..
هي من كذبته فأنفصلت عنه، توفت عائلتها بالكامل بسبب إصرارها على الرحيل، تركته وحده ليعود مرة أخرى إلى معاناته القديمة وليعود إلى المشروب من جديد غير قادر أن يتحكم في نفسه..
لقد قال لها أنها الوحيدة التي يريدها في حياته، الوحيدة التي تفهمه وتستمع إلى حديثه وتداوي ألامه، لقد كانت قاسية للغاية وهي لا تدري.. كانت قاسية على الجميع وأفقدتهم كل عزيز عليهم.. إنها الوحيدة الجانية وهم المجني عليهم..
استمعت إلى صوت الهاتف يصدر صوت يقول أن هناك رسائل تأتي إليها، اعتقدت أنه هو، تركت بكائها واعتدلت سريعًا على الفراش وهي تأتي به ثم فتحته لتجده ذلك الحقير الآخر مثل ابنة عمه..
كانت رسائله عبارة عن “يارب يكون الخبر الأول وصل، التاني هيوصلك قريب بالكتير بكرة الصبح وهتدعيلي”
نظرت إلى الشاشة بعينيها المتكون عليها غمامة من الدموع وقرأت ما به كثير من المرات لتفهم ما الذي سيفعله غير ذلك.. لكنها تركت الهاتف وألقته على الفراش وعادت مرة أخرى إلى بكائها المُستمر وتأنيب الضمير الذي شعرت به منذ أن علمت الحقيقة المُرة..
ليتها كانت ماتت معهم من البداية وتركت كل شيء خلف ظهرها، أو كانت استمعت إلى حديثه وتركت صداقتها مع تلك الحقيرة ولو كان حدث هذا اليوم ربما تكون أم لطفل منها ومنه!..
ربما كانت كونت أسرة جميلة معه وعاشت أسعد لحظات حياتها وهي في أحضانه.. رفعت الوسادة ووضعتها على ركبتيها لتنحني بجذعها العلوي للأمام دافنة وجهها في الوسادة تبكي بقوة والدموع تنحدر من عينيها بغزارة ندمًا على كل ما فعلته وما قامت به منذ عامان إلى اليوم في حق الجميع ونفسها قبلهم..
❈-❈-❈
هبطت في الصباح بوجه باهت مُرهق إلى الغاية، عينيها مُنتفخة ومظهرها ليس جيد بالمرة ملامحها حزينة مُنكسرة، هبطت على الدرج بتلك الهئية الغير معتادة منها، مرتدية بنطال أبيض واسع يعلوه قميص باللون البرتقالي الهادئ بداخله نقاط خضراء بأكمام طويلة وتختفي أطراف القميص داخل البنطال، وحذاء رياضي أبيض اللون وفي يدها ساعة نسائية سوداء.. ملابسها لم تكن مُهندمة وخصلات شعرها تركت لها العنان في الإنطلاق ربما تأخذ حظ أفضل من صاحبتها..
دلفت إلى غرفة الطعام في وقت متأخر ولكنهم كانوا في الداخل، لقد كان يوم العطلة الجمعة، ألقت تحية الصباح بصوت خافت ودلفت لتجلس على مقعدها..
لاحظ عمها تغيرها ونظرتها التي كانت على سفرة الطعام منذ أن دلفت، رفع بصره عليها وتحدث بجدية:
-مالك يا سلمى
ابتسمت عنوة عن نفسها ورفعت رأسها إليه ثم أردفت قائلة بتصنع:
-أبدّا يا عمي مافيش أنا كويسه
أردف مرة أخرى يؤكد عليها مُتسائلًا:
-متأكدة؟
أومأت إليه برأسها ونظرت إليه بقوة ثم وجدت أن هذه اللحظة المناسبة لتفعل كما قال لها “عامر”:
-أيوه بس في حاجه عايزة أكلمك فيها
أكمل طعامه مرة أخرى وتحدث:
-خير
أخذت نفس عميق ثم أخرجته وهي تقول بجدية شديدة:
-أنا… عامر عرض عليا الجواز وأنا وافقت
رفع نظرة إليه مُستغربًا مما استمع إليه للتو منها، حقًا وافقت على ابنه؟ تسائل بذهول واستغراب:
-وافقتي؟
أومأت إليه مرة أخرى وهي تؤكد حديثها أمام الجميع:
-أيوة
استمعت إلى “هدى” التي ظهر في نبرة صوتها الاستغراب التام والدهشة الخالصة:
-أنتي بجد وافقتي يا سلمى
توجهت إليها بوجهها ونظرت إليها قائلة مرة أخرى بتأكيد:
-أيوه
ترك عمها الطعام ونظر إليها هذه المرة بجدية وحنان في ذات الوقت وأردف دون خوف أو حتى أن يقف مع ابنه بل كان كل الدعم مُقدم إليها:
-ضغط عليكي أكيد.. لو عمل كده قولي، سلمى يا حبيبتي طول ما أنتي رافضة الجواز منه مستحيل ده يحصل
نفت حديثه وقابلته بالرفض وهي تتحدث بشيء آخر غير الذي قاله وغير الذي حدث معها وكان هذا هو الكذب بعينه:
-لأ يا عمي عامر مغصبنيش، مهو قدامك بقاله كتير بيحاول وأنا رافضة بس خلاص جه الوقت اللي المفروض أوافق فيه
سألتها زوجة عمها باستغراب:
-هو ده ليه وقت يا بنتي
أجابتها مُعقبة مُكملة حديثها الذي ربما يثير في نفوس البعض الشك:
-أيوه يا طنط.. كفاية كده أنا وافقت عليه هو كان قال إننا هنقولكم وبلاش يعني نطول بعد أسبوع نعمل الفرح
تسائل عمها حقًا بلهفة غير مصدق ما الذي تتفوه به:
-بالسرعة دي؟
اومات إليه برأسها مرة أخرى:
-أيوه
لم يشعر عمها بأن حديثها صادق، ولم يدلف عقله من الأساس، كيف لـ “سلمى” التي كانت ترفض ابنه بكل الطرق توافق عليه الآن بهذه السهولة والسرعة:
-كلامك مش داخل دماغي يا سلمى وأنا لسه بقولك قدام الكل لو عامر ضاغط عليكي قولي أنا كفيل أقف قصاده
نظرت إليهم واحد تلو الآخر ثم وقفت بعينيها على عمها وتحدثت بما أملاه عليها ضميرها وما لم يفهمه البعض:
-لأ يا عمي صدقني أنا موافقة عليه.. كان في حاجات كتيرة أوي غلط كنت أنا السبب فيها وجه الوقت اللي اصلحها فيه وأولهم إني أوافق على عامر
أومأ إليها برأسه عندما وجدها تعي ما الذي تهتف به وتتحدث عنه فقال بجدية يمدها بالدعم في أي وقت أرادت وليجعلها تشعر بالأمان:
-أنا بردو معاكي في أي قرار يا سلمى وأنا في ضهرك واللي عايزاه هيحصل ولو رجعتي في كلامك متتردديش
وقفت على قدميها وتركت سفرة الطعام واتجهت إلى مكان عمها والدموع في عينيها تترقرق بسبب ما يفعله معها وما يقوله إليها ضميرها أنها هي السبب في فقدانه عائلته، اقتربت منه مُحتضنه إياه بقوة:
-ربنا يخليك ليا.. أنا مش عارفه من غيرك كنت هعمل ايه
قابلها بالعناق هو الآخر وتحدث بحنان:
-متقوليش كده يا حبيبتي أنتي بنتي يا عبيطة
حاولت مداراة ما داخلها قد الإمكان ولكنها لم تستطع فبكيت وهي تقول بآسف:
-أنا آسفة لو كنت عملت حاجه زعلتكم مني.. أنا آسفة
جعلها تبتعد للخلف ونظر إليها بحنان أب لم يمت وأردف بنبرة هادئة:
-أنتي بتعيطي ليه يا سلمى أنتي معملتيش حاجه يا حبيبتي
لم تتحدث فقط نظرت إليه ووقفت جواره وهو مُحتضن إياها، فاستمعوا إلى صوت “هدى” ابنته المرح وهي تقول:
-طيب بالمناسبة دي بقى والجو الأسري ده أنا كمان عايزة أقول إني وافقت على تامر
أبصرتها والدتها بذهول وفرحة عارمة وهي تتسائل بعدم تصديق:
-بجد؟
أومأت إليها الأخرى مؤكدة حديثها وداخلها شيء يشعرها بالفرح والسعادة القادمة عليها غير الذي سُلبت منها:
-أيوه يا ماما
ابتسمت والدتها باتساع وهي تقول بسعادة:
-ألف مبروك يا حبايبي.. ألف مبروك ربنا يهنيكم ويسعدكم طول العمر
❈-❈-❈
استمعت إلى رنين هاتفها فأخذته من على الفراش وعادت مرة أخرى إلى شرفة غرفتها، كان من يقوم بالاتصال بها رقم غير معروف أجابت عليه ووضعته على أذنها لتستمع إلى الطرف الأخرى الذي انبعث منه صوت أنثوي ناعم:
-سلمى القصاص؟
عقدت ما بين حاجبيها وأجابتها ثم تسائلت هي الأخرى:
-أيوه مين معايا
استمعت إلى الطرف الآخر مرة أخرى تهتف بصوت ناعم يملؤه التوتر الذي ظهر بوضوح:
-أنا جومانا صديقة عامر والسكرتيرة بتاعته
رفعت يدها إلى رأسها تعيد خصلاتها للخلف بقوة عندما استمعت إلى اسمه ثم استنكرت المكالمة وهي تتحدث:
-أهلًا يا جومانا خير في حاجه
تحدثت “جومانا” من الناحية الأخرى بجدية وكأنه تردف بشيء عادي وخصوصًا إلى “سلمى”:
-بصراحة أيوه.. أنا كنت محتاجه منك بس تجيبي لبس لعامر من اوضته وأنا هاجي اخده منك بس حضريه
ارتفع صوت الأخرى واشتعلت النيران داخلها عندما وصل إليها معنى ما تطلبه منها فقالت بصوت عالى مُستنكر للغاية:
-نعم؟ هو فين عامر؟ وأنتي ليه تاخديله لبس
توترت وهي تتحدث معها بعد تحول نبرتها فحاولت الإجابة:
-بصراحة يعني..
صرخت بها وقد فارت الدماء بعروقها وهي لا تدري ما ذلك العبث الذي يحدث منه:
-بصراحة ايه اتكلمي هو فين
هتفت بجدية وصوت هادئ وهي تسرد عليها ما حدث معه بالأمس:
-عامر اتخانق امبارح بالليل مع بلطجية ومضروب بالمطوة في بطنه وهو حاليًا في المستشفى
شعرت “سلمى” بالرعب فور استماعها إلى ذلك الحديث الذي يقول إنه في خطر الآن ومنذ الأمس وهي لا تعلم وتلك الفتاة تأخذ مكانها معه، صرخت بعنف وخوف شديد ظهر بنبرتها:
-ايه؟ أنتي بتقولي ايه أنتي
حاولت جومانا أن تقوم بتهدئتها فـ “عامر” نبهها بألا تقول لها شيء، قال أنها الوحيدة تستطيع أن تأتي بما يريد ولكن لا تقلقها عليه:
-متقلقيش هو كويس دلوقتي والله وهيخرج كمان بالليل علشان كده عايزين الهدوم والله متقلقيش وياريت متقوليش لحد من عندك
تسائلت وهي تدلف إلى الغرفة راكضة والقلق بدأ ينهش في جسدها عليه:
-انتوا في مستشفى ايه؟
قالت الأخرى بخوف وتردد:
-مش هينفع أقولك
صدح صوتها الصارخ عبر الهاتف وهي تستنكر أفعالها الغريبة، كيف لا تقول لها مكان تواجده؟، كيف تبقى وهو في مشفى لا تدري ما وضعه:
-أنتي مجنونة يعني ايه مش هينفع قولي
تراجعت “جومانا” وقالت بريبة:
-طيب هبعتلك اللوكيشن ومتنسيش الهدوم
أغلقت “سلمى” الهاتف بوجهها ولم تجعل الوقت يذهب هباء وهي تفكر فيما حدث بل ألقت الهاتف على الفراش وخرجت ركضًا إلى غرفته تأتي بما يريد والقلق زحف إلى قلبها والخوف تربع داخلها وأخذ وضع يليق به..
❈-❈-❈
لم تترك الفرصة لأي شيء يعطلها عن رؤيته، بل أسرعت في الذهاب إليه لاغية منطق التفكير من عقلها، وعندما كانت بالسيارة تتجه إليه هنا عاد التفكير إلى رأسها والقلق إلى قلبها وكثير من مشاعر الرهبة والخوف تربعت داخلها..
دعت الله كثيرًا في طريقها أن لا يصيبه مكروه، لا يحدث له أي شيء لا يشعر بالألم ولو كانت إبرة،
إنها لا تريد الإقتراب منه، ولكن لا تريد إلا كل الخير له، لا تريد التقدم خطوة إليه وأيضًا لا تريده أن ينظر إلى غيرها بطرف عينيه..
داخلها مشاعر كثيرة لا تستطيع تحديد وصفها أين المحل الصحيح لها.. ما حدث سابقًا والآن شتان بين كل ما يحدث.. لا تستطيع أن تقرر هل ما فكرت به صحيح وأنه كان بريء من كل شيء وهي من ظلمته أم أنه من ظلمها!.. ولكن منذ ليلة أمس وهي تشعر أنها هي من قهرت قلبه وتخلت عنه وهو كأنه وحيد دون أحد..
وصلت إلى المشفى وسارت ركضًا إليه بملامح مُتلهفة لرؤيته سليم مُعافى لا غير ذلك.. دلفت إلى الغرفة دون حتى أن تدق الباب، اعتقدت أن مكانتها كما هي لم يأخذها أحد..
فتحت الباب على مصراعيه وبيدها الأخرى حقيبة يد كبيرة قليلًا بها ملابس له وما سيحتاج إليه، فور أن فُتح وطلت بعينيها عليه ووجهها المُتلهف رأته فورًا ينظر هو الآخر إلى الباب مُستديرًا برأسه ناحيتها..
أغمضت عينيها للحظة وداخلها تقوم بشكر الله على نعمته وأنه مازال بخير، تنفست بعمق وفتحت عينيها ثم تركت الحقيبة جانبًا بعد أن دلفت بقدمين ترتعش..
سارت ناحيته بعينين خائفة، مُرتبكة عقلها يحاول أن يعيد عليها كل ما عاشته على يده بالأمس ولكنها ترفض، وهو ينظر إليها بعتاب خالص وحزن طاغي يظهر عليه أكثر من ظهور ألمه، وقفت أمام الفراش وهو جالس عليه نصف جلسة يريح ظهره إلى ظهر الفراش..
تعمقت بعينيها الزيتونية عليه وتحركت شفتـ ـيها المُكتنزة بارتعاش وتوتر ولم تكن تعرف ما الذي تتفوه به:
-حمدالله على سلامتك
تسائل بعينين حادة مُثبتة عليها وتجاهل حديثها ورؤيته لقلقها الذي من المؤكد أنه فتك بها:
-جيتي ليه؟
اقتربت منه أكثر وجلست أمامه على الفراش بخجل وتوتر، بخوف وقلق ثم عقبت على سؤاله قائلة:
-جيت أشوفك واطمن عليك
تبجح بجدية وعيناه تتعمق على عينيها ولم يخجل من أنه يرى خوفها بل أعطاه اللا مبالاة التامة:
-أمشي يا سلمى روحي.. أنا كويس
قدمت يدها إليه وتمسكت بيده الموضوعة على الفراش وهي تهتف بحزن بالغ وندم لا نهاية له:
-مش هقدر أمشي.. خليني معاك يا عامر
جذب يده منها وأصر على حديثه والموقف الذي أخذه منها:
-بقولك أمشي
ترقرقت الدموع بعينيها الزيتونية وشفتيها ارتعشت خوفًا من أن يجعلها ترحل عنوة:
-أرجوك، أنا اللي محتاجه أكون معاك مش أنت
مرة أخرى بحدة وتبجح أجابها:
-أنا مش محتاجك.. أمشي
يا الله، أنها جميلة حقًا، خصلاتها ليست مرتبة ولكنها سوداء حالكة لو رأتها من قبل فلم تراها بهذا الشكل، وجهها المستدير الممتلئ وعينيها الواسعة رائعة اللون، شفتيها المُكتنزة ووجنتيها المُكتنزة هي الأخرى، أنفها الصغير ونظرتها البريئة، ملابسها ليست مهندمة ومظهرها لا يليق بها حتى أن وجهها مع ذلك الجمال ولكنه باهت، تراه حزين أو ربما ذلك من أثر رعبها على “عامر”.. نعم إنه كذلك إنها حتى لم تشعر أن هناك احد آخر معهم بالغرفة..
كانت “جومانا” جالسة على الأريكة في زاوية الغرفة لم تقع عين “سلمى” عليها ولم تشعر بوجود أحد معهم من الأساس بالغرفة، كانت تراه هو فقط.. هو فقط “سارق أحلامها الوردية” أو من أعتقدته سرقها..
عادت بيدها الاثنين تتمسك بكف يـده الذي جذبه منها، وهبطت الدموع من عينيها وهي تحاول إثبات براءتها له بلهفة وصدق:
-صدقني أقسم بالله العظيم أنا معملتش حاجه، ورحمة ماما وبابا اللي كان أغلى حاجه عندي ورحمة ياسين ولو عايزني أحلف على مصحف هحلف كمان يا عامر صدقني
شعر “عامر” أنها لم ترى “جومانا” لأنها لو رأتها لم تكن لتتحدث بشيء أمامها فصاح هو ناظرُا إليها ليعرفها بها ويجعلها تنتبه:
-جومانا.. دي جومانا صديقتي والسكرتيرة بتاعتي
شعرت بالتخبط قليلًا، هل هناك أحد معهم؟ استدارت بجسدها تنظر إلى المكان الذي ينظر إليه في زاوية الغرفة، وجدت حقًا فتاة جالسة على الأريكة تستمع إلى ما دار بينهم، أردفت بعدم انتباه:
-أهلًا..
أجابتها الأخرى والغيرة تنهش قلبها من الداخل ولكن حزنها أكبر من غيرتها عليه:
-أهلًا بيكي
عادت إلى عيناه تنظر إليها بعينين دامعة حزينة للغاية، وكأن الأيام تعيد عليها حادثة موت عائلتها، الحزن طغى على قلبها وأصبح أكبر من أي شيء، وجدته يبادلها ولكن نظرته معاتبة للغاية، حزينة قلقة وكأنه يهتف إليها بعذابة وبما مر به دونها وبسببها..
الاثنين كان جرحهم أعمق من قاع البحار، كان داخل قلبيهما براكين ثائرة بحمم بركانية تدمر كل ما مر أمامها..
عندما طالت نظرتهما لبعضهم البعض وتلك التي تجلس لم تتحرك لتتركهم وحدهم، استدارت إليها وقالت بجدية:
-ممكن تسيبينا لوحدنا
شعرت “جومانا” بالخجل الشديد منها وهي تطلب ذلك الطلب فوقفت على قدميها بارتباك وصاحت وهي مُتجهة تسير للخارج:
-أوي أوي
خرجت من الغرفة وأغلقت الباب وراءها، فنظرت “سلمى” إلى “عامر” بعد أن كانت تتابعها وتحدثت بخفوت ومعاتبة:
-أنا غلطت، غلطت لما مسمعتش كلامك بس مكنش قدامي أي دليل بيقول أنها وحشة، كانت كويسه معايا صدقني.. حتى هو كان كويس أنا محبتوش والله العظيم ولا حتى كنت عايزة اتجوزه بس ده اللي حصل
عقدت ما بين حاجبيها وتابعت بطيبة قلبها توضح له ما كان يحدث معها:
-يمكن أكون ظلمتك ويمكن أكون ظلمتك في حاجات كتير معملتهاش بس أنا كان قدامي دليل لكل حاجه علشان كده كنت بصدق
أردف بقوة وعينيه على خاصتها قائلًا:
-وأنا كمان قدامي دليل
حركت عينيها عليه وهي تهتف بحزن لأجل الاستماع إلى حديثه:
-بس أنت عارفني يا عامر
هو الآخر تسائل بنفس ذلك الحزن وكأنه يعيد ما فعلته هي به ولكن عليها أشد قسوة:
-وأنتي مكنتيش عرفاني؟
قالت بندم بعد أن اخفضت عينيها من عليه وأبصرت كف يده بين يديها:
-أنا أكتر واحدة عرفاك
تسائل بحزم مُنتظر منها إجابة:
-اومال ايه؟
رفعت عينيها عليه والدموع تهطل منها مع إتخاذ القرار بأنها ستعترف بكل ما داخلها له، وستهدم أي حواجز تقف بينهم:
-كنت غبية، والله كنت غبية مش عارفه أقولك ايه بس أنا تعبانة أوي والله العظيم صدقني يمكن ده مش وقته بس أنا.. أنا لسه بحبك يا عامر وعمري ما نسيتك ولا روحت من بالي بس اللي حصل بينا صعب.. صعب أوي وكان حاجز بينا مكنش ينفع أرجع
خفق قلبه بقوة فور الاستماع إلى الكلمات المُنبعثة من شفتيها والتي تنم عن حبها له، ولكنه بقيٰ على وضعه وثباته قائلًا:
-ودلوقتي؟ ليه بتقولي الكلام ده
وضحت له ما توصلت إليه بعد معرفة حقيقة صديقتها المخادعة:
-أفتكرت كلامك افتكرت إنك قولتلي إنك مقربتش من البنت ولا عرفت جاتلك إزاي وأنا عارفه إنك مش كداب ولما بتعمل حاجه بتعترف بيها.. في وقتها مصدقتش وقولت إنك بتعمل كده علشان مبعدش عنك.. بس
تعمق بعينيها وهو يتسائل هذه المرة بلهفة وشوق مُنتظر أن يأخذ دليل براءته منها:
-بس ايه كملي
وضحت له قائلة بجدية:
-بس لما عرفت حقيقة إيناس افتكرت أنها هي اللي كانت مصوراك ليا جمعت الخيوط ببعض وعرفت أنها هي اللي كانت عايزة تبعدني عنك..
أكملت بنفس الجدية ولكن مازالت تلك الفتاة البريئة التي يستغلها الجميع، تظن أن “إيناس” فعلًا كل ذلك حقدًا وكرهًا لها ولا تعلم ما الذي بينها وبين الماثل أمامها تقدم إليه الاعتذارات:
-صحيح هي طول عمرها مش بتحبك ولا أنت بتحبها في الأول كنت بقول إن فيه حاجه غريبة لكن دلوقتي بس عرفت أنها كانت بتكرهني أنا وعايزة تبعدنا عن بعض
حاول إخفاء توتره، ونجح في الأمر، أنه لا يريد أن تعلم ما الذي كان بينه وبينها، سيحاول جاهدًا أن يخفيه عنها كما فعل في كل هذه السنوات الماضية وإن أتى الوقت سيعترف بكل شيء ولكن عندما يضمن عدم تركها له
احتدت عينيه عليها وقال بجدية وصوت رجولي حاد:
-نمتي معاه؟
استغربته بشدة واستنكرت حديثه قائلة بعتاب وحزن لأنه إلى الآن يتسائل عن عفتها وبراءتها:
-أنت لسه بتسأل سؤال زي ده؟
بمُنتهى الجمود أجابها متغاضيًا عن حزنها ومعاتبتها اياه:
-ومستني الإجابة
أجابت بقوة وصدق منتظرة منه أن يعود إلى عقله ويتذكر من هي:
-لأ والله العظيم لأ أنا مستحيل أعمل كده أنت مش عارف تربيتي!.
صدمها بإجابته التي انتظرت تغيرها بعد كل ذلك الحديث:
-لأ مش عارف
تابع مُتسائلّا بقوة:
-هنتجوز؟
أغمضت عينيها للحظة ترمش بها وأجابته:
-أيوه أنا قولت لعمي النهاردة إني موافقة زي ما طلبت
تحرك للأمام ببطء وهدوء، رفع يـ ـده اليمنى إليها مُمسكّا فكها بقوة وأقترب بوجهه إليها ثم وهو يستنشق أنفاسها المُفتقد إياها قال بقسوة وشراسة، وعيناه لا تكذب ما قال:
-بعد الجواز لو اكتشفت إنك كدابة عارفة هعمل فيكي ايه؟ وديني وما أعبد المرة دي هقتلك بجد.. هاخد روحك في ايديا وبالبطيء لحد ما تطلعي عند أهلك.. خلينا ورا الكداب
تركته يفعل ما يحلو له ولكنها ألقت عليه سؤال تعلم أجابته جيدًا ولكن قلبها أراد التأكد:
-عامر! أنت لسه بتحبني؟
حرك عينيه على ملامح وجهها، كم كان مُشتاق إلى كل انش بها، كم كان مشتاق إلى لمسة واحدة منها، نظرة تعبر عن حبها إليه، الآن يفتقد اللهفة إليها والشعور بأنه يريد القرب منها، الشك داخله مثلما هو لن يذهب إلا على يده:
-فيه حاجز واقف بيني وبين حبك يا سلمى هيروح لما نتجوز وأشيله بنفسي
تفهمت ما الذي يقصده بحديثه فتركت الأمر جانبًا وتسائلت وهي تبتعد للخلف برأسها:
-ايه اللي عمل فيك كده
عاد هو الآخر مثلما كان وأردف بضيق شديد كلما تذكر ما حدث:
-اتخانقت في البار مع بلطجية
لم تكن مجرد حادثة أو مشاجرة بين أشخاص في ملهى بل كانت مُدبرة من ذلك الحقير وهو أكد لها ذلك برسالته في الأمس، لن تجعله يعرف بشيء كي لا يتهور، تسألت وهي تجوب ملامحه بعينيها:
-بس أنت كويس صح
أومأ برأسه مؤكدًا وهو يُجيب:
-ده جرح سطحي وهخرج بالليل
ابتسمت بارهاق وبحزن مازال معها ولن يتركها فالمشاعر داخلها متخبطة لا تدري هل هذا الصواب أم الخطأ:
-حمدالله على سلامتك
نظر إليها وهو الآخر لا يدري ما الذي من الممكن أن يحدث، وما الذي يفعله، مشاعره حتى لا يستطيع وصفها. أهو سيكون ملهوف على قربها كما كان في السابق أو سيظل هكذا يريد القرب فقط للتأكد من براءتها، لكنه مازال يحبها، يعشقها، نطقه لكلمات الكره كانت كاذبة هو بحياته لم يعشق ولن يعشق إلا هي “سلمى القصاص” ابنة عمه الفريدة من نوعها، التي لا تتكرر..
❈-❈-❈
دلف من بوابة الفيلا معها، ولكن سيرة لم يكن طبيعيًا وكانت هي قبل وصولهم أخبرت عمها بما حدث ولكن جعلته يطمئن عندما قالت له أنهم في الطريق إلى الفيلا..
وقف والده عندما رآه يدلف إلى الفيلا وتقدم منه سريعًا ومن خلفه والدته وشقيقته، كانت اللهفة تظهر على ملامح الجميع وأولهم والده أقترب منه بسرعة ووقف أمامه مُتمسكًا به بقوة:
-عامر أنت كويس
أقترب منه مُحتضن إياه بشدة، وجسده يرتعش وقد شعر “عامر” بذلك وهو داخل أحضانه، إنه يخاف الفقد، يخاف أن يفقد أحد أسرته وهو على قيد الحياة، يخاف أن يتركه ابنه الوحيد ويذهب إلى عمه الذي كان والده..
أردف عامر بجدية وثبات:
-أنا كويس
ابتعد للخلف فاقتربت والدته هي الأخرى بنفس لهفة والده وقلقه وعانقته بقوة وهي تتسائل:
-ايه اللي حصل
أجابها وهو يربت على ظهرها:
-خناقة بسيطة متقلقيش
عادت للخلف مُستنكرة حديثه بقوة وقلبها به لوعة الخوف على ولدها:
-كده بسيطة؟
بقيت “هدى” بعيدة عنه ولم تقترب لتفعل كما والديها وجدها تهتف قائلة:
-حمدالله على سلامتك
-لا يدري ما الذي فعله لها هي الأخرى، إلى اليوم تعتقد أنه السبب في موت زوجها؟
تنهد بعمق تاركًا ذلك التفكير وهو يدلف إلى الداخل بهدوء و “سلمى” تسير جواره والجميع تقدم للداخل..
قالت والدته بحزن:
-ملحقناش نفرح بيكم بابني، يادوب الصبح سلمى قالت أنكم هتتجوزو وهدى قالت موافقة على تامر قوم بالليل يحصلك كده
لم تكن تعلم أنه منذ الأمس خارج المنزل من الأساس في المشفى، بعد أن نقلوه العاملين بالملهى وهو بالمشفى طلب أن يطلبوا إليه “جومانا” وليس أحد غيرها.. لأنه من الأساس ليس له غيرها في ذلك الوقت..
بقيٰ صامتًا قليلًا وهم يتحدثون أمامه ولكنه كان في عالم آخر وهي الآخر كانت تتحدث وعقلها معه..
رن جرس الفيلا فذهبت “فايزة” العاملة بالمنزل وفتحت الباب والجميع في الصالة الخارجة ينظر إلى الباب ليروا من الذي أتى إليهم في ذلك الوقت..
كانت فتاة سمحت لها العاملة بالدخول وأشارت لها على الجميع من بعيد، فتاة شابة في سن العشرون وما بعده قليلًا، دلفت تنظر إليهم واحدًا تلو الآخر وليس هناك أي حد وجهه تحول وملامحه بُهتت وشعر بالصدمة سوى “سلمى”!..
تقدمت الفتاة إلى أن وقفت أمامهم جميعًا ثم صاحت بجدية شديدة:
-مساء الخير.. أنا آسفة إني جيت من غير معاد
استمعت إلى صوت “رؤوف القصاص” الذي تعرفه جيدًا يرحب بها ثم يتسائل عن هويتها:
-اتفضلي يا بنتي أهلّا وسهلًا.. بس أنتي مين
نظرت إلى “سلمى” بعينيها القوية وكأنها تقول لها ها قد فعلتها وأتيت.. استدارت مرة أخرى إلى “رؤوف” وقالت بنبرة جادة قوية واثقة:
-أنا غادة يُسري، مرات ياسين القصاص
نظر إليها الجميع بذهول تام ووقفت “هدى” على قدميها صارخة بعنف واستنكار:
-ايــه؟
❈-❈-❈

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بين دروب قسوته)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى