روايات

رواية ميراث الندم الفصل الثالث 3 بقلم أمل نصر

موقع كتابك في سطور

رواية ميراث الندم الفصل الثالث 3 بقلم أمل نصر

رواية ميراث الندم الجزء الثالث

رواية ميراث الندم البارت الثالث

ميراث الندم
ميراث الندم

رواية ميراث الندم الحلقة الثالثة

بداخل المندرة التي ما زالت على اشتعالها، وقد تمكن اخيرًا بعض الرجالي مع الدفع بقوة في إخراج فايز الذي كان كالثور الهائج الذي يصعب السيطرة عليه او ترويضه، وتمتم الآخرون ببعض الكلمات المهدئة، توقيرًا للرجل الكبير، واشفاقًا عليه.

في النهاية وبعد مرور العاصفة القوية بخروج فايز ومعه الرجال، سقط عبد المعطي بتعب على كرسيه يلتقط أنفاسه الاهثة، وجلست بجواره ابنته لتطمئن عليه وتحاول تهدئته:

– الف سلامة عليك يا بوي، حاسس بإيه تاعبك؟

اومأ لها برأسه واضعًا كفه على صدره وموضع قلبه، واقترب حجازي منهما يقول بعتب :
– ليه يا جد عملت كدة؟ ليه تبعتيه يا عمتي؟ كان لازم تاخدوا رأيي في حاجة كبيرة تخصني زي دي، هو انا مش راجل جدامكم عشان تتصرفوا من غير اذني؟

خرج رد هويدا وهي تدلك بيدها على صدر ابيها معه:
– بعد الشر عليك يا ولدي، دا انت سيد الرجال كمان، احنا عملنا كدة من وراك عشان عارفين ردك ونبل أخلاجك، كنت هتمنعنا أكيد، واحنا يا ولدي مش عايزين غير الصالح.

– فينه الصالح ده يا عمتي؟ لما تحرموا ابوي من حجه في البيت، فين الصالح ده؟

هتف بها حجازي ليفاجأ باندفاع جدته وزوجته ووالدته؛ التي هبطت من الطابق الثاني نتيجة صوت الشجار العالي، ليخترقن المندرة بهلع، وكانت هي أول من اقترب منه لتتفحصه جيدًا وتسأله :

– عملك ايه الراجل العفش ده؟ أوعي يكون أذاك؟

اومأ لها برأسه يطمئنها قبل أن ينتبه على زوجته بالقرب منه، تتطلع إليه بقلق شديد، وعينيها ترسل رسائلها إليه، تود لو تتخلي عن خجلها واحتضانه أمام الجميع، فقالت بصوت مهزوز بجزعها:

– جولي يا حجازي، فيك حاجة؟ ولا كلام الراجل السم ده هزك جدام الرجالة؟

أغمض عينيه متنهدًا بأسى صامتًا، وقد نفذت طاقته في الحديث فقامت بالرد عنه سكينة جدته والتي جلست بجوار زوجها في الناحية الأخرى:

– اطلعي على فوج يا نادية، واسحبي جوزك وعمتك معاكي، خلي الكلام بعدين على ما يريح حجازي شوية.

إعترضت سليمة تعبر عن رفضها:
– لاه مش طالعة قبل ما افهم يا مرة عمي، لازم اعرف السبب اللي خلي الراجل العفش دا يتهجم على ولدي؟ ليه الشتيمة وجلة الجيمة في مجلس الرجالة كبارات العيلة.

تكفلت هويدا بالرد قائلة بلهجة حازمة:
– اسمعي الكلام يا سليمة، الحديت مش هيطير، المهم ولدك دلوك، اعمليلوا كوباية عصير يا مرة خليه يهدى.

إنتبهت لكلماتها، تتطلع نحو ابنها الذي أشاح بوجهه على الفور يأمرها ويأمر زوجته:

– بينا نطلع على فوج ونسيب جدي يستريح شوية، الاهم هو صحته دلوك ، وبعدين للحديث بجية.

قالها قبل أن يلقي نظرة اَخيرة على جده وجدته، ثم ذهب وخلفه أسرته، تتبعت أثرهم سكينة حتى اختفوا قبل أن تتوجه لزوجها قائلة بقلق:

– فايز مش هيعديها على خير، انا جلبي محدثني بالسوء، خايفة ليتهور ولا يأذي حجازي.

ردت هويدًا تنفي رغم الخوف الذي زحف بقلبها هي الأخرى:
– ولا هيجدر يعمل حاجة، احنا كنا متوقعين غضبه من الاول، هيشعلل ويعمل عمايله، وفي الاَخر هيسكت غصب عنه، انا ابوي محرمهوش من الورث، الاراض لسة على حالها.

– يعني رأيك هيسكت صح يا هويدا؟
سالتها والدتها بتشكك وعدم تصديق، فقابلتها هويدا بنظرة مبهمة، وتفكير عميق قبل أن تجيبها عن اقتناع:
– أخويا كيف الطور الهايج ياما، بيتغر بجوته، ويلغي عجله ساعة الغضب، وممكن يكسر ويخرب الدنيا، لكنه ابدا ما يأذي عيلهُ، عمرك شوفتي طور موت ولده؟.

صمتت سكينة وكأنها تستوعب جملتها، قبل أن يتدخل عبد المعطي، قائلًا بتنهيدة خرجت من العمق:

– انا عملت اللي يرضي ضميري، عشان اضمن حج حجازي وامه، وسيبتها على الله يسويها بمعرفته

❈-❈-❈

عاد من الخارج يحمل اصغر بناته دنيا، ويسحب الاخرتان، وقد تعلقن بقماش جلبابه، وذلك بعد انصراف الرجل الضيف وصهره ناجي، الذي ادعي ارتباطه بموعد هام حتى يذهب.
يناكفهم كعادته وضحكاتهن تصدر بصخب ومرح، جعل ابتسامة رائقة تغزو ملامح شقيقته، والتي ظلت تتابعهم حتى اقترب يلقي التحية قبل أن يجلس على الكرسي المجاور:

– مسالنور يا ست البنات .
– مسالخير يا غازي باشا
قالتها ثم امتدت يدها تدغدغ الصغيرة الملتصقة بحضنه مرددة بحزم محبب:
– انت يا بت، عايلة صغيرة انتي وشابطة في ابوكي، بعدي عنه يا مضروبة الدم بعدي……

ارتفعت ضحكات الصغيرة لتزيد التصاقًا بحضن أبيها الذي كان يبتسم لفعلها حتى دبت الغيرة الطفولية بشقيقاتها ليقتربن من روح بلهفة يرددن:
– وانا كمان يا عمة، وانا كمان .
تبسمت بعزوبة توزع الدغدغات على الثلاثة مستخدمة كفيها الاثنين:

– انتو اللي طلبتوا بنفسكم، وروني شطارتكم بجى .
قالتها بتوعد وصوت الضحك العالي أصبح يصدح بقلب المنزل الكبير، ليشيع جوا من البهجة التي غمرت الجميع.

قبل أن يقاطعهم الهتاف الحاد من والدتهن التي وقفت على نصف الدرج فلم يعجبها ما تراه:
– انتي يا بت يا أية، انتي يا زفتة يا شروق، هاتوا اختكم واطلعوا ياللا عشان تتشطفوا واغيرلكم، اخلصوا.

توقفت روح تطالع الصغيرات بنصف ابتسامة مصنعة، تأمرهم بإطاعتها ، فانتقلت انظارهن نحو والدهن، بتساؤل حسمه بحزم لتنفيذ الأمر، رغم غضبه المتصاعد من اسلوبها المستفز.
– ياللا يا بنات ياللا، اتسبحوا عشان تبجوا حلوين ونضاف ياللا.

عقب انصرافهن تطلع لشقيقته يعبر عن غيظه:
— بت عمك مش هتهدى غير لما تخليني امد يدي عليها، وانا ماسك نفسي بالعافية عليها.

ردت بابتسامة متسامحة:
– متاخدتش عليها، هي بس تلاجيها زعلانة عشان محاربها ( مخاصمها) ومانع نفسك تكلمها ولا تجعد معاها حتى، مش كدة يا واد ابوي، خف شوية، دا انت جبرتها تحمي الفرن البلدي وترص كمان.

عقب ساخرًا بغير مرح:
– أيوة يا ختي وحرجت نص الخبزة، ولا اكنها عروسة جديدة ولسة بتتعلم، لولا بس خايف من الملامة لكنت رجعتها بيهم على بيت ابوها، واخلي خيبتها لبانة في حنك الناس.
لم تقوى روح على كبت ضحكاتها لتعقب على كلماته:
– يا لهوي بالي عليك يا واد ابوي لو كنت عملتها، دي كانت هتبجى وجعة، حمد لله ربنا ستر ورجعت لعجلك…. دا انت عليك افكار.

رمقها بامتعاض يدعيه، رغم ابتهاجه لضحكاتها المنطلقة، والتي لا تحمل همًا، بقلب صافي خالي من الأحقاد، لا يزعجها حتى افعال زوجته المقصودة، ليته يملك نصف نقاءها.

– ما جولتيش صح!
قطعت بها فجأة لتسطرد سائلة بفضول ملح:
– رديت على العريس وجولتوا ايه؟
سألها بتوجس مضيقًا حاجبيه:
– عريس مين؟
قربت وجهها المشرق بلهفة تستدرجه:
– العريس اللي كلمك من شوية على بت اختك فريال، رديت عليه وجولتوا ايه؟

على الفور عض على شفته السفلى يتمتم لسانه بسباب مكتوم، وقد خمن بعقله المصدر الذي اخبرها:
– يا بت الكلب يا أية، انا هجطعلها لسانها الفالت البت دي، مفيش حاجة تسمعها وتخليها في بطنها واصل.

قبضت على ذراعه بمرح متزايد تشدد بحزم لا يخلو من الإلحاح:
– بطل عمايلك دي غازي، انت عارف انها مجالتش لحد غريب، ثم كمان دا خبر ما يستخباش ودي عيلة لازم هتفرح لما تسمع وتيجي تبلغني، المهم بجى، رديت بإيه؟

طالعها قليلًا بنظرة مبهمة، فهمتها لكنها تغاضت كالعادة، حتى تسمع منه:
– جولتو البت صغيرة ولسة على ما تكمل تعليم.
عادت برأسها للخلف وقد اعتلى وجهها اندهاش والرفض قائلة:

– كدة من نفسك يا غازي، طب مش لما تاخد رأي ابوها وامها الأول ، او حتى رأي البت…..
قاطعها بحزم مرددًا:
– بت لما تبتها، هي هتفكر كمان في الجواز من دلوك؟ ما تتنيل تكمل تعليمها.
– طب جول لابوها حتى.
– واجولوا ليه؟ انا عارفه نطع وما هيصدج اساسًا.

ضربت بكفيها، لتردد بمزيد من الذهول، وفمها لم يتوقف على الابتسام:
– لا حول ولا قوة الا بالله، يا عم الحج طب وانت مالك؟ ما تعرض الأمر وسيب لهم التصرف.

عاد لنفس النظرة التي تفصح عما بداخله من حزن، وعدم تقبله لزواج الصغيرة التي كانت تحملها روح قبل ذلك على يدها، يستهجن فرحتها لها، وعدم الحماس لفرحه بها، ولأنها تفهمه جيدًا، هذه المرة لم تتغاضى عن مصارحته بمزاح:
– بلاش اللي في مخك ده، عشان انا عارفاه زين، وكذا مرة اجولك، نصيبي جاعد والله، بس هو وجت ما ربنا يريد.

امسك بطرف ذقنه بسبابته وابهامه يسألها باهتمام شديد أربكها:
– امتى يعني؟ جوليلي يا بت ابوي وريحيني
ابتلعت غصتها وقد المها هذه النبرة الملحة برجاء منه، فقالت بضعف علّه يقتنع:
– لما ربنا يفتح الباب، ساعتها هتلاجي الفرحة منورة وشي، انا مش جافلة الباب، يبجى أكيد ان شاءالله اليوم ده هاياجي.

❈-❈-❈

– وسكت عن حجك؟ سكت عن حجك يا فايز؟ طلعت على رجليك من البيت اللي اتفرخت منه وراح منك خلاص.
صرخت بها تردد بندب ، بعد أن قص عليها زوجها عما حدث منذ قليل، وما فعله أبيه معه في مجلس الرجال في المندرة، حتى قال ينهرها بغضب:
– فوضيها يا شربات، وكفاياكي ولولة، انا راسي تعبانة ومش حامل كلمة تاني.

شهقت بصوت عالي وافتر فاهاها مطولًا باستنكار زاد من سخطه، حتى صاحت بسخرية وتهكم :
– يا حبيبي انت، هو دا بس اللي فالح فيه، اسكتي يا شربات، مش حامل وجع مخ يا شربات، انما تسمع نصيحتي وكلامي لا، كام مرة عرضت نروح نسكن هناك وانت ترفض؟ سيبت الجمل بما حمل، لحد ما ولدك ضحك على الراجل الكبير، ومضاه ع البيت، مضاه على البيت يا فايز، مضاه يا خويا مضاه

ظلت تردد بها بغناء وتصفيق مستفز جعلته يستشيط من الغيظ، حتى هدر يزجرها بغضب وهو يلوح بقبضته في الهواء أمامها:

– أبعدي شياطينك عني دلوك يا شربات، عشان محطش غلبي فيكي وتباتي في الأميري النهاردة بعد ما اكسر عضمك ، انا على اَخري ومستوى.

لم تأبه بتهديده بل زادت بسخريتها لتقول بصوت يخرج بفحيح:

– عايز تكسر عضمي انا يا فايز، طب كنت اعملها مع اللي سرجك وكل حجك وحج عيالك وانت حي وما موتش، يا سيد الرجال يا سبع.

– يبجي انتي اللي جيبته لنفسك؟

هتف بها وقد غلبه شيطانه، بعد أن فاض به ولم يعد يتحمل استفزاز كلماتها السامة، فنهض مندفعًا ليفرغ شحنة غضبه بضربها ، فانتبهت هي تنهض صارخة لتهرب منه، وقبل أن تتمكن ذراعه من الإمساك بها جيدًا تصدر ابنه الأكبر ليفصل بينهم؛ والذي خرج من غرفته على أصوات شجارهم مجفلًا مع شقيقاته الصغار أيضًا، فصرخت مستغيثة به.

– ألحجني يا ولدي، أبوك عايز يموتني ويكسر عضمي يا مالك من غير سبب.

تصدر الفتى ذو السابعة عشر ربيعًا أمام أبيه يحدجه بأعيُن تصرخ بالتحدي، تدفعه حمائية الدفاع عنها، فاستعاد وعيه فايز على خوف بناته الصغيرات وتحفز ابنه نحوه ، ليرتد للخلف ويصرف النظر عن فكرة ضربها، مسح بكفيه على وجهه ليجلس على الاَريكة معطيًا لهم ظهره، الذي انحنى بتفكير قاسي.

، تأملته قليلًا شربات بأنفاس متهدجة تشعر بحجم غباءها حينما فقدت السيطرة وطار عقلها من هول المفاجأة التي اخبرها بها، وحملت عليه بكلماتها القاسية لتخرجه من طوره وفعل مالم يجرؤ لفعله طوال سنوات زواجه بها، وقد نسيت مايشعر به هو الاَن .
ابتلعت ريقها لتستعيد تماسكها ثم ربتت على ذراع ابنها لتصرفه :

– خلاص روح انت يا مالك.

رد ابنها بخشونة لا تناسب سنوات عمره:
– وان رفع يده تاني وحاول يضربك؟

همت لتجادله ولكنها استدركت بعقلها الجهنمي تقول:
– خلاص يبجى مشي اخواتك البنات وتعالى اجعد معانا عشان تعرف سبب العركة، ما هو الموضوع برضو يخصك، ع الأجل عشان تعرف باللي ضاع مننا وانت ليك حج فيه.

– حجي انا ياما، ومين اللي ضيعه مني؟

غمغم بها مالك وهو يتبعها بعد أن أدخل شقيقاته إلى غرفتهن، واقترب لينضم مشاركًا في جلسة والديه ، فخاطبت شربات زوجها بهدوء بعد أن جلست بجواره:

– متزعلش مني يا فايز، بس كمان لازم تجدر اني اتفاجأت، عجلي طار مني.

رد فايز بفتور وقبضته أسفل ذقنه، بهيئة يبدوا عليها الهم:
– لما انتي عجلك طار منك، أمال انا اعمل ايه؟ دا انا كنت على وشك ان ارتكب جريمة، لولا الرجال جيدوا حركتي ومنعوني.

تابع مالك حديث أبويه صامتًا بتركيز شديد وهو يحاول أن يفهم مغزى كلماتهم، فقالت شربات بحزم:
– انت لازم ترجع حجك، البيت جيمته بتزيد يوم عن يوم ، وضربة واعرة زي دي، مينفعش السكوت عنها، حجك لازم يرجع اما بالرضى أو الجوة لو حكمت

-التفت رأسه اليها بابتسامة لم تصل لعينيه، يسألها باستهجان:
– والجوة دي تبجى كيف يا زكية؟ اذا كان البيت بجى بيع وشرا ملك حجازي، ودا مليش سلطان عليه..

اظلم وجهها واحتدت عينيها بنيران الغضب فهتفت ترفع يديها الأثنتان في الهواء، تدعو كالمغلوب على،أمرها:
– اللهي ما ترفع راسك عن المخدة، ولا يصبح عليك صبح يا حجازي يا بن سليمة، يا سارج نصيب ابوك وعياله يا حرامي.

أستنكر بداخله وقع جملتها وداعائها على ابنهِ، حتى أنه ود لو يوقفها، كي لا تؤذي أذنه التي لا تحتمل، ولكن غلبه شيطانه عن ردعها، لتكمل بصب السباب والدعوات على حجازي، حتى صاح مالك في الاثنان:

– ما تعرفيني يا اما، عمل ايه اللي اسمه حجازي ده؟ وكيف سرجنا وسرج حجنا.

انتبه والده عليه وعلى جلوسه بالقرب منهم وسماعه الحديث الدائر، فهتف بحزم:
– وايه دخلك انت باللي حاصل، خش أوضتك وذاكر اللي عليك، واياك تاني مرة تدخل في أمور الكبار.

احتجت شربات صارخة بزوجها معربة عن رفضها لقوله:
– وما يتدخلش ليه بجى؟ مش اللي ضاع دا برضوا، ليه حج فيه؟ ولا انت فاكر ان الأمر يخصك وحدك؟ لا يا حبيبي، دا حج ولادي من بعدك، والفلوس اللي كانت هتيجي من وراه كان هينفعهم ويخليهم أغنيا طول العمر، من غير مجهود، لكن دلوك بعد ما اتسرج خلاص، منك لله يا حجازي، اللهي ربنا ينتجم منك.

– بس.
صرخ بها فايز وهو ينهض مغادرًا الجلسة وقد فاض به ولم يعد يستطع التحمل .

❈-❈-❈

– كيف يعني البيت بجى بتاع حجازي؟ انا مش فاهمة؟
تسائلت بها بعد ان قص عليهما ما حدث على عجالة وبدون الخوض بتفاصيل، فطاقته للكلام كانت على وشك النفاذ.

جاءت الإجابة من سليمة والتي تفهمت الاَن سر ثورة زوجها ورغبته الغاشمة في التهجم على ابنه:
– معناته يا بتي ان جدك عبد المعطي، كتب البيت بإسم جوزك .

سمعت منها لتلتف نحوه وكأنها تريد التأكيد؛
– صح يا حجازي؟ معجول؟ جدي عمل كدة؟ طب مش خايف من ولده؟

تطلع إليها بوجه يعتليه الهم، فهذه المفاجأه لم تكن سارة له على الإطلاق، ولا يريدها، لا يريد زيادة العداء مع والده الذي يكرهه من الأساس، فما باله الاَن، وقد اصبح لديه سبب كافي لقتله، كلما تذكر هيئته الغاضبة، وكم الإهانات والسباب الذي وجهه إليه أمام الرجال في المجلس، كلما زاد شعوره بالإختناق والضيق.

شعرت به وبهذه الأفكار التي تدور برأسه، ف اقتربت لتضع يدها على ظهره مربتة بحنان قائلة:
– شكلك ما يطمنش، لدرجادي انت زعلان يا حبيبي؟
استمر على صمته، ولم يصدر منه سوى زفرة طويلة، يطرد بها الهواء المحبوس بصدره، فتكلفت سليمة بالرد:

– جدو عمل كدة عشان يضمن حجه، عارف ان ولده مش هيصون الأمانة، وأول حاجة هيعملها هو انه هيطردنا ويبيع البيت .

صاح بعصبية يقطع صمته:

– كان سابه يعملها ياما، أنا مش عايز حاجة، يعني لو طردني فايز الدهشوري، انا مكنتش هلاجي متوى ليكم؟
هل انا عاجز عن اني اجوم ببيتي وامي، ولا هو مش شايفني راجل يعني يعتمد عليه؟

– بعد الشر عليك يا حبيبي، دا انت راجل وسيد الرجال.
هتفت بها زوجته بلهفة، ثم تابعت وهي تعطيه كوب العصير من يدها:
– خد اشرب وهدي أعصابك، كل حاجة ليها حل ان شاء الله، تبات نار تصبح رماد بأذن الله.

تناول منها يرتشف بروية، واستكملت نادية حديثها اللين لتهدئته، أما سليمة فقد شردت في فعل عمها، وداخلها توقن بشدة انها من ضمن الأسباب التي دفعته لذلك، علّه يخفف عنها ولو قليلًا ظلم ابنه الذي هجرها وتزوج امرأة أخرى ترضي غروره،

زينة مبالغ فيها وشخصية مستغلة، تتقبل الإهانة في مقابل نيل ما تريده، عكسها هي على الإطلاق ، معتزة بنفسها، تخشى الله حتى في الكلمة، توجهه بالنصح حتى يستقيم عن طريقه الأعوج، وهو يقابل كلماتها بالسخرية، ثم الوصف بأبلة الناظرة،

تعلم أنها لم تكن معيوبة حتى يكرهها، ولكنها كانت الصورة المعاكسة له، فساد أخلاقه جعل الجميع يكرهه، أما هي فقاد نالت الاحترام والحب حتى من أقرب الناس اليه، كرهها وكره ابنها لأنه مثلها، نال سخطه من قبل وجود السبب، أما الاَن وقد حصل على أكبر أمانيه، وأضاع عليه صفقة العمر، التي يخطط لها منذ سنوات طوال، ماذا سيفعل معه؟

❈-❈-❈
،

في مكان آخر.
حيث القهوة الشعبية والتي يجتمع بها أغلب الرجال بالقرية، اتخذ مقعده حول طاولة صغيرة في جانب منزوي إلى حد ما، بعيدًا في ألأطراف، بصحبة عزب شقيق نادية، والذي توطدت علاقاته به منذ عدة سنوات، وذلك بحكم التجارة التي جمعت بينهما، وعدد الفدادين التي اعطاها له كي يزرعها، ويتشاركا الاستفادة من محصولها

في البداية كان الحديث متخذًا مجراه العادي، قبل أن يتطرق للموضوع الأهم بالنسبة اليه، ويستدرجه بنعومة في سحب ما يريده منه:

– جابلت ولدك الصبح النهاردة، كان رايح يوصل عمته، كبر ما شاء الله، دا ماشي جنبها اللي يشوفه يجول راجل كبير.

رد عزب بتفاخر مبتسم:
– محمود… انت هتجولي عليه؟ دا سارح في الطول لما هايفوتني انا كمان، كانه طالع لعيلة امه

– الله اكبر عليه ربنا يحفظه.
قالها ثم استطرد نحو الجهة التي يريدها:
– كنت رايح اوصل اختي على بيت جوزها، شوفناهم صدفة، وجفنا نسلم عليهم، ما انت عارف فتنة كانت زميلة اختك في المدرسة، دا حتى عرضنا نوصلها معانا، بس هي مرديتش، حنبلية جوي.

اومأ بابتسامة ليس لها معنى، ليرتشف من كوب الشاي خاصته، قبل يخرج قوله:
– تلاجيها بس اتكسفت منك، ما انت عارف الموضوع الجديم، والحساسية اياها، يعني حتى لو مر عليها سنين، بس برضوا.

اشتدت تعابيره، ليخرج زفير دخان الشيشية من أنفه بكثافة، وقد كان مطبقًا فمه بخط قاسي، قبل أن يردف بسخط متعاظم:
– ومين جالك ان ناسيها؟ ولا ناسي عملة ابوك فيا، لما صغرني وبدى عليا الغريب؟

شحب وجه الاَخر بحرج شديد جعله يتعرق بارتباك ملحوظ، ليبتلع قائلًا بتوتر:
– ما هو مكنش بيده حاجة برضوا، الرأي كان رأي البت، ودي كانت أصغرنا يعني، وابويا مكنش بيرفضلها طلب.

اشاح بوجهه للأمام، يظهر على عدم الرضا عن كلماته، فتابع عزب بتشدق:
– عارف لو كان الأمر بيدي ساعتها، والله ما كنت اسيبها أبدًا على كيفها، انا دجة جديمة، واعرف زين ان البنت اذا طلبها واد عمها حتى لو على ظهر الجمل يوم فرحها، تنزل، وتبجى من نصيبه، على رأي المثل الجديم.

عقب متهكمًا غير اَبه:
– ضهر جمل بجى ولا طيارة، مش هي رفصت النعمة برجليها، كانت هتبجى هانم في بيتي، معززة مكرمة، خليها بجى تخدم في بيت العيلة، المحروس وامه، وجده وجدته كمان، ناجص بس فايز وعياله، عشان تبجى تمت.

– لا يا شيخ متجولش كدة كف الله الشر.
هتف بها عزب، ليواصل احتجاجه:
– الخامورجي دا كمان، هو احنا ناجصين بلاويه.

❈-❈-❈

بغضب متعاظم كان يخطو بأقدامه، نحو جهة لم يحددها بعد، المهم هو الهروب من وجه زوجته المؤنبة له بصراخها وسخطها، والبحث الاَن عن ملاذ له، يفرغ فيه كبته بل وينسى به همومه، اما الذهاب الى اصدقاء الشراب، أو أن يأخذ طريقه نحو برهومة، المورد الرئيسي للمكيفات، في الحالتين سيدفع مبلغُا طائلًا، لكن المهم الاَن هو مزاج رأسه، حتى ينسى كل شيء

– فايز.
صدر الصوت الخشن والمعروف لإسماعه، هاتفًا باسمه، التف للخلف وجده يتقدم نحو بخطواته الثقيلة كجسده، انتظر حتى اقترب منه يصافحه مرحبًا:

– عامل ايه يا فايز؟
بادله المصافحة يتمتم برد التحية بفتورٍ انتبه له الاَخر، فتابع يسأله بفضول:
– مالك كدة؟ حاني ضهرك، وشكلك راكبك الهم؟ حتى الكلام بترد بالعافية.

استشاط داخله، واحتدت أنظاره بانفعال ظاهر ينهره:
– وانت مالك يا صدجي ان كان راكبني الهم ولا الدبان حتى؟ ايه دخلك؟ مش خلاص جدمت ايصال الفلوس لابوي وهو دفع، عايز ايه تاني؟

ابتسامة كسولة اعتلت وجه الرجل، ليرد على قوله بمكر:
– خدت فلوسي يا فايز، وحمد لله ان ابوك طلع راجل زين وسدهم عنك، بدل ما كانوا راحوا عليا، زي اللي راح منك.

مالت برأسه نحو مضيقًا عينيه بريبة يسأله:
– جصدك ايه يا صدجي؟.
انتصب الرجل يناظره بخبث منتقيًا كلماته بقصد:

– جصدي انت عارفه زين يا فايز، وهو سبب الحنية دي،
ابوك طلع راجل مش هين خالص يا اخي، يعني انا بجالي سنين احايل واصبر عليك، في الفلوس اللي كنت بتسحبها بالهبل مني، على أمل ان هيجي اليوم اللي اتلم فيه ع البيت اللي كنت ناوي اعمل منه أكبر برج فيكي يا بلد، واجهزه بجى لعيادات الدكاترة والصيدليات والمعامل، في الحتة المهمة دي في جلب البلد، يعني كان اسمه هيلعلع زي الطبل،

جوم هو في لحظة واحدة يجلب الطراببزة على راسي، بس اجولك يا فايز مش انت الغلطان، انا اللي طلعت اهبل لما فكرت ان واحد زيك ممكن تيجي من وراه فرصة، يا راجل دا انت الأرض اللي واجف عليها بتكرهك، يبجى ابوك هو اللي هيحبك ولا يورثك كمان؟ مش انا خسران، لكن بجولهالك اها، عنده حج والله يورث الزين ويسيبك…….

بصق كلماته ثم تحرك من أمامه ذاهبًا ليختم اخيرًا بقوله:
– جبر يلم العفش.
تجمد محله، وقد عصف به الذهول، ليظل فاغرًا فاهه، مثبتًا عينيه، لمدة من الوقت، حتى بدا كالمغيب، يطالع ظهر الرجل الذي صب عليه وصلة من السباب والتحقير، غير مقدرًا لحالته ولا لعواقب قوله، وكأنه أمن جانبه، بعدما كان يتودد إليه كالعلقة، ويعرض عليه المال بدون حساب، لكن الاَن ولم يعد لديه منه منفعة، فقد أظهر وجهه الحقيقي له.

❈-❈-❈

عادت إلى الغرفة بعد أن هدهت صغيرها حتى تمكن منه النوم، لتجد الاَن زوجها على نفس حالته من الوجوم والشرود واضعًا كفه على جانب وجهه، بحالة من الشرود جعلته لم ينتبه لدخولها، حتى اقتربت منه بصوتها الرقيق سائلة:
– انت لسة مجلعتش الجلبية التجيلة دي ولا غيرتها؟

انتفض مجفلًا في البداية لكن سرعان ما استجاب لها قائلًا:
– شوية كدة وجايم….
– لا دلوك…..
هتفت بها مقاطعة بحزم، حتى التصقت به تخاطبه بنعومة تعلم بحجم تأثيرها عليه:
– يالا بجى، انت عارفني زين مبعرفش انام غير في حضنك.
استطاعت بفعلها أن تختطف منه ابتسامة غزت محياه، حتى ارتخت تعابيره ليرد مستجيبًا لها:
– وبعدين معاكي يا بت هريدي، دا وجته ده؟ انا في إيه بس يا بنت الناس؟
زادت من أفعالها حتى صارت كقطة تتمسح به، مرددة بدلالها عليه:
– مليش دعوة، انت عودتني على كدة، يبجى تتحمل، دا غير انك مجولتليش ولا كلمة حلوة من الصبح، ولا انت ناسي انك طلعت بدري على شغلك النهاردة، وانا جعدت اليوم كله في بيت ابويا.

استطاعت ان تسحبه مما كان يثقل كاهله لعالمها، حتى اندمج مضيقًا عينيه بأسف يعقب وقد ارتفعت كفيه على جانبي رأسها:
– وه، يعني على كدة محطيتش يدي على الشعر الناعم ده ولا اتأملت في سواد الليل فيه؟
هزت برأسها نافية، فتابع بدراما:
– ولا صبحت على العيون الكحيلة، ولا وصفت في جمالهم؟

كررت بالنفي تتصنع البؤس، ليواصل هو وقد حطت كفيه على وجنتيها:
– يعني كمان مخطفتيش عضة من تفاح الخدود؟
قالها وقد قرب وجهه منها ليفعل، ولكنها وقبل أن يقترب ضحكت مقهقهة بصوت مجلل تبعد رأسها عنه مرددة:
– طب جوم الأول ، جوم غير جلابيتك، وبعدها نعد براحتنا اغلاطك

انصاع لينهض مستسلمًا لأمرها معقبًا بغمزة من وجنته:
– واهو بالمرة نشوف ايه هو العقاب المناسب.
انتفضت خلفه بحماس، لتسبقه نحو الخزانة تنتفي له شيء مريح يرتديه للنوم، فتوقف ينتظرها، حتى اذا التفت له بالبيجامة القطنية كان قد ذهب عنه العبث، وحل الجمود، فتهدلت أكتافها بإحباط تخاطبه:
– مالك يا حجازي؟ ليكون رجعت بفكرك للموضوع اياه ، احنا ما صدجنا.

صمت قليلًا يرمقها بتفكير قبل أن يفاجئها بقوله:
– بجولك ايه يا نادية، انا من الصبح هنزل وابلغ جدي اعتراضي، لازم يرجع الأمور لطبيعتها، وان كان على كره ابوي ف انا اتعودت خلاص، يعني حتى لو طردني بعد ما يورث البيت من جدي، ف انا راجل واجدر اعولكم واعول نفسي،
هتبجبلي يا نادية، لو الظروف حكمت وسكنتك في بيت جديم ولا من الطين؟

أسقطت ما كانت تحمله ارضًا، والتفت ذراعيها حول خصره تجيبه بصدق ووله:
– ولو في اخر الدنيا، انا برضوا جابلة، البيت الطين ولا الجديم معاك يا حجازي، يبجالي جصر.

❈-❈-❈

دفعت باب الغرفة بخفة حتى تتمكن من الدخول إليه وتفاجئه بحضورها، ولكنه كان منشغلًا في الحديث على الهاتف مع أحد تجار الفاكهة، يتفاوض معه على السعر النهائي، لشراء إحدى الأنواع من مزارع العائلة الكثيرة.

توقفت تتابعه وقد كان معطيًا لها ظهره العاري، بعد ان خلع معظم ملابسه ولم يتبقى سوى البنطال، استعدادًا للاستحمام، وقفت تتأمله بانبهار لم تتوقف عنه منذ زواجها به، رغم كل عيوبه وغطرسته معها إلا انها لا تنكر وسامته الرجولية الخشنة؛ وجاذبيتها المفرطة في قلوب النساء، جسد عضلي قوي، والطول الفارع، حلم لكل الفتيات.

لو يتخلى فقط عن عنجهيته معها ويعطيها قيمتها التي تستحقها، لكن لا يهم الاَن، فقد أتت اليوم بناءً على وصايا والدتها وشقيقها ناجي،حتى تستقطبه نحوها ولا تعطي فرصه لهذه المدعوة روح، أن تملأ قلبه ضغينة من نحوها.

– أنت ايه اللي جابك هنا؟
هتف يجفلها بسؤاله، فور أن التف للخلف وتفاجأ بها أمامه، قبل أن ينتبه على ما تريديه من ملابس شفافة تظهر ساقيها من أعلى الركبة أسفل المئزر، والذي كشف ايضًا على الذراعين وجزء كبير من نهديها في الأمام، بمنامنة قصيرة جدا وملتصقة بجسدها.

تعقد حاجبيه وظهرت الوحشية ملامحه في توجيه السؤال الاخر لها:
– كيف طلعتي من أوضتك بالمنظر ده؟ مش خايفة لحد من البنتة ولا الشغالين يشوفك؟
مطت شفتيها المطلية باللون الوردي، لتتغنج بخطواتها نحوه قائلة:
– رغم انه بيتي واعمل فيه اللي يلد عليا، لكن اطمن، محدش من الشغالين جاعد الساعة دي عشان يشوفني ، ولو ع البنتة فهما نايمين، يعني مفيش غيرك بس اللي شافني بالجميص الجديد، ايه رأيك؟ حلو؟

القى بنظرة شاملة طافت عليها من رأسها حتى قدميها في الأسفل، ثم زفر بدون أدنى تعليق ليجلس على طرف التخت، بوجه متجهم، لا يبدوا عليه أي تأثير

فتك بها الغيظ لمقابلتها بهذا التجاهل، وعدم تقديره لمبادرته للصلح، ثم حجب اعجابه بها، وكأنه يبخل أن يعطيها حقها بالإطراء بعد تقيمه، تغاضت لتقترب جالسة بجواره بصوت مغوي تخاطبه:

– إيه يا غازي؟ لسة جلبك محنش علي؟ كل دا عشان غلطة خربط بيها لساني من غير ما اقصد.
التف إليها رافعًا حاجبه بشر، فقابلت فعله بتبرير على الفور:
– على فكرة هي بت عمي زي ما هي اختك، وتعز علي زي ما تعز عليك ، دا المصارين بيتخانجوا مع بعض في البطن يبجى احنا اللي بعيد عننا النكد.

ظل يتمعن النظر بها بوجه مغلف، وكأنه يسشف صدق حديثها أم الكذب، ورغم علمه بالحقيقة إلا أنه فضل التريث معها :

– بجد يا فُتنة؟ يعني هماكي جوي بت عمك؟ ولا شايفها كاتمة على نفسك بجعدتها من غير جواز لحد دلوك؟
شهقت بجزع، تدعي العتب لقوله؟
– يا مري، كيف هتجول الكلام ده؟ دي بت عمي، يعني لو مشالتهاش الأرض، أشيلها فوج راسي، دا بيتها زي ما هو بيتي .

ردد خلفها بقصد:
– ما هو بيتها فعلًا .
تلفظت بارتباك:
– أيوة امال ايه؟ دي روح دي اختي الكبيرة وغلاوتها من غلاوة عيالي،

كاااذبة، يعلم جيدًا أنها تكذب، ولكن ليس بيديه حيلة، الحكمة تقضي أن يدعي التصديق، حتى لا يزيد الأمر سوءًا بين الاثنتان .

اقتربت تلتصق به لتزيد من تأثيرها على مكامن رجولته:
– ها يا غازي، مش ناوي تنور فرشتك؟ دا الأوضة مضلمة من غيرك.
زفر يخرج دفعة كثيفة من الهواء المثقل بصدره، قبل أن يبدي تجاوبه، متقبلًا الصلح معها قائلًا:

– ماشي يا فتنة، روحي وانا جاي وراكي، هتسبح بس واحصلك
هللت بابتهاج الوصول لغايتها لتنهض وتباغته بوضع قبلة على وجنته مرددة:
– ماشي يا سيد الكل، وانا هجهزلك الجعدة وهستناك.
اومأ لها بهز رأسه، فخرجت سريعًا تسبقه، أما هو فقد ظل لدقائق ينظر لأثرها بشرود.

لا يعلم إلى متى يستمر هذا الوضع معها؟ هل بزواج شقيقته سوف ينصلح الحال وتعتدل؟ لا يظن.
وذلك لمعرفته الجيدة بعيوب شخصيتها صعبة التغير، هي اليوم قد جاءت بناءً على نصائح والديها، يخمن هذا بدون شك، لكن ماذا بعد؟

أم يكمن العيب فيه؟ وذلك لخبرته القليلة في التعامل مع النساء، وذلك بفضل ترييته الصارمة وتعليمه الأزهري الذي منعه من الاختلاط مع الفتيات، وقد تولى جده مسؤليته من وقت وفاة والده عن عمر التاسعة عشر، ليُعده لتحمل المسئولية من بعده، حتى لم يتسنى له البحث بنفسه عن عروس يتزوجها، وذلك لانشغاله الدائم مع جده في متابعة الأرض وحضور الجلسات العائلية والمناسبات العامة ايضًا، وقد كانت الاختيار الرئيسي من شقيقاته بحكم جمالها المعروف في العائلة.

لكن؛ ومنذ زواجه بها لم يعرف سوى رغبة الرجل تجاه المرأه.
لايوجد أي أشياء أخرى كالمشاعر وهذه الاحاسيس التي يسمع عنها، وقد كان السبب هو اصطدامه الدائم بغرورها المستفز، أم هي الخشونة المتأصلة به، والتي تمنعه من التكيف مع واحدة مثلها؟

لماذا يستحضره الاَن مشهد طفلة جميلة، كحيلة العينين؟ ذات بشرة بيضاء تناقض لون البحر الأسود بها، بضفيرة واحدة طويلة، ضمت شعرها من الخلف لتظهر جمال وجهها الدائري، وطول عنقها الغض.

وقد ذلك في اليوم الذي يخصصه جده لتجمع أفراد العائلة بمأدبة كبيرة كل عام، النساء والأطفال في باحة المنزل الكبير، والرجال في الساحة الخلفية في الخارج، بفراشة ضخمة، كي تضم الجميع من أصغر شاب حتى الكهل العجوز.

وقد كان في هذا اليوم متأثرًا لأول غياب لوالده به، وذلك بسبب وفاته من شهور قريبة، حتى ضاق صدره وخرج عن صحبة الشباب يبحث عن مكان منعزل يجد به السلوى، فذهب كي يمتطي حصانه ويخرج به كالعادة، ليركض محلقًا في فضاء الأرض الشاسعة.

ولكنه تفاجأ هذه المرة بهذه الصغيرة تقف أمام السور الخشبي الحاجز وتطعمه بيداها، فلم تنتبه، الا حينما أجفلها بهتافه:
– بتعملي ايه عندك يا بت؟

انتفضت بخضة في البداية حتى سقطت منها حزمة البرسيم الصغيرة، ثم سرعان ما تمالكت لترفع رأسها اليه وتحدجه بنظرة غاضبة، فلم تكلف نفسها عناء الرد عليه، وقد استفزها جلافته، دنت تعود تتناول ما سقط على الأرض، ثم امتدت بذراعها لأعلى الحاجز الخشبي الصغير، لتتابع اطعام الثلاثة، الحصان الكبير والمهرتين.

اقترب منها بعصبية ينكزها بطرف اصبعه، وقد استفزه تجاهلها له:
– لكن مش بكلمك انا .
التفت برأسها إليه تنهره بعنف:
– وانا مش عايزة ارد عليك، انت مين انت عشان تسألني؟

– أنا مين؟
تمتم بها ليتكتف بذاعيه يطالعها بذهول، هذه الغريبة والتي يبدوا أن عمرها، لا يزيد عن الثانية عشر، لا تعرف من هو غازي الدهشان! تطعم الحصان ولا تعلم صاحبه، بها لمحة ما تخبره أنها من العائلة، ولكنها مختلفة، ربما السبب شخصيتها العنيدة، أو ربما هو جمالها الملفت، فقد كانت اية من الجمال البريء، لم تكن طفلة كما تصورها في بداية الأمر، بل هي زهرة متفتحة، في طريقها للنضوج.

صاحت بها ساخطة، حينما زاد من تأمله لها:
– هتفضل كدة باصصلي كتير؟ ما تمشي تروح للرجال، ولا انت متعرفش ان في مكان للرجالة؟
قارعها واضعًا كفيه على خصره بتسلية ظاهرة:
– وما تروحيش ليه انتي عند الحريم؟ اي اللي جايبك الحوش هنا لوحدك عند الحصنة والبهايم.

– وانت مالك؟
القتها بوجهه للمرة الثانية، تتابع بجرأتها:
– انا جاعدة هنا في ملك جدي دهشان، وبوكل حصانه، انت ايه دخلك؟
اقترب برأسه وقد غزى محياه ابتسامة مشاكسة:
– أنا برضوا جاعد في ملك جدي دهشان، انتي بت مين بجى من عيال عمي؟

كورت شفتيها الشهية بحنق لترمقه بشرز وهي ترمي بباقي الحزمة من أعلى الحاجز، تردف بضيق:
– تاني برضوا عايزني اجولك نفس الكلمة، انت ماااالك؟

زاد اتساع ابتسامته، لتثير بداخله شعور بابتهاج متعاظم، وقد أسره سحر التطلع بهذه العيون الواسعة والمرسومة بإبداع الخالق، لتبدوا كعيون الريم بجمالها، بالإضافة لهذه اللمعة التي تصرخ بالتحدي له، وهذا ما أثاره بشدة، ليلوح لها بإصبعيه:
– بس دول كلمتين مش كلمة واحدة، وانتي كررتيهم تلت مرات، يبجوا ست كلمات.

امتقع وجهها، حتى أصبح كتلة حمراء ملتهبة بفرط الانفعال، لتزفر بقوة امامه ثم تحركت متمتمة:
– انا ماشية وسيبهالك خالص، اشبع بيها.
تحرك خلفها يعيد بنفس السؤال:

– استني يا بت، طب جولي طب انتي بت مين؟
استمرت متابعة طريقها تتجاهل الرد عليه، وتابع هو اللحاق بها، حتى انتوى الدخول خلفها إلى جمع النساء ليختلق حجة ما، حتى يتسنى له معرفتها بالسؤال عنها .

ولكن نداء جده الذي كان خارجًا بالصدفة يبحث عنه، أوقفه:
– غازي، رايح فين يا واد؟
تخشب للحظة محله قبل أن يلتف إليه على غير ارادته، يجيبه بارتباك:
– كنت رايح انده لوجدان اختي، جوزها عايزاها.
اشار بكفه اليه ليقترب، ثم قال غامزًا:
– اختك عايزها جوزها، يبجى ابعتلها أي عيل صغير، وسيبك منه وتعالي انت معايا.

تمسكت أقدامه بالأرض باعتراض:
– هبعتلها طب الأول، روح انت وانا هحصلك.
اقترب ليحاوط كتفيه بذراعه يسحبه ليجبره على التحرك معه مرددًا:
– يا ولدي مش وجته دلوك اختك ولا جوزها، نايب الدايرة وصل، عايزك تحضر جلسته وانت جمبي عشان تتعلم، وهو يعمل حسابك من دلوك.

اضطر راضخًا لرغبته، مؤجلًا البحث عن اسم الفتاة ومعرفة صفتها من أبناء عمومته بعد انتهاء الاجتماع،
ولكنه لم يجدها، حتى اختلق قصص وهمية ليخترق جمع النساء عدة مرات، ولسوء الحظ لم يتصادف برؤيتها على الإطلاق بعد ذلك، ولا حتى في السنوات التي تالتها.

ليته اتبع حدسه، واعترض في هذا اليوم أو اعتذر لجده، عن حضور هذا الإجتماع البائس

يتبع…..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ميراث الندم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى