رواية وما ادراك بالعشق الفصل التاسع عشر 19 بقلم مريم محمد غريب
رواية وما ادراك بالعشق الجزء التاسع عشر
رواية وما ادراك بالعشق البارت التاسع عشر
رواية وما ادراك بالعشق الحلقة التاسعة عشر
الفصل التاسع عشر _ أحبك عشرًا _ :
قبل ثلاثة و عشرون عامًا …
خليط من المشاعر اجتاحه.. دهشة.. اضطراب.. غضب !
فور أن أبلغته سكيرتيرة مكتبه بمكالمة واردة من طفلة تدّعي بأنها ابنته.. طلب إليها تحويلها على خطه في الحال و رد بصوتٍ محايد :
-آلو.. شمس.. بابي معاكي.. انتي اتصلتي إزاي يا حبيبتي !؟
أتاه صوت الصغيرة مهزوزًا بانفعال :
-بابي.. بليز تعالى دلوقتي.. أنا خايفة أوي !!
انقبضت ملامحه و تحفز جسده و هو يرد عليها بصوتٍ أجش لا يخفي قلقه :
-إيه إللي حصل يا شمس ؟ و فين مامتك ؟؟
-مامي قافلة على نفسها الأوضة من ساعة ما مشيت.. مش عاوزة تفتح لي.. مش بترد عليا ..
و رافقت نبرة بكاء كلماتها الأخيرة …
احتدت لهجته رغمًا عنه و هو يقول باقتضابٍ متأهبًا للقيام عن مكتبه :
-طيب إهدي يا حبيبتي.. و ماتخافيش أنا جاي حالًا.. اقعدي استنيني و اشغلي نفسك بألعابك و عرايسك الحلوة.. أنا مش هتأخر عليكي ربع ساعة بالظبط و أكون عندك.. أوكي يا روحي ؟
-أوكي بابي !
و أغلق معها و قام ليرتدي سترته على عجالةً.. ثم غادر مكتبه على الفور …
**
قطع “يحيى” الطريق بين مقر شركته و منزل الزوجية السرّي في أقل من خمسة عشر دقيقة.. ما إن فتح باب الشقة حتى اندفعت صغيرته تجاهه.. إذ بدا إنها كانت تنتظر لحظة وصوله …
-بابي ! .. هتفت “شمس” باكية و هي ترتمي بين أحضانه
تلقّفها “يحيى” حاملًا إيّاها على ذراعه …
-روح بابي ! .. تمتم لها و هو يضمها بحنانٍ إلى صدره :
-أنا هنا يا حبيبتي.. ماتخافيش.. دلوقتي هاشوف مامي و هاخلّيها تجيلك بنفسها.. بس دلوقتي عايز منك إنك تدخلي أوضتك و ماتخرجيش منها إلا لو ندهت لك.. اتفقنا ؟
أومأت له و هي لا تزال بحضنه.. فقّبل رأسها.. ثم أنزلها دافعًا بها بلطفٍ تجاه غرفتها.. بينما يتجه هو نحو غرفة النوم الرئيسية …
قرع على الباب ثلاثًا هاتفًا :
-رحمــة.. افتحي البـاب.. رحمـــة.. افتحي و ماتخلّيش حسابك يتقل معايا رعبتي البنت.. لو مافتحتيش الباب ده خلال 3 ثواني هاكسره و مش هاكتفي بكده لو دخلتلك بالطريقة دي.. أنا حذرتك !!
و منحها أكثر من ثلاث ثوانٍ.. احتقن وجهه بالدماء و هو يتراجع خطوتين للوراء.. ثم يندفع مصطدمًا بكتفه بالباب بقوة …
مرة
مرتان
ثم تحطّم القفل …
خطى “يحيى” داخل الغرفة و الشرر يتطاير من عينيه.. لكنه لم يجدها.. قطب و هو يجول بناظريه أرجاء الغرفة.. لا أثر لها ..
أين هي ؟ .. تساءل و في نفس الوقت وقعت عيناه على باب الحمام الموارب.. و لمح تسرّب مائي آخذًا بالتمدد عبر عتبة الحمام.. انطلق مهرولًا من فوره صوبه.. دفع الباب و دلف لتصدمه رؤية الآتي ؛
زوجته الصغيرة.. “رحمة” الهشّة الجميلة.. و الأقوى و الأنعم في آنٍ واحد.. داخل المغطس _ الذي ينساب فوق صنبور المياه حتى أفاض على حوافه و أغرق الحمام و ماعداه _ لا يرى منها إلا رأسها ذي الشعر الداكن يطفو فوق السطح المائي المحدود …
-رحمــــــة !!! .. صاح “يحيى” مصعوقًا
وثب ناحيتها بلحظةٍ منتزعًا إيّاها من شعرها حتى أخرج رأسها من الماء.. حمل جسدها العاري بين ذراعيه و عاد بها إلى الداخل و هو لا ينفك يصرخ بوجهها الشاحب شحوب الموتى :
-رحمــة.. رررددي عليـا.. عملتـي إيـه ؟ .. ليـه ؟ .. ليــه يا رحمــة ؟؟؟؟
و كأنه لا يعرف أسبابها حقًا !؟؟
و كأنه هو الذي لم يتسبب بدوافعها !؟؟؟
تكفي المواجهة الأخيرة لتجعلها تلقي بروحها إلى التهلكة.. و يكفي إذلاله لها بأن يجعلها تركع و تضع رأسها بالأرض لكي تقبّل حذاؤه.. يكفي إنه و للمرة الثانية خلال سنوات زواجهما يجبرها.. يغتصبها …
-رحمة ! .. ردد اسمها بيأس و هو يضعها بالفراش
استوحشت تعبيرات وجهه و يستكمل من بين أسنانه :
-مش هاتموتي.. انتي سامعة ؟ .. ممنوع تموتي !!
و طفق من فوره يطبّق عليها الإسعاف القلبي الرئوي ضاغطًا بكلتا يداه منتصف قفصها الصدري.. لكن ما من فائدة.. لا تستجيب لضغطه المتواصل.. ما جمّد الدماء بعروقه أكثر و جعله يتصبب عارقًا باردًا لشدة خوفه و ذعره من أن يفقدها.. أو إنه قد فقدها فعلًا !!!
تحسس نبضها واضعًا أنامله فوق شريانها السُباتي.. موجود.. لكنه نوعًا ما ضعيف.. ضعيفٌ جدًا ..
تراجع عنها و دار حول نفسه باحثًا عن أيّ شيء يلبسها إيّاه.. إلتقط منامتها الطويلة الفضفاضة.. ألبسها إيّاها عبر رأسها.. ثم حملها على ذراعيه راكضًا إلى الخارج.. يجتاز بها الشقة.. من ثم المصعد.. وصولًا إلى سيارته أسفل البناية ..
وضعها بالمقعد الخلفي.. و فجأة تذكر ابنته قبل أن يستقل بمكانه خلف المقود ..
سقط بصراعٍ.. ينظر إليها و إلى الأعلى.. صراع لم يدم إلا للحظاتٍ.. ثم حسمه منطلقًا مرةً أخرى إلى الشقة.. ذهب مباشرةً لغرفة “شمس”.. وجدها تجلس بأدبٍ على طرف سريرها.. هادئة كما أمرها ..
مد لها يده آمرًا بصوت أجش :
-يلا يا شمس.. تعالي معايا !
**
لم ينقطع بكاء الصغيرة منذ هبوطها و رؤية أمها على تلك الحال في سيارة أبيها.. جلست بالخلف إلى دوارها.. تضع رأسها في حجرها ممسدة على شعرها و هي تغمغم من بين نشيجها الطفولي :
-مامي.. مامي بليز افتحي عنيكي.. انتي مش بتردي عليا ليه ؟ .. مامي اوعي تسيبيني و تمشي.. ماااامـي …
في خلال فترةٍ وجيزة.. كان “يحيى” قد صطف سيارته أمام مشفى المدينة التخصصي.. بلا ترددٍ.. مضحيًا بكل شيء في سبيل إنقاذ زوجته.. حملها مرةً أخرى آمرًا ابنته باتباعه دون أن يغفل عنها و لم يهمه ما لو عرفه أحد هنا.. ما لو اكتشف أمره و ذاع سر زواجه و انجابه من أخرى ..
وضعت “رحمة” بقسم الطوارئ على الفور.. و أخذ “يحيى” صغيرته و جلس منقطع الأنفاس يفتك به الانتظار.. لا يملك وسيلة تواسي هلعه الشديد سوى احتواء “شمس” بين ذراعيه.. إنها قطعة منها.. من روحها.. من ريحها.. تحمل بعض ملامحها.. ترث ضحكتها و رقتها.. إنها ثمرة العشق المريض.. الأسود.. الحيواني.. و المُميت.. و رغم ذلك كله هي بهذا الجمال الفريد.. مثل أمها ..
بعد مرور عشرون دقيقة بالداخل.. كانت أعصابه على شفى الإنهيار.. أخيرًا خرج الطبيب المقيّم.. نهض “يحيى” على الفور تاركًا ابنته بمكانه و توجه صوب الطبيب متسائلًا بتلهفٍ عنيف :
-دكتور.. أرجوك طمنّي.. مراتي كويسة صح ؟
رفرف الطبيب بعينيه و هو يرد عليه بفتورٍ :
-أطمن يافندم.. مرات حضرتك هاتبقى بخير.. بس مقدرش أضمن استقرار وضعها.
زوى “يحيى” ما بين حاجبيه قائلًا :
-مش فاهم !!
أوضح الطبيب أكثر :
-المدام حاولت تنتحر.. كانت أخدة أقراص بروزاك بافراط شديد.. يمكن ده إللي ابطأ محاولة الغرق في البانيو لأنها بالكاد كانت بتتنفس.
عقار “بروزاك” ؟ .. إنه مضاد اكتئاب شهير.. و لكن أنّى لها معرفته ؟ .. كيف ؟ .. و منذ متى ؟
كزّ “يحيى” على أسنانه يلعن نفسه سرًا لأنه لم ينفك عن أذيتها نفسيًا بكل الطرق.. و لم يحاول حتى ردع نفسه ظانًا بأنه هكذا يروّضها و يلزمها الامتثال بما يأمرها به و ما ينهاها عنه ..
ماذا جنى في الأخير ؟
حوّلها لإنسانة مريضة.. كادت تقتل نفسها للمرة الثانية.. ألم يتعلم من الأولى !؟؟؟
-انت لحقتها على آخر لحظة ! .. قرر الطبيب ماطًا فمه بأسفٍ
و أردف بصوت أقرب للحدة :
-احنا هانستنى لما تفوق و نستشير اخصائي نفسي يشوفها.. مش هاتخرج من هنا قبل ما هو يقرر.. و إلا هانضطر نلجأ للشرطة لو حضرتك صممت إنها تخرج.
نظر له “يحيى” غير مصدقًا.. طبيب غريب.. يخشى على زوجته أكثر منه !!!
لوى “يحيى” فمه بابتسامةٍ تهكمية و قال بهدوء :
-ماتقلقش يا دكتور.. أنا مش ممكن أقف ضد مصلحة مراتي.. و أكيد أنا شخصيًا مش هاسمح لها تخرج قبل ما اطمن عليها مية في المية.
**
عندما فتحت عيناها من جديد.. لم تكن تتوقع بأن ترى ذات الصور الدنيوية الباهتة.. كانت تأمل كثيرًا برؤية وجه أمها.. و الاعتصام بذراعيها من فكّ الحياة الفانية المُهلكة ..
كانت تمنّي نفسها بأنها راحلة عمّا قريب و ستجد راحتها أخيرًا.. و لكن.. عجبًا !
ما هذه البرودة ؟ .. و الضوضاء الناجمة عن أجهزة غريبة.. أين هي ؟
و لما الرؤية مشوّشة إلى هذا الحد !؟؟
اعتصرت جفنيها علّها تتخلّص من الغشاوة التي تجلل عينيها.. و قبل أن تعاود فتحهما ثانيةً تسلل صوته إلى مسامعها :
-حمدلله على السلامة !
و تعلّق بصرها به.. حيث كان يجلس قبالتها مباشرةً.. فوق كرسي.. مادًا جسمه للأمام و كأنه كان هن امنذ مدة طويلة يحدق فيها فقط …
-أنا فين ؟ .. خرج صوتها ضعيفًا بالكاد يُسمع
جاء جوابه فوريًا بمنتهى البساطة :
-انتي في المستشفى.. بصي حواليكي !
فعلت ما أمرها به و جالت بنظرها أنحاء الغرفة مربّعة التصميم.. جرداء.. إلا من أريكة جانبية استلقت “شمس” فوقها غافية و قد دثّرها أبيها سلفًا ببطانية سميكة.. النافذة الزجاجية معتمة.. ممّا أوحى لها بحلول المساء ..
عاودت النظر إليه من جديد قائلة بصعوبةٍ لا تخلو من الحدة :
-انت وصلت إزاي ؟ و جبتني هنا ليه ؟ لحد امتى هاتفضل تتحكم فيا ؟ لحد امتى هاتفضل رابطني بيك و تذل و تهين فيا !!؟؟
رد “يحيى” بهدوئه المستفز :
-ممكن نأجل الكلام ده لما نطمن عليكي و نرجع بيتنا ان شاء الله.. ارتاحي دلوقتي يا رحمة.. ارتاحي.
-مافيش راحـة !! .. صرخت بوجهه بجماع نفسها
لتنتفض “شمس” في نومها باكية ..
رمقها “يحيى” بنظرةٍ غاضبة.. ثم قام متوجهًا نحو ابنته.. أخذ يهدهدها لبعض الوقت و يتحدث إليها بلطفٍ.. حتى غفت مجددًا ..
تركها على مهلٍ و عاد ليجلس أمام زوجته.. اتسم وجهه بتعبيرٍ جدي و هو يقول بصوتٍ خفيض :
-لو مابقتيش تعمليلي حساب.. لدرجة إنك بايعة حياتك بسببي …
-عشان أخلص منك ! .. قاطعته بغضبٍ
ابتلع كلماتها و أردف :
-هانت عليكي نفسك.. عشان تخلصي مني.. بس مافكرتيش في بنتك.. مافكرتيش هاتعمل إيه منغير أم.. مصيرها هايكون إيه.. هاتتربى إزاي و نفسيتها طول عمرها تبقى إيه شكلها لما تعرف إن أمها انتحرت بسبب أبوها.. انتي للدرجة دي جبانة ؟ و كنتي بتمثلي عليا إنك قوية بقى !!
حرّكت “رحمة” يدها بعنفٍ.. فوخرتها الأنابيب الموصولة بساعِدها و انتزعت منها آهة ألم.. وجدته صار قربها بلحظةٍ.. يمسك بيدها بلطفٍ متمتمًا بقلقٍ :
-انتي كويسة ؟ وريني إيدك !
و أخذ يقلّب يدها أمام عينيه ليطمئن من إنها لم تؤذي تفسها و لم تتسبب بنزفٍ عرضي.. بينما تسحب “رحمة” يدها من قبضته بجهدٍ مغمغمة بقهرٍ من بين دموعها :
-اوعى.. ماتلمسنيش.. أنا بقيت أكره لمستك دي.. بعد ما كنت بحبها و بحب كل حاجة فيك من أول يوم شوفتك.. كرهتني فيك.. خلتني ألعن الساعة إللي جمعتنا.. انت دمرت فيا كل حاجة حلوة.. سوّدت الدنيا في عنيا و خليت نفسي تهون عليا زي ما قلت.. خليتني مابصش ورايا على أي حاجة حتى بنتي إللي حيلتي في حياتي كلها ..
أخذت تغص و تنتحب بحرارةٍ و هي تكمل و الدموع تغرق وجهها و تعميها عن رؤيته بوضوح :
-أنا عمري ما حلمت أعيش في المستوى إللي معيّشني فيه.. عمري ما اتمنيت جاه و مال.. أنا كان نفسي ألاقي انسان يحبني بجد.. يخاف عليا و يراعيني.. يعوضني قسوة الدنيا و أبويا عليا.. انا اكتشفت انك زي ابويا بالظبط ماتفرقش عنه.. و غبائي إني كنت بحكيلك هو كان بيعمل فيا إيه.. كان بيقسى عليا و يضربني و يبهدلني من و انا عيّلة صغيرة.. انت بقى كملت عنه.. و بقيت تعمل زيه و أكتر.. انا استحملت كتير منه.. و منك عشان في الأول كنت بحبك.. و بعدين عشان بنتي.. لكن خلاص.. خلاص مابقتش قادرة استحمل.. تعبت.. أنا تعبت.. تعبت و نفسي أرتـااااح …
طريقتها.. كلماتها.. بكائها.. كلها أشياء جلبت الدموع إلى عينيه هو الآخر ..
لكنها بقيت متحجّرة بمآقيه.. لم يتحمل رؤيتها تبكي بحرقةٍ هكذا.. تحاول كتم فمها بكفها لكي لا توقظ صغيرتها ..
نهض “يحيى” مائلًا صوبها.. أحاطها بذراعيه متجاهلًا زمجرة الاعتراض بصدرها و صدّها إيّاه بقبضتاها في كتفيه.. شدد ذراعاه من حولها يعانقها بقوة صامتًا لبضعة دقائق ..
حتى خارت مقاومتها تمامًا.. و هدأ بكائها إلا من شهقات متفاوتة.. أدار وجهه مقبلًا شعرها و أذنها و عنقها و هو يهمس لها :
-أنا آسف.. أنا هاصلح كل ده.. أوعدك.. هاكسب قلبك تاني يا رحمة.. هاخليكي تحبيني تاني… عشان أنا.. أنا بحبك !
_________________________
الوقت الحاضر …
استنفذ كل محاولاته للتأثير على قرارها.. كل توسلاته و حتى قساوته بإصدار أحكامه على تصرفاتها.. لم يفلح معها أيّ شيء.. و صممت على الذهاب ..
في الصباح الباكر كان كل شيء جاهزًا.. تجمعت العائلة بالبهو السفلي.. و أمرت “صفيّة” بنقل حقيبتيّ السفر الخاصة بها و بأمها إلى السيارة.. بينما تقف “فريال” هانم في متناول أسرتها بمنتهى الاتزان و الهدوء.. تودّعهم فردًا فردًا …
-كان نفسي أسافر معاكي.. و ماكنش ينفع تسافري لوحدك يا فريال هانم !
أبقت “فريال” بصرها منخفضًا في المستوى الذي يأتي منه صوت “يحيى” الإبن.. ابتسمت له ببساطةٍ.. لا تحمل تجاهه أيّ ضغينة أو كراهية.. بل العكس تمامًا.. مدت يدها مداعبة رأسه و هي تقول برقتها المعهودة :
-أنا مش هسافر لوحدي يا حبيبي.. معايا عمتك صافي.. و بعدين انت عندك مدرسة و مزاكرة.. مش هاينفع تسافر معايا المرة دي.
-بس المرة الجاية وعد.. هسافر معاكي !
-المرة الجاية.. وعد يا يحيى.
و انحنت لتقبّله و تعانقه لبضع لحظاتٍ.. أخذ الصغير يدها و طبع قبلة على ظاهر يدها مقلّدًا أبيه ..
إلتفتت نحو بقيّة الصغار.. الثلاث فتيات”ملك” و “فريدة” و “ديالا”.. ضمتهم إلى صدرها معًا متمتمة :
-هاتوحشوني يا بنات.. خدوا بالكوا من بعض و أنا مش موجودة.
بكت “فريدة”.. الأشدّ تعلقًا بجدتها.. لم تود رؤيتها و هي ترحل فولّت راكضة للأعلى ..
تنهدت “فريال” بحرارةٍ و انتقلت أمام “سمر”.. أمسكت بكتفيها و نظرت بعينيها مباشرةً و هي تقول :
-سمر.. حتى لو مش فكراني.. انتي هاتفضلي طول عمرك بنتي التانية مش بس مراتي ابني و أم أحفادي.. أنا عارفة إنك هاتقدري تعدي المحنة دي.. وجودك وسط عيلتك بالدنيا كلها.. صدقيني يا حبيبتي …
أجفلت “سمر” مضطربة من تأثير حديث السيدة النبيلة عليها.. لقد أثارت بداخلها موجة من المشاعر اتحدت مع الإحساس العميق بالعاطفة الذي أوقظه زوجها في قلبها بالأمس القريب.. لم تستطع ردًا عليها و بقيت ساكنة ..
ابتسمت “فريال” و استكملت و هي تضمها بأمومة :
-مش هاوصيكي على عثمان.. و على ولادك.. حافظي على بيتك كويس يا سمر.
لم يبقى سوى “عثمان” الآن ..
كان يقف منزويًا.. مسندًا كتفه إلى عمودٍ ضخم تزيّنه غصون اللبلاب.. يضع يديه بجيبيّ بنطاله.. مطرقًا برأسه.. لكنه أحسّ بأمه حين جاءت و وقفت قبالته.. رفع رأسه على حين غرّة و استقرت عيناه بعينيها ..
ألمها أن تكره التحديق إلى عينيه الشبيهتان بعينيّ والده.. ينظر إليها كما لو إنه “يحيى البحيري”.. لكنها عمدت و على الفور إلى دحض هذا الشعور و أخذت ترمقه بتعاطفٍ هي أهله قائلة بصوتٍ هشّ :
-مش هاتودعني ؟
هز “عثمان” رأسه و رد عليها باقتضابٍ :
-أنا عمري ما ودّعتك.. و لا عمري هاودّعك يا فريال هانم.. و كنت أقدر أمنعك من السفر بسهولة.
فريال بسماحة : ماعملتش كده ليه ؟
تنهد “عثمان” و هو يعتدل بوقفته قائلًا :
-عشان مقدّر وضعك.. عارف إن جايز جدًا تكوني محتاجة فترة تفصلي بعيد عن البيت و عن كل حاجة حواليكي.. و كمان مطمن لوجود صفية معاكي.. لو مكانتش معاكي ماكنتيش هاتسافري مهما حصل.
أومأت له مرتان.. ثم تقرّبت منه حتى تشبثت بكتفيه.. تجذبه إليها فلم يمانع.. تركها تعانقه و لف حولها ذراع واحدة.. بينما تغمغم “فريال” و هي تدفن بالكاد وجهها في عنقه :
-انت ابني أنا.. صحيح دم عيلة البحيري بيجري في عروقك.. صحيح إنك تشبههم في الشكل و الصفات.. لكن انت تربيتي.. و عمرك ما خذلتني.. أنا ثقتي فيك مالهاش حدود.. و دلوقتي مابثقش في حد غيرك يا عثمان.. أرجوك.. خليك زي ما انت اوعى تتغيّر.. اوعى تخذلني !
كان يعي تمام المغزى من وراء كلماتها.. و فهم جيدًا الرسالة التي أرادت إيصالها إليه.. أمسك بيديها ما إن ابتعدت عنه.. رفعهما إلى فمه ليقبلهما مطوّلًا.. ثم نظر لها من جديد و قال بصوتٍ أجش :
-و أنا أرجوكي.. خدي بالك من نفسك.. لو حبيتي تكسريني هتئذي نفسك يا فريال هانم.
ترقرقت الدموع بعينيها الجميلتان و هي تقول من تحت وطأة غصّتها :
-ما عاش و لا كان إللي يكسرك.. ماتقلقش عليا.. أنا هابقى كويسة.. أوعدك.
إلتمعت عيناه هو الآخر و رد بهدوءٍ :
-لو احتاجتي أي حاجة كلّميني.. هكون عندك فورًا.. لما توصلي طمنيني.
أومأت له موافقة.. و قد كانت تشد على يديه بقوة.. و كأنها تستمد منه قوتها.. استغرقها الأمر بعض الوقت لتعلن جاهزيتها للمغادرة ..
أفلتت يديه أخيرًا و سحبت نفسًا عميقًا و هي تواجه العائلة للمرة الأخيرة.. ثم تركتهم متوجهة نحو الخارج و قد أمهلت ابنتها بضعة دقائق أخرى لتلحق بها ..
ما زالت “صفيّة” تودّع صغيرتها “ديالا” التي تعلّقت بحضنها.. تطلّعت إلى أخيها و قالت موصية إيّاه :
-عثمان.. بليز خلّي بالك من ديالا لحد ما باباها يوصل.. أنا ماكنتش أبدًا هاسيبها بس انت عارف مش هاينفع تسافر معايا منغير موافقة صالح.
عبس “عثمان” و هو يرد عليها بغلظةٍ :
-و سفرك انتي كمان منغير موافقته مش مقبول بالنسبة لي.. لولا أنا عارف إنه هايعذرك لما أفهمه إللي حصل.. لكن اوعك تفكري إني ناسي كلامك ليا يا صافي.. لينا قعدة تانية لما ترجعي ان شاء الله.. و مين عارف.. مش يمكن أبعت لك صالح و ديالا لحد عندك و الماية ترجع لمجاريها !!
رمقته “صفيّة” بضيق و لم ترد.. ضمّت صغيرتها لآخر مرة.. ثم ألقت على الجميع السلام.. و غادرت دون أن تنظر خلفها …
**
ترك له خبرًا ما إن يصل إلى مقر العمل.. بأن يوافيه إلى مكتبه الخاص ..
وضع “نبيل” أغراضه بمكتبه و توجه في الحال إلى مكتب رئيسه.. وجده منكبًا على العمل مثل العادة …
-صباح الخير.. خير يا حسين سايبلي خبر في كل حتة !
أغلق “نبيل” باب المكتب و مشى ناحية شريكه.. بينما يرفع “حسين” رأسه محدقًا فيه :
-تعالى يا نبيل.. تعالى أقعد هنا قصادي.
امتثل “نبيل” لأمره و جلس قبالته.. زوى ما بين حاجبيه قائلًا باهتمام :
-دي أكيد حاجة مهمة إللي خليتك تأكد على كل الموظفين إني أجيلك أول ما أوصل.. ما تتكلم يا حسين قلقتني !!
-تشرب إيه ؟
لاحظ “نبيل” اضطراب شريكه.. فانفعل بغتةً :
-فعلًا ؟ انت طالبني بالإلحاح ده عشان تسألني أشرب إيه !؟؟
ساد الصمت لثوانٍ تهرّب “حسين” خلالهم من نظرات شريكه الأصغر سنًا.. ثم عاود النظر إليه قائلًا بثباتٍ :
-نبيل.. أنا عندي مشكلة كبيرة.. مالحقتش أفوق من مشاكل مالك.. طلعت لي مايا !!
نبيل باهتمام أكبر :
-مالها مايا يا حسين ؟؟
كزّ “حسين” على أسنانه و قد بدا غضبه جليًا.. كذلك تردده قبل أن يتكلم ثانيةً مودعًا “نبيل” ثقته كاملة :
-امبارح زارني واحد في البيت.. جه يوريني عقد جواز عليه توقيع بنتي مايا !!
رمش “نبيل” مأخوذًا بالخبر بادئ الأمر.. لكنه سرعان ما تجاوز الصدمة و تساءل مباشرةً :
-واحد مين ؟ يعني من هنا و لا من مصر ؟
-مصري يا نبيل.. بيقول إنه اتجوز مايا من خمس سنين و انفصلوا من سنتين منغير طلاق.
-الجواز ده رسمي يا حسين ؟
-أيوة.. أنا شفت العقد.. كان رسمي على يد مأذون.
زم “نبيل” شفتيه قائلًا بجمودٍ :
-و ازاي انت ماعندكش خبر بالقصة دي ؟ ازاي بنتك تتجوز منغير ما تقولك ؟؟
بالكاد تمكن “حسين” من الرد بشقّ الأنفس :
-ماقالتليش حاجة زي دي.. عمرها ما قالتلي إنها اتجوزت.. و مش فاهم هي عملت كده ليه.. أنا ماكنتش هاعترض أنا طول عمري نفسي أجوزها و أطمن عليها مع راجل كويس يصونها و يحافظ عليها.
-انت واجهتها بالواد ده ؟
-طبعًا.. أنا ماكنتش مصدق.. جبتها و وقفتها قصاده.. مأنكرتش ! .. و وضع رأسه بين كفيه مرددًا بضيقٍ شديد :
-أنا مش عارف أعمل إيه ؟ حتى مالك مقدرتش أدخله في الموضوع عشان مش ضامن أخلاقه بعد الحبس بقت إزاي.. قولّي يا نبيل أتصرف إزاي.. الواد إللي اتجوزته ده شكله صايع.. ده جاي يساومني على عقد الجواز.. بيقول هي مابقتش عايزاني بس لو عايزة حريتها تدفع تمنها.. و قال كلام تاني صعب اقوله.. أنا حاسس إن هايجرالي حاجة.. مش قادر استحمل إللي سمعته يا نبيل مش قادر !!!
-اهدى يا حسين ! .. هتف “نبيل” بخشونةٍ :
-اهدى و أمسك أعصابك.. ده حتة عيّل صايع زي ما قلت.. ماتقلقش و سيبهولي.. أنا هاتصرف !
رفع “حسين” رأسه لينظر إليه من جديد.. و سأله على الفور :
-هاتعمل إيه !؟
تجهم وجه “نبيل” و هو يرمقه بتلك النظرة الحالكة التي لم تجد طريقها إلى عينيه منذ زمنٍ بعيد.. و قال بهدوءٍ مخيف :
-هاعرفه بنفسي.. هاعرفه مين هو نبيل الألفي !
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)