رواية صرخات أنثى الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم آية محمد رفعت
رواية صرخات أنثى الجزء الحادي والعشرون
رواية صرخات أنثى البارت الحادي والعشرون
رواية صرخات أنثى الحلقة الحادية والعشرون
عاد لغرفته يعتلي الشرفة التي تعلو شرفتها، مازال الضوء يغمر الغرفة بأكملها ، اندهش أحمد من استيقاظها حتى ذلك الوقت المتأخر، يعلم جيدًا بأنها تغفو بمواعيدٍ ثابتة، يبدو أن هناك قلقًا يساورها فأزاح غيمة النوم عنها.
جذب قميصه يرتديه وإتجه للأسفل بخطواتٍ حذرة خشية من أن يراه أحدٌ، مبتسمًا لنفسه بسخطٍ:
_رجعت لأيام المراهقة تاني!
تسلل للأسفل حتى وصل لجناحها، طرق بخفة وكأنه يخشى أن تلامس يده الباب، وترقب قليلًا يناديها بصوتٍ هامس:
_فريدة!
فتحت الباب وتطلعت له باستغرابٍ متسائلة:
_أحمد! لسه صاحي؟
مال بوقفته يستند على الحائط المجاور له، وقال بنظرة هائمة بها:
_يعني بذمتك هيجيني نوم ونصي التاني سهران محتار!
ارتبكت في حضرته وعادت تلك الفتاة ذات الثمانية عشر عامًا تستحوذ عليها، أفتقدت خبرة التعامل وكأنها لم يسبق لها التعامل مع رجلٍ قط بحياتها، فقالت بتلعثم:
_وإنت عرفت منين إني لسه صاحية؟
ابتسامته الهادئة لحقت اجابته:
_نور أوضتك بيرشدني، وصوت نبض قلبك المرتبك واصلي لفوق.
شددت على مئزرها بارتباكٍ، وهي تحاول الفرار من حصار رماديته الهادرة، فاستقوت بحديثها المتعصب:
_وبعدين معاك يا أحمد، مينفعش اللي بتعمله ده، إرجع أوضتك من فضلك أنا مش مستعدة أواجه حد من الأولاد لو شافوك وافف على باب أوضتي السعادي.
ضحك بصوتٍ مسموع لجوارحها المهتمة لرؤية ابتساماته الجذابة، وقال مشيرًا على ساعته الفخمة:
_حبيبتي إنتي مش مستوعبة إن كلها كام ساعة بس وهتكوني على ذمتي!
لعقت شفتيها بتوتر لم يرأف بتصاعد خفقات قلبها العذري، فهدرت إليه بضيقٍ مصطنع:
_إرجع أوضتك يا أحمد، ولما أبقى مراتك وقتها نبقى نتكلم إنشالله خمسة الفجر، لكن قبلها بدقيقة أنا أرملة أخوك.
تلاشته ابتسامته، ودنى تلك الخطوة الفاصلة يخبرها بغضب تلمسته بنبرته الغريبة:
_إنتِ تخصيني من لما كانوا بيعلموني إزاي أشيلك وإنتِ حتة لحمة حمرا، تخصيني وعمرك ما خصيتي غيري حتى لو كنت زوجة ليه.
وطعنها بنظرة قاسية اتبعها جراءة غير مسبقة:
_محدش قدر يملك قلبك لحد اللحظة دي غيري يا فريدة.
وتركها تحاول السيطرة على مشاعرها قبالة كلماته التي ضربت عاطفتها في مقتلٍ، ثم غادر لغرفته بهدوءٍ جعلها تتوارى خلف بابها وابتسامتها لا تفارقها، ليته كان بذاك العناد والتحدي بتلك اللحظة التي جلست بها أمام المأذون تحاول الاستنجاد به بأن ينهي ذلك الزواج، ليته تمسك بها مثلما يفعل الآن.
*******
رفضت الانصياع خلف كوابيسها تلك المرة، يكفيها ما حدث بالأمس أمام الجميع، انتفضت فاطمة بجلستها ويدها تزيح قطرات العرق المبتل عن جبينها، انحنت للكومود تجذب زجاجة المياه ترتشفها بأكملها عسى حلقها الجاف يرويه تلك الكمية المفرطة، سيطرت على انفعال أنفاسها المتشنجة وحينما هدأت بالفعل، اتجهت لغرفة علي بخطواتٍ مترددة، حتى انتهى بها الحال قبالة فراشه!
كان يغفو باسترخاء تام، يده مضمومة أسفل رأسه ويده الأخرى تحاوط تلك الوسادة القابعة بأحضانه، لا تعلم لماذا شعرت بأنها ولأول مرة تحسد رؤيته بتلك الراحة التي تفتقدها منذ سنواتٍ، وبذات اللحظة ينتابها شعور غريب بالغيرة لضمه تلك الوسادة بهذة الطريقة التي جعلتها تتمنى أن تكون هي من تغفو بأحضانه، ترى هل ستراودها تلك الكوابيس إن حظيت بالبقاء داخل ذراعيه!
اعتلاها الخجل لما يقتحم عقلها، وتنحنحت في محاولة لايقاظه حتى يتجه للبقاء جوارها، اعتادته يغفو على المقعد المجاور لفراشها منذ أن بدأ بمعالجتها، كانت تستيقظ كل يومٍ بالمشفى تجده جوارها، أحيانًا كانت تختلس النظر إليه، وتحمد الله على وجوده جوارها، فكل مرة أحاطها كابوس مزعج يتبدد انزعاجها فور ان تستيقظ وتراه لجوارها.
مدت يدها باستعداد لايقاظه، ولكنها توقفت حينما تذكرت أخر مرة قامت بطلبها بأن يظل لجوارها، باليوم التالي كان لا يقوى على تحريك عنقه من شدة الألم الذي واجهه لغفوته على مقعدٍ غير مريح بالمرة.
ارتبكت ولم تعلم ماذا ستفعل؟ فهداها عقلها على البقاء هي لجواره على المقعد القريب من الفراش تلك المرةٍ، وبالفعل جذبت المقعد لتضعه على محاذاة الفراش وتمددت عليه تحتضن جسدها بوضع الجنين، وتلك الهالة الآمنة التي منحتها لها صوت أنفاسه الهادئة جعلتها تغفو سريعًا لجواره!
لا يحتاج الا لثلاثون دقيقة ليتأكد بأنها سقطت بنومها، ففتح رماديته واستدار بنظراته الحنونة إليها، مبتسمًا بعشقٍ يجرف عواطفه، فاستقام بجلسته يُمتع عينيه المسكينة بالتطلع لها عن قرب.. ما أعظم انتصاراته اليوم؟ حبيبته تتسلل لغرفته وتبقى أمامه تتأمله ومن ثم تختار النوم لجواره!
ربما قد يكون شيئًا عاديًا لأي رجلًا، ولكنه كطبيبٍ متخصص، يشمل حالة فطيمة يعلم أنه حقق إنجاز عليه الاعتراف به لذاته!
أبعد علي الوسادة عن صدره وتسلل إليها بهدوءٍ، فمال لمقعدها يبعد تلك الخصلة المتمردة على عينيها خلف أذنها ليمكن من رؤية باقي وجهها المحتمي عنه، ارتبك من تلك الفكرة التي تلح عليه بتلك اللحظة، فخشى أن تستيقظ إن منح جبينها قبلة عابرة تستنشق رائحتها، فأكتفى بحملها لفراشه والبقاء على مقعدها الغير مريح بدلًا منها.
استند بقدمه على الفراش وأراح جسده على المقعد، هامسًا بسخرية وابتسامته لا تفارقه:
_بقيت تخصص نوم كراسي أكتر ما بزوال المهنة نفسها!
وتابع ووجهه يميل لجهة نومها:
_كله يهون علشان خاطر عيونك يا فطيمة!
حاول كثيرًا أن يستحضر سلطان نومه ولكنه لم يتمكن من فعل شيء الا أن يطبع ملامحها داخله، وكأنه يحفظ وجهًا يراه لمرته الاولى.
أشرقت شمس اليوم التالي والمحدد لحفل الزفاف، فراقب علي ساعته بحماس وود لو حظى بحمام دافئ واستعد قبل أن يرن عليه أحمد للذهاب برفقته للمحامي مثلما اتفقا بالأمس، ولكنه خشى التحرك قيد أنامله حتى لا يفزعها فتظن بأنه قد فعل ما لا يحمد بحالتها، لذا ظل محله يراقبها حتى تستيقظ فتراه بعينيها لم يتعدى على خصوصياتها أبدًا، وبالفعل ما هي الا دقائق وبدأت تفرك عينيها بانزعاج وتلك اللحظة ذاتها التي إدعى بها نومه للمرة الثانية.
جلست فطيمة على الفراش تتطلع جوارها بفزعٍ، ومازالت تحاول تذكر ما حدث بالأمس ليجعلها طريحة الفراش، انتبهت لعلي الذي يغفو على المقعد مكانها، فأتاها الجواب على سؤالها الحائر، تلاشى غضبها تدريجيًا وسكنتها ابتسامة رقيقة، فنهضت عن الفراش تحمل الغطاء المحاط بجسدها، لتضعه على علي ويدها رغمًا عنها تصعد لشعره الفحمي، تحركه بخفة جعلته يستجيب لها فتبعثر أطرافه الطويلة على وجهه، وأعظم ما يصل له صوت ضحكاتها الخافتة على طول شعره الذي يخفيه بتمشيطه للخلف فيجعله يحيط أخر رقبته.
غادرت لغرفتها خشية من أن يستيقظ فيجدها بالقرب منه، لا تعلم بأنه من يقوم بخداعها، وفور أن أغلقت باب غرفتها حتى اعتدل بجلسته يعيد شعره للخلف بابتسامة واسعة، وردد بحب:
_كنت ناوي أقصر شعري النهاردة، بس الظاهر هحبه وهو طويل عشانك!!
مزق لحظاته الرومانسية التي يقضيها بمفرده صوت هاتفه، رفعه وهو يجيب بابتسامة جذابة:
_صباح الخير يا عريس.
وصل صوت ضحكاته الصاخبة لمسمعه:
_صباح الخير يا دكتور علي، ها جاهز عشان نتحرك على المحامي نشوفه جهز الاوراق ولا ناقصه حاجة؟
نهض يسرع لخزانته، ينزع ملابسه ورأسه تسند الهاتف لكتفه، بينما يديه تساعده على ارتداء بنطاله:
_خمس دقايق وهكون جاهز بإذن الله.. ثم إني مش هفوت فرصة أشوفك وإنت وشك منور وسعيد ده انا اتبهدلت معاك عشان لحظة زي دي يا صاحب عمري؛
ضحك أحمد وقال:
_متبقاش بكاش يا عريس، ما فرحتنا سوا.
_إنت كنت مصدق إن ربنا هيجمع بينا في يوم واحد؟
_أبدًا، ولا صدقت إن ممكن دماغ فريدة هانم تلين بعد السنين دي كلها، والفضل بعد ربنا سبحانه وتعالى ليك يا دوك.
اعتدل بوقفته وترك قميصه الذي يحمله، متسائلًا بذهولٍ:
_عرفت منين؟
ضحك بتسلية:
_هو إنت فاكر إن عمك غبي يالا! أشوفك نازل من جناح فريدة وبعدها بساعة ألقيها نازلة تقولي إنها موفقة أكيد ده مش سحر حلال يعني!
وعلى ذكر السحر ردد هائمًا:
_يا ريت كان ليا في السحر كنت سحرتلها وخلتها توافق من سنين، بس للأسف مفعول سحرها هو اللي نافذ عليا وعلى قلبي.
_أمممم، أنا بقول تقفل على ما أصلي وأنزلك ننجز لإني حاسس إن عمي اختفى وبقى مكانه السيد روميو اللي راجع لجوليت حافظلها كام بيت من الشعر يعيدوا بيه الامجاد… سلام مؤقت يا باشا.
وأغلق الهاتف والابتسامة تتسع على وجهه، فأسرع للحمام ساخرًا بهمسه الخافت:
_حتى عمي!!! الله يحرقك يا عمران هتعدي مين تاني هنا،مش فاضل حد غيري وأنا للأسف مينفعش أنحرف، مينفعش!!
*****
على رنين هاتفه للمرة الثالثة، فتأفف بغضبٍ وأغلق مياه الدُوش ثم لف المنشفة حول خصره وخرج يجذب الهاتف ليجيبه بعصبية بالغة:
_أيه يا جمال، نازل رن رن أيه ما خلاص مدام متزفتش رديت من أول رنة يبقى بديهي إني متزفت مشغول وبديهي بردو إني لما هتزفت أفضى هتنيل أكلمك تاني، مش حفلة رن هي، بتحسسني إنك عايش دور الزوجة الرزلة اللي عايزة تعرف جوزها راح فين بأي شكل!!
_حيلك يا عم الوقح، بكبورت واتفتح عليا!! قلقت عليك لما مكلمتنيش إمبارح فقولت أطمن عليك لو محتاج حاجة، غلطت؟!
زفر عمران بضيق، وألقى جسده على الفراش يشير بانفعال:
_واديني رديت أهو، أنا تمام وزي الفل ولما هتيجي بليل هتشوف وتعين، ها في حاجة تانية؟
وصل صوت ضحكاته الصاخبة إليه، وشاكسه قائلًا:
_اهدى طيب هي مدام مايسان عاملاها معاك وبتطلعها عليا ولا أيه؟
أسدل حاجبيه بغضب:
_مين دي يا روح أمك اللي تستجرا تعملها معايا، ما تصطبح في يومك اللي مش باينله ملامح ده، مش كفايا قطعت عليا راحتي في الحمام إلهي ربنا يقل راحتك يا بعيد.
قهقه عاليًا، وبصعوبة قال:
_على سيرة السيدة الوالدة فهي راكبة جانبي أهي، لسه واصلة من المطار حالًا.
تنحنح بحرجٍ من اندفاعه بالحديث، وقال:
_سمعت اللي قولته من شوية يالا؟
ضحك وهو ينفي له:
_يا ريتها سمعتك كانت شجعتني على قطع الصحوبية المنيلة بنيلة دي، وأترحم من لسانك الوقح ده.
ابتسم بامتنانٍ للحظ الذي جعل جمال يستغني عن فتح سماعة الهاتف على غير عادته، وقال:
_اديها الفون أرحب بيها بنفسي.
وصل له صوته الهامس من وسط ضحكاته:
_أخاف بصراحة أنا طول السنين دي بقنعها إني مصاحب رجالة محترمة، هتسوء سمعتنا لو بدايتها كانت مكالمتك إنت، هخليها تكلم يوسف الأول وبعدها اصدمها بيك.
كز على أسنانه بغيظٍ ليصل صوته المكتوم له:
_ليه مصاحب بلطجي من نزلة السمان بروح أمك!
ضحك الاخير يستشهد على تلك الذلة:
_صدقتني إنت مبتقدرش تتحكم في نفسك!
عبث باصبعيه بين خصلات شعره المبتل، وقال:
_خلاص بكره إن شاء الله هجي أزورك وأشوف الحاجة وش لوش، على رأيك المكالمات مفهاش قبول، هي بس تشوفني وهتقع في سحر وسامتي، مين في الكون يعني فلت من تحت إيد عمران سالم الغرباوي!!
_مراتك اللي فلتت.
قالها وقد انتابته نوبة عارمة من الضحكات، ليتسلل لعمران المحتقن وجهه بغضب قاتل صوت والدته المبتسمة:
_بطل تضايق عمران يا جمال أنا كده هزعل منك بجد.
واختطفت الهاتف منه تحدثه بابتسامتها البشوشة:
_معلش يا حبيبي جمال كده طور ومبيعرفش ينقي كلامه، المهم إنت عامل أيه وفعلًا زي ما جمال بيقول اتجوزت؟
هدأت معالمه رويدًا رويدًا واحتلته ابتسامة صافية، تلك المرأة تظن دائمًا بأن ابنها هو المنحرف من بينهم ويحاول دائمًا مضايقته هو ويوسف لا تعلم بأنه الوغد الأكبر هنا، وهذا ما يكتسبه من سحر طلته التي توحي برزانته وطيبته الغير موجودة بالمرة، فقال بصوتٍ دافئ:
_ست الكل اللي نورت إنجلترا كلها، شوفتي بعيونك يا أمي جمال مش مبطل يضايقني لا أنا ولا جو، ده حتى مقاليش إنك جاية النهاردة علشان مطبش عليه وينوبني من حلل الحنان اللي مترحلة من مصر لانجلترا في أكياس بلاستك!
تعالت ضحكاتها استجابة لحديثه المرح، وقالت بحنان:
_ودي تفوتني أنا جايبالكم إنت ودكتور يوسف حلة محشي ورق عنب ورقاق ومنبار وعكاوي وكارع وحمام محشي بالفريك إنما أيه يستاهلوا بوقكم، عازمكم بكره عند جمال ابني وأمانة عليك تجيب مراتك في ايدك وأنت جاي،وهخلي جمال يقول لدكتور يوسف الكلام ده بردك عايزة أشوف نقاوة عيالي.
قال متحمسًا وضحكته الهادئة تصل إليها:
_لو مكنش النهاردة فرح أخويا كنت لقتيني أول واحد يخبط على الباب بس ملحوقة النهاردة من بكره مش هتفرق، الخوف بس الفجعان اللي جنبك ده ينسف الأكل قبل ما نيجي، وهنا بقى يجي دورك، الشنط اللي فيها الأكل تتحط في تلاجة أوضتك يا ست الكل ويتأمن عليها بأرقام سرية وبصمة ايدك الحلوة دي.
احمر وجهها من فرط الضحك ولجوارها ابنها المبتسم بسعادة وخوف ينهش قلبه من أن يفقدها بالجراحة التي يجهزها لها عمران ويوسف بالاتفاق مع الطبيب المتخصص لجراحه القلب، فراقب حديثها المازح برفقة صديقه بأعين تلتمع بالدمع، ويجد ذاته ممتنًا بتلك اللحظة لوجود عمران بحياته، إن كان قادرًا على زرع الضحك على وجه والدته بتلك الطريقة لما لا يكون ممتن؟!
*****
غادر أحمد بسيارة علي للمحامي، وانشغل الخدم بتجهيز القصر لاستقبال الحفل، واجتمعت الفتيات بالمجلس القريب من الدرج ليتركوا المكان خاليًا لعمل الخدم، فأزاحت شمس بقايا طلاء الأظافر عن يد فطيمة المستسلمة لها بعد أن حاولت الاعتراض عما تفعله شمس لها منذ الصباح من مسكات وترطبيات وغيرها من نقوش الحنة السوداء على يدها وأخره طلاء الأظافر الغريب هذا، ومازالت تؤكد لها بتحذيرٍ صارم:
_حطي إيدك على رجليكي، أوعي المناكير يبوظ هزعل منك يا فاطيما.
ابتسمت وهي تشير لها بطاعة:
_متقلقيش أنا رافعه ايدي بحذر أهو.
أشارت لها بعنجهيةٍ:
_أيوا كده خافي مني، عشان انا مبحبش حد يبوظ شغلي.
_الله الله وأنا اللي شايلة العدة وراحة لاوضة فاطمة بستعد طلعت شمس هانم بنفسها مهتمية بالعروسة.
نطقت مايسان التي تراقبهما ببسمة هادئة، فوضعت عن يدها حقيبة الميكب الضخمة وجلست جوار فاطمة تتأمل ما فعلته شمس بنظرة أعجاب صرحت بها:
_لون المناكير تحفة يا شموسة طول عمرك شيك وعندك ذوق.
غمزت لها بضحكة صاخبة:
_ده انا قاعدة من الصبح استناكي عشان نولعها.
ضيقت حاجبيها بعدم فهم:
_نولع أيه؟
هرعت للهاتف تصله بالسماعة الضخمة، مشيرة لفاطمة:
_احنا لازم نحتفل بالعروسة النهاردة، أصلك متعرفيش يا فاطيما إن مايا بنت خالتي عليها هزة وسط يقعد دينا وصافيناز بالبيت.
جحظت عين مايسان صدمة، وصاحت وهي تلتفت حولها بحرجٍ:
_بتقولي أيه يا شمس بطلي قلة أدب!
غمزت بسخرية:
_متقلقيش عمي وعلي خرجوا، وفريدة هانم فوق في أوضتها مع الميكب آرتست بتعمل بدكير ومنكير مش فاضيلنا، وطبعًا عمران أخويا مستحيل يقوم دلوقتي، بيصحى على العصر.
همس عمران بتسلية وهو يراقبهن من أعلى الدرج:
_طلعت ابن محظوظة إني قومت النهاردة بدري، يا رب بس تقنعيها تقوم ترقص يا حبيبة قلب أخوكِ!
بالأسفل، عادت شمس لمحاولاتها المتكررة لاقناع مايسان، وكذلك طالبتها فطيمة بالنهوض، فنهضت حينما أخبرتها شمس بأنها ستشاركها، وعادت لها بحجابٍ تعقده حول خصر مايسان بمرحٍ:
_يلا بينا.
رمقتها بنظرة متوعدة، وخاصة حينما رفعت من صوت الموسيقى وبدأت شمس تتمايل أمامها لتشجعها قائلة باستفزاز:
_فاطيما عايزة تشوف الرقص المصري وبعد فقرتنا هنقيم احنا الرقص المغربي المهم بلاش نوطي رأسنا قدام المغاربة! صح يا فاطيما؟
همس ذاك المتلصص بالأعلى:
_كده انتِ أختي مش محتاج أعمل DNA!
تعالت ضحكات فاطمة وأكدت لها:
_صح أنا مسبقش ليا إني شوفت الرقص المصري وعايزة أقيم بصراحة لإن شمس بحركتها البهلونية دي مضحكة!!
همس من الأعلى وهو يتابع بعينيه الشبيهة بالمنظار الدقيق:
_هنقيم مع بعض يا مرات أخويا يا غالية!
ابتسمت مايسان واستجابت ليد شمس التي تحركها بدلالٍ، ومع انسجام لحن الأغنية الشعبية تمايلت ببراعةٍ جعلت فاطمة تصفق بيدها ببسمة متحمسة، بينما شمس تحاول جاهدة تقليد حركات مايا ولكنها كانت تفشل فشلًا ذريعًا.
ابتلع عمران ريقه بصعوبة بالغة، فمرر يده حول رقبته هامسًا بخفوت:
_دي بوسي ملاك الرحمة!! الظاهر إني محتاج قلب صناعي فوق قلبي عشان يكون في متسع يحب ويدوب في الجمال ده!!!
واسترسل ورماديته لا تترك تلك التي تتحرك برشاقة وخفة:
_أتوب إزاي والفتنة دي ملاحقاني يارب!!
تمايلت ولسانها يردد انسجامًا مع كلمات الاغنية، فاتجهت لتجذب فطيمة عن الأريكة وحينذاك تراجع عمران عن الدرابزين وهو يغض بصره عنهن، بالنهاية يراقب زوجتن وشقيقته التي تجعله يضحك ساخرًا على ما تحاول فعله، فتسلل لمسمعه صوت زوجة أخيه المعترضة:
_مش هعرف، المنكير هيبوظ وشمس هتنزعل.
فعادت تجلس وهي تراقب ما يحدث، وعاد هو يعتلي محله ليتأملها بنظرة عاشقة وهمس بفتور:
_وبعدهالك معايا يا بنت عثمان، أنا قلبي خلاص حن وداب أعمل أيه بس عشان تميلي!!
واستطرد بسخطٍ وابتسامته الخبيثة تنفرد:
_وماله ده حتى الليلة ليلتك يا عروسة!!
انتفضت عروقه حينما تسلل له صوت سيارة أخيه، وبالطبع لاقترابهن من صوت السماعة لن يلاحظ أحدًا قدوم عمه وأخيه، لذا أسرع بالتدخل لن يرضيه ان يرأها أحدًا دون حجابها وبذاك الموقف الذي سيجعل الدماء تنبغث من ورديه، فطل بوجهة ملحوظة وهو يصيح بهن:
_بعد إذن رئيسة شارع الهرم نلم الليلة عشان الرجالة وصلت بره، والله كان نفسي أشاركم بالنقطة الخضرا (الدولار) بس لا مواخذة مش قادر أنزل تحت!
جحظت الأعين المسلطة عليه، فركضت شمس تجاه المطبخ، بينما حلت مايسان الحجاب من حول خصرها وغطت به وجهها عن عينيه، فردد ساخرًا وهو يتابع شمس التي كادت بالتعثر أكثر من مرة،مدعيًا انزعاجه الشديد في حين أنه كان يشاركهما الرقص بالأعلى:
_صبرك عليا يا أوزعة، ده اللي بيعلمهولك في الجامعة يا بت، ده انا حيلي اتهد عليكي بالمصاريف وكله بالأخضر.
ورفع صوته مجددًا:
_كنت محتار أجبلك أيه في عيد ميلادك، وخيالي البريء رايح إني أغيرلك عربيتك، شكلي كده هجبلك بدلة رقص تطفشي بيها جوزك وترجعيلنا هنا تاني يا فقر!
كمن لها بما فيه النصيب وتبقت زوجته التي مازالت تختبئ خلف حجابها وتجلس جوار فاطمة التي احمر وجهها من فرط الضحك حتى كادت بالسقوط عن الاريكة، فاتجهت نظراته تستحوذها، مستكملًا وابل سخريته:.
_وانتي يا بوسي يا ملاك الرحمة، بدل ما تخلي في قلبك شوية رحمة وتطلعي تبصي على جوزك المسكين المعاق، تساعديه ينزل وتاخدي بيده بتنحرفي تحت! يا اختي انحرفي فوق مرة يمكن ربنا يسهلها ونجيب راقصات صغيرين أهو كانوا هيعملوا نمرة في فرح علي ويوجبوا مع عمهم!
فشلت فاطمة بالسيطرة على ضحكاتها، فتسللت خلف شمس تجاه المطبخ لتحرر ضحكاتها كما تشاء، مددت مايسان يدها تتحسس الاريكة فوجدتها فارغة، رفعت الحجاب عن عينيها فوجدت فاطمة تهرول للداخل، كادت أن تلحق بها فاوقفها صوته الصارم:
_استني هنا عندك، اطلعي ساعديني أنزل مسمعتنيش!
على شفى أن تبكي الآن من فرط حرجها، فاعدلت من حجابها وصعدت للاعلى بارتباكٍ ساحق، مد له يده بمكرٍ، فساندته وهي تتلاشى التطلع لعينيه، فهمس لها بغمزةٍ خبيثة:
_ما احنا طلعنا جامدين أهو، أمال بتيجي عند جوزك الغلبان وتعملي قطة مغمضة ليه؟
رددت على استحياء:
_والله ما أنا دي شمس اللي آآ…
وابتلعت باقي كلماتها وهي تكاد تدفن وجهها أرضًا من الخجل، فقال بمكر:
_مصدقك ما انا حاضر الحفلة من أولها!
ومال إليها يهمس بمرحٍ:
_والله لولا إني مش هقدر أستحمل حد يشوفك كده كنت فضلت واقف أتفرج باحترام، بس هعمل أيه بغير والغيرة قاتلة، عاشق وعشقك خلاني زي الغريق اللي بيتعلق بأي حاجة تديله أمل إنه ممكن في يوم يبقى سباح محترف ويواكب الموج، حتى لوكان عالي وشرس!
احمر وجهها خجلًا، فسحبت يدها عنه واتجهت لغرفتها غير عابئة بندائه وادعائه بالتعب وعدم مقدرته على الهبوط، فما أن تخفت عنه حتى استقام بوقفته الغير مريحة، يراقب باب غرفتها وهو يهمس بخبثٍ:
_هتلين بليل يا عسلية!
_إنت بتكلم نفسك!!
التفت يراقب مصدر الصوت الرجولي، فوجد أحمد يضيق بعينيه تجاهه بنظرة تشكك في قواه العقلية، حافظ على ثبات قامته وأجلى حلقه:
_لأ ده أنا كان معايا مكالمة غرام وكان لازم أقوي الوصال بين قلبين بريئين.
تهدلت شفتيه السفلية بسخطٍ:
_أممم.. وماله يا حبيبي قوي الوصال براحتك بس متخدش على المكالمات لإنها مبتأكلش عيش حاف.
وتركه واتجه لغرفته بينما يتابعه عمران بنظراتٍ مغتاظة، فرفع من صوته ليصل لأحمد الواشك على غلق الباب:
_وماله يا أبو حميد، كلها كام ساعة وهنشوف، ده أنا قايم بدري النهاردة علشان أجهز الmusic عشان أغنيتي اللي هغنيهالكم بليل، وعدي لعلي لو فاكر.
جحظت عين أحمد، وتوقف عن غلق بابه ثم عاد يهرول له:
_أغنية أيه دي؟
ابتسم الاخير وأردف بسخرية:
_بفكر أغنيلكم أغنية حمادة هلال بتاعت «دي عيلة واطية ونصابة» تقوم فريدة هانم يجيلها ذبحة صدرية وسط معازيم الطبقة الآرستقراطية، وتضيع مخططاتك ليلتك المنحرفة اللي بتتخطط ليها من يوم ما البنت وفقت عليك، أصل محسوبك قاري العيون أوي وعيونك فضحاك يا عمنا!
كز على أسنانه بغيظٍ، وأشار بحدة:
_شوف إنت رايح فين يا عمران ربنا يهديلك حالك وحالنا، أنا خلاص يا ابني مش غاوي أجادلك تاني وأجيب لنفسي وجع الراس.
وتركه وغادر مجددًا، بينما اتجه الاخير للاسفل ببسمةٍ مستمتعة.
******
الساعات مضت وشرع الحفل على الابتداء، وأخيرًا انتهت شمس من وضع لمساتها الاخيرة على وجه فاطمة التي ارتدت القفطان الأبيض الفخم، أما علي فارتدى بذلة سوداء كلاسيكية ومشط شعره الطويل للخلف بعدما ضمن وضع كمية من المثبت ليجعله خلفه لا يتهاوى على عينيه، وأكمل ارتداء ساعته الآنيقة ثم نثر البرفيوم على كتفيه ورقبته، وإتجه يطرق باب فاطمة حينما استلم رسالة من شمس على الواتساب تخبره بأنها انتهت من زينتها.
فتح شمس الباب فمنحها علي بسمة هادئة، ثم مرر يده بين خصلات شعرها برفقٍ كأنه يحيي طفلته المدللة فور رؤيتها، ففتحت الباب على مصرعيه لتطل زوجته من أمامه بتلك الطالة الخاطفة التي سلبت عقله وجعلت وتيرة أنفاسه تتصاعد دون رأفة عليه، أتجه إليها حتى بات قبالتها يردد باعجابٍ شديد:
_بسم الله ما شاء الله.
وتابع بمرحٍ وببسمةٍ جذابة للغاية :
_هو ربنا راضي عني لدرجة إنه يبعتلي واحدة من الحور العين في الدنيا!!
سمحت لنفسها أن تخطف نظرة سريعة إليه، فسلب اهتمامها وجعلها لا تقوى عن خفض عينيها عنه، اقترب علي منها وضم يده لصدره قائلًا:
_اتاخرنا على الضيوف، عمي وفريدة هانم بيكتبوا الكتاب تحت.
رفعت يدها المرتعشة تضم مرفقه، فمنحها ابتسامة واسعة وخطى بها للأسفل وهو يهمس بحبٍ حينما وجدها تتطلع للاعداد الغفيرة بالأسفل بنظرة قلق:
_متخافيش طول ما أنا جانبك يا فطيمة، إنتِ سبتي خوفك وارتباكك فوق في الأوضة مفيش حوليكي غير الآمان وضمة كف إيدي اللي مش هتسيبك من أول الحفلة لأخرها.
منحته نظرة ممتنة فأطبق أصابع يده الاخرى فوق يدها الممسكة بمرفق يده اليمنى، مؤكدًا:
_أنا جانبك ومش هتخلى عنك أبدًا!
******
لم تترك مايسان فريدة أبدًا، كانت الاخيرة تضمها بتوترٍ، وكأنها تستمد امانها من ابنتها الكبرى، تآلقت فريدة بفستانٍ من الشيفون، المحاط بدنتل من اللون الأبيض، وشعرها كان ملموم بدبوس شكل على هيئة الطاووس، يضم خصلاتها للخلف، ها هي تجلس قبالته وتراقبه وهو يوقع على عقد الزواج بفرحةٍ تتقافز من عينيه، وحينما قُدم لها الاوراق كانت مرتبكة وكأنها مرتها الأولى، فبحثت عينيها عن أبناءها بتلقائية، لتجد علي يهبط الدرج ومن خلفه شمس التي تخطته وهرولت لتكون جوار والدتها تخبرها ببسمة واسعة:
_مبروك يا مامي، مبروك يا أنكل.
فرق أحمد ذراعيه لها فاتجهت لمقعده تنزوي بأحضانه بحبٍ لم تشعر به مع أبيها التي لم تتذكره قط، ابتسمت فريدة وهي تراقبهما، وتحمست حينما انحنى لها علي يقبل كف يدها المتمسك بالقلم بارتباكٍ، وهمس لها:
_وقعي يا حبيبتي، ده حقك وحبك اللي اتحرمتي منه طول السنين دي كلها.
أدمعت عينيها تأثرًا من كلماته، وكأنه كان يشعر بارتباكها وخوفها فأتى يزيل عنها العوائق، ابنها البار الذي يزيح عنها كل عائق يحبطها، احتضنت فريدة أحمد بنظرة طويلة قبل أن تنحني للاوراق لتضع إسمها قبالة اسمه، وحينها شعرت بأن رحلة فراقهما القاسي قد انتهت، ولكن عذابها هي هل سينتهي أيضًا!
راقبت مايسان الدرج بلهفةٍ، كانت تود الذهاب لرؤيته منذ بداية الحفل عساه بحاجة لمساعدتها ولم يتمكن من الهبوط بمفرده، ولكنها تخجل من لقائه بعدما حدث بالصباح، ختمت ارتباكها المطول وشجعها وصول جمال ويوسف، فوجدتها حجة تصعد لتخبره بوصول أصدقائه.
حملت طرف فستانها الأخضر بين يدها، وأدلت بحجابها الأبيض للخلف ثم اتجهت للدرج تخطو درجاته صعودًا، فتخشبت قدميها على أول درجاته حينما وجدته بطريقه للهبوط، وفور أن رآها بذلك الفستان الساحر حتى منحها ابتسامة ساحرة.
أخفضت عينيها تدريجيًا لساقه التي تنساق للأسفل بتناغم وقوة، فبرقت بعدم استيعاب، خطى ليصبح قبالتها ببذلته الرماديه الشبيهة للون عينيه، كان آنيقًا مثلما إعتاد أن يكون، ولكن دهشتها تلك المرة ليست لجاذبيته، بل رؤيته يتحرك بقدميه هكذا.
أطلق صفيرًا منخفض وهو يتفحصها:
_أيه الجمال ده كله، يا ترى الساحرة الشريرة عارفة إن سندريلا هربت من الحكاية وخرجت لعمران الغرباوي المسكين؟
تجاهلت ما يقول وأفلتت سؤالها المنصدم:
_عمران إنت واقف إزاي؟
اتسعت ابتسامته وغمز لها:
_زي ما أنا قادر أخطفك حالًا وأهرب . بس للأسف ورايا وعد ولازم اوفي بيه.
وتركها منصدمة ثم كاد أن يتخطاها بهبوطه للأسفل، فصعد لها مجددًا يهمس جوار أذنها بالتحديد:
_لما هنتجمع بليل هحكيلك كل حاجة يا بيبي!
وتركها فارغة الفاه وهبط يستقبل أصدقائه بترحابٍ واسع، فكان جمال أول من تحدث:
_ما أنت بتمشي على رجلك أهو وحلو أمال أيه الحوارات دي!!
ضحك وهو يعدل من جاكيته ببرود:
_مزاجي جابني كده، حرام أتدلع عليكم يعني ولا أيه يا دكتور.
رمقه يوسف بنظرة ساخرة، ثم استدار لزوجته يخبرها:
_صدقتي إنه وقح يا ليلى.
ضحكت وهي تشير له بتأكيد، فصاح عمران بضيق:
_طيب ليه تسوء سمعتي يا دكتور، بالذمة ده كلام!
تعالت الضحكات بينهم، فقال جمال بنزق:
_لينا حوار في الدور التمثيلي ده بس دلوقتي قولي مين فيكم العريس إنت ولا دكتور علي؟ ده أنت متشيك ولا كأن الليلة دي عشانك أنت!
رد عليه بعنجهية:
_دي الحقيقة فعلًا يا حبيبي، مفيش فرق بيني أنا وأخويا، كفايا إني هغنيله بنفسي!
منحه يوسف نظرة تحمل الشك، وأضاف هامسًا لجمال:
_شكل كده عيادتي هتكون مستقرك إنت والحيوان ده الفترة الجاية، يلا يمكن ربنا يكرم ابنك بعروسة مصرية بنت ناس راقية صحيح أبوها وقح بس اللي يهمك اسم العيلة.
تركت صبا وليلى وقفتهم الشبابية واقتربتا من شمس ومايسان وفطيمة، فشكلوا حلقة دائرية تغتنم الضحكات، بينما اقترب علي منهم ليرحب بهم بحرارة، وفجأة وجد أحد العاملين يشير لعمران بأن كل شيءٍ على ما يرام، ووضع على رأسه سماعة تلتف لتصل جزئها على فمه بالتحديد ليتمكن من الحركة بمنتهى الحرية دون أن يمسك المايك بيده..
سحب مقعد خشبي من اللون الأسود، سحبه متعمدًا أن يجعل قدميه الخلفية تحتك بقاعدة المنصة مصدرة صوت جعل الجميع ينتبه له، فوضعه بالمنتصف وجلس عليه يفرق قدميه بثقة، وانطلق يردد بلهجة انجليزية مفهومة لاغلب الحاضرين:
_اليوم مميزًا لوالدتي ولأخي ولي بشكلٍ خاص،أعتاد دومًا على استغلال أخي الأكبر الدكتور علي،لذا علي أنا هنا الآن أستغلك للمرة التي أفشل بمعرفة عددها،لذا إن كنت لا تتذكر وعدي المسبق لك بأنني سأغني لك بيوم زفافك ها أنا أوفي بوعدي وأستغلك بنفس الوقت لإنني لا أرى بتلك اللحظة سوى زوجتي، والآن فلنبدأ الحفل!
جحظت عينيها صدمة تفوق صدمة الجميع، وأكثر ما يتردد لها «هل عاد عمران للغناء مجددًا؟ ألم تكن تلك لفترة قصيرة قضاها بالجامعة وانتهى الأمر! ماذا سيغني لها الآن ولماذا تشعر بأن الخجل يكاد يقتنصها؟»
ضحك علي وهمس لجمال ويوسف المنصدمان:
_ضيفوا على إنه وقح إنه مستغل وانتهازي، بس للأسف صوته حلو!
وتابع بمزح:
_أنا زمان كسرتله الجيتار ومنعته من الغنى النهاردة بيستغلني عشان يكسب قلب مايا، دماغه سم!
*******
انطلقت الموسيقى تغدو الحفل بأكمله، ومازال يجلس محله على المقعد ثابتًا، كأنه على وشك خوض حربًا طاحنة وليس يستعد للغناء، قدمه فقط كان يتطرق أرضية المنصة باستمتاعٍ لسماع النغمة التي تتحرر بانتظار أن يبدأ بانسجام أغنيته، صوت حذائه وتناسق ضرباته كانت تزيد من وتيرة الأعين، فانطلق صوته يردد وعينيه تتابع عينيها بتسليةٍ
«حاسس في بقلبي لهفة
عم تدفعني إني روح
اوميلا بإيدي وإعزمها
ع الرقصة وبسرّي بوح
رح قوي قلبي وما خاف
منو خسارة الاعتراف
ملاك منزل ع الأرض
بيستاهل كرمالو تبوح!»
واستكمل ما يقول ببسمة واسعة قاصدًا بها ما حدث بالصباح حينما رآها ترقص برفقة شقيقته:
«شو عملت فيي من لما
لفت ع خصرا هالشال
ترقص قدامي وتتغمى
وتتلفت يمين شمال!
وتهز بشعرا الحرير
ماتحمل قلبي الصغير
اي والله دوخني كتير
خصرا الميال»
وتلقف الجيتار الذي منحه إياه أحد العاملين، يطرق عليه وهو يصيح:
«أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها
براكين بقلبي خليتي
يخرب بيتك شو سويتي
من السهرة دغري ع بيتي
جهزيلي حالك!!!»
وتلك المرة أحاطتها رماديته تتعمد نطق الكلمات كأنه يقصد بها ويتعمد كل كلمة لها:
«عليكي عيون مدري كيف
صوتك حنانو مخيف
وغمز لها وهو يكمل:
«صفي نيتك قصدي شريف
لاتشغلي بالك!!!»
ترك مقعده ونهض يختطف يدها بين يده ويده الاخرى تتمسك بالجيتار دون استخدمه، تلك المرة يواجهها وهو قريب منها:
«أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها
بحلم كفي عمري حدا
شو بحكي عن حمرة خدا
ولما بإيدا الغرة تردا
عيونا بينباسو
كل الحلا جاية منين
حفظتلا شاماتا وين
تقبرني رموش العينين
طوال بينقاسو!!
أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها
يلا حلا الدني حلا
تضحكلي اي والله
ونعيشا وبصوت الضحكات
نملى الأرض كلا
عطيني
غمزة ودوبيني
ايدك بايديي شبكي
وخليا ع الله خليا عالله
خليا عالله
أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها»
انتهى من أغنيته أخيرًا لينطلق التصفقات الحارة إليه، ومازالت يده تحتجز يدها ونظراتها المنصدمة تحيطه، لم يتركها الا حينما توجهت شمس إليه تضمه وهي تردد باعجاب:
_صوتك بقى أعلى من الأول كمان ولا كأنك إعتزلت، ماليش دعوة إنت وعدتني لو قدرت تغني لعلي هتغنيلي يوم فرحي.
ضمها إليه وهمس لها ضاحكًا:
_استقري إنتِ بس على عريس وأنا عيوني ليكي وأهو بالمرة نكمل نمرة شارع الهرم اللي ابتدت الصبح أنا أغنيلكم وانتوا ترقصوا!
تجهمت معالمها بغضب وتركته وكادت بالرحيل فتفاجئت براكان يدلف للداخل برفقة آدهم، عينيها لم تلتقط سواه هو بحلته السوداء وثبات نظراته دون أن تحيل للبحث عنها، وكأنه يعلم مكانها، اتجه خلف راكان حينما وجده يتجه لشمس، فقال ونظراته الجريئة تحيط فستانها الأزرق الطويل:
_فستانك خرافة وشيك يا شمس.
امتقعت معالمها وبنفورٍ شديد قالت:
_شكرًا.
وقبل أن يضيف راكان حرفًا، قالت وهي تتجه لفريدة:
_عن إذنك مامي بتشاورلي.
تابع تصرفاتها بدهشة بينما ابتسم آدهم وقد راق له معاملتها الجافة، وحينما تطلع تجاهها وجدها تشير له بتتابعها، استغرب من الأمر وحاول أن ينسحب دون أن يلفت لهما الانتباه، فوجدها تخطو بمنعطف جانبي للقصر خلف الحديقة، وبعدت كثيرًا عن المكان، وصل لها آدهم فوجدها تنتظره بتوترٍ يعتلي معالمها وكأنها على وشك إلقاء قنبلة مؤقتة بوجهه!
*****
بداخل الحفل.
حاولت فريدة الابتعاد عن مقابلة سيدات الطبقة المخملية، لتتغاضى عن أسئلتهم التي لا تطيق بصبرها لتجيبهم عن كناية زوجة ابنها الأكبر، سبق لها التفاخر بنسب عمران، فابنة شقيقتها تمتد أصولها لعائلة عريقة تضاهي عائلتها، ولكن الآن ماذا ستخبرهم؟
عاد شعور النفور يجتازها مجددًا، لا تملك أي قوة لتواجه أحدًا منهن، وإن كنا يتوقن لافساد مزاجها فقد فعلنا بالتأكيد، وها هي الآن تواجه سؤال من احداهن:
_ما بكِ فريدة كلما تساءلنا عن العروس لا تجيبينا ، ما الأمر؟
قالت الاخرى بتهكمٍ صريح:
_عساها فتاة عادية وتخجل بقول ذلك!
أضافت احدهن وقد كان صوتها مرتفع مسموع للجميع:
_شكل كده كلامك صح، باين كده الدكتور علي اتجوز بنت من الطبقة المتوسطة عشان كده فريدة هانم مش عايزة تقولنا إسمها أو تقولنا هي بنت مين، بس معقول يا فريدة تعمليها!!
اتجهت احدى السيدات تسأل فطيمة التي تماسكت بيد علي بارتباكٍ:
_قولي لينا إنتِ يا عروسة مدام فريدة هانم مش قادرة تتكلم!
وضعت فريدة رأسها أرضًا بحرجٍ، بعدما كانت تطلق أحكامها وتتهامس بجراءة على النسب وبمن تليق بابنائها توضع بموقف صعبًا، تأججت الدماء بعروق عمران وأحمد، وكاد علي بأن يخرس ألسنتهم وإن حتم الأمر سيطردهم من الحفل بكل تأكيدٍ، لن يتهاون مع من يقلل احترامها أبدًا، ولكن ذاك الصوت الصارم انطلق يصمم الآذان:
_فطيمة أختي وأي حد في الاحتفال المخملي ده قادر يعرف مين هي عيلة زيدان ونفوذها واصلة لفين!
ظهور الجوكر كان نقطة فاصلة لتلك الفتاة، أنفاسها بدت تعود لمجراها الطبيعي وهي تراه يقف قبالتهم بكل عظمة وكبرياء، ومن جواره عدد من الحرس الملكي يزف لها هداياه الباهظة وسط همسات الجميع، تحرك ببذلته الآنيقة ليدنو من منتصف القاعة ليكون قبالة أعين فريدة الملتهبة، وصاح بكلماته الثقيلة الماكرة:
_ها يا فريدة هانم ده كافي بالنسبالك ويخليكي ترفعي رأسك وتقولي لضيوفك مين مرات الدكتور علي؟
ردت الدموية بوجهها، للحق لم تتخيل أبدًا أن تكون فاطمة تجمعها علاقة بأحد أفراد عائلة زيدان، وبالأخص بمراد زيدان، انقلب السحر على الساحر وانقلب الحفل لهمسات لا حصى لها عن نسب تلك الفتاى التي أضافت سلطة وقوة لعائلة الغرباوي، وانطلقت الأعين تراقب الهدايا الباهظة التي يصعد بها الحرس للأعلى متبعين أحد الخدم ليريهم غرفة العروس.
تحرك الجوكر بصلابة وهيبة لا تليق سوى به، ليقف قبالة فطيمة يمنحها ابتسامة هادئة وعينيه تراقبه بالقفطان المغربي، وأخيرًا حرر لها مباركاته:
_مبروك يا فطيمة ألف مليون مبروك.
ابتسمت بسعادة وروحها قد ردت لها، كانت تشعر بالحرج لعدم وجود أحدًا من أفراد عائلتها، فأتى بهيمانته وهالته القابضة ليضيف لها قوة ودفء شعرت به، فهمست بفرحة:
_مراد!
اتسعت ابتسامته وهو يربت على يدها الممدودة لمصافحته، وقال بضيق:
_وعدتك أسلمك لعريسك بنفسي وطيارتي أتاخرت شوية للأسف.
واستطرد بثباتٍ قاتل وزرقة عينيه تتجه لعلي المبتسم بامتنانٍ لوجوده:
_بس هسلمك للدكتور علي من تاني تنفيذًا لوعدي.
ورفع كف علي بيده الأخرى ثم غمس يدها بين يده، فأدمعت عين فطيمة تأثرًا وقالت:
_شكرًا أنك وفيت بوعدك ليا وجيت يا مراد، متتخيلش أنا فرحانه إزاي أني شوفتك من تاني واقف على رجلك وبنفس قوتك وكبريائك اللي اتعودت أشوفك بيهم.
يفهم جيدًا ما تقصد بقوله، تلك الفترة التي فقد بها قوته جراء الآبر الحاملة بالمخدرات السامة مازال يتذكرها، وكيف له بنسيانها وخلاصه منها صعب المنال، يعلم بأنهم فعلوا ذلك ليهبطوا قوته الشرسة فتعمدوا أن يكسروه بالتعدي على فطيمة قبالة عينيه وهو تحت تأثيرهم اللعين ولكن بالنهاية عاد الأسد يحكم غابته من جديدٍ ومازال لا يروى عطشه فيستمر بالثأر من هؤلاء اللعناء حتى تلك اللحظة ولجواره الاسطورة المزعوم،أخيه رحيم زيدان (رواية الجوكر والأسطورة!)..
ربت على يدها مجددًا وهو يخبرها بصوته الرخيم:
_فترة وعدت ومش هترجع تاني يا فطيمة، المهم إنتِ، عايز أشوفك دايمًا بخير وابتسامتك متفرقكيش أبدًا، ولو احتاجتي أي شيء إنتِ عارفة إني موجود وهكون موجود في أي وقت تحتاجيني فيه وعمري ما هتخلى عنك أبدًا، لإنك عندي بالظبط زي ريم ونغم أخواتي..
مد علي يده يصافحه قائلًا ببسمة صافية:
_نورت حفلنا المتواضع يا جوكر، ومبروك الترقية.
صافحه بقوة وقال بلباقة:
_مع إن كلمة مبروك دي تخصك النهاردة، بس مقبولة منك الله يبارك فيك.
اتجهت نظراته لفاطمة من جديد، فانزعج حينما وجدها تبكي وهي تتطلع له رغم ابتسامتها، فضيق عينيه هاتفًا بانزعاجٍ:
_مفيش بكى النهاردة، كده هتضطريني أخد هديتي اللي واقفة بره وأرجع بيها تاني!
انتابها الفضول، فقالت باستغراب:
_هو لسه في هدايا تاني، كفايا الحاجات اللي طلعت فوق دي!
غمز لها بمكر:
_لا دي هتكون أغلاهم على قلبك، تيجي نتراهن؟
ومال برأسه لحارسه الذي انحنى قليلًا وغادر للخارج ومن ثم عاد إليه بتلك التي تلاحقه حتى وقفت قبالتهم، فبرقت فاطمة بعينيها بصدمة لحقت حروفها البطيئة الغير مستوعبة:
_زينب!!! أختي!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية صرخات أنثى)