رواية اليمامة والطاووس الفصل الأول 1 بقلم منى الفولي
رواية اليمامة والطاووس الجزء الأول
رواية اليمامة والطاووس البارت الأول
رواية اليمامة والطاووس الحلقة الأولى
بإحدى القرى، في غرفة فوق سطح إحدى العقارات المتطرفة وحدها بين مساحة واسعة من الأراضي الزراعية ، يجلس شاب بأخر العقد الثالث من عمره، يبدو التناقض الواضح بين هيئته والمكان، فملابسه الأنيقة تتناقض مع أثاث الحجرة المتهالك، حتى حقيبة ملابسه الغالية تتناقض مع ذلك الجوال القذر الذي يحيطها، التناسق الوحيد بينه وبين محيطه كان ذلك البؤس المرسوم على وجهه، والهالة السوداء حول عينيه، التي لا يخفى سببها، خاصة وهو يراقبه بذاك السخط، متمثلا بذلك الشاب الريفي البسيط الذي يتوسد الأرض، بينما ارتفع غطيطه المزعج، بالإضافة لذلك الفراش الخشن الذي لم يعتاده بعد، والذي يدعو الله أن تحل معضلته بأقرب وقت فلا يجبر على اعتياده، تململ الشاب الأنيق متأوها من قسوة الفراش، لينهض متأففا خارجا من الغرفة لاعنا ما وصل إليه حاله، نظر لسور السطح بتردد، يعلم التعليمات جيدا، لا يحق له الاقتراب من السور حتى لا يلاحظ أحد المارة أو سكان العقار وجوده، فيتعرض للسجن هو و ذلك الشاب المسكين الذي أواه بغرفته ردا لجميل صديقه لديه، أغمض عينيه مستنشقا ذلك الهواء النقي فالعقار محاطا بالحقول الشاسعة، التي رأها بالأمس أثناء صعوده المستتر للسطوح، والتي يحرم الأن من رؤيتها والتمتع بجمالها حفاظا على سرية وجوده، لاحظ ذلك الفراغ الصغير بأحد جوانب السور، فانحنى يزحف تجاهه ببطء حتى وصل إليه مسترقا النظر لذلك البساط الأخضر لعل نفسه الجريحة تطيب برؤية المشهد المبهج، ولكن لم يكن شيء ليخفف ألم جرح أقرب الناس إلى نفسك، حيث طعنة الغدر بخنجر الثقة أشد وطأة على الروح من طعنات الجسد، تنهد بحسرة وهو يبتلع مرارة الذكرى، تلك الذكرى التي ظل يجترها لما يقارب العام، أملا أن تمحو مرارة الذكرى حبها من قلبه، فلم تزيده إلا مرارة فقدها وهو يتذكر ذلك النعيم الذي عاشه معها رغم قصر عمره وما خالطه من منغاصات، ولكن الأن الأمر مختلف فلأول مرة يعلم أن ذكراه كانت مشوهة، ولأول مرة يسترجعها على حقيقتها بعدما اتضحت الصورة وظهر جانبها المخفي، ليتجرع مع مرارة الفقد حرقة الغفلة والغدر من أقرب الناس، لتكوي الذكرى قلبه رغم شهد البدايات التي قد مر عليها ما يقرب العام ولكنه يتذكر أدق تفاصيلها وكأنها كانت بالأمس القريب.
عائدا لما يقرب العام.
جلس مع صديقيه بكافيتريا الجامعة ولكنه تواجد معهما بجسده فقط ولكن عينيه كانت تتبع ساكنة قلبه تلك التي تسترجع دروسها تحت شجرتها المعهودة المقابلة للكافيتريا، بينما روحه قد أسرتها هالة البراءة التي تحيط بها بزيها المحتشم ونظرها الذي لا يحيد عن كتبها وقت استذكارها، أو الأرض في حياء أثناء سيرها، لكن انتزعه هتاف صديقه الزاجر باسمه من جنة تأملها.
ارتفع هتاف صديقه محتدا اعتراضا على غفلته وعدم مشاركتهما الحديث: ياسر، ياسر أنت يا بني مش عمال أكلمك.
نظر لصديقه بارتباك محاولا أن يخرج صوته المتحشرج متماسكا حتى لا يفتضح أمره: أيوه يا محمود ما أنا سامعك.
ليفاجئه محمود بسؤال لا يعلم عن أي شيء يدور: طيب قولت أيه هينفع ولا مش هينفع السنة دي.
حمد الله بنفسه أن صديقه يجلس بمقابله ولم يلاحظ علاما ينصب تركيزه، ليتمتم بخفوت وهو ينظر لصديقه الأخر مستنجدا: بإذن الله، ولا أيه يا عمر.
كتم عمر ضحكته، وهو ينتشله من ورطته بذكاء: خلاص بقى يا محمود، أهو قالك أن شاء الله، بس أكيد لازم يسأل الدكتور الأول، ويشوف العيلة ناويين على امتى، ويظبط الدنيا.
تمتم محمود موافقا: خلاص بإذن الله، لاحسن الواحد قرب يسيح [وهو ينهض مستعدا للمغادرة] أيه مش ناويين تحضروا المحاضرة دي ولا أيه.
تنحنح ياسر وهو ينظر لعمر محذرا، ليحسم عمر الأمر بلباقة: لا أتكل أنت، احنا لسه هنفطر، ونبقى نصورها منك.
انصرف محمود مودعا، ليلتفت ياسر لعمر متسائلا بحيرة: دكتور مين اللي هسأله، وعيلة أيه.
لينفجر عمر ضاحكا وهو يقلد نبرة ياسر برده على محمود: {أيوه يا محمود ما أنا سامعك} [متهكما] امال أنت كنت سامع أيه.
تأفف ياسر من مشاكسة صديقه فزجره قائلا: أخلص يا خفيف كان بيرغي في أيه؟
ابتسم عمر قائلا: كان بيسأل هنسافر الأسبوع بتاع كل سنة في شقتكم بتاعة مطروح، ولا مش هينفع.
تنهد ياسر بحرقة وهو يراها تلملم كتبها لتلحق بمحاضرتها القادمة، يتبعها بكل حواسه، وهو يتمتم بشرود: بإذن الله هنسافر، لسه ياسين كان بيقول أن بعد امتحانات نجوى علطول، هيقفل العيادة أسبوع ونسافر كلنا، لما هما يرجعوا أنا هستنى هناك، وأنتم تحصلوني.
زفر عمرا حانقا وهو يلوم صديقه: طيب ده بالنسبة لامتحانات نجوى، بالنسبة لامتحاناتنا احنا أيه النظام.
تمتم ياسر حائرا: مالها امتحاناتنا، ما احنا كمان هنكون خلصنا، أيه المشكلة.
وجه عمر نظره تجاه الطريق الذي سلكته تلك الغافلة التي خطفت قلب صديقه: المشكلة أنها طول ما هي قدامك، لا بتشوف ولا بتسمع، ولا حتى بتحضر المحاضرات، ده أنت حفظت جدولها، وبقيت تحدد هتحضر المحاضرة ولا لا بناء على هي عندها محاضرة، ولا قاعدة تذاكر، عشان تقعد تبص على ست الحسن والجمال.
ليزجره ياسر ساخطا لحديثه عنها بتلك النبرة: عمر، قلت لك ميت مرة ما تتكلمش عليها بالطريقة دي.
أردف عمر ساخطا: يا سيدي هي ست الستات، وأنا والله عارف قد أيه هي محترمة، ومن أول يوم في السنة اللي فاتت لما محمود حاول يشتغلها زي ما بيحب يعمل مع سنة أولى، وهي وقفته عند حده واحنا وقفنا له، وهي عجبتني.
اندفع ياسر محتجا بغيرة: هو أيه اللي عجبتك ده.
ضحك عمر ليتمتم مهادنا: أهدى بس يا عم الغيور، أنا أقصد كبرت في نظري، خصوصا لما لاحظت قد أيه هي مركزة في مستقبلها، فياريت بقى نعمل زيها، خلي الكام أسبوع اللي فاضلين في السنة يعدوا على خير.
ليفاجأ بياسر الذي تغاضى عن حديثه لإهماله لدراسته، غير واعيا إلا لحديثه عن قرب الإجازة وحرمان من محبوبته، هاتفا بجزع: كام أسبوع، معقول الأجازة قربت كده ومش هاشوفها الفترة دي كلها.
ليحدق به صديقه مصدوما، ثم يزفر بضيق ليهم بالرحيل وهو يهمهم متبرما على حال صديقه، الذي نظر لإنصرافه جامدا، وقد احتلت رأسه فكرة واحدة {لن يستطيع أن يحرم من رؤيتها طول إجازة الصيف، يجب أن يصرح لها بحبه، ولا يسمح بأن تبتعد عنه ثانية أبدا}.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
بعد عدة ساعات، خارج أسوار الجامعة.
جلس ياسر داخل سيارته مقابلا لها حيث تقف محاولة استقلال إحدى المركبات العامة، يحترق قلبه كلما دفعها أحدهما أثناء التزاحم للحاق بالمركبات الممتلئة فعلا، يمنع نفسه قصرا أن يلكم كل من اقترب منها، يعلم بأنها ستنتظر طويلا، فالوقت وقت الذروة، وهي تنأ بنفسها عن التزاحم، ورغم ذلك لا تسلم من الدفع من وقت لأخر، يتمنى أن يذهب إليها يسحبها من يدها لسيارته، موصلا لها لبيتها، والأروع أن يوصلها لبيتهما معا، انتفض من أفكاره وهو يرى تلك السيارة تقف أمامها مباشرة، وذلك المعيد اللزج يهبط منها متجها نحوها، ويرى من إشاراته لها إصراره على إيصالها، بينما هي تعتذر بأدب وحياء، غادر سيارته منفعلا وكاد أن يعبر الطريق اختراقا دون النظر لاحتمالية دهسه، ولكنه هدأ قليلا عندما وجدها تحرك رأسها شاكرة وهي تتحرك تجاه أول سيارة توقفت أمامها، لتزاحم تلك المرة مجبرة للتخلص من ذلك العرض السخي لذلك اللزج.
ليعود لسيارته مسرعا وقد انطلق هذا المرة سابقا تلك التي استقلتها محبوبته، لا متبعا لها كما اعتاد.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
أوقف سيارته على مشارف إحدى المناطق الشعبية المكتظة بالسكان، فهو يعلم تماما مكان سكنها المتواضع، الذي طالما تتبعها إليه حتى يطمئن لوصولها له، بل أنه احيانا كان يشعر بمعرفتها بمراقبته لها، رغم أنه لما يحاول أبدا اعتراض طريقها، أو الظهور أمامها بشكل واضح كالأن، ولكن رؤيته لذلك الكريه يحاول مجاذبتها الحديث بل وتوصيلها بسيارته أيضا، أشعل قلبه ووأد أي تعقل لديه، وحسم أمره بمصارحتها التي لطالما عزم عليها، ثم تراجع متخاذلا وقت التنفيذ، ولكن لا مجال للتراجع أو التخاذل الأن، فقد تضيع منه للأبد، وهذا ما لا يستطيع احتماله أبدا.
قطع حبل أفكاره وصول تلك العربة التي تحمل كنزه الثمين، لتهبط متهادية ليشعر وكأنها تخطو بطرقات قلبه، وأن نبضات قلبه ما هي إلا صدى لخطواتها تلك، تلاقت أعينهما ورأى الصدمة بعينيها قبل أن تغض بصرها بسرعة، ليبتسم بسعادة وقد تيقن حدسه بملاحظتها له، لتتسع ابتسامته وهو يلاحظ أن خطواتها قد تحولت لهرولة مرتبكة متعثرة، ليهرول لاحقا بها معترضا لطريقها قبل أن تدخل لتلك الشوارع الضيقة التي توصل لمنزلها.
وقف أمامها يلهث وكأنه خارج من سباق لتوه، ليقول بصوت متحشرج انفعالا: دعاء أنا بحبك.
حاولت تجاوزه، فراوغها ومنع تقدمها، لتغمغم هامسة: لو سمحت، ما يصحش كده.
تماسك حتى لا يتهور ويمسك بيدها، فهو يعرف بأنها لن ترضى بذلك أبدا، وقد يخسرها للأبد لو ظنته يتلاعب بها، فكرر بحسم وبلهجة قاطعة: دعاء أنا بحبك، وعايز أتقدملك، بس عايز أعرف رأيك الأول، أنا مش عايز نمرة والدك هي معايا، أنا بس عايز أعرف اتصل بيه ولا الخط مشغول.
كاد أن يطير فرحا وهو يسمع همسها الذي يكاد لا يسمع: اتصل.
افسح لها الطريق وصوته يشي بسعادته وحماسه: هاكلمه النهاردة، أحدد ميعاد.
ليراقبها وهي تعدو فارة من أمامه وقد اكتسى وجهها بزهور الخجل، تعلوه ابتسامة لن ينسها ما حيا.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
في شقة فاخرة بإحدى المناطق الراقية
جلس ياسر بصحبة رجل وقور بمنتصف العقد الرابع، تبدو الصدمة عليه بينما ياسر يخبره برغبته بالارتباط بالفتاة التي أحبها، بل وصارحها بحبه.
ليغمغم الرجل بصدمة واستنكار: طب و نجوى؟
لتنتقل صدمته لياسر وهو يردد بحيرة: ومالها نجوى بخطوبتي يا ياسين!
ليحتد صوت ياسين قائلا: لا أبدا حاجة بسيطة، المفروض بس أن هي اللي تبقى خطيبتك.
لينتفض ياسر قائما ليصيح بغضب هادر وهو يلوح بيديه بعصبية: خطيبة مين.
احتقن وجهه ياسين غضبا وهو يضغط حروف كلماته ببطء: أقعد يا ياسر، واتكلم بأدب.
أحمر وجه ياسر خجلا وهو ينتبه لتجاوزه حدود الأدب مع شقيقه الأكبر ومربيه: أسف، بس أنت بتقول حاجة ملهاش أي سبب، منين جيبت حكاية أني هاخطب نجوى دي.
زفر ياسين ليهدأ غضبه ويقول متعقلا: ده اللي أنا فاهمه، وأعتقد أن ده كمان اللي سلوى فاهماه، ويمكن نجوى نفسها، أنتوا طول الوقت مع بعض، ومبتبطلوش ضحك وهزار ده غير أنـ…
قاطعه ياسر مستنكرا: هو عشان بنضحك سوا ابقى هاتجوزها، نجوى متربية معايا، أنت اتجوزت سلوى أختها وأنا اتناشر سنة وهي تسعة، كنت أنا وقتها عايش هنا في الشقة مع بابا، وأنتوا في شقتكم اللي قدامنا، وهي كانت علطول عندكم وبنلعب سوا، وبعد سنتين لما بابا الله يرحمه اتوفى قفلنا الشقة هنا وجيت عشت معكم وهي كمان وقتها سابت مامتها وجات عاشت معنا، حتى بعد كده لما أنا رجعت شقتي، كنت بافضل اليوم كله عندكم معها وأدخل شقتي على النوم.
قام ياسين من الكرسي المقابل له ليجاوره على الأريكة وهو يحادثه بحنان لعله يحي جذوة مشاعره تجاه نجوى التي يظنها أخفيت تحت رماد سنه متقلب المشاعر: بس أنت قلبت لدنيا السنة اللي فاتت لما أبوها كان هيجوزها.
تأمله ياسر مصدوما بتفسيره لشهامته نحو فتاة اتخذها أختا له: طبيعي جدا، بأقولك باعتبرها أختي، وشايف أبوها عايز يضيع مستقبلها ويجوزها وهي لسه أولى ثانوي.
حاوره ياسين مستنكرا: دي كانت خطوبة، وأبوها مكنش هيخرجها من التعليم، عشان تجنن الجنان ده كله.
استشاط ياسر غضبا و هو يرى إصراره على تكذيب مشاعر واعتباره مجرد مراهق لا يجيد الحكم على مشاعره فأردف بعصبية: لما يكون أبوها اللي رماها هي وأختها وقهر أمهم، جاي يجوزها لابن مراته الفاشل الصايع، خصوصا لما أكون قريب منها كأخ وعارف قد أيه هي بتكره البني أدم ده وهو وأمه، اللي بتعتبرها السبب في موت أمها، يبقى جناني وقتها طبيعي جدا، [ضاغطا على حروف كلماته بحزم] بعيد عن الحب والكلام اللي أنتوا اتخيلتوه ده، وممكن تسأل نجوى نفسها، أنا عمري ما اتجاوزت حدودي معها، ولا لمحت لها بحاجة، [بنشوى وحب صادق] أنا محبيتش غير دعاء وعايز أتجوزها هي وبس.
حاول ياسين رفع الحرج عن نفسه، وإخراح شقيقة زوجته من المعادلة: فليكن، انسى نجوى خالص، لكن أنا برضو مش موافق أنك ترتبط حاليا، بعد التخرج لو فضلت عايزها، يبقى نتكلم، ونشوفها مناسبة ولا لا.
مسح وجهه بيديه محاولا اختيار كلماته متمنيا أن يحظى بتحقيق حلمه دون أن يثير حفيظة أخيه: السنة دي والسنة الجاية ولمية سنة قدام، أنا بحبها ومش عايز غيرها، يبقى ليه التأخير، الشقة وأديني عايش فيها لوحدي، ونصيبي من الإيجار يكفينا احنا الاتنين لحد ما اشتغل، [ممتنا] ده غير أنك كنت بتصمم تصرف عليا ونصيبي من الايجار للسنين اللي فاتت كلها متشال .
بسط ياسين يده مهادنا محاولا إنهاء المناقشة: مختلفناش، أنت السنة دي تلتة، والامتحانات على الأبواب، ركز أنت بس في مذكرتك، وكلها السنة الجاية وتخطبها، وهي كمان لسه في سنة تانية، وأديها عرفت أنك عايزها لو عايزك هتستناك.
ليزفر بضيق، فمعرفته بشخصية أخيه النمطية تخبره بأنه قد اتخذ قراره بالتأجيل ولن يثنيه شيء عن قراره، ليشتعل قلبه حزنا لابتعاد حلما ظنه قريب، وخوفا من اهتزاز صورته لديها بعدما أجل تنفيذ وعده لها.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
بكافيتريا الجامعة، بعد مرور أسبوع
جلس ياسر وقد ارتسم الحزن على وجهه وهو ينظر باشتياق للشجرة التي هجرتها عصفورته بصدى طلقة خذلانه لها ، ليتمتم بصوت احتله القهر: هاتجنن يا عمر، هيجرى لي حاجة لو فضلت زعلانة مني.
لم يستطع عمر مواساة صديقه على حساب الحقيقة فصارحه قائلا: بصراحة هي معها حق، البنت أكيد صدقتك لما قولتلها أنك هتكلم والدها النهاردة ويمكن أديته خبر بده، وطبعا موقفها بقى سخيف لما أنت متصلتش واحرجتها قصاد أهلها.
زفر بحرقة وهو يتخيل أن يسيئ لها أحد بسببه ليهتف صادقا: والله كنت هاتصل فعلا، بس فكرت افاتح ياسين الأول عشان انسق معه الميعاد اللي يناسبه عشان وأنا باكلم أبوها أحدد ميعاد الزيارة، بس هو فاجئني بموضوع نجوى ده، وحتى لما فهمته أنها مش أكتر من أخت ليا، صمم على تأجيل الموضوع كله للسنة الجاية بعد التخرج.
صدمته صراحة عمر للمرة الثانية وهي تعري تسرعه وتخاذله أمام أخيه: أنا كتير نبهتك أن تسرعك وتصرفاتك الإنفعالية دي نتيجتها بتكون مش محسوبة، والأحسن أنك مكنتش اتسرعت وكلمت البنت وعشمتها قبل ما تتكلم مع أخوك وتعرف رأيه، بدل في الأخر هو اللي كلمته هتمشي.
احرجه تعليق صديقه فدافع عن موقفه قائلا: عارف أني اتسرعت، بس النار ولعت فيا أول ما شوفت الزفت ده بيكلمها وعايزها تركب معه، و ياسين مش أخويا وبس، أنا فعلا باحس أنه أبويا مش بس عشان الفرق مابينا تلاتاشر سنة، لكن طول عمره شايل مسئولياتي ومهتم بمصلحتي وبيعملني زي أبنه اللي ربنا ماأردش يكون فيه نصيب ويجيبه، وعشان كده مكنش ينفع أقف قدامه واكسر كلمته.
تنحنح عمر وقد علم بأنه قد ضغط على صديقه في وقت هو في أحوج ما يكون للمؤازرة، فحاول التهوين عنه قائلا: عارف طبعا، ومعنديش شك في حب دكتور ياسين لك وخوفه على مصلحتك، أنا بس باوضحلك أنها معذورة في رد فعلها.
زفر باشتياق عندما ذكرت سيرتها وعقابها له الذي انفطر له قلبه: والله عارف وعاذرها، بس هاتجنن، حرمتني منها ومن أني أشوفها، وكل ما تلاحظ أني باراقبها من مكان تحرمه على نفسها، [زافرة بلوعة الإشتياق] أول يوم روحت لها تحت شجرتها سابتها ومشيت ومرجعتش تذاكر تحتها تاني، استنتها مكان ما بتركب، غيرت الباب اللي بتخرج منه، حتى لما لاحظت أني باستنها قدام المدرج، بقالها يومين مش بتحضر محاضرتها، والامتحان على الأبواب، وأنا مش عايزها تتأذي بسببي، ده غير أني موجوع قوي، أنها مش طايقة تشوفني للدرجة دي.
تنبه عمر لقدوم صديقهما محمود فأشار له وهو ينهي الحوار بينهما: ربنا يقدم اللي فيه الخير، وأن شاء الله تيجي الفرصة اللي تشرح لها فيها موقفك، وتفهمها أن الموضوع مسألة وقت وتوافق وتستناك.
ردد تحية محمود بشرود، وهو يتابع حوار ذاك المعيد اللزج مع أحد زملائه، يخشى أن يسبقه بخطوة ويسرق حلمه الذي يدعو الله كل يوم أن يحققه، فقرر أنه لن ينتظر فرصة يشرح لها موقفه، بل سينتزعها انتزاعا.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
أوقف ياسر سيارته على مشارف تلك المنطقة المتواضعة التي تقطنها دعاء، وجلس بها ينتظر تلك التي حرمته رؤيتها، سيراها ويروى ظمأ عينيه بملامحها البريئة، سيصارحها بكل ما يجيش بنفسه، ويطلب منها انتظاره، وستنتظره، فلا يمكن أن يضيع حلمه هباء لمجرد أنه تأجل لعام واحد.
لمحها تهبط من إحدى سيارات النقل الجماعي، فخرج مسرعا من سيارته، ليهرول لاحقا بها معترضا لطريقها، فهاله انكسرها والحزن الساكن بملامحها، وأحزنه أكثر أن يكون هو سببهما.
وقف أمامها لتتلاقى عينيه بعينيها الحبيبة ثانية، تلاشت صدمة عينيها سريعا، ولكنها ظلت بمواجهة عينيه بتحدي وكبرياء يليقا بها.
انتزع الكلمات من حلقه انتزاعا، وقد أخرسته نظراتها اللائمة: دعاء، احنا لازم نتكلم، في ظروف جدت لازم تعرفيها.
خرج صوتها حاسما ولكنه جريح رغم محاولتها التظاهر بالقوة: احنا مفيش كلام بينا من أصله، وظروفك تخصك لوحدك.
عذر ياسر حدتها معه، فهو من أخلف وعده لها وخذلها، فخرجت نبرته حانية محتوية: دعاء أنا مرجعتش في كلامي، أنا بس اضطريت أأجله لحد ما اتخرج، يعني كلها سنة بس.
أحرقت نظراتها المحتقرة روحه لتنسكب حروفها الحارقة المتهكمة تلهب روحه الجريحة: أه وطبعا بحكم أنك عايز تتجوزني فاحنا في حكم المرتبطين، ونخرج وندخل بقى لحد ما تتخرج، وأديك بتسلي نفسك لحد ما ربنا يفرجها وتشتغل وتلاقي بنت الحلال اللي أكيد هتكون عايزها عمرها مع ارتبطت بحد.
صدمه ظنها به، فهمس عاتبا: أنا يا دعاء، أنا عمري ما…
قطعت عاتبه الهامس بصوت هادر رغم تحشرجه بدموعها الحبيسة: أنت أيه، أنت ابتديتها خطوة خطوة زي الكتاب ما بيقول، الأول صاحبك يعاكسني، وأهو لو قبلت ميضرش مقبلتش تعمل أنت فيها الشهم اللي خلصني منه، بعد كده بقى الاهتمام والمتابعة عشان تلفت نظري ، ولما كل ده مجبش نتيجة، [تغلبت دموعها على أسر الجفون فانهالت دون وعي منها] جات بقى خطوة الخطوبة وهاكلم بابا، بس معلش هانجل بس خلينا مرتبطين، بس للأسف دي كمان منفعيتش، وأنا معرفش الحقيقة الخطوة اللي بعد كده أيه، ياترى هتريحني وتشيلني من دماغك، ولا هتضحي بتمن دبلتين وتفضل داخل خارج على حسهم، ووقت الجد تنفد بجلدك، نصيحة مني وفر تمن الدبلتين لأنك هتخسر تمنهم على الفاضي، أنا لا هاخرج ولا هادخل ولا عندي مشاعر لأي حد إلا لجوزي على سنة الله ورسوله.
ألقت كلماتها القاتلة وتخطته تسير بإباء على دم أحلامه المهدور، يراها أولته ظهرها وقد خسر احترمها له، بعدما ظنته يتلاعب بها، وتقربه منها خطة مدروسة، ورغم أنه كان يحاول دائما السيطرة على تهوره المعتاد، الذي لطالما أوقع به بالمشاكل، لكنه امتطى جواد جموحه وانطلق خلفها يلحق بها ويتخطاها دون كلمة، يسبقها لبيت أبيها، وليذهب كل التعقل للجحيم فلا يبالي إلا لضياعها هي منه.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
بشقة دكتور ياسين
رغم اتسامه المعروف بالعقلانية والهدوء، لم يستطع السيطرة على أعصابه وهو يصيح بوجه شقيقه الطائش: وأنت عايزني في أيه بقى، مش عملت اللي في دماغك.
نظر ياسر للأرض بخجل فهو يعرف أن خطأه كبير، لذا توسله مترجيا: حقك عليا يا أخويا، بس أنت ميرضكش أخوك يطلع عيل ومش قد كلمته.
نظر له ياسين بلوم وهو ينهره مقرعا: لكن عادي طبعا، أنك تكسر كلامي وترميه في الأرض.
تنحنح ياسر وخرجت كلماته متعثرة تحمل الإعتذار والإستعطاف: معاش ولا كان اللي يكسر كلامك يا دكتور، ما أنا حكيت لك اللي حصل، وظنها فيا، وأنت ميرضكش أني أخسر البنت اللي بحبها، أو أني أسقط من نظرها.
ابتسم ياسين بسخرية وقال متهكما: وأديك أثبت لها أنك راجل ومالو هدومك، عايز مني أيه بقى.
فرك ياسر يديه بتوتر وقال متلعثما: ما قولت لك يا ياسين، باباها قالي هات كبيرك وتعالى، وأن النسب عيلتين مش عريس وعروسة.
زفر ياسين متبرما بسخط: كويس أن حد طلع بيفهم في الأصول في الجوازة دي، روح بقى شوف لك كبير غير اللي لاغيته، أو روح قوله أنا العريس اللي باع عيلته عشانكم.
أستاء ياسر من تعنت أخيه، رغم أن جوازه بأخر الأمر يخصه هو وحده، والأختيار لقلبه لا سلطان لأحد عليه، كما فعل ياسين نفسه، رغم تحفظ والدهما على ظروف سلوى الأسرية، لكنه الأن ينكر عليه حبه، رغم محاولاته لاستجداء رضاه.
نهض ياسر من مكانه، زافرا بنفاذ صبر، ليردف بيأس: خلاص يا دكتور اللي تشوفه، أنا عمري ما استغنا عنك، بس كمان أنت معلمتنيش أني أكون عيل، فبعد أذنك أنا هاكلم عمو شوقي وعمو ابراهيم وأشوف مين فيهم ممكن يجي معايا.
طالعه ياسين للحظات بصدمة، ثم قال بجفاء: براحتك، شوف اللي يشرفك وخده، بس ياريت….
قاطعه ذلك الصوت النسائي الناعم بنبرة حاسمة: ياريت تحدد ميعاد مع باباها وتبلغنا، [ناظرة لياسين بلوم] لأن مينفعش حد غيرنا يشرفك، يا يويو.
علت الباسمة وجه ياسر وهو يقترب من السيدة بسعادة مقبلا يدها بحماس: سلوى حبيبة قلبي، وأحلى مرات أخ في الدنيا.
اقتربت سلوى ممسكة بأذنه وهي تهمس له: مش معنى كده أني مش زعلانة منك، بس عقابك بعدين.
تلوى ياسر وهو ينزع أذنه من يدها ضاحكا، هامسا لها برجاء: حقك على رأسي يا أجمل ساسو في الدنيا، بس أنت ظبطي الدنيا مع الدكتور وأعملي فيا اللي يرضيكي، [ليصيح فجأة وهو يهرول خارجا] عن أذنكم هاروح أكلمه ونحدد ميعاد عشان الدكتور يظبط أموره.
التفت إليها ياسين مستنكرا ليغمغم بدهشة: بعد ده كله، وبالسهولة دي.
اشاحت سلوى وجهها بضيق وهي تغمغم: مش أحسن ما نسيبهولهم بالسهولة دي.
لوح بيديه وهو يصفق بهما متعجبا قائلا باستنكار: واحنا لما نجوزه السنكوحة دي مانبقاش سيبنهولهم.
اقتربت تمسك بيديه محاولة أن تمتص انفعاله، وهي تنظر لعينيه بابتسامة هادئة، هامسة بخفوت: الأصعب أنك تخسر ياسر، اللي أنا وأنت عارفين قد أيه هو متهور وعنيد، وبعدين احنا هنروح نتعرف بس، مش يمكن يكونوا ناس كويسة فعلا، أو ممكن هما اللي ميوفقوش، ويبقى ساعتها الموضوع انتهى بعيد عنك ومن غير ما ياسر ما يزعل منك.
انعقد حاجبيه وهو يرفض ذلك الاحتمال، فمن هذا الذي يرفض شاب كياسر، خاصة تلك الأسرة التي لم تحلم يوما بشاب مثله لإبنتها، كاد أن يخبرها برأيه، ولكن ابتسامتها الساحرة التي زادت اتساعا، ويدها التي تشد على يده برفق، بثت لنفسه الطمئنينة، وهو يتساءل ماذا لو كانت على حق، لذا قرر أن ينتظر لما بعد تلك الزيارة، لربما اختلف الأمر.
❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-❈-
بعد عدة أيام بمنزل دعاء
جلس الجميع بعد التعارف والموافقة المبدئية، يضعون الخطوط العريضة للزيجة ويحددون خطوات الإتفاق.
ابتسم ياسين بدبلوماسية قائلا: أيه رأيك يا حاج محمود.
ابتسم محمود بحرج مغمغما: كتير قوي يا داكتور، أشيل لوحدي تلت أوض ليه.
ردت سلوى بابتسامة باردة: ما العريس يا حاج هيشيل أوضتين، ده غير الأجهزة الكهربائية كلها، ده غير السجاد والستاير.
أجابتها تلك السيدة البسيطة التي تتابع الحوار بإنصات: العرف اللي ماشي أن العريس بيشيل العفش والعروسة بتجيب الأجهزة الكهربائية.
نظرت لها سلوى بنصف ابتسامة: احنا خففنا عنكم لأن مستوى الأجهزة والماركات اللي عايزينها مش هتناسب الظروف.
رفعت دعاء رأسها المنكس حياءا لتتسائل بضيق: حضرتك تقصدي أيه.
ضحكت سلوى وهي تتحدث بمرح مصطنع: قصدي أن عريسنا ورطنا كلنا باستعجاله، ده حتى احنا اتفاجئنا دلوقتي أنه عايز يتجوز في خلال سنة، وأكيد أنتم مكنتش عاملين حسابكم على الجهاز، وبما أنه هو اللي زنقكم يبقى يستحمل ويشيل التقيلة.
اندفعت السيدة البسيطة بعفوية: لا يا حبيبتي متقلقيش على شوارها، ده أنا من سنين كل شهر باستقضى لها حاجات واشيلها، ده أنا جايبة لها طقم الألمونية وهي في سنة ستة.
اطلقت سلوى ضحكة مدوية لتنتبه فجأة لخطأها، وتحاول كتم ضحكاتها بلا جدوى، تحت نظرات ياسر القلقة وهو يرى التحفز والضيق بعين محبوبته، والحرج بأعين والديها وشقيقه
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية اليمامة والطاووس)