رواية صرخات أنثى الفصل السابع والعشرون 27 بقلم آية محمد رفعت
رواية صرخات أنثى الجزء السابع والعشرون
رواية صرخات أنثى البارت السابع والعشرون
رواية صرخات أنثى الحلقة السابعة والعشرون
بُدد الضوء ظلام عتمته، فاستجاب جفن عينيه الثقيل له، فتحهما رويدًا رويدًا حتى اعتاد على ضوء الغرفة الغريبة التي لم يتذكره.
لم يستغرق الأمر الا بضعة دقائق وتقاذفت إليه ذكريات الليلة الماضية، نهاية باصابة كتفه، ضم آدهم كتفه واستقام بجلسته فتأوه بخفوت حينما لامست يده جرحه الحديث، ليجد شخصًا يهرع إليه يأمره بودٍ:
_متحاولش تحرك نفسك وجعك هيزيد مع كتر حركاتك، جرحك لسه طري من فضلك حاول تهدى.
انصاع إليه لشعوره بوجعٍ قابض، فعاد بظهره للوسادة من خلفه وراح يتساءل وعلامات الألم تتسرب على بشرته:
_إنت مين؟
رد عليه بابتسامة هادئة زادت من وسامة وجهه المحرف بجاذبية مهلكة:
_أنا دكتور يوسف، صديق عمران ودكتور علي.
وربت بيده على كتفه الغير مصاب:
_حمدلله على سلامتك يا سيادة الرائد.
منحه ابتسامة ممتنة لما قدمه إليه من معروف لا يُنسى:
_أنا بشكرك على وقفتك جنبي ومعالجتك ليا، اعتبرها دين في رقبتي وأكيد هيجي اليوم وهرده.
منحه ابتسامة رغم رزانة معالمه الا أنها كانت ساخرة لمن يبرع بتحليل الوجوه، فتابعه باهتمام لمعرفة سر سخريته الغريبة، فوجده يجذب المقعد لجوار الفراش، وقال بهدوء لا يفارق ذاك الشخص:
_أولًا مش أنا اللي عالجتك أنا دكتور نسا وتوليد، اللي عالجك مراتي دكتورة ليلى، ثانيًا مش هلوم على باقي جملتك لإن شكلك كده قضيت سنين كتيرة هنا وسط الأجانب فبقى عندك إيمان إن كل البشر زيهم مش بيعملوا حاجة من غير مقابل أو رد دين.
وتابع بنفس ابتسامته التي لا يتغير منوال سخريتها:
_شكلك نسيت هنا شهامة العرب والمصريين بالأخص يا سيادة الرائد!
تحرر وجه آدهم عن جموده وصاح ببسمةٍ واسعة:
_يا دكتور أخدتني لسكة غير سكتي ليه، أنا غرضي من كلامي أن تكون واثق إنك ليك صديق إضافي هنا وده بشكل كبير بسبب اللي عملته معايا وله كمان سبب، إني على ثقة إن دكتور علي وعمران الغرباوي معارفهم ناس تتاقل بالدهب ومعرفتهم كنز، تفتكر هفرط فيهم بسهولة؟
راق له حديثه، وأضرم بأنه شخصًا ذكيًا يعلم كيف يُحرف حديثه ليصبح مسيطرًا، فحافظ على ثبات ابتسامته وقال بخشونة امتزجت مع صوته الرجولي:
_إنت بقيت صاحبنا من اللحظة اللي رجلك خطت فيها الشقة يا حضرة الظابط.
ورفع صوته للأعلى قليلًا مناديًا:
_دكتور علي..
انتهى الاخير من المكالمة التي تلاقاها فأجاب عنها بالخارج حتى لا يقلق آدهم، ولج للداخل سريعًا فور سماعه صوت يوسف، فابتسم بفرحة حينما وجده استعاد وعيه،ويجلس على الفراش باستقامة، دنى منه وانحنى يضم كف يده بمحبة لاحت على وجهه البشوش:
_حمدلله على سلامتك يا آدهم، الحمد لله اصابتك كانت سطحية وربنا كتبلك النجاة.
نقلت ابتسامته حبه وتقديره لشخصه الطيب، وقال بامتنان:
_أنا بخير بفضل ربنا سبحانه وتعالى وبفضل مساندتك ليا إنت وعمران وطبعًا أصدقائه اللي عي فضول أتعرف عليهم.
أستأذن يوسف بالخروج، قائلًا باصرار:
_أنا هريح برة شوية يا دكتور علي، وإعمل حسابك مش هتتنقل من هنا الا لما تفطر معانا، عمران على الطريق وزمانه على وصول..
وغادر مرددًا:
_عن إذنكم.
خرج يوسف تاركًا علي برفقته، فجلس علي على المقعد قبالته فقال آدهم بحرجٍ:
_أنا بقيت كويس يا علي، وعايز أرجع شقتي.
عاد يوسف يطل برأسه من خلف الحائط، يحذره بنظرة صارمة:
_مفيش خروج من هنا الا بعد ما نطمن عليك ده لو على اعتبار إنك حابب فعلاً تتعرف علينا زي ما بتقول، فالموضوع ده هياخدله حسبة أسبوع كده يا حضرة الظابط.
وانحنى بجسده الرياضي يجذب الباب ليغلقه، هامسًا بغمزة:
_خدوا راحتكم.
ابتسم آدهم وهو يتابع مغادرته، وخاصة حينما رفع علي يديه باستسلامٍ:
_مفيش كلام بعد كلام دكتور يوسف.. الا بقى لو مش مرتاح هنا ساعتها هكلمه وأقنعه أنا.
نفى ذلك سريعًا:
_أنا لسه فايق قدامك من شوية يا علي، ملحقتش أشوف نفسي مرتاح ولا لأ، بس الجواب باين من عنوانه، حبيت يوسف ده جدًا.
ابتسم علي وهز رأسه بتفهمٍ، ثم قال بمزحٍ:
_وجمال بردو يتحب، أنا بقيت مصر أكتر إنك تخليك هنا يومين تلاته على الأقل دكتورة ليلى ويوسف ياخدوا بالهم من جرحك.
هز رأسه وعاد يفرد جسده باسترخاء، بينما يكافح علي عدد تلك المكالمات التي لا تنتهي، فجذب الهاتف بضيقٍ من تصرفات شقيقته الغير مدروسة وقربه من آدهم قائلًا بنبرة قاتمة لمسها آدهم وخشى على معشوقته من غضبه:
_طمن شمس انك بخير.
واستطرد بهمسٍ لم يكن مسموع الا له:
_ومن فضلك يا سيادة الرائد تقدر حساسية الموقف، وتأكد عليها متحاولش تكلمك بأي شكل الا لما يكون بينكم أي ارتباط رسمي.
هز رأسه بتفهمٍ، وسحب الهاتف من يده وهو يراقب انفعالات وجهه المتعصب، أجلى صوته باتزانٍ وقال بإيجازٍ:
_شمس أنا كويس، مفيش داعي اتصالاتك دي، من فضلك متزعجيش دكتور علي ولا أي حد، أنا بخير وأول ما أسترد صحتي هكلمك بنفسي، مع السلامة.
وأغلق الهاتف ثم قدمه لعلي متسائلًا بنزقٍ:
_تمام كده يا دكتور؟
التقط الهاتف وأعاده لجيب جاكيت بذلته السوداء ببسمة انتشاء:
_تمام يا حضرة الظابط.. خلينا متعاونين كده لحد ما نوصل مع بعض لبر الآمان.
قهقه ضاحكًا، وقال:
_هكون متعاون حاضر، مع إني كنت أتمنى تكون إنت اللي متعاون وتجيب مأذون واتنين شهود نكتب من دلوقتي ونخلص.
وضع ساقًا فوق أخرى مدعيًا غروره:
_آه ده أنت داخل على طمع بقى وعايزها كتب كتاب مش خطوبة! لا وما شاء الله أمالك وطموحاتك واصله السما مفكر إني بالساهل هسلكهالك من ايد عمران وفريدة هانم.
رمش بعدم فهم فتابع الاخير باستهزاء:
_الأخت الوحيدة دي بتبقى مشكلة، لا أخ عايز يفرط فيها ولا أم، عندك مثلًا عمران أشك إنه هيحاول يخترع بينكم ألف مشكلة عشان يأخر الجوازة.
أغلق عينيه بانهاكٍ داهمه، وهمس ساخطًا:
_بشرى لحرب جديدة داخلة عليا!!
******
فتح النافذة على مصرعيها، وانحنى بجسده إلى أخيه يحركه برفقٍ، مناديًا:
_سيف، قوم بقالي ساعة بصحيك يالا!!
فتح عينيه بتذمرٍ، وردد بخفوت:
_شوية يا يوسف بالله عليك.
ضم شفتيه معًا في محاولة لكبح أفكاره الجنونية لمحاولات إيقاظه، فاكتفى بجذب يده بقوة أرغمته على الوقوف أمامه، فردد بضيقٍ صريحٍ:
_أيه يا يوسف أنا معنديش محاضرات غير بعد الظهر، نازل زن على وداني من الصبح ليه، حرام عليك يا أخي!
رمقه بنظرةٍ باردة، وبهدوء أخرج مبلغ من المال من جيب بنطاله وجذب يد الأخر ليضعه بعنف بين لائحته هاتفًا بأمرٍ حانق:
_حالًا تنزل الماركت تجيب حاجات للفطار، وياريت تستنضف وتشرفني في أول حاجة أعتمد عليك فيها، يمكن لو أيوب مكنش نزل جامعته من بدري ونزل هو معاك بالي كان هيكون مرتاح ومطمن أكتر، بس هتعشم فيك خير وبتمنى عشمي ميحدفش فيا جون!
ارتبك أمامه وردد بتوترٍ من نبرته:
_استنضف أيه! أنا خلفيتي عن الفطار جبن ولنشون وبيضتين، عندك اختيارات أفخم!!
التقط نفسًا مطولًا وزفره هامسًا بتعبٍ:
_إعمل اللي تعمله، بس متتأخرش.
هز رأسه وهو يخفي انزعاجه من عدم استكماله لنومه المريح بعدما تمكن من الحصول عليه بصعوبة بعد هبوط أيوب لجامعته، فجذب قميصه الموضوع على المشجب وارتداه ثم إتجه للأسفل.
******
طرق الباب مرتين متتاليتين ومع أن استمع لصوت خطواتها تقترب من الباب حتى ترك ما يحمله من الأكياس على بابها وغادر على الفور.
فتحت “أديرا” الباب تتفحص الطارق فاندهشت حينما لم تجد أحدٌ، تحركت للدرج فاحتكت قدميها بأكياس الطعام الموضوعة من أمامها، حملتها وولجت للداخل تسرع للشرفة، فوجدت أيوب يغادر المبنى لسيارة الأجرة التي تنتظره.
جلست على الأريكة صافنة بما يفعله، وهمست بدهشة:
_ما بال هذا الرجل؟ هل يكرم الارهابي عدوه لهذة الدرجة!!
وتركت الأكياس عن يدها مستطردة بتوتر:
_أمره غريبًا حقًا!
******
صف عمران سيارته أسفل بناية يوسف، واستكان على مقعده ومازالت كلمات عمه تترنح بين غياب عقله فتجعل وجعه صعب التلاشي، تذكر كيف بقى لجوار والدته حتى الصباح بعد أن جفاه النوم والراحة، شعوره بالنفور والسخط لما فعله والده يتآكله حد الموت.
كان يظن انها تشتاق إلى زوجها فتشم ريحه فيه كونه يحمل ذلك الشبه البسيط من أبيه، ولكنه صعق حينما علم بما تخفيه ويخفيه عمه عنه.
أفاق عمران من غفلته على صوت دقات خافتة على نافذة سيارته، ففتح بابها وهبط يردد بدهشةٍ:
_سيف!
قُذف إليه العديد من الأكياس البلاستيكية، شملهم عمران بين ذراعيه ورفع رأسه من فوقهم ليتمكن من تسديد نظرة غاضبة لهذا الأحمق، وحينما لم يتمكن حرر لسانه السليط:
_دي مقابلة تقابل بيها حد على الصبح يا بجم!!
تسلل له صوته الغاضب:
_دي المقابلة اللي تستحقها، مرمطتي دي في حد ذاتها من تحت رأسك إنت والقتيل اللي فوق ده، دلوقتي اتدبست في الفطار والله أعلم هتدبس تاني بأيه؟
منحه نظرة ساخرة قبل أن يسدد له الأكياس مجددًا، ليعيد ترتيب قميصه الأبيض أسفل سترته الجلدية، سبقه بخطوتان تجاه المصعد ومازال سيف يراقبه بدهشة ازدادت حينما أشار له:
_لم شنطك وحصلني.. واتعلم بعد كده لما تطلب مساعدة من عمران سالم الغرباوي تطلب باحترام عشان تلاقي معاملة بالمثل.
كبت سيف غيظه داخل جوفه وضم الأكياس بصعوبة جعلت الاغراض تتناثر منه بأرجاء المصعد، اتخذ دقيقة فاصلة يسترد بها كامل ثباته، ومن ثم اصطنع ابتسامة:
_عمران باشا، لو تكرمت ممكن تساعدني وتطلع معايا الحاجة.. ده بعد إذن معاليك!
راق له نبرة احترام الأخير، فرفع كتفيه بعنجهية:
_درب لسانك على كده معايا عشان نرتاح بالتعامل مع بعض أكتر يا سيفو.
وانحنى إليه يحمل عنه عدد من الأكياس، فتهدل ذراع سيف بتعبٍ، دفع عمران يتساءل بدهشة:
_أيه كل ده؟ إنت عاملين عزومة للمغتربين ولا أيه؟
أدلى شفتيه بسخطٍ:
_ انت بتجامل القتيل ويوسف بيجاملك وكل ده على قفايا.. خد بالك!
ضيق رماديته باستنكارٍ:
_وماله يا عم ما نجامل بعض براحتنا إيش حشرك إنت في النص، ركز في مذاكرتك وتخرجك وفكك من المجاملات اللي مضايقة عين أهلك دي!
صرخ بانفعال:
_مهو أنا الصغير بينكم كل اللي يعوز طلب يجري يبعتني!
ضحك بصوتٍ استفزه، وخاصة حينما قال:
_يااه كل ده عشان نزلت تجبلنا الفطار، يا ريتك خليت أيوب نزل جابه هو.. على الأقل كان فتح نفسنا بوشه البشوش مش إنت اللي بوزك يسد النفس.
عند ذكره لرفيقه، ترك سيف الأكياس عن يده لتسقط أرضًا أسفل قدميه ولم يعنيه الأمر أكثر من صراخه المنفعل:
_مالكش دعوة بأيوب يا عمران، إبعد عنه.
رفرف بأهدابه باستغراب، وقبل أن يطرح محاضرة بالصميم وجد المصعد ينذره بوصوله للطابق المنشود، فأشار بحاجبيه إليه:
_لم شنطك وخلي أم الليلة دي تعدي علينا يا سيف.. أنا لسه نازل الشركة أول يوم بعد الاجازة وواخد التمام من البيت فمش فايقلك ولا فايق لدماغ المراهقين بتاعتك دي، رأسي فيها مدعكة كلاب صعرانه لو طلقتهم عليك وربي ليشخلعوك.
سبق له أن رأى ذاك الوقح حينما يتجرد من رداء العقل والرزانة، لذا لن يجازف أمامه، انحنى يجمع الأكياس وولج بمفتاحه الخاص للشقة، فاستقبله يوسف بوجهًا عابثًا:
_كنت فين كل ده يا سيف؟
تخطاه عمران ليضع ما بحوزته بيد يوسف، وأجابه بامتعاض ونظراته لا تفارق ذاك العابث:
_كان بيحاول يطبق أخر دروسي عن الوقاحة والبلطجة مسكين ملقاش حد قدامه غيري.. وطبعًا قدام استاذ المادة يتراجع التلميذ.. مش كده ولا أيه يا دكتور سيفو؟
امتعضت معالمه واحتقنت نظرته الموجهة إليهما، فترك ما يحمله على الطاولة القريبة، وتمتم بغيظٍ:
_والله ما أنا فاطر معاكم، هنزل الجامعة أحسن.
وتركهما وولج لغرفته يجذب أغراضه بينما نقل يوسف باقي الاغراض للطاولة، يكشف عن الأطباق ويستكشف هوية الطعام الذي أحضره شقيقه.
دنى عمران منه يتفقده بنظرة ثابتة كانت غامضة بالقدر الذي دفع يوسف لسؤاله:
_مالك؟
سحب نفسًا مطولًا يجابه به ما اعتراه بعد ليلة أمس المؤلمة، وتنهد بمرارةٍ وصلت لحلقه:
_مهزوم.. لأول مرة بحس بالغربة.. احساس العجز بيطاردني للمرة اللي مبقتش عارف عددها.. كأن الدنيا مش شايفة غيري وحالفة تكسرني بكل قوتها.. حالفة تهزم كل انتصار بحققه في كل معركة بخوضها ضد شياطيني يا يوسف.
ترك يوسف ما بيده وهرع إليه، ظنها محاولة منه ليجذب أطراف حديث مشاكس جديد بينهما، ولكن ما أوجعه سماع كلماته الجادة.
رفع يده على كتفه وتساءل بقلقٍ:
_عمران إنت بتتكلم عن أيه؟ في حاجة حصلت بينك إنت ومايسان؟
هز رأسه نافيًا، وتهرب من لقائه الذي سيفتك به، فترك جانب الطاولة وإلتهى بفرد باقي الاغراض.
أضاق عليه طريقه حينما جذب منه الأطباق ووضعها محلها، مردفًا باهتمام:
_كلمني زي ما بكلمك.. فيك أيه؟
استدار ليقابله، وقال بحزنٍ:
_كنت فاكر إن والدتي عندها شخصية قوية، طلع كل ده قناع وهمي.. شوفت حقيقيتها اللي وجعت قلبي وخلتني أتمنيت الموت قبل ما أشوفها بالشكل ده يا يوسف، واللي وجعني إن اللي كان السبب في وجعها هو اللي المفروض يكون أعز الناس على قلبي.. أبويا الله يرحمه!
تأثر لسماع ما قاله، فتسلل الألم ليخترق قلبه باجتيازٍ، جلس يوسف على أقرب مقعد ليساره يراقبه وهو يزيح دمعة كادت بالتحرر عن عينيه، وأجلى صوته بخشونة:
_فين علي؟
كعادتهم منذ صداقتهم التي جمعت ثلاثتهم لم يعتدوا يومًا نصب حصارًا مؤلمًا لاحدهم، يراه يحاول الهروب عن الاندارج بالحديث أكثر من ذلك لذا لم يضايقه بأسئلة لا داعي لها، بعلم بأنه استدرج منه ما سيقرر البوح عنه قط، لذا قال:
_علي جوه مع آدهم من ساعة ما فاق.
خلع عنه جاكيته، وأشمر عن ساعديه قائلًا وهو يتجه للداخل:
_كمل إنت، هناديهم يفطروا.
وكاد بتخطيه ولكنه عاد يتساءل وعينيه تبحث بالمكان:
_أمال فين أيوب؟
رد عليه وهو يضع الخبز بالأطباق:
_نزل من بدري.
أشار له بخفة واستدار ليتجه للغرفة، فتوقف حينما لمح سيف يرتدي حقيبته ويستعد للمغادرة، فاتجه ليعيق طريقه قائلًا بصرامة وحزم:
_مفيش نزول من غير فطار يا دكتور.. مش عايزينك تقع من طولك وأنت داخل على امتحانات، اقعد افطر وأنا هأخدك في طريقي.
رد عليه سيف وهو يتفحص ساعة يده:
_هتأخر كده يا عمران، هبقى أجبلي أي سندوتش على الطريق.
نزع عنه الحقيبة وجذبه لأقرب مقعد للطاولة، ثم حمل ما بيد يوسف من شطائر ووضعها قبالة الاخير، قائلًا ببسمة جذابة:
_كُل يا سيف ومتقلقش هوصلك في أقل من عشر دقايق، اسأل أخوك عن عفاريت الاسفلت هيدلك عليا أنا وجيمس.
انطلقت ضحكة صاخبة من يوسف حينما تذكر سباقاته الدائمة مع جمال طوال أيام الجامعة، فأكد بإيماءة صغيرة، مضيفًا بمشاكسة:
_أنا أصلًا أتعرفت عليهم بسباق عربيات، واتصدمت وقتها انهم في هندسة!!
تتوسعت حدقتيه بفضول، وتساءل:
_يعني جمال وعمران كانوا أصحاب الأول قبل ما تتعرفوا.
أومأ له عمران برأسه:
_أيوه.. أنا وجمال كنا في جامعة واحدة.
وغمز بمرح إليه:
_هكملك الحكاية على الطريق، كُل إنت عما أطمن على القتيل اللي جوه ده، وأصرف دكتور علي ورديته انتهت من بدري!
*******
أسند علي آدهم بعدما انتهى من الاغتسال، فجذب المنشفة بيده وهو يحاول أن لا يحيد عنه حتى لا يسقط، تشبث آدهم بالباب وقال ببسمة هادئة:
_مش هقع متقلقش، دي مش أول مرة أتصاب فيها، عندي خبرة في التعامل.
أصر على مساندته، قائلًا :
_الأمر ميسلمش، لو وقعت الجرح هيتأثر.
اتسعت ابتسامته فلأول مرة يختبر تلك المشاعر الغريبة التي تحاطه بمجال عمله، لطالما كان يواجه عقابته بمفرده، وإن سقط جريحًا كان هو من يعالج ذاته.
أحيانًا كان يضيق صدره من عزلته، بالنهاية هو وحيدًا حتى الشقيق لا يمتلكه، فلقد كان الطفل الوحيد لوالدته المريضة، فكان من الصعب عليها الحمل مرة أخرى بعد أن داهمها المرض، فاستكفت به وأغنته عن العالم بأكمله، وفجأة سحبت كفها عن كفه ورحلت!
والمؤلم بأنها لم تنال موتة رحيمة، وانتقامه لم يكن سهلًا بالمرة، تجرع بالصبر طويلًا وكم كان يتوجع وهو لجوار ذاك اللعين الذي تسبب بقتل والدته ويديه مكتوفة عن قتله، ازداد بوتيرة صبره لتلك اللحظة التي تشمل سكين انتقامه اللعناء من خلفه وها هو الآن يحقق انتصاره ويهدأ من روع قلبه الجريح.
تعجب علي من صمته الغريب، فظنه يتألم بوقفته الغير مريحة، انتصب بوقفته أمامه ليحيط كلا ذراعيه متسائلًا:
_إنت كويس؟ في حاجة وجعاك؟
أفاق على صوته فتمكن من رؤية الاهتمام واللهفة داخل رماديته، فاقتص بسمة جاذبة يليها صوته:
_متقلقش عليا يا دكتور علي، أنا اللي حصل معايا ده كله شيء تافه بالنسبة للي خضته واتعرضت ليه في شغلي.
وارتكن بجسده الثقيل على الحائط من خلفه وهو بتابع بنفس الابتسامة:
_من كتر ما اتعودت على الخطر بقيت بخاف من أي شخص بيحاول يدخل حياتي، عشان كده أنا وحيد.. لا ليا صديق ولا عمري سمحت لنفسي ارتبط وأعيش حياة طبيعية، لإن ببساطة هعرض أي شخص يفكر يدخل حياتي لخطر كبير.
واستطرد بألم جعل نبرته قاتمة:
_وللأسف قلبي طلع ندل وخان وعده ليا، وغصب عنه اختار اللي غابت عنه من سنين.. أكدلي إني كنت مغرور لما وثقت إني مفيش ست في جنس حوا تقدر تأخده مني.
وبسخرية قال:
_أختك عملتها من أول مقابلة وأول نظرة.
ضيق رماديته بضيقٍ من سماعه اعترافه بمشاعره هكذا بوجهه، ولكنه معتاد بالتحكم بانفعالاته لاقصى درجة ممكنة، يكفيه شعوره بصدق تلك المشاعر، يكفيه أنه قادر على تحليل شخصية ذاك الأدهم المتوحش كما يلقبه أخيه، حتى ولو اندرج خلف اسمًا حقيقيًا سيظل هو ذاته ذاك المتوحش!
يمتن كثيرًا كونه طبيبًا يتمكن من كشف المخبئ خلف تلك الثياب، وبالأخص خلف القلوب المبهمة، نظراته ثاقبة كالصقر الذي يتمكن تحديد أماكن ضعف فريسته.
سحب علي نفسًا مطولًا واطلقه بهدوءٍ اتبع رزانة نبرته:
_سيادة الرائد عُمر الرشيدي أو آدهم المتوحش قولي إنت قاصد أيه بكلامك ده! لو بتخوفني على أختي من دلوقتي عشان الرفض والبعد يجي من عندي فآسف هخذلك وأقولك مقدرش أكسر قلب بنتي!
ابتسم وهو يتطلع له بينما قام علي بجمع خصلاته الطويلة للخلف بانزعاجٍ مستطردًا:
_أنا معنديش شك فيك يا عمر، أنا واثق بعد اللي شوفته بعيني ده إنك قادر تحميها..
وتابع بهمسٍ رجولي ويده تشدد على كتف الاخير:
_أنا مسلمها لراجل مش لراكي!!
اقتحم جلستهما صوت ضحكات ذكورية، جعلتهما ينجرفان لذاك الوقح المستند على باب الغرفة، ويلتهم الموز بفمه بشكلٍ مضحك، قائلًا:
_خليني اعترف انك ماكر يا متوحش، اختارت تلف الدكتور علي علشان عارف إنه عاطفي وسهل، حظك بقى إنك داخل العيلة من أدق ثغراتها، ومختار العاشق الفارسي اللي نايم قايم يدافع عن الحب والعشق والذي منه، ومرتحش غير لما جوز أمي معاه في ليلة واحدة ودلوقتي الدور على المسكينة أخته!!
حدجه علي بنظرة محذرة جعلته يبتلع ما بجوفه وهو يشير له:
_الفطار جاهز.. كلك لقمة على السريع قبل ما تنزل شغلك ومتقلقش أنا هنزل الشركة ساعتين وهرجع لسيادة الرائد.
هز علي رأسه واتجه ليجذب جاكيته المتروك على المقعد ثم خرج مرددًا:
_هرجع البيت الأول أغير هدومي قبل ما أنزل المستشفى.
وأشار إليه:
_ساعد عمر.. أنا بره مع يوسف عايزة في موضوع كده.
راقب عمران أخيه وهو يغادر بنظرة ثابتة، عادت لتتعلق بذاك “المتوحش”، جاهد ليجعلها أشد حزمًا وغضبًا، فوضع ما تبقى بيده بفمه والتهمه ببطءٍ يتناسب مع بطء خطواته حتى بات مقابله:
_أنا لسه مش عارف هتعامل معاك على انهي أساس وانت حُر طليق كده ميربطكش بالبنت دبلة فضة حتى!
ومسح فمه من أثار الموز ليفاجئ من يراقبه بثبات:
_ها قولي كلمتها ولا أسلكلك موبيلي!
اعتدل بجسده مقابله يبتسم ساخرًا وهو يقرأ نية ذاك الخبيث الذي يحاول معرفة إلى أي حد تسوقه علاقته بشقيقته، ومع ذلك راق له الأمر وكما اعتاد دومًا استغلال أي خيطًا يصله لهدف بمهام عمله، فلا مانع بتطبيق نظريته بحياته العملية، فقال وهو يهذب لحيته البنية:
_طمنتها عليا مش أكتر.. بس ده ميمنعش إني محتاجك تسلك ليا حاجة تانية.
_نعم!
ضحك وهو يتابع امتعاض معالمه، فحل زر قميصه ومن ثم انتزع من حول رقبته سلسال من الجلد الأسود الرجالي ينتهي برسمة غريبة وكأنها ليدٍ تحمل قرص الشمس بين كفوفها.
وضعها بين يده وقال بأمرٍ صريح:
_وصلها لشمس، وبكده هتهدى وهتطمن عليا.
سحب رماديته عما وُضع بكفه لينهال عليه بنظرات كالسهام اتبعها قوله الساخر:
_من عنيا حاضر.. مش عايز المقطف يوصلك ليها بوسة طايرة في الهوا بالمرة ولا أيه وضعك!
وكور يده بغضبٍ تسلل بتهديده:
_اسمع أما أقولك لو فاكر نفسك أنك البطل المتوحش اللي عايش قصة ألف ليلة وليلة فأنا كفيل أفوقك وقتي! ده يا أخي اللي اختشوا ماتوا، واقف بكل بجاحة تديني تذكار ليها ده إنت جاي من مصر أمال لو كنت مغترب معانا كنت عملت أيه!!! والمصيبة الأكبر إنك ظابط يعني عدت معاك في الجراءة ووقاحتي أنا شخصيًا!
وتابع صراخه المتعصب:
_اسمع بقى المفيد وفكك من علي ومن فريدة هانم عشان محدش هيسد معايا، لو حصل والأمر نفذ وهيكون في رابط بينك وبين شمس فمفيش خطوبة كتب كتاب على طول، لإني شامم ريحة الانحراف من ساعة ما شوفتك.
ابتهجت معالمه بصورة أدهشت عمران، وخاصة حينما قال:
_والله تبقى عملت فيا جميل.. والجميل عندي رده دين!
سحب يده المصوبة تجاهه بيأسٍ، وردد:
_كده الخطر هيكون أكبر من الأول، أنت هتتحرش بالبت كده!!
وتنهد وهو يفكر بحلٍ سريع لتلك المعضلة، مجرد رؤيته جوار شقيقته سيدفعه حتمًا للقتل، ربما كانت مرتبطة براكان المنذر من قبل ولكنه لم يجد منه سوى رقي التعامل مع شقيقته التي لم تشكو منه يومًا بالرغم من أنه كان على علمًا بنزواته التي تجمعه مع بعض سيدات الأعمال فالأمر معتاد بينهم بالغرب بدناءة، ولكنه بالنهاية كان يعاملها بشكل لجم لسانه عن الحديث.
سحب عمران السلسال لجيب بنطاله وقال بنزقٍ:
_حكايتك محلولة بس خد بالك لو كتبت عليها هتترحل على مصر لحد يوم الفرح، آه ما أنت مش هتعملهم عليا لو إنت متوحش فأنا وقح وقارئ دماغك من بصة.
واستطرد بتهديد صريح:
_تحاول بقى تكلمها.. تقابلها… تعمل أي شيءمن بتوع طيش الشباب دول هشتكيك في السفارة وهبهدلك.. أنا معنديش هزار في المواضيع دي أنا لحد شمس وفيري وبقلب تنين.
تمردت ضحكات آدهم الصاخبة، فهمس بصعوبة حديثه:
_طب حاسب النار تحرقك!
امتعضت معالمه وجذب يده المصابه ليضعه على كتفه هاتفًا بغيظٍ:
_سند عشان تطفح.. عشت وشوفت عريس داخل على أهل العروسة متطوح برصاصة، بدل ما يخش بورد وشوكولا!
ضم يده لكتفه بألمٍ، وردد بضيق:
_براحة يا عمران.. واهدى كده شوية هو أنا بقولك جوزني طليقتك ولا عيني من مراتك دي أختك يا ابني!!
كز على أسنانه بقوةٍ كادت باسقاطهما من مجرد نطق لفظ زوجته دون حتى نطق اسمها، فحاول ينظم أنفاسه بهدوء حتى لا ينضم له لقب “الغيور المجنون” ألا يكفيه أنه “الوقح” المعهود بين أصدقائه وعائلته!
*******
بالخارج.
أشاد “علي” بفكرة “يوسف” المطروحة من أمامه، ودرسها بعناية من كل زاوية، بينما تابع هو:
_ده اقتراحي يا علي، بدل ما تخصص المستشفى للطب النفسي خليه عام، وأنا وعد وقت ما تجددها وتخلص هكون معاك أنا ودكتورة ليلى كتف بكتف، وبمناسبة المعدات والأجهزة اللي هتحتاجها فأنا أعرف مصانع كويسة جدًا في الصين مدير المستشفى بيستورد منهم، هكلمه وأجبلك الميل بتاعهم تتفق معاهم.
وضع الخبز عن يده بعدما قضم منه، وردد بتخوف:
_مش عارف يا يوسف مش حابب أخوض في شيء زي ده، دي مسؤولية هتكون كبيرة عليا أوي.
تساءل بذهولٍ:
_من الناحية المادية؟
أجابه نافيًا:
_لأ خالص الفلوس أخر شيء أشيل همها، ورثي من بابا مقربتلوش، حتى الفلوس اللي عمران بيحولهالي في حسابي البنكي من أرباح الشراكات في حسابي زي مهي، الفكرة بس إني مش حابب أكون مسؤول عن عدد أطباء ومستشفى كبير بالحجم ده جربت قبل كده وفشلت، أنا مش حابب أكون بالأدارة عايز أمارس مهنتي بس.
هز رأسه بتفهمٍ، وارتشف من كوب قهوته الساخن عسى صداع رأسه لقلة يومه يخفف عن حدته، وقال برزانة:
_ومين قال أنك هتتمنع تزاول مهنتك! أنا مش شايفها حجة على فكرة ممكن ببساطة تختار حد يكون مسؤول عن المستشفى غيرك.. ومش شرط يكون دكتور على فكرة.. مثلًا يكون عنده خبرة التعامل بالادارة لإن الموضوع هيكون زي مشروع استثماري.
شاركهما سيف وجهة نظره بعدما تابع حديثهما باهتمام منذ بدايته:
_هتكون فكرة حلوة لو اختارت طقم العمل كله من مصر، إنت عارف إن التعينات والمرتبات هناك واقعه وكمان من نحية تانية هتحس بالارتياح وإنت شغال وسطهم على الأقل مش هتحس نفسك غريب عنهم. فبكده بتكون ضربت عصفورين بحجر واحد.
اتسعت ابتسامة علي، وقد ساقه لنقطة جعلته يهيم بما سيفعله بالايام القادمة ليحول مشفاه الصغير لمركز ضخم مؤهل لاستقبال جميع التخصصات، كان سابقًا حلمه ثمين ولكن بمجرد أن ابتعدت عنه يارا خطيبته السابقة وتركته يديره بمفرده فقد شغف البقاء وأغلقه منذ فترة طويلة، كما أن اقتراح يوسف صائب للغاية، لما عليه أن يدير المشفى بنفسه سيجد أخر بديل عنه وسيمارس مهنته التي يعشقها بحرية تامة.
قطع حديثهم وصول آدهم برفقة عمران الذي سانده لأقرب مقعدًا، فنهض يوسف ليجلس جواره مقدمًا الطعام إليه، ومتابعًا حديثه مع علي.
جلس عمران قبالتهم وبدأ بتناول طعامه وعينيه لا تفارق سيف الذي ينغرز رأسه بالكتب من أمامه، فقال ببسمة مشاكسة:
_خف شوية يا علي..يوسف صاحبي أنا لو نسيت.. من فضلك راعي شعوري لحسن بغير بعد عنك وعن السامعين!
زوى علي حاجبيه بدهشة من حديث أخيه، بينما انتقلت عين يوسف لاخيه الذي استشاط غضبًا، ونهض يحمل كتبه صائحًا بانفعالٍ:
_عن أذنكم أنا نازل.
ضحك يوسف وهو يهز رأسه بيأس بينما ضحك علي وآدهم لفهم مضمون حديثه، وسهل لهم الأمر حينما نهض عمران خلفه يردد:
_خلاص يا سيڤو متزعلش تعالى كمل أكلك ومتقلقش مش هكلم أيوب تاني.. أوعدك لو لمحته حتى صدفة هديله قفايا.. وهعمله block.
رمقه بازدراء وهو يفتح باب الشقة الذي كاد بالسقوط من فرط قوته، فلحق به عمران وهو يناديه:
_استني يــلا… بهزر معاك يخربيت مخك!
هرول خلفه للأسفل ومن خلفهم ضحكات الشباب المازحة، وفضول آدهم للتعرف على أيوب الذي يشاهد غيرة غريبة من نوعها، ألا يكفيه ذاك الوقح الذي كاد بقتله بالداخل، على الأحرى هؤلاء الشباب معاتيه وعليه الاحتراس منهم!
*******
_إنتِ ملكي أنا سامعة… أي راجل عينه هتلمحك هعميه.. ولو وصلت إني أقتلك مش هتردد ثانية واحدة سامعة!!!
_ سبق وقولتلك قبل كده إن في اليوم اللي هتجمعنا قصة حب هتكون نهايتها موت حد فينا.. أنا مش الشخص اللي تسيبه واحدة كانت في حياته..
_بصيلي وملي عنيكي مني، لإنك صعب تنسي ملامحي أبدًا.
انتفضت بمنامتها بفزعٍ وعينيها تبحث بالغرفة عنه، متأكدة بأنها استمعت لصوته، دموعها تنهمر دون توقف ويدها تكبت شهقات دموعها حتى لا توقظ شقيقتها، يكفيها بما تخوضه يكفيها ما تتعرض إليه.
نهضت زينب عن الفراش واتجهت لحمام الغرفة بخطواتٍ ثقيلة، وقفت قباله المرآة المواجهة لحوض الاغتسال ورفعت المياه لوجهها عساها تستعيد وعيها من تلك الغفلة القاتلة، أدمعت عينيها وبهتت معالمها لتزيح ستار ماضيها الذي يقلب حاضرها ومستقبلها.
**
انتهت لتوها من زيارة بعض الأماكن السياحية برفقة رحلة جامعتها، فاتخذت ذاك المقعد استراحة قصيرة لها ولقدميها المتورمة، نزعت زينب عنها حذائها الجديد وتفحصت أصابع قدميها بألمٍ جعلها تتأوه بخفوتٍ، فخطفت نظرة لاستاذها وللطالبات اللاتي يلحقن به، واطمئنت بأنهن بالقرب منها، فمددت ساقها لتنال قسطًا من الراحة قبل مغادرتها.
استمتعت بهذا الهدوء المريح لأعصابها بعيدًا عن العنف الذي تتعرض له على يد أخيها الأصغر بعد سفر أخيها الأكبر للخارج غير عابئ بها ولا بما يفعله أخيه بها، وفجأة مزق هدوئها قط يحمل ساقه التي تنزف بغزارة، وكأن أحدًا تعمد غرس سكينًا حادًا بساقيه.
كانت دومًا تخشى الحيوانات حتى لو كانت أليفة ولكن رؤيتها له هكذا جعلتها تشفق عليه، ففتحت حقيبتها وجذبت ما تحمله من شاش ومعقم واتجهت بساقيها المتعرجة إليه، فجلست أرضًا تداوي جرح ساقه بما تحمله وانتهت بعقد الرابطة الطبية التي لا تفارق حقيبتها كطبيبة تحت التمرين اعتادت على حملها لبعض الاسعافات الأولية، فقامت بمعالجته ببراعةٍ وفور انتهائها جذبت زجاجة المياه لتنظف الدماء عن يدها.
حاولت فتح الزجاجة دون أن تلطخها بما تحمله من أثار الدماء، فتفاجئت بمن يجذب عنها الزجاجة ويسددها فوق يديها معًا فرددت ببسمة هادئة ظنًا من أنها احدى زميلاتها:
_شكرًا.
وحينما انتهت وجدت مناديل ورقية تُقدم لها، رفعت زينب عينيها تلك المرةٍ بهدف الشكر الخالص لمن يقدم مساعدة نبيلة كهذة، فتفاجئت بأن من يقف قبالتها لم يكن سوى شابًا يتطلع لها بزرقة عينيه باهتمامٍ.
تحاملت على قدميها حتى وقفت قبالته، فوجدته يتطلع لها بانبهارٍ وكأنه لتوه يرى عروس البحر الهاربة.
وجدها رائعة بقفطانها المغربي، حجابها الطويل وملامحها الجذابة، ظنته لوهلة أخرس لا يجيد الحديث، ولكنه بعد دقيقة من تأملها قال:
_العفو.
رمشت بارتباكٍ من نظراته، وكأنها تمتلك ملامح فاتنة تجعله بكل ذاك الارتباك أمامها، قلبها بدأ يخفق داخلها بشراسة، وخاصة حينما قدم لها زجاجة المياه خاصتها قائلًا بخشونة:
_مساعدتك للقط شيء ظريف، شكلك كده بتحبي تربية الحيوانات.
ضحكت ساخرة واستنكرت قوله:
_أنا!! بالعكس أنا بترعب من الحيوانات بس كدكتورة حسيت إني مينفعش أسيبه كده.
منحها نظرة مطولة لما ترتديه، وقال:
_شكلك مصرية.. افتكرتك من لبسك إنك مغربية.
أجابته بابتسامة صغيرة:
_أنا فعلًا مغربية، بس بقدر أتكلم نبرتكم عادي لأنها سهلة ومفهومة جدًا، تحب أكلمك مغربي؟
هز رأسه نافيًا، مضيفًا بمزحٍ:
_لا أبوس إيدك مش طالبة، أنا من الصبح في المصنع بحاول أفهم حرف وسط العمال حاولت أكلمهم انجلش مش جايبة معاهم.. خليكي كده تمام.
رفعت يدها تخفي ضحكتها، وما أن لمحت الفتيات تصعدن للحافلة حتى أغلقت حقيبتها وهي تودعه:
_عن إذنك.
تدرجت معالمه وهو يجدها تغادره، فلحق بها بتوترٍ:
_طيب مش هتقوليلي اسمك أيه؟
منحته نظرة متوترة، بأي حق تخبره بأسمها وحتى إن أظهرت ضيقها لذلك ولكنها لا تنكر سعادتها باهتمام ذلك الجذاب بها، فهمست بخفوت:
_”زينب”.
منحها ابتسامة واسعة وهو يقول:
_وأنا “يمان”
وقدم يده لها قائلًا:
_اتشرفت بيكِ يا دكتورة.
وزعت نظراتها بينه وبين كفه الموضوع، فشددت بيدها على الحقيبة المحيطة لكتفها، لتبدي له عدم رغبتها بالتلامس، واكتفت بهزة منها:
_وأنا كمان اتشرفت بيك.. عن إذنك الباص هيفوتني.
وتركته واتجهت سريعًا للحافلة، فسحب كفه وهو يمرر لسانه على شفتيه ببسمة واسعة، واستدار ليشير لاحد رجاله المختبئين من حوله باسلحتهم:
_اركب عربيتك فورًا وامشي ورا الاتوبيس ده، البنت اللي كانت واقفة معايا من شوية عايزك تجبلي عنوانها وقررها!
عادت من شرودها على صوت فاطمة التي تناديها بقلقٍ:
_زينب انتي كده هتتأخري على الجامعة في أول يوم!!
أغلقت الصنبور وخرجت تجيبها:
_أنا صحيت أهو متخافيش مش هتأخر
أشارت لها على الفراش:
_طيب يلا بسرعة غيري هدومك عما أشوف علي، هو قالي أول ما تصحي أبلغه عشان يوصلك.
رددت بحرجٍ:
_مالوش داعي يا فطيمة.
تجاهلتها وهي تتجه لغرفة علي هامسة:
_والله ابقي قوليله الكلام ده بنفسك.
*******
وصل عمران للشركة بعد غياب، فولج أمام الجميع ببذلته الرمادية الآنيقة وخطوات ثابتة تحازي نظراته الموزعة بين الجميع بكل ثقة، ذاك الوقح يملك سحرًا وجاذبية وطريقة تعامل تجعل من أمامه مشتت بين شخصه الغامض..
انتهى بطريقه بمبنى مكتبه، فتوجه ليحرر مقبض بابه ومن خلفه يتبعه السكرتير الذي يهرول ليجمع الأوراق الهامة إليه، وفي ظرف دقائق معدودة تحول مكتبه لغامة من الأوراق، وكأنه كان باجازة طويلة المدى، فصاح بمن أمامه:
_حيلك حيلك، أنا مش آلة عشان أراجع وأمضي كل الورق ده.. براحة عليا يا حسام أنا لسه راجع من تعب مش من رحلة استجمام أنا!
ابتلع السكرتير ريقه بحرجٍ، وسحب رزمة من الأوراق مرددًا بندمٍ:
_آسف..بس حضرتك يا مستر عمران بقالك فترة مبتجيش وأحمد باشا مقدرش يخلص أوراق المشاريع من غير وجود حضرتك وبالأخص المول التجاري حضرتك عارف إن المشروع ده من أهم المشاريع اللي هتقوم بيه الشركة والتأخير فيه مش لصالحنا.
هز رأسه بتفهمٍ وقال:
_جهز الملف على فلاشة لإني اختارت الشركة اللي هتقوم بالمشروع ده معانا.
أومأ برأسه في طاعة، فألقن له عمران أمره الاخير:
_ابعتلي كوباية قهوة مظبوط ومتدخلش عليا أي مخلوق لحد ما أفض المغارة اللي فتحتها عليا دي.
اشارات عديدة من رأسه واختفى مغلقًا الباب من خلفه، ليبدأ عمران بعمله الشاق حتى احتد الألم برقبته، فترك ما بيده وتعلقت نظراته بالباب الجانبي المتصل بمكتبها ولجواره الباب المتخصص لقاعة اجتماعات مجلس الادارة.
نهض عن مكتبه ليتبع طريق مكتبها، ففتح بابها ليتمعن تطلعه بها بعشقٍ يريح قلبه وتشدد أعصابه من فرط العمل.
وجدها تشاركه الانهاك بالعمل على حاسوبها، وعدد من الأوراق الهامة من أمامها وكأنها تحسب مساحات هامة لأحد المشاريع، ترتدي سترة من اللون الأزرق ومن أسفله قميصًا أبيض يتشح بجرفات من اللون الأسود وحجابًا أسود اللون ينخفض ليخفي جزائها العلوي باحتشامٍ راق له.
فاقترب ليتمكن من رؤية ما ترتديه بالكامل خشية من أنها ارتدت بنطال لتناسب تلك الطلة المعتاد له رؤية سيدات الاعمال يرتدون مثل تلك النوع من البذلات الحريمي، تنفس براحة حينما وجدها ترتدي تنورة فضفاصة من نفس اللون.
لفت انتباهه وجود تلك المزهرية القريبة من الباب، فسحب منها أحد الزهور واتجه جلسة يمررها على يدها الممسكة لكوب العصير بين يدها، فانتفضت بجلستها بفزعٍ تلاشى بخفوت أنفاسها:
_عمران! خضتني!
ابتسم هامسًا:
_حبيب قلبه بيتخض من جوزه يا ناس!
واستقام بوقفته قبالتها، فجذب يدها إليه مرغمها على الالتفاف وأطلق صفيرًا هائمًا:
_أيه الشياكة دي كلها، إنتِ نازلة تشتغلي ولا تسرقي قلبي!
سحبت كفها عنها بخجلٍ، ورددت بتلعثمٍ:
_إنت أيه اللي جابك هنا.. أكيد وراك شغل كتير بعد الأجازة دي.
هز رأسه موكدًا لها، وتابع وهو يقترب منها حتى سقطت على مقعدها المتحرك:
_ورايا بصراحة، بس مليت وحسيت إني مشتاقلك فقولت أجيلك أشبع عيوني وقلبي منك، وبصراحة كده شكلك هتبقي خطر عليا وعلى مستقبلي الفترة الجاية..
تراجعت برأسها للخلف محاولة الاستفسار بنظراتها عن معنى حديثه المبطن، فجذب الكوب وارتشف منه بتلذذٍ مستغلًا قربه منها:
_هممم… حلو العصير ده أول مرة أدوقه هنا… أمال ليه محدش بيقدمه ليا بيضحكوا عليا بالقهوة بس يرضيكي يا حبيب قلب جوزك!
دفعته للخلف وهي تشير له بارتباكٍ:
_ارجع يا عمران.. احنا في المكتب ميصحش كده من فضلك ممكن أي حد يدخل!
كبت ضحكته الخبيثة وردد بحزمٍ وبروده السابق معها:
_ما اللي يدخل يدخل، في أيه يا بشمهندسة أنا جاي أهزر معاكي اللي بينا شغل متنسيش إني مديرك هنا!
مسحت وجهها بغيظٍ، وصاحت بنزق:
_تمام فين الشغل اللي بنعمله هنا؟
منحها نظرة أهلكتها من هذا القرب، وتوزعت بينها وبين الحاسوب والاوراق:
_معرفش… اطبعي أي ملف نتناقش فيه، أو هرجع مكتبي أجيب كام تصميم ونشتغل مش حوار يعني!!
كادت بأن تمزق شفتيها السفلية، ورددت بنفاذ صبر:
_هو أنت من أمته بتشتغل على التصميمات بنفسك يا عمران!
هز كتفيه بعدم مبالاة:
_مدام معاكي أشتغل مشتغلش ليه!
أغلقت حاسوبها وترجته بتوسلٍ:
_طب ارجع مكتبك كمل شغلك وبعدين ابقى تعالى صمم براحتك.
تعمق بعينيه تجاهها وهمس:
_موافق بس بشرط.
ترقبته باهتمامٍ فوجدته ينحني تجاهها ليقدم لها وجنته فجحظت عينيها صدمة ودفعته للخلف بعصبية بالغة:
_إنت بتعمل أيه، عايز تفضحني أنا عارفة! والله يا عمران لو متعدلت لأقبل عرض أنكل أحمد وهروح أشتغل معاه لإنك مبقتش وقح بالبيت بس حتى هنا!
ضحك بملئ صوته وجلس على المكتب قبالتها يخبرها بجدية صادقة:
_شكلك فعلًا شغلك هيبقى معاه لإني مش هعرف أراكز بأي حاجه وانتي جنبي صدقيني.
ابتسمت بخجل وقد جاهدت لاخفائها، وقالت باستنكارٍ:
_من أمته ده ما أنا بقالي سنة شغالة معاك!
طرق على صدره بهيام:
_قصدك قبل ما كنتي تدخلي هنا وتعششي يا بيبي!
زفرت بضجرٍ:
_عمران.
_حبيب قلبه!
_وبعدين معاك؟
_تنفذي طلبي هنصرف أنا وشيطاني من قدامك، مقدامكيش حل تاني يا بيبي!
منحته نظرة عابثة، فأشار لها بالاقتراب، انصاعت إليه على مضضٍ، فقدم خده لها بضحكة منتصرة، فمنحته نظرة مغتاظة وقالت تجاريه:
_طيب ما تروح تخلص شغل ولما نروح نبقى نتفاوض.
هز رأسه نافيًا، فعاندته وهي تجلس على مقعدها من جديد مرددة بغيظ:
_روح مكتبك يا بشمهندس أنا محدش يتشرط عليا، يا أما هسيب الشغل من دلوقتي وهمشي.
منحها نظرة عاشقة قبل أن ينحني ليطبع قبلة على يدها، متابعًا ببسمة جذابة:
_هزاري التقيل هخففه حاضر، بس خدي بالك كل عرض وليه طلب وعقاب… سلام يا بيبي!
وتركها وغادر لمكتبه فابتسمت وهي تضم الزهرة إليها بهيامٍ، لا تجد سوى كلماته ونظراته التي تركها تحيطها حتى بعد رحيله.
*****
بحثت عنه بغرفته فلم تجده، كادت بالعودة لشقيقتها ولكنها توقفت حينما لمحت ما وُضع على السراحة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساحرة، فأغلقت بابها واتجهت تجذب زجاجة عطره الباهظة تزيح غطائها وعينيها تراقب الجناح بخوفٍ أن يُقبض عليها.
نثرت منها فاطمة على يدها وقربتها إلى أنفها تشمه بقوةٍ وكأنها مدمنة تتعاطى المخدرات، لوهلة شعرت بأنها سترتكب أول سرقة لها، فستقوم الآن بسرقة تلك الزجاجة التي ستكاد تشن جنونها.
فرفعتها قبالة عينيها وهي تردد بحزنٍ:
_معقول يا فاطيما هتسرقي!!
_ما إنتِ عملتيها قبل كده وسرقتي قلبي ملومتيش نفسك ليه؟
تحررت كلمات ذاك العاشق الذي يتابعها بنظرات عتيقة، يستند بجسده على باب غرفته مربعًا ذراعيه أمام صدره، يتابعها بحبٍ ونظرة حنونة على ارتباكها وانتفضتها بفعله، فدنى منها يهتف بخشونة نبرته الذكورية:
_اهدي حبيبتي ده أنا!
أحمق هو! تكاد تقتل خجلًا كونه هو بالذات من يراها بتلك الحالة، ابتلعت ريقها وهي تقترب لتضعها على السراحة بارتباكٍ:
_آآ.. أنا.. بس… آآ… كنت… آ.
ابتسم وهو يخبرها بنبرة بطيئة تستشف مضمونها:
_الأمان اللي بيوصلك مش بسبب البرفيوم، الادمان اللي عندك ده لحضني يا فطيمة… حضني هو اللي بيطمنك وبيمدك بالأمان.. البرفيوم فاكس!
ضمت شفتيها معًا بحرجٍ، اللعنة هو حقًا يشعرها وكأنه محتبس داخل عقلها فيعلم ما الذي يطوف تفكيرها! تخشى يومًا إن أرادت أن تكذب أو تخادعه بأي موقف قد تتعرض له مثل باقي النساء، أحيانًا تشعر وكأنه ظابط شرطة وليس بطبيب نفسي.
انشغالها بالتفكير جعلها لا تراه يقترب ليضمها إليه فجأة، فارتبكت من فعلته وتصلب جسدها.
شعرت بيده يمسد على خصرها وهو يهمس لها:
_كل ما تحبي تحسي بالأمان تعالي لحضني من غير أي كلام وأنا هفهم.. وأوعدك مش هسألك مالك لو حسيتك مش حابة تتكلمي.
أغلقت عينيها باستسلام، ورفعت يدها تتمسك بجاكيته، لقد صدق ما أخبرها به ذاك الشعور ينبع لقربه هو، لسكينة ذراعيه من حولها، تشعر بوجوده بأنها تحتمي بين حوائط متينة تحميها من نسمات الهواء القارصة، استكانت برأسها على كتفه ويده تقرب مؤخرة رأسها لعنقه، لا يود أن تغادره أبدًا ليته استقال عن مخططاته بالبدأ بتجهيزات المشفى، يود أن يظل لجوارها هكذا.
ابتعدت عنه فاطمة بخجل جعلها ترتجف بصورة بدت تنبهه بضروارة التعامل الحذر على الفور، فقال:
_زينب جهزت؟ أكيد زمانها مرتبكة لأن ده يومها الأول صح؟
نجح بسحبها خارج تلك الدائرة فقالت وهي تلحق خطواته لخزانته:
_مش عارفة بس أكيد هي مرتبكة خصوصًا انها هنا في بلد غريب.
جذب ملابسه وخرج يضعها على الفراش، فقالت وهي تشير له على باب غرفتها:
_هروح أبلغها تجهز علشان متتأخرش.
ابتسم وهو يشير لها:
_تمام يا حبيبتي.. أنا شوية وهكون جاهز أنا كمان.
ابتسمت بحبٍ لسماعها تلك الكلمة مرتين، فهزت رأسها وهي تغادر بينما يظل هو بمتابعتها حتى أغلقت الباب فازدادت ابتسامته، فانحنى يتلقف الملابس وغادر لحمامه الخاص.
******
جمعت كومة الملابس وحررت عود الثقاب لتلقيها عليها، وجلست تراقب احتراقها باستمتاعٍ غريبًا، وكأنها تحرق جسده حيًا وتنتقم منه على ما فعله بها، تتمنى أن تشعر بالسكينة التي لم تزورها يومًا منذ معرفتها للحقيقة، والمؤلم بأنها تشعر بانتكاس حالتها بعدما تعدت مرحلة الشفاء.
بحث عنها كثيرًا بغرفته وحينما لم يجدها هرول لجناحها الخاص فصعق حينما وجد النيران تتأكل الأرض مضرمة ملابس رجالية بدت له تفاصيلها بأنها تخص أخيه، انتفض محله بفزعٍ وقبض على معصمها يبعدها عن مصدر النيران الذي تسلل لسجادة الغرفة هادرًا بفزعٍ:
_فريدة!!
رفعت جفنيها الثقيل بحركة بطيئة له، فانهمرت الدموع المحتبسة وهي ترمقه بنظرة معاتبة:
_عايزة أنتقم منه ومش عارفة إزاي يا أحمد!
برق برماديته بصدمة من الحالة الغريبة التي تبدو عليها الآن، فأحاط وجهها بيديه معًا:
_فريدة فوقي من الحالة اللي انتي فيها دي يا حبيبتي، بصي حواليكي سالم مبقاش له وجود خلاص أنا اللي جنبك ومعاكي… هعوضك عن كل ده صدقيني.
اكتفت بهزة رأسها بالرغم من إنها مازالت تشتعل داخليًا، فجذبها أحمد للمقعد البعيد عن النيران وعاونها تجلس عليه ثم هرع لحمام الغرفة يحمل سطل من المياه ويحاول اطفاء الحريق قبل أن يتوسع باضراره وهو على اتقان إن قرار البحث عن منزل أخر هو الأنسب لتخطي حالتها تلك.
انتهى أخيرًا من اطفاء النيران، وجلس أرضًا يضم جبينه بيديه لمجرد أن تسلل له بأنها بحالة قد تجعلها تؤذي ذاتها، خاصة بجمود جلستها كالإنسان الألي.
تابعته فريدة بنظرة ثابتة وكأنها قرأت ما بعينيه لها، فقالت ببسمة هادئة:
_متقلقش عليا أنا كويسة، ممكن حالتي تكون ساءت شوية بس أكيد لما هرجع أتابع مع دكتوري هكون أحسن.
زحف حتى وصل لمقعدها وردد بحزنٍ:
_وليه كل ده من الأساس، انسي اللي قولتهولك وانسي كل شيء أنا عايزك جنبي يا فريدة.. محتاجلك!
ترقرقت دموعها وببكاء رددت:
_وأنا كمان محتاجالك.. زمن احتاجتلك والنهاردة محتاجالك عن أي وقت.. محتاجة إنك تطمني إن كل ده هيعدي، وإن وجودك جنبي وجوازي منك حقيقة.
جذبها إليه بقوة ليضمها بين أضلعه، فتمسكت به وهي تهمس ببكاء:
_أنا آسفة يا أحمد… أنا مكنتش عايزة حياتنا تبتدي بكده بس غصب عني اللي عرفته كان صعب.
طبع قبلة على جبينه ويده تحيط شعرها القصير:
_أرمي كل أوجاعك ليا يا فريدة، أنا جاهز والله أتحمل كل ألم اتعرضتي ليه.
وأبعدها عنه يضم وجهها وهو يواجهها:
_قولتلك اعتبريني سالم وعاقبيني أنا… لو هو اللي قدامك هتعملي أيه؟
احتقنت معالمها بقسوةٍ، تتمنى لو انتزعت عنه عينيه التي تشبه عين زوجها، بالرغم من أنه أكثر جاذبية وأكثره حنانًا لا يتشابه بينهما أي شيء سوى القليل ولكنها تجحم بالنيران فور نطقه لتلك الكلمات، فارتدت للخلف وهي تحذره:
_لا يا أحمد إنت مش هو… إنت مش الشيطان ده.
زحف إليها مجددًا وقال باصرار:
_لو انتقامك منه هيريحك خدي حقك مني، أنا راضي لو ده هيبرد النار اللي جواكي.
تعمقت بتطلعها داخل عينيه بقوةٍ، وهزت رأسها تنفي ما قال، فاتجه يساندها ليخرج بها لغرفته، جلست على الفراش ووجدته يسكب كوب من المياه إليها، فارتشفته على مهلٍ وراقبته وهو يتجه للخزانة ليستعد لتبديل ملابسه قائلًا:
_في بيت مناسب منزلين اعلانه النهاردة، السكرتيرة بعتتلي التفاصيل أيه رأيك تيجي معايا نبص عليه.
هزت رأسها بغير استحسان:
_مش حابة أخرج.. أنا هنام.
استدار يقابلها بعدما نزع قميصه:
_تنامي أيه إنتِ لسه صاحية إنتي وعمران من شوية!
تهربت منه وهي تتجه لفراشه:
_عايزة أرتاح يا أحمد.
هز رأسه بتفهمٍ، واتجه يجذب جاكيته يرتديه ومن ثم صفف شعره وانتهى باقترابه منها يجلس خلفها.
احتسبت بكائها حينما لفحت أنفاسه رقبتها فعلمت بأنه خلفها، ربت على خصلاتها القصيرة وهو يخبرها:
_أنا مش هتأخر.. لو احتاجتي حاجة كلميني.
هزت رأسها إليه، وهي تدعي نومها وحينما تأكدت من رحيله نهضت تتجه لأحد الادراج ثم جذبت الملف التي نقلته منذ الصباح تتمعن به بارتباك لما ستقدم على فعله.
*********
ارتدى بنطاله وزرر قميصه الأبيض، فأتاه صوت طرقات على باب غرفته جعلته يردد:
_ادخل.
ولجت شمس إليه تخطو على استحياء حتى باتت جواره لتطبع صورتها بالمرآة من أمامه، ابتسم بمكر وهو يراقب ارتباكها وقال:
_والله بقى كويس وإنتي كلمتيه وسمعتي صوته أعملك أيه تاني عشان تتأكدي.
فركت أصابعها وتحاشت تطلعها إليه، وبصعوبة قالت:
_ينفع أروح أطمن عليه.
استدار علي إليها وهو يضع ذراعيه بالسترة:
_لأ يا شمس مينفعش، عمر قاعد في شقة اصحاب عمران وحتى لو مكنتش شقة شباب فمفيش بينكم رابط يخليكي تروحيله.
هزت رأسها بتفهمٍ رغم حرقة قلبها المتلهف للاطمئنان عليه، فدنى منها علي يخبرها برفق:
_شمس أنا عايزك تاخدي بالك من تصرفاتك أكتر من كده، ويا ريت تفكري في موضوع الحجاب لإن لا أنا ولا عمران متحملين نشوفك كده.
برقت بدهشة إليه، لم يسبق له أن طلب منها أن ترتديه وأن فعل كانت لترحب بذلك، فاستطرد بهدوء:
_أنا عارف إنك بتبصي لفريدة هانم، بس أنا واجبي إني أنصحك وأحميكِ مقدرش أقدم النصيحة دي لوالدتي حتى لو شايف تصرفها غلط، أنا واثق إنها هتيجي في يوم وهتأخد القرار ده ويمكن لما تبدأي إنتي هي تعملها بعدك.
ردت عليه بحرجٍ اكتظم حنجرتها:
_أنا كنت بفكر من فترة بالموضوع ده من فترة يا علي بس مكنش عندي الشجاعة أخد القرار ده، أنت عارف إن الحجاب لازم يكونله لبس معين ولازم اكون أخدة قراري فيه بدون تراجع.
أحاطها بذراعيه وهو يقربها منه:
_أنا مكنتش حابب أضغط عليكي وكنن أتمنى تأخدي القرار ده من نفسك بس صدقيني أنا مش قادر أتحمل أي نظرة ليكي من حد، عايزك غالية مش مباحة لأي عين تلمحك.. وواثق إنك هتستجيبي لطلبي.. ولو ده حصل هخلي مايا وفطيمة ينزلوا معاكي من بكره يشتروا معاكي اللبس اللي يناسبك، ها قولتي أيه؟
اتسعت ابتسامتها فرحة، وقالت:
_اعتبرني من دلوقتي اتحجبت.
ضمها إليه وطبع قبلة عميقة على جبينها وهو يهمس بفرحة:
_اعتبرتك واتخيلتك بيه.. بس واثق إنك هتكوني أحلى من توقعاتي.. بكره هجي معاكي بنفسي.
هزت رأسها بسعادة، وتركته قائلة:
_هشوف فاطمة.
غادرت من الباب الجانبي بينما وقف هو يستكمل ارتداء حذائه، فتسلل له طرقًا أخرًا على بابه، فصاح:
_ادخل.
انتصب علي بوقفته حينما وجد والدته أمامه، تلاشت ابتسامته البشوشة وهو يراقب اصفرار وجهها وتورم عينيها الغريب، فأجلى صوته:
_فريدة هانم إنتِ كويسة؟
دنت فريدة منه تتطلع إليه بنظرة مطولة، مرتبكة، كادت بالتراجع عما أتت إليه، فحطم صوته الحنون صوت تفكيرها القارع:
_ماما مالك؟
أخفضت وجهها أرضًا وقالت بصوتها المبحوح:
_طول عمرك وإنت كاتم أسراري، يا ترى ينفع أئتمنك على سر أخير يا دكتور؟
رمش باهدابه مطولًا وهو يحاول استيعاب ما يحدث معها، فقطع مسافاته بينهما يحاوط كتفيها بلهفة:
_طبعًا.. كل أسرارك وكل اللي تحبي تقوليه عمره ما يطلع لمخلوق.. بس طمنيني عليكِ عشان خاطري؟
رفعت إليه ما تحمله، فالتقطه منها باستغراب، تفحص صفحات الملف الذي بيده بفضول ازداد اتساع مقلتيه بصدمة ضربته بمقتل، وخاصة حينما تحرر صوتها الباكي:
_عايزاك تعالجني يا علي!
******
ترك ما بيده بملل، ونهض يتجه إليها، صفق الباب وولج للداخل يخبرها:
_وقت الاستراحة… قومي نتغدى بأي مكان.
زفرت بضيقٍ، وقالت دون أن تطلع إليه:
_لسه ساعتين على الاستراحة يا عمران.. روح كمل شغلك.
أغلق الحاسوب من أمامها وهو يردد:
_المدير مبيتعاملش معاملة الموظفين يا مايا، قومي يلا نختفي من هنا.
نهضت عن محلها ورددت بضجر:
_عمران أنا مش عارفة اشتغل منك كل شوية تدخل عليا بحجة شكل، من فضلك سبني أركز أنا كده الحسابات هتبوظ مني.
حاوط خصرها بيده:
_فداكِ وفدا حبنا يا بيبي.
وقبل أن تعترض جذب حقيبتها إليها وهرول بها للخارج تجاه المصعد، فما أن لمحه السكرتير حتى هرول من خلفه يناديه بصدمة:
_مستر عمران حضرتك رايح فين لسه في أوراق مهمة محتاجين امضاء حضرتك عليهم.
وقف قبالته وهو يواجه ضحكات مايسان الشامتة، فجذبها خلفه وهو يواجهه بنبرة حزينة:
_معلش يا حسام خالتي اتوفت ولازم ألحقها.. عن اذنك.
وجذب مايا المصدومة من خلفه وهو يصرخ بها مدعيًا تأثره:
_بينا يا مايا نلحق أمك تودعيها قبل الدفنة، الله يرحمك يا خالتي موتي وقطعتي في قلبي من وأنا تانية اعدادي!
انفجرت ضاحكة وانصاعت ليده التي تقذفها بالمصعد، فرددت بعدم استيعاب:
_انت كارثة أقسم بالله.
عدل من ياقة جاكيته بعنجهيةٍ:
_أنا محدش يتوقعني..
ودنى منها بقربٍ خطر وهو يهمس باغراء:
_مينفعش امك تموت وأسيبك في يوم زي ده من غير ما أقدم تعازي حارة تصبرك على الهم ده، شوفتي إن جوزك قلبه حنين ويميل لحبيبه من على بعد!
دفعته للخلف وهي تشير له:
_شوفت.. ابعد بس.
كاد بأن يقترب منها مجددًا فصاحت به:
_عمران اطلع من دور المتحرش ده، احنا في مكان شغل!
غمز برماديته بمشاكسة:
_قلبك مصيره يلين يا جميل.
ضحكت رغمًا عنها، وصفقت كف بالاخر وهي تردد بدهشة:
_جننتني معاك.. مبقتش عارفة إنت وقح ولا مجنون ولا بتستهبل ولا طبعك أيه؟
دنى منها ليحيط المصعد خلفها بذراعيه المقيدة لحركتها، وردد قبالة وجهها وعينيه لا تفارقها:
_أنا وقح ومجنون وحنين وعاشق ومتهور أنا كل الرجالة دول في بعض، كوكتيل!!
خفق قلبها بشراسة جعلتها تستمد أخر ثبات بعقلها، فأبعدته وهي تصيح بتحذير:
_الاسانسير فيه كاميرات يا عمران.. بطل فضايح!
ابتعد وهو يزفر بغضبٍ، فرفع عينيه للكاميرا بنظرة حانقة وطرق بخفة على بابه متمتمًا:
_مش بيتحرك ليه ده.. عطلان ولا أيه!
كتمت ضحكاتها بصعوبة وراقبت غيظه باستمتاعٍ واضح على معالمها.
******
انسحبت من أمامه وتركته يقرأ الملف بتمعنٍ، وحينما انتهى من القراءة وضعه جانبه على الفراش بصدمة، بالرغم من امتلاكه لتلك الخبرة المكتسبة بالطب النفسي كيف لم يلاحظ مرض والدته؟
تعاني منه منذ أعوام وكانت قبالة عينيه طوال ذاك الوقت كيف لم يلاحظ؟!
اللعنة عساه أصبح طبيبًا فاشلًا لتلك الدرجة، وكأن القدر يسوق له رحلة مريرة كالعلقم يعيشها مرة أخرى مع والدته مثلما يخوضها حتى تلك اللحظة مع زوجته..
كيف سيحتمل سماعها تتحدث بالسوء عن والده، سيمر بأصعب اختبارًا قد يساق إليه والمؤلم أنه لم يعتاد رؤية والدته ضعيفة وتبكي من أمامه كيف سيتمكن من عالجها وهو من سيزوره الضعف ويكسره دون رأفة!
سحب علي نفسًا مطولًا وأسرع يخطو من خلفها، فطرق باب غرفة عمه وناداها بحزنٍ:
_ماما افتحي!
لم تستجيب إليه، فعاد بكرر طرقه ويناديها:
_من فضلك افتحي وفهميني إزاي كنتي بتتعالجي كل ده وأنا معرفش! وليه قررتي أني أكون مسؤول عن حالتك دلوقتي، عندي اسئلة كتير هتقتلني افتحي وجاوبيني عنها عشان خاطري.
لم يستسلم بطرقاته القوية، وفجأة امتنع عنها حينما وجدها تفتح الباب وهي تحدجه بقوة غريبة ارتدتها بحرفية، لتشير بتحذير وصرامه:
_بطل تخبط بالطريقة المزعجة دي وأوعى تكسر الباب، أنا مش عايشة هنا في غابة عشان كل شوية واحد فيكم يكسر عليا الباب، كفايا عمك وأخوك السخيف اللي أكيد هيتعاقبوا… من فضلكم كفايا تكسروا الأبواب القصر اتبهدل!!
امتنع عن الضحك، يبدو أنه فاته أكثر من أمرًا، فرفع يديه باستسلام:
_مكنتش هكسره صدقيني!
هزت رأسها بعدم اقتناع وقالت:
_بكره هجيلك المستشفى ونتكلم، هنا لأ.. قولتلك الموضوع سر.. أيه مبتعرفش تصون أسرار المرضى يا دكتور؟
أدمعت عينيه تأثرًا بقوتها، فانحنى يقبل كلتا يديها وردد لها ببحة صوته الباكي:
_بعرف.. وبالذات لو حاجة تخصك.
تهاوت دمعة على وجنتها، فوجدت ذاتها تندفع برأسها على صدره هامسة ببكاء تحاول محاربته:
_أنا بحبك إنت وأخوك وشمس يا علي… عايزة أعيش حياة طبيعية بعيد عن كل اللي بيطاردني ده… من فضلك ساعدني زي ما ساعدت فاطيما.
ربت عليها وهو يخبرها:
_هنتخطى كل ده مع بعض… أنا هسيب كل حاجة عشانك.. مش هنزل المستشفى ولا أي مكان غير لما أطمن انك بقيتي بخير.
ابتعدت عنه تزيح دموعها وتلتقط نفسًا يسهل لها التوقف عن البكاء قائلة:
_لأ… حياتك مش هتقف عشاني يا حبيبي، انزل شغلك وسبني أخد الخطوة الجاية لما أحس اني قادرة أتكلم وأبدأ هجيلك.. متضغطش عليا من فضلك.
يعلم بأنها من المؤكد اتخذت عدة سبل عريقة لتصل لباب غرفته تطالبه بعلاجها والفصح عن طبيبها النفسي وما يتعلق بها، لذا رفض الضغط عليها وقال:
_أنا جاهز وموجود في أي وقت.
منحته ابتسامة متسعة وهى تربت على يده، وقالت وهي تبتعد عنه:
_هروح أبص على شمس… بقالي فترة مقصرة معاها ومبقتش عارفة حاجة عنها.
قال وهو يتبعها:
_راكان اتقتل.. طلع وراه مصايب.. الحمد لله إن ربنا نجد شمس منه.
جحظت عينيها صدمة:
_ااتقتل ازاي! ومصايب أيه؟
لمح زينب وهي تقترب منهما فقال:
_شمس هتحكي لحضرتك.. أنا هنزل أوصل أخت فاطمة في طريقي، وبعدين هروح المستشفى أقدم استقالتي لاني قررت افتتح المركز الخاص بيا ودلوقتي بس لقيت مين المدير المناسب؟
وكأنه يتحدث بالالغاز، موت راكان ومن ثم استقالة ومن ثم يخبرها بمدير وكلمات غريبة ختمها حينما قال ببسمة واسعة:
_حضرتك هتكوني مديرة المركز.. هلاقي مين يدير المستشفى أفضل من فريدة هانم الغرباوي!
بدت متخبطة مما تسمعه، فقالت وهي تتجه لغرفة ابنتها:
_انزل انت عشان متتاخرش انت وزينب وبليل نتكلم.
أومأ برأسه لها فتركته واتجهت لغرفة شمس ومنحت زينب ابتسامة هادئة وهي تشير لها بمحبة:
_بالتوفيق يا زينب.. بتمنالك يوم لطيف.
ابتسمت الاخيرة بامتنان:
_شكرًا يا فريدة هانم.
وتركتها وانضمت لعلي الذي تحرك بها على الفور.
********
انتهى أيوب من أول محاضراته وخرج يتجه للاستراحة الخارجية، فتعجب حينما وجد سيف بهبط من سيارة الاجرة ويسرع إليه بابتسامة واسعة، فنهض يتجه إليه باستغراب:
_سيف.. بتعمل أيه هنا؟؟
ترك البلطو الطبي منه على الاريكة وقدم له العُلبة التي يحملها قائلًا:
_طب سبني أخد نفسي الأول.
منحه نظرة ساخرة:
_على أساس انك جاي مشي!
واتجهت عينيه لتلك العلبة التي يحملها، فتساءل بذهول:
_ده أيه؟
جلس على الاريكة وهو يجذبه ليجلس جواره قائلًا بحماس:
_خمن يا ابن الشيخ مهران.
ضحك على طريقته الطفولية، وقال وهو يصدر صوت بأنفه:
_أممم.. أعتقد من ريحتها انها بيتزا ومش أي نوع ده نوع فاخر من الأخر..ريحة السجق باينه فيها يعني النوع اللي أنا بحبه!
ضحك الاخير وهو يهز رأسه مؤكدًا:
_مجاليش قلب اتغدى من غيرك فقولت أجي نتغدى مع بعض قبل المحاضرة بتاعتي.
برق بدهشة:
_انت سايب الجامعة وجايلي هنا عشان تتغدى مع بعض يا سيف!! انت بتهرج صح!
حرر العلبة وهو يشير له:
_ههرج ليه مجاليش قلب فعلًا أكل من غيرك.
حك لحيته بحزن وردد:
_أنا آسف إنك قطعت المشوار ده كله على الفاضي، إنت عارف اني بصوم كل اتنين وخميس والنهاردة الاتنين يا سيف.
لطم جبهته بتذكرٍ وهمس بضيق:
_ازاي فاتتني دي!!
ابتسم له أيوب بمحبة على ذاك الصديق الحنون الذي يقطع مسافات لأجل طعام يفضله هو، فقرب إليه قطعه البيتزا قائلًا:
_يلا كل إنت عشان تلحق جامعتك، قدامك مشوار طويل يا دكتور معرفش حقيقي هالك نفسك ليه في المواصلات!!
وضع القطعة من يده بالعلبة وأغلقها وهو يشير له بابتسامة مشاغبة:
_هنسخنها بليل على المغرب.. هتشاركيني فيها يعني هتشاركيني فيها.
هز رأسه بتعب وقال:
_يا سيف اتغدى وروح جامعتك هشيل ذنبك لبليل أنا!
عانده بنظرة جعلت الاخير يخبره بعد تفكير:
_طب خلاص قوم.. كده كده ده معاد شغلي، المطعم اللي بشتغل فيه بيقدم سندوتشات برجر انما أيه عظمة.. انا عازمك يا سيدي بدل ما أشيل ذنبك.
ضحك وهو يجذب كتبه ويلحق به قائلًا:
_فل أوي، اعمل حسابي في أربع سندوتشات مدام أكله حلو.
منحه نظرة محتقنة وصاح:
_انت داخل على طمع يا دكتور وده مش كويس لا لصحتك ولا لجيبي!
أشار بعدم مبالاة:
_جيبك وجيبي واحد يا بشمهندس، ولو قصروا هندخل على جيب جو!
ضحك بصخبٍ والاخير يشاركه الضحك، وفجأة تلاشت ضحكته حينما سأله أيوب باهتمام:
_طمني صديق عمران بقى كويس؟ أنا استغربت انه مشي امبارح حقيقي شخص لطيف جدًا من ساعة ما قعدت معاه وأنا محتار ومش مصدق إن في شخص كده!
تجهمت معالمه فجأة فسدد له نظرة اضحكت أيوب رغمًا عنه ومع ذلك همس بخوف:
_في أيه؟ مالك؟
جذب سيف البيتزا من يديه واتجه ليغادر هادرًا بانفعال:
_أنا غلطان اني جيتلك… ابقى خليه ينفعك.
وتركه ورحل بينما الاخر يهرول من خلفه ضاحكًا:
_استنى بس يا سيف أنا بهزر معاك… خد هنا بكلمك..
وركض خلفه وضحكاته تصل للاخير، ليصرخ من بين التقاط انفاسه:
_أقف يلا.. مش قادر أخد نفسي… عالجني بسرعة نفسي بيروح شكلي عندي كرشة نفس من البيتزا الفخمة دي!!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية صرخات أنثى)