رواية غوثهم الفصل الثامن والأربعون 48 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثامن والأربعون
رواية غوثهم البارت الثامن والأربعون
رواية غوثهم الحلقة الثامنة والأربعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن والأربعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
والله يا خالقي إن العيش بعيدًا عنكَ
أشبه بالكُربة
والتيه عن طريقك في النفوس مثل
ألم الغُربة
فنحن وقلبي لم نجد في رحابك سوى رحمةً
وفي الغياب نيرانًا ولوعةً
اقبلني يا ربي في رحابك،
فأني عبدٌ ذليل يقف على بابك
_”غَـــوثْ”
__________________________________
الطِيْور علىٰ أشكالها تَقع
فَياليت قَلبكَ
يُشبه قلبي ويقعا سويًا،
وياليتها تجمعنا الصُدف معًا،
فربما نكونُ متشابهين كما طائرين،
لكن تذكرأيضًا أن
الطيورلا تَملُك سِوىٰ الجناحين
تُحلق بهما في أفقٍ بعيدٍ عنها
لكنها لا تنسى أبدًا موطنها،
وأنا يا شبيهي كنت مثل الطير غريبًا، وفيكَ وجدتُ وطني،
فإن كان لكل غريبٍ وطنًا يرجع له
فالطَـير أبدًا وأمدًا لن يُنسىٰ عِشهُ.
<“تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”>
صوتها هُنا لم يكن في وقته تمامًا، لم يكن مُرحبًا بها هُنا،
وما أكد هذا هي النظرات التي نظروا لها بها وخاصةً “يوسف” الذي وقف في المنتصف تائهًا ما بين “فاتن” و بين “غَـالية” التي تركت مقعدها وسارت بخطى وئيدة إلى مكان “فـاتن” خطى تشبه خطوات الميت بلا روح، أما الأخرى فتلقائيًا خشيت من اقترابها ولم تقوى حتى على إخراج حرفٍ واحدٍ من طرف لسانها.
وقفت “غالية” تمعن النظر في وجهها وكأنها تتبين ملامحها أو لربما تستنبطها من ذاكرتها، لا تصدق أنها أصبحت هُنا أمامها ولكي تتأكد هي من هذا، التفتت لـ “يوسف” بعينين دامعتين تسأله بنبرةٍ قتلته هو حينما أوضحت مدى القهر فيها:
_هي ؟ هي صح ؟
أومأ موافقًا لها بحزنٍ لم يكن عليه، بل على والدته التي نزلت دموعها والتفتت تدفع “فـاتن” في منكبيها وتضربها بكفيها فيهما وهي تصرخ في وجهها:
_طـــب لـــيه !! ها ليه يا “فــاتن”، ليه تعملوا فيا كدا
ليه تحرموني من ابني ومن جوزي حتى بعد موته، ليه تخلوني عايشة مقهورة على ابني ؟! ليه دا أنا كنت بعادي الكل علشانك، حتى “مصطفى” كنت بقف قصاده علشانك، ليه يا “فاتن”؟؟
كانت تتحدث بانهيارٍ كتمته في قلبها لسنين كثيرة، غضبٌ عارمٌ أشبه بالبركانِ المدفون ينتظر فقط هزة أرضية لكي ينفجر ويخرج من فوهته، اقترب “يوسف” و “أيوب” معه أيضًا فيما وزعت “غالية” النظرات بين الجميع وهي تبكي لتجدهم مشفقون عليها، حينها اقتربت من “قـمر” تسحب يدها حتى وقفت بها من جديد أمامها وهي تقول بنبرةٍ عالية وكأنها حُصرت بين الماضي الموجع والواقع القاتل:
_شايفة دي ؟؟ دي بنت أخوكِ، عاشت عمرها كله متعرفش غير اسم أبوها وصورة واحدة عندنا، وعاشت عمر كامل مقهورة على أخوها وفاكر إنها في الدنيا ملهاش حد ومقطوعة.
بكت “قـمر” وهي تستمع لحديث والدتها وتوسلتها أن تتوقف بقولها:
_كفاية يا ماما، أبوس ايدك كفاية.
لم ترد “قـمر” أن تنفتح جروحها من جديد ولم تود إظهار كل هذا أمام الناس وخاصةً “أيـوب” الذي ظهر الأسى على ملامحه، لكن الأخرى صرخت فيها بملء صوتها وهي تقول باكيةً بقهرٍ ازداد عن السابق:
_لأ مش كفاية، قوليلها إحنا شوفنا إيه، عرفيها عيشنا ازاي، عرفيها خالك عمل إيه علشاننا، عرفيها كام مرة تسأليني وأنا مقدرش أجاوبك، وجاية لحد هنا برجلك !! يا بجاحتك يا شيخة، واخدين مني ابني وقاهرني عليه علشان تــذلــوه !! ياريتكم حتى كرمتوه أهو يبقى أهون من الفقر اللي كان هيعيشه معايا، منكم لله ربنا ينتقم منكم، تشوفي نفس حرقتي دي في عزيز عينك زي ما جربت أنا القهرة طول العمر اللي عدى”
اقترب “يوسف” من والدته يحتضنها حتى وجدها تتمسك به من جديد وتتوسله أن يبقى معها، تخشى فقدانه من جديد وتخشى أن يذهب بعيدًا عنها، تخشى هذه العائلة البغيضة، فيما ابتعد عنها نسبيًا يهتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_أنا معاكِ أهو، رجعتلك تاني والله معاكِ أنا بقيت هنا.
حركت رأسها موافقةً وهي تخبره أنها تصدقه أما هو فتركها بعدما مسح على ظهرهل واقترب من عمته التي وقفت تبكي فوجدته ينطق بتصلده المعتاد مع الآخرين وهو يضغط على مرفقها:
_تغوري من هنا ومش عاوز أشوف وش واحد فيكم، إيه اللي جابك هنا ؟ جاية علشان تزودي قهرتها ؟ عارفة أني من يوم ما قابلتها ومحدش فينا فتح بوقه عن اللي فات علشان محدش فينا يوجع التاني؟ جاية لحد هنا تتغندري علشان تزودي وجعها ؟؟ أمشي.
دفعها من يده بعيدًا حتى كادت أن تسقط أرضًا، فتدخل “أيوب” يحول بينهما وهو يقول بنبرةٍ جامدة يعيده إلى رشده:
_أهدا واركز يا “يوسف”.
انتبه له “يوسف” وابتسم بتهكمٍ ثم قال بسخريةٍ:
_طب خدها لأبوك وخليه يشوف بنت خالته بتعمل إيه وقوله “يوسف” بيقولك أنه مكبرك لحد دلوقتي، بس المرة الجاية أنا مش هعمل حساب لحد، مشيها يا “أيــوب”.
صرخ في وجهه بجملته الأخيرة فيما وقف “أيوب” مشدوهًا من بعد كلمة “يوسف” بشأن قرابة والده بهذه المرأة الغريبة عنهم، أما “فاتن” فكل ما كان عليها فعله أن تبكي فقط ثم نظرت لـ “قـمر” التي بدا الحزن عليها واضحًا والقهر على منظر والدتها التي كانت تبكي بوجعٍ حتى اقتربت “أسماء” من “فاتن” تدفعها للخارج وهي تقول بنبرةٍ جامدة:
_عاوزاكِ دلوقتي تغوري من هنا، تروحي لأخوكِ الناقص وجوزك ابن العالمة وتعرفيهم إنك عرفتي مكاننا علشان ييجوا وساعتها وربي وما أعبد لأكون منسلة الشبشب فوق راسكم كلكم يا عيلة ناقصة مشافتش أصل ولا عندها رباية، روحوا ربنا ينتقم منكم، يخلصه ربنا منك يا “فاتن” في ابنك إن شاء الله.
أرادت “فاتن” أن تصرخ وتخبرهم بما عايشته وكيف تحولت حياتها إلى جحيمٍ من بعد موت أخيها، أرادت أن تخبرها أنها فعلت ما بوسعها لكي تنقذ “يوسف” قبل نفسها لكنها لم تقو على هذا، أرادت اخبارهم أن “نادر” من الأساس طوال الأعوام السابقة بعيدًا عنها بعد الكواكب الأخيرة عن الشمس، لكن لم تقوى على هذا بل التفتت لكي تغادر المكان فأوقفتها “غالية” وهي تقول بقوةٍ واهية تسلحت بها بعدما أدركت أن ابنها لازال معها:
_الدنيا بتدور يا “فاتن” وجه اليوم اللي أقف فيه أشوفها وهي بتدور عليكم كلكم، دلوقتي ابني معايا وفرحت بيه ولسه هفرح بيه تاني وفرحت ببنتي ولسه هحضر فرحها الكبير، الدور عليكِ أنتِ وجوزك تتقهروا على اللي ليكم، وربنا يخلص حقي وحق عيالي منكم، وإن شاء الله قريب، أصلها دعوة مظلوم اتكل على اللي خالقه.
قوتها في الحديث جعلت الخوف يدب في أوصاد الأخرى، تخبرها أنها تملك أقوى الأسلحة وأعتاها، تخبرها أنها وإن لم تأخذ حقها بيدها تستطع أن تأخذه بلسانها، تتوكل بقلبها على خالقٍ اسمه العدل وللخواطرهو الجبار، خشيت الأخرى كثيرًا على نفسها وابنها وركضت من المكان فورًا وهي تبكي وقد ضربتها قشعريرة مثل الكهرباء.
أقترب “يوسف” من جديد يحتضن أمه، هذا العناق الذي حُرِمَ منه وعاش ذليلًا بعيدًا عنه، الملاذ الآمن الذي يحتويه ويضمن نجاته بين ذراعيه من قسوة العالم، وحينها أشار لشقيقته أن تقترب منهما فدلفت الأخرى معه في عناق والدتها التي تمسكت بهما تحفظهما في كنفها، تأمن عليهما بين ضلعيها، بدت كما القطة التي تحمي صغارها من ليالٍ شتوية قاسية.
اقتربت “عـهد” منهم ثم قالت بنبرةٍ هادئة تحدث بها “غالية” وكأنها تربت على قلبها المكلوم:
_متخليش حاجة تزعلك وتنسيكي إنك بقيتي مع ولادك، متخليش حاجة تأثر على فرحتك برجوع “يوسف” ليكِ، صبرك دا جميل أوي وربنا كرمك عليه ورجعلك حبيب عيونك من تاني، بعدين كدا تخلي الليلة تضيع علينا؟ طب أستاذ “أيوب” يقول علينا إيه وهو شايف مراته بتعيط كدا؟ بصراحة أنا كمرات ابنك عاوزة انفد بجلدي قبل ما أعيط أنا كمان.
بدلت نبرتها في ثوانٍ من بين الدعم للمعاتبة الطفيفة و قد انتشرت الضحكات، ضحكاتٌ من بين الحزن والدموع خرجت لتعاند البؤس، أما “أيـوب” فوقف خلف “قمر” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_متزعليش نفسك يا أمي، إحنا معاكِ أهو وربنا كرمك لما رجعلك إبنك وفضلتي صابرة على البلاء ودا كله في ميزان حسناتك بأمر الله، وربنا برضه كرمك من وسع أهو وزي ما قولتي فرحتي بعيالك، وإن شاء الله كمان هتفرحي بأولادهم معاكِ، يبقى نقول الحمد لله على كل حال.
رفعت “غَـالية” رأسها تطالعه بعينين دامعتين وهي تقول بنبرةٍ باكية بعدما شملت الأربعة بنظراتها:
_الحمد لله على نعمة وجودكم كلكم، كنت بتمنى بس ألاقي ابني ويرجعلي تاني في حضني، بقى عندي أربعة حبايب عيوني ومعاكم “عُـدي” و “ضُـحى” يعني كدا أنا مش عاوزة حاجة تاني من دنيتي خلاص.
ابتسم لها “أيـوب” وهو يرى طيبةً تُشبه طيبة أعز القلوب عليه، يرى أمًا تحب صغارها وتحتويهم وتعتبره مثلهم وهو أيضًا يحبها كثيرًا، منذ رؤيته لها وهو يعلم تمام العلم أنها صاحبة القلب الماسي الذي لازال يضوي ببريقٍ خاص يكلله حبها لصغارها وما أحن القلوب إن كان قلب أمًا تحارب وتصمد لأجل صغارها.
بعد مرور دقائق عادت الأجواء تقريبًا لسيرتها الأولى قبل مجيء “فاتن” إلى هنا، دون أن يكترث أحدهم كيف ذهبت وأين ذهبت، أراد “أيوب” أن يذهب إلى بيتهِ وقد رافقته “قـمر” إلى الخارج حينها هو بادر بالحديث حينما سألها:
_أنتِ كويسة ؟؟ أتمنى اللي حصل دا ميزعلكيش.
أومأت له وهي تحاول إجبار شفتيها على التبسم لكنه رأى في عينيها ما حاولت هي اخفائه عنه فلم يكن أمامه سوى أن يحتضنها ويضمها إليه فوجدها تتشبث هي بعناقه وبكت من جديد، وحينذاك تركها تبكي وتخرج كل ما حملته في قلبها من وجعٍ وقهرٍ، كان الصمت يرافقهما لكن القلوب تحدثت وشكت وتبادلت الوجع ليربت كلاهما على الأخر وقد ابتعد عنها يسألها باهتمام ٍ.
_أنتِ بقيتي أحسن؟ تحبي ننزل سوى شوية؟
هزت رأسها بالسلب تنفي قبول عرضه ثم أضافت بنبرة مختنقة:
_أنا كويسة متقلقش، وشوية كمان هكون أحسن.
رفع كفه يحاوط صفحة وجهها ثم قال بنبرةٍ هادئة رخيمة وهو يزيل الدموع العالقة في أهدابها بإبهامه:
_مش عاوزك تزعلي نفسك على أي حاجة فاتت، عاوزك بس تبصي للي جاي وتفرحي بيه، وإن شاء الله ربنا يمدني بالقوة اللي تقويكِ أنتِ ذات نفسك، ومتخليش الشيطان يفهمك إن حزنك دا ملهوش علاج أو حتى أجر، بالعكس حزن الإنسان وصبره ووجع قلبه كل دا بناخد أجر عليه يا “قـمر” ودا مش كلامي دا كلام رب العباد لما قال في كتابه العزيز:
_﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾
_﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
_﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾
_﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
_﴿واصبر على مايقولن واهجرهم هجرا جميلا
قال الآيات الكريمة مستدلًا بها من الكتاب الحكيم ثم أضاف من جديد مُكملًا سابق حديثه بقوله:
_ربنا سبحانه وتعالى من رحمته علينا جعل الصبر عبادة من ضمن العبادات وجعل اليقين بيه وبرحمته علينا عبادة، والحزن اللي بيصيب قلوبنا خير لينا وبناخد أجر عليه، طب ازاي ؟ هقولك أنا إزاي، قال رسول الله (ﷺ) :
“ مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ ”.
_ النصب = التعب
_ الوصب = الألم
فاصبروا واحتسبوا تؤجروا على ما بُليتم به.
تنهدت هي مُطولًا ثم ردت عليه بنبرةٍ ممتنة لتواجده في حياتها أو لربما وجود شخصيته التي تزيل عنها الألم في أصعب لحظاتها:
_شكرًا إنك معايا وشكرًا إنك جنبي في كل وقت.
ربت على كفها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_الشُكر لله سبحانه وتعالى، ربنا يراضيكِ ويجبر بخاطرك ويبعد عن قلبك الحزن يا “قـمـر”.
لثم جبينها بحنوٍ بعد حديثه وتركها ورحل من البيت بينما هي نظرت في أثره بحبٍ بالغٍ، وكأنه في كل مرةٍ يقدم لها دليلًا ملموسًا على أن هذه الحياة الغير منسقة لم يلزمها سواه هو وفقط.
__________________________________
<“بعض الأمور تأتي بالذكاء، ليس القوة”>
إن القلوب دومًا على اتصالٍ ببعضها حتى وإن لم تتفوه الألسنة بهذا، وقد يكون الوسيط بين القلوب هو الأعين، تلك الأعين التي تفيض وتنطق وتصرخ معبرةً عن وجعها وكأن القلب واللسان هي تنوب عنهما في التحدث.
وقف “عبدالقادر” بحفيده على مقدمة شارع بيت عائلة “شلبي” فابتهج وجه الصغير بفرحةٍ كُبرى وسأل جده بحماسٍ كبير يأمل الحصول على جوابٍ يُرضي رغبته:
_جدو إحنا هندخل لميس “نـهال” ؟
أومأ له الأخر موافقًا بوجهٍ مُبتسمٍ مما جعل “إيـاد” يقفز في وقفته بحماسٍ أكبر وقد رافق فعله حركته المتقدمة وهو يسحب جده إلى هُناكَ، أما الآخر فانصاع له وتحرك مُذعنًا وراء رغبة صغيره ولم يقدر هو على إنكار فرحة هذا الصغير.
وصل إلى محل “شلبي” وألقى عليه التحية بقوله:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاضي يا حج؟
انتبه الأخر لمصدر الصوت ولم ينكر ذهوله من المجيء إلى هنا، “عبدالقادر العطار” في أرضه بنفسه ؟ الأمر إذًا في غاية الأهمية، لذا ترك محل جلوسه واقترب منه يرحب به ويتبادل كلاهما العناق حتى أضاف “شلبي” مُهللًا بقدومه:
_نورت يا حج المكان، ومعنى إنك تيجي لحد هنا كدا دي كبيرة أوي أوي وأكيد شرف ليا، اتفضل تعالى.
دلف “عبدالقادر” بحفيده ثم جلس على مقعد المكتب أمامه وضم الصغير إليه وهو معرفًا به على حفيده:
_دا “إيـاد” حفيدي الوحيد، أظن أنتَ عارفه.
كان حديثه يواري خلفه نبرة أخرى غير النبرة التي حملت التعريف مما جعل الأخر يُضيف بتوترٍ طفيفٍ من موقفه مع الصغير:
_آه طبعًا عارفه، “إيـاد” حبيبي جه هنا مع والده قبل كدا.
أومأ “عبدالقادر” موافقًا ثم قال بنبرةٍ معاتبة:
_طب ولما أنتَ عارفه وعارف أنه حفيدي، ينفع عملتك دي يا حج ؟؟ أومال لو مش ولاد سوق واحد واللي في أيد التاني مش ليه وأنتَ عارف كدا كويس، وإذا كان على تربيتي فهي زي الجنيه الدهب محدش يقدر يعيب فيها، يبقى لازمته إيه ؟؟.
كاد “شلبي” أن يتحدث ويبريء نفسه ويدافع عن فكره العقيم لكن صرامة الأخر حين تبدل أسلوبه تمامًا جعلته يتراجع متقهقرًا فيما أضاف “عبدالقادر” من جديد:
_أنا مش جاي أعاتب وألوم، أنا جاي أقولك متخليش شيطان الإنس يلعب في راسك، أظن أنتَ عارف أخواتك من بدري وإن محدش فيهم بيفكر في التاني، ولما وقعت محدش مد أيده منهم ليك، يبقى ملهمش حق دلوقتي ييجوا يتدخلوا في حياتك، وأنا عارفك خايب وأهبل قدامهم.
زفر “شلبي” بقوةٍ وهتف بقلة حيلة كمن غُلِبَ على أمره:
_يا حج أنا كبيرهم، يعني اسيبهم إزاي بس، هما كل واحد فيه وراه هم ما يتلم وديون متلتلة فوق راسهم، واللي معاه يميل للي مش معاه، أظن لو مكاني هتعمل كدا.
رد عليه “عبدالقادر” بنبرةٍ جامدة:
_لأ مش هعمل كدا، مش هطاطي ليهم، كل واحد بيشيل شيلته، آه أنا أساعد مقولتش حاجة، إنما مسيبش حقي ليهم ياكلوه ويتحكموا فيه وفي بيتي، قُصر الكلام أنا مش جاي علشانك أصلًا، أنا جاي علشان أشوف “نـهال” هي فين؟
تعجب وتفاجأ من طلبه لرؤية ابنته وربما يكون ذُهِلَ أيضًا لكنه أخرج هاتفه يطلب من زوجته أن ترسل ابنته له، أما الآخر فابتسم بانتصارٍ وكذلك “إيـاد” أيضًا الذي انتظر قدومها بفارغ الصبر، صديقته المقربة أوشكت على النزول بعدما حُرِم من لقائها ومهاتفتها حتى استذكار دروسه.
نزلت “نهال” متهجمة الملامح واجمة الوجه كحالها منذ ما يقرب عشرة أيام، عادت لأيام انفصالها الأولى حينما أتت إلى بيتها فاقدة لكل شيءٍ ولم تملك أي شيءٍ، لكنها لم تتوقع أن ترى “إيـاد” هُنا، لم تتوقع أن تجده في بيتها حتى أنها كذبت عينيها في باديء الأمر، لكنها هتفت اسمه بلوعةٍ جعلته يركض لها مُقتربًا منها بعدما فرق بين ذراعيه كاستعدادٍ منه لكي يُعانقها حتى حملته هي بين ذراعيها من جديد كأول لقاءٍ جمعها به.
بكت بصمتٍ لم ينتبه له سوى “عبدالقادر” الذي نظر لها بشفقةٍ يخالطها الإعجاب وهي تتشبث بالصغير الذي استقر بين ذراعيها وهتف بنبرةٍ فرحة:
_وحشتيني أوي أوي يا “نهال”.
شددت مسكتها له وهي تقول بنبرةٍ مختنقة:
_أنتَ اللي وحشتني أوي فوق ما تتخيل، معلش انشغلت عنك شوية بس كان فيه ظروف صعبة، بس أهو أنا شوفتك تاني.
تدخل “عبدالقادر” ينطق بنبرةٍ هادئة ردًا عليها:
_أنا قولت طالما حاله وقف يبقى يجيلك، لا راضي ياكل ولا يذاكر ولا يسمع كلام “آيات” كمان مش راضي يقعد مع حد غير “أيـوب” وبس.
أنزلت الصغير يجاورها وهي تقول بنبرةٍ مبحوحة:
_أنا آسفة أني قطعت التواصل فجأة كدا، بس كان فيه ظروف صعبة شوية، أكيد مكانش قصدي يعني أبعد كدا مرة واحدة.
سألها باهتمامٍ يغلفه الدهاء وكأنه يقر بما يستفسر عنه:
_مش خلصت الظروف دي خلاص، بكرة تيجي علشان دروسه تبدأ خلاص مبقاش فيه وقت، ولا سيادتك عندك اعتراض بقى؟؟
حركت رأسها نحو والدها الذي بدت نظراته خاوية لا تفهم منها أي شيءٍ حتى قال “عبدالقادر” بتهكمٍ ساخر:
_هو يقدر يمانع ولا إيه ؟؟ متخلينيش أقلب عليه بقى.
ضحكت له ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_وأنا تحت أمركم وعيوني كلها فِدا “إيـاد”.
ضحك الصغير بسعادةٍ بالغة ثم سألها باهتمامٍ:
_يعني بكرة هتيجي ؟؟ استناكِ؟
أكدت له حديثه حينما هزت رأسها مومئةً بموافقةٍ جعلته يحتضن وكذلك مالت هي عليه تضمه إلى عناقها، هذا الكوكب الصغير الذي تشعر هي بانتمائها له دونًا عن سائر الكواكب بمداراتها، وقد لاحظ “عبدالقادر” قوة الرابط بينهما من خلال سعادة الصغير ومن خلال الراحة التي تشكلت على مُحياها فور رؤيتها للصغير.
بعد مرور بعض الوقت رحل “عبدالقادر” بالصغير بعدما جلس مع “نهال” تطمئن على شئونه وما إن رحلا من المكان التفتت لوالدها تحدثه بنبرةٍ تبدلت كُليًا وهي تقول بنبرةٍ جامدة كعادتها معه:
_اتفضل علشان الغدا قرب يخلص.
تركته وصعدت للأعلى أما هو فنظر في أثرها بمشاعر متخبطة، أبوته تُحتم عليه أشياءً وعاداته وتقاليده ومجتمعه العقيم يفرض عليه نقيضها، ومثله من يحظى بمكانةٍ كُبرى وسط رجال السوق والعمل يجب عليه أن يحافظ على سمعته وصورته وسطهم حتى وإن كانت الضحية هي ابنته الضعيفة.
__________________________________
<“أهلًا بفرحٍ يزرو ديارنا الموحشة”>
وصل “أيـوب” إلى بيته فوجد “آيات” تجلس برفقة “أيـهم” الذي بدل ثيابه بأخرى بيتية وجلس يحتسى الشاي بملامح شاردة في حاله وحال صغيره، هل سيعاقب الصغير نتيجة أفعاله هو ؟ هل سيتحمل نتيجة ركوب والده القطار الخاطيء لأنه لم يتحمل إنتظار القطار الصحيح؟ التوقيت دومًا يُشكل في حياته عاملًا هامًا، في السابق أتته “أماني” وهي الشخص الخطأ في التوقيت الصحيح، والآن تظهر “نهال” بمثابة الشخص المناسب لكن التوقيت لم يكن مناسبًا، صدق من قال في قديم الأزل:
“في العَجلة الندامة” ويبدو أنه كانوا مُحقين فها هو يعض أصابعه من الندم على اختيارٍ خاطيءٍ لم يتأنى حتى لينعم بالسلامة.
جلس “أيوب” بجوارهما بعدما ألقى عليهما التحية فانتبه له “أيـهم” ورد عليه تحيته حتى قالت “آيات” بتعجبٍ:
_جايين بدري يعني النهاردة ؟ مش عوايدكم.
جاوبها “أيوب” بنبرةٍ هادئة يقول:
_الجو مريح اليومين دول دخلة مدارس كل سنة وأنتِ طيبة، المهم بابا فين و “إيـاد” ؟؟.
همت أن ترد عليه وتخبره لكن الباب فُتِح ودلف منه “إياد” يركض للداخل وفي يديه يمسك حقيبة بلاستيكية بحلوياته المُفضلة وخلفه كان “عبدالقادر” الذي أغلق باب بيته ثم أقترب منهم يلقي عليهم التحية ويجاورهم في الجلوس.
لاحظوا تبدل حال “إياد” الذي أشرقت ملامحه مثل سطوع الشمس من بعد الغيوم، مما جعل والده يسأل بتعجبٍ:
_كنتم فين ؟ اتأخرتوا وبعدين محلقش يعني.
وقف الصغير أمام والده يهتف بنبرةٍ مرحة:
_روحت عند “نـهال” شوفتها وكلمتها وهتيجي بكرة هنا.
تأهبت حواس “أيـهم” عند ذِكرها أمامه ونظر لوالده الذي أكدت ملامحه حديث الصغير فتحدث هو بنبرةٍ جامدة ينفي أي ظنونٍ أو أفكارٍ تجتمع على عقل الآخرين:
_وروحت هناك ليه يا بابا ؟؟ رايح بنفسك كمان أوعى يكون حد منهم كلمك وحش ولا شاف نفسه عليك.
تحدث “عبدالقادر” بنبرةٍ ضاحكة ردًا على ابنه:
_ليه هو أنا “أيـهم” ولا إيه ؟ محدش يقدر يكلمني وحش ولا حتى يرفع عينيه قصادي، الراجل سكت ومقدرش يفتح بوقه وبنته بكرة هتيجي تكمل الدرس، عاوزك بقى تكلم “بيشوي” و تجيبوا “وعـد” علشان الدرس بكرة.
أومأ موافقًا له ثم أمعن النظر في وجه صغيره الذي تبدل تمامًا وأخذ يفتح الحقيبة يُخرج ما بها وقد جلبها له جده فسأل “أيوب” بسخريةٍ:
_وأنا يا “عبده” مجبتليش معاك ليه؟ كبرت أنا ولا إيه ؟
ضحكوا على قوله وكذلك والده فيما مد الصغير يده لعمه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_جيبتلك معايا أهو، بس مفيش عصير أعملهولنا أنتَ.
خطفه “أيوب” من ملابسه وهو يتصنع ضربه والآخر يضحك رغمًا عنه بسعادةٍ بالغة وكأن كل ما يُريده حُظى له، فيما أمعن “عبدالقادر” نظره في وجه “أيـهم” الذي ابتسم أخيرًا بعدما أزال عبوس وجهه ورسم البسمة على ملامحه من جديد فور ذكر سيرتها أمامه.
أخرجه من تمعنه في وجه ابنه صوت ابنه الثاني الذي قال بسخريةٍ وهو يطالع والده:
_مش بنت خالتك كانت هنا يا حج ؟
انتبه له وهو يذكر اسمها بتعجبٍ واستنكارٍ شديدين:
_مين ؟ “فاتن” ؟
اتسعت عينا “أيوب” الذي هتف هو الأخر بنبرةٍ محتدة:
_دا الموضوع بجد بقى !! “فاتن” بنت خالتك بجد؟ طب ليه مقولتش إنك عندك قرايب، يعني كدا “قـمر” قريبتي؟.
تحدث “عبدالقادر” مفسرًا بلامبالاةٍ وفتورٍ:
_لأ مش قريبتك، “فاتن” بنت خالتي وأمها أخت أمي، بس “مصطفى” أخوها من الأب يعني مفيش قرابة دم بينا، لكن العشرة الطيبة والصحوبية بينا هي اللي ربطت بين قلوبنا، أصل مش كل القرايب ينفع تتقارب، المهم جت ليه ؟
جاوبه “أيوب” بحيرةٍ من سبب مجيئها الذي لا يعلمه حتى الآن:
_مش عارف والله، بس الست “غالية” انهارت لما شافتها وطردتها كمان ولولا وجودي أظن يعني “يوسف” كان زمانه اتهور، بس اتفاجئت إنها قريبتك، أول مرة نعرف ونسمع الحوار دا.
تحدث “عبدالقادر” بنفس الفتور:
_علشان مبحبهمش، وعلشان عيلة ما يعلم بيهم إلا ربنا أنضفهم كان “مصطفى” الله يرحمه وقفل على السيرة الهباب دي بقى، مش ناقصة صداع، أنا هبقى اكلم “يوسف”.
حينما لاحظ “أيوب” ضيق والده من هذه السيرة لم يطل في حديثه بل قطعه تمامًا وركز مع الصغير الذي فلت نفسه وتحرك جهة “آيات” يتقاسم معها مشترياته بينما “أيـهم” فيبدو أنه غرق في رحلة عميقة جعلت “أيوب” يميل على أذنه يهمس بنبرةٍ خافتة:
_أنا بقول تخلي أبوك ياخدك عند ميس “نهال” أنتَ كمان يمكن وشك يزنهر زي وش ابنك كدا.
انتبه له “أيـهم” وسأله بتعجبٍ:
_يخلي وشي إيه؟.
_يزنهر يا أبو “إيـاد”.
كان هذا قول “أيوب” الممازح له الذي نظر أمامه يهرب من أخيه لكنه ضحك رغمًا عنه بصوتٍ عالٍ بعدما جاهد وفشل في كتم ضحكته وكذلك ضحك “أيوب” أيضًا وقد فهم “عبدالقادر” على صغيريه لذا ضحك هو الأخر معهما.
__________________________________
<“أرض الخيول، منابع رجال”>
“في منطقة نزلة السمان”
جلس “نَـعيم” مع “إيـهاب” الذي كان يُملي عليه تقرير العمل في كافة الشئون الذي يتولاها هو والشباب معه، وقد أضاف الثاني بنبرةٍ هادئة:
_بصراحة “يوسف” وجوده فرق لما التزم الأسبوع اللي فات في المكان، علشان كدا عاوزه يكمل شوية كمان نظبط الوضع لحد الافتتاح بتاع الكافيه اللي هيبقى عند المعرض، “مُـحي” قالي إن فيه ناس كتير متحمسة وبصراحة دا أنسب وقت خاصةً إن “سراج” بقى معانا مش علينا.
أومأ له موافقًا ثم قال بنبرةٍ مدى ثقتها لا يُعد:
_ماليش دعوة بكل دا، أنا ليا أنكم تشوفوا شغلكم، أظن يعني أنتم مش غُرب عني، أنا مسلمكم حياتي كلها من بدري، وعاوزك تحط عينك على “مُـحي” شوية اظبطه أنتَ هو بيحبك وعلطول نفسه يبقى زيك.
قبل أن يرد عليه “إيهاب” أتى “إسماعيل” برفقة الشباب معه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_يا حج، “سراج” عاوز يمشي.
انتبه له “نَـعيم” ونظر للأخر بنظراتٍ قوية متفرسة مما جعل الأخر يفسر سبب حديث الثاني بقوله مُتراجعًا:
_يا حج اسمعني، دلوقتي أنا هنا بقالي أكتر من أسبوع، هروح أشوف بيت أبويا وشقتي اللي كنت هتجوز فيها محدش عارف مكانها، هاخد “جودي” نتطمن على الشقة ونرجع تاني، أنا تقلت عليكم هنا.
زفر “نَـعيم” مطولًا ثم قال بقلة حيلة فاترة على عكس قلقه الذي يحمله بداخله:
_على العموم دا بيتك زيك زيهم، تيجي براحتك بس خلي بالك من نفسك ومن البت اللي معاك في رقبتك دي، لو مش هتقدر يبقى سيبها أحسن وإحنا كلنا نخلي بالنا منها.
أومأ موافقًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_طب أنا هدخل أجهز وأنتَ يا “إيهاب” كلم جماعتك خليها تنزل “جودي” هي عارفة إننا هنمشي عن اذنكم.
تحرك “سراج” خطوتين تقريبًا فقطع عليه التحرك “مُـنذر” الذي وقف أمامه وقد دلف إلى هُنا بثقةٍ جعلت الأعين بأكملها تستقر عليه، وخاصةً “سراج” الذي طالعه بتعجبٍ وسأله بحيرةٍ من وقوفه هنا في عقر دارهم:
_أنتَ مين ؟؟ ودخلت إزاي من غير إذن؟
تبادلت النظرات بينهما فاقترب “إيهاب” منه يسأله بنبرةٍ جامدة وهو يتصنع جهله بشخصه على عكس المفترض:
_أيوة !! مين سيادتك.
ابتسم “مُـنذر” له باستفزازٍ وهو يقول بثقةٍ لا تليق بموقفٍ مثل هذا:
_أنا جاي من طرف “ماكسيم” باعتلكم معايا رسالة بخصوص البيت اللي كان هيشتريه ولقاكم أنتوا صحابه، رفع السعر لأكبر بكتير من المبلغ اللي عرضه قبل كدا، أظن يعني أنتم أولى بيه علشان هو كدا كدا هياخده بأي طريقة خصوصًا أنه بيت فاضي.
انتفض “نَـعيم” من محله يضرب الأرض بعصاه وقال بنبرةٍ جامدة تليق بهيبته كملكٍ وسط أرضه:
_تروح للي مشغلك وتقوله الحج مبتهددش، والبيت مش هيتباع لو الحكومة هتاخده بحق ربنا ماشي، إنما بيتي القديم محدش يفكر يقرب منه، وقوله يحترم أنه ضيف هنا بدل ما نوريه واجب الضيافة كويس.
حرك “مُـنذر” رأسه ببرودٍ ثم أضاف من جديد:
_أوكيه، مفيش مشاكل، سلام.
اولاهم ظهره لكن مشاعره ساقته إلى الاطمئنان على “إسماعيل” لكنه وعد “إيهاب” أن تستمر علاقتهما خفيةً والشاهد عليها هو “يوسف” فقط، أما البقية فحتى الآن يعلمون أنه وافته المُنية، رغبة كبيرة تقتله حتى يعود لصديقه المقرب في طفولته، أراد أن يخبره أنه يحتاجه ويحتاج حتى للحظاتٍ قليلة معه، لذا خانته رغبته وجعلته يلتفت هاتفًا بجملةٍ واحدة لـ “إسماعيل” وبقدر ما بدت الجملة فاترة بقدر ما أظهرت شوقه ووجعه حين هتف:
_ألف سلامة عليك يا “حوكشة”.
وزع “إيهاب” نظراته القلقة بينهما خوفًا أن يلتقط أخوه ماهية الشخص الواقف أمامه بسبب هذا اللقب القديم لكن “مُـنذر” تحرك من المكان بسرعةٍ كبرى قبل أن يفتضح أمرهما، هو أراد أن يبدأ من جديد فعليه أن يُتمم كافة الأمور حتى تسير بشكلٍ تام على ما يُرام.
أما “إسماعيل” فالبرغم من غرابة الموقف إلا أنه لم ينكر أن نظرة الأخر له لم تكن غريبة عنه، هذا اللقب تحديدًا الذي كان يُلقى عليه في صغرهِ يُلقى عليه الآن من جديد من شخصٍ غريبٍ عنه !! أو لربما يكون يعلم هذا الشخص الكثير عن ماضيه مثلما بحث “ماكسيم” وعلم كل شيءٍ عن “إسماعيل”.
جلس “نَـعيم” يزفر مطولًا بقوةٍ بعدما ضاق عليه صدره ولم يعد يتحمل الهواء داخل رئتيه مما جعل “إسماعيل” ينتبه له ثم قال يهدئه بنبرةٍ خافتة:
_متزعلش نفسك ولا هيقدر يعمل حاجة أصلًا، لو كل الناس باعت بيتك مش هيتباع يا حج، مش دا بيت الست الوالدة اللي وسط العشوائيات هناك؟.
هز رأسه مومئًا يؤكد إيجاب ما سأله عنه فأضاف “مُـحي” يستفسر بتعجبٍ من الأحداث بأكملها:
_أنا مش فاهم، يعني لو الناس دي اتهجرت هتروح فين؟ ماهي دي بيوتهم برضه وبيوت أهاليهم، معقول هيحركوا كل الناس دي من بيوتها؟ طب هيروحوا فين ؟
تدخل “سراج” يجاوبه بقوله مُفسرًا:
_الحكومة عاملة ليهم مساكن عند هضبة الأهرام، هينقلوا الناس اللي بيوتها وسط عشوائيات السمان على هناك، وبصراحة هي أنضف مليون مرة من البيوت اللي عاملة زي العِشش دي، حاجة نضيفة وأمان.
سأله “إيـهاب” بتعجبٍ من معلوماته الصحيحة:
_أنتَ عرفت منين ؟؟.
جاوبه بفخرٍ يليق بألاعيبه الملتوية من أسفل الطاولة كعادته القديمة بشأن ما يخص الأعمال:
_واحد حبيبي قالي أجيبله الورق بتاعي وياخد قرشين ويجيبلي شقة هناك وسط المباني الجديدة، وهاخدها في الأول كمان.
اندفع “مُـحي” يسأله بلهفةٍ:
_وعملت إيه ؟؟ خدت الشقة؟.
جاوبه الأخر نافيًا بقوله الصارم:
_لأ طبعًا هو أنا ناقص شقق يعني؟ بس قولت دي مصلحة حلوة روحت لأبو “آدم” بتاع القهوة وعرفته على الراجل، ساعتها خد منه ورق ابنه الكبير علشان يجيبله شقة يتجوز فيها، و خدت اللي فيه النصيب من أبو “آدم”.
رفع “نَـعيم” حاجبه وهو يسأله بتهكنٍ يُقر بما يستفسر عنه:
_واللي فيه النصيب من أبو “آدم” دا كان حشيش صح؟ ماهو أكيد مش هيديك سِبح ومصليات يعني ولا كوبايات سحلب وشاي على مياه بيضة، صح يا بيه؟.
رفع “سراج” كفيه مستسلمًا وهتف يُبريء نفسه بقوله:
_طلاق تلاتة ما دخلت بوقي حتى، الحج “خضر” الفكهاني كان عازمني على فرح ابنه روحت الفرح ووجبت بالحتة اللي جاتلي، أنا مبطل من زمان أوي.
ضحكوا عليه جميعًا وخاصةً “إسماعيل” فيما تحدث “إيهاب” بقلة حيلة وهو يرمقه بنظرةٍ تقلل منه:
_مفيش فايدة في أهلك، أي حاجة شمال بتغريك، يخربيت معارفك كلهم زفت فوق دماغك، وزعلان أوي إن البت سابتك؟ يا أخي الحمد لله إنها مجابتش نفوخك قبل ما تمشي.
ابتسم “سراج” بوجعٍ وهو يقول بعينين ترقرق بهما الدمعِ ونطقتا بكل الوجع الذي يشعر هو به:
_ماهو للأسف كل دا كان قبلها، ولما بطلت ونضفت مشيت هي، علشان كدا كنت بحارب أني أفضل زي ما أنا يمكن ترجع تاني تلاقيني نضفت بجد مش كدب زي ما هي صدقت عني، بس كدا كدا هتفضل هي أنضف حاجة عرفتها.
زفر مُطولًا وعند ذكرها قال بنبرةٍ مختنقة كحال قلبه:
_روح يا “إيهاب” هات “جودي” خليني أخلص.
بعد مرور دقائق تقريبًا نزلت “سمارة” في يدها الصغيرة بعدما بدلت لها ثيابها و قامت بترتيب خصلاتها الشقراء ثم نزلت بها إلى الفناء الفارغ وهي تقول بنبرةٍ حزينة:
_”جودي” أهيه يا حج، جهزتها.
انتبهوا لها فسألها “إيهاب” بسخريةٍ من الوجوم الساكن في ملامحها وكأنها مُرغمة على هذا الفعل:
_افردي وشك، مالك يا عمنا؟
أخبرته بضجرٍ وهي تنطق بحديثٍ عشوائي غير مرتب:
_علشان ما صدقت ألاقي ونس هنا ليا، طب ما يروح سي زفت دا ويسيبها هنا معايا، هو يعرف يراعي قطة لما يراعي القشطاية دي؟ هعمل إيه من غيرها يا “عمهم” بقى؟.
ترك محله يقول بنبرةٍ هادئة يحاول ارضائها:
_يا ستي هو مش هيتأخر علينا، بعدين بقالها كام يوم هنا مزهقتيش؟ هي زهقت مننا كلنا وعاوزة تمشي أصلًا، صح يا “جودي” ؟؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بنبرةٍ حزينة:
_لأ والله بس “سراج” قالي مش هنتأخر وهنيجي تاني، “سمارة” كمان قالتلي إنك هتجيبلي لعب حلوة لحد ما أجي، أوعى تنسى يا “عـمهم” !!
حذرته بقولها بطريقةٍ طفولية جعلته يحملها بين ذراعيه ثم لثم وجنتها وقال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_مش هنسى يا عيون “عـمهم” روحي بس مع الواد الرخم دا اللي فاكر نفسه مهند دا وتعالي تاني هتلاقي كل اللي نفسك فيه، بس خلي بالك من نفسك ومتتأخريش علينا ماشي؟.
هزت رأسها موافقةً وهي تضحك له فاقترب “سراج” يحمل امتعته وامتعة الصغيرة وتجهز للرحيل فوجد “نَـعيم” يقول بنبرةٍ جامدة يحذره قبل أن يخطو بالصغيرة خطوة واحدة:
_لو حصل حاجة تيجي على هنا، وتخلي عينك على البت، وأنا هتابع شغلك مع “عـزيز” شوف حالك واتطمن على بيوتك وملكك وترجع تاني، أديك شايف أهو بعينك.
رد عليه الأخر موافقًا وخاضعًا له ثم أمسك الصغيرة وأشار مودعًا لهم حتى ازداد حزن “سمارة” أكثر برحيل الصغيرة من البيت فقال “نَـعيم” يُراضيها بقوله:
_متزعليش نفسك هي هترجع تاني.
سحبت نفسًا عميقًا وجاوبته بصوتٍ مختنقٍ:
_كنت بشوف نفسي فيها، كل ما تضحك هي أحس إن أنا اللي بضحك، عاملة زي الشمس بتنور الدنيا كلها، كانت شمس البيت دا وهتفضل برضه كدا.
رفع “إيهاب” ذراعه يضمه إليه حتى وجدها تسحب الهواء داخل رئتيها قبل أن تبكي من جديد لكنها تتمنى أن السلامة تُحيط الصغيرة وأن يبدل الله خوفها أمنًا.
__________________________________
<“الطيور على اشكالها تقع والقلوب بالحب تتلاقى”>
فوق سطح البيت ساهموا جميعًا في تبديل حال “غـالية” من بعد رحيل “فاتن” وانشغالهم جميعًا مع “يوسف” الذي جلس مع “رهف” مندمجًا في العمل وكأنه يبدأ من جديد بمعلوماتٍ قليلة يتذكرها حاول البدء من جديد وإقامة أعمدة أساسية يُقيم عليها العمل من جديد.
كانت “رهف” تجلس بتوترٍ ترى نفسها في صورةٍ وقحة وخاصةً وهي تجلس معه بنسبة قليلة عن البقية الذين يجلسون مع بعضهم، وقد كانت “عـهد” تراقبهما بنظراتها الحادة دون أن تستطع إبعاد نظراتها عن موضع جلوسهما، وخاصةً عن “يوسف” الذي خلع سترته وقام بثني أكمامه وجلس يضع كامل تركيزه على الحاسوب يُملي على “رهف” تعليماته والأخرى تدون كل البيانات.
لاحظت “ضُـحى” تركيز “عـهد” مع “يوسف” وعدم قدرتها على إبعاد نظراتها من عليه فلكزت “قمر” وهي تشير لها على الأخرى فجاهدت “قمر” وكتمت ضحكتها حتى همست لها “ضحى” بقولها:
_”عـهد” بتولع، أو بتشيط باين، طب استني اولعها أكتر.
حاولت “قـمر” أن توقفها لكن الأخرى تحدثت بصوتٍ عالٍ ترسل صداه لـ “يوسف” حين هتفت:
_محتاج مساعدة يا “يوسف” ؟؟ إحنا في الخدمة.
جاوبها دون أن يُحيد بصره عن الحاسوب:
_ألف شكر يا “ضُـحى” خلاص فاضل حاجات بسيطة.
حركت عينيها نحو “عـهد” ترميها بنظرةٍ عابرة ثم هاتفت بمعاندةٍ معه حتى تلهب الأخرى أكثر:
_لا نكون مش قد المقام يعني، احنا برضه بنعرف نساعد.
زفر مُطولًا ثم هتف بنبرةٍ جامدة ردًا عليها:
_بت متاكليش دماغي، عاوزة تساعدي تعالي ياختي.
تحركت من محلها ثم سحبت “قـمر” معها واقتربت من “عـهد” هى الأخرى تسحبها رغمًا عنها ثم سحبت المقاعد تجلس بجوار “يوسف” ومعها الفتاتين، وتعمدت أن تجعل مقعد “عـهد” بجوار مقعد “يوسف” وقد قابلت هي “رهف” في جلوسها وسألتها بمرحٍ خبيث:
_أنتِ بقى يا “رهف” خريجة إيه ؟
ابتسمت الأخرى لها بلطفٍ وهي تقول:
_أنا كنت بدرس تجارة خارجية في الجامعة الأمريكية، وبعدها طورت دا بكورسات كتير علشان أقدر أسافر بس بعدها تخليت عن فكرة السفر أو حد تاني هو اللي رفض سفري يعني.
سألتها “ضُـحى” بفضول تفاقم عن السابق وكأنها تود معرفة كافة تفاصيل حياة الفتاة:
_مين ؟؟ والدك ؟؟
نفت هذا برأسها وهي تقول بأسفٍ:
_لا للأسف بابا متوفي وأنا صغيرة، خطيبي.
تحدثت “قـمر” حينها وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_شكله مسيطر، الله يعينك بقى على اللي جاي.
سحبت “رهف” نفسًا عميقًا ثم قالت بعينين دامعتين:
_للأسف مبقاش ينفع خلاص، علشان هو توفى من ٣ سنين، وجاتلي بعدها فرصة سفر رفضتها، يعني علشان ميزعلش أني عملت حاجة كان رافضها وهو عايش.
تبدلت التعابير المرحة إلى الشفقة فيما نظرت “ضُـحى” إلى “قـمر” وكلتاهما يطل الأسف من عينيها، بينما “عـهد” اشفقت عليها كثيرًا رأت الوجع في عيني “رهف” وهي أدرى الناس بهذا الوجع خصوصًا وجع الفقد.
أرادت “رهف” أن تخرج من هذه الحالة فضحكت ورسمت السعادة على ملامحها وهي تسأل بحماسٍ:
_أنتِ خريجة إيه يا “قـمر” ؟ و “ضحى” برضه؟
هتفت “قمر” بنبرةٍ هادئة تعرفها بقولها:
_أنا خريجة أداب علم اجتماع كلية البنات.
_وأنا خريجة تجارة خارجية الجامعة العباسية
كان هذا قول “ضحى” المرح الذي يشبه قول “رهف” مما جعلهم يضحكون عليها حتى “يوسف” نفسه ضحك رغمًا عنه فأوقفت “رهف” ضحكاتها وسألت “عـهد” بقولها:
_أنتِ بقى خريجة إيه ؟
انتبهت لها “عـهد” فحمحمت تُجلي حنجرتها ثم قالت بتوترٍ لا تعلم سببه حين هتفت تخبرهم بمؤهلها:
_أنا خريجة كلية علوم قسم فيزيا.
نظر لها “يوسف” بتعجبٍ أو لربما دهشةٍ فيما نطقت “رهف” بإعجابٍ صريح بها:
_أوه !! ما شاء الله ربنا يحفظك، صاحبة ماما كانت كدا وكملت وبقت دكتورة آشعة وما شاء الله عليها ناجحة جدًا، مكملتيش ليه طيب، شكلك طموحة وشاطرة أوي، بصراحة على رأي “يوسف” مذهلة، هو قالي كدا عنك.
نظرت له “عـهد” لتتلاحم النظرات ببعضها، كأنها تسأله وتتأكد منه وهو يؤكد هذا بنظراته ويخبرها أنها حقًا مُذهلة، وحينما انتبهت هي لنظراتها التي آسرته قالت بنبرةٍ هادئة بعدما فكت حصار أسره:
_للأسف والدي كان متوفي ومكانش ينفع أكمل علشان كان عليا التزامات كتير لازم أشوفها، فاكتفيت بالمؤهل وخلاص واسمي دراست حاجة بحبها مش شرط بقى الشغل يكون بنفس الحاجة، مش كل اللي بنتمناه بنلاقيه.
حركت الأخرى رأسها موافقةً وهتفت بنفس الإعجاب من جديد تُثني عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_بصراحة حتى تفكيرك مميز، أنا قولت برضه أكيد أكيد “يوسف” مش هيسيبك في حالك خصوصًا غير لو كلك مميزات زي ما واضح قدامي، ربنا يسعدكم.
أستغل “يوسف” هذه الفرصة ووضع كفه على كف “عـهد” وهو يقول مؤيدًا لقول “رهف” متجاهلًا لتوتر الأخرى من حركته وهي تحاول سحب كفها من كفه لكن فارق القوة حال دون ذلك من جهته وهو يقول:
_كل إنسان في الدنيا عنده نقط تميزه، “عـهد” فيها مميزات كتير جدًا فوق إنها مُذهلة بس هي perfect في كل حاجة وأنا بصراحة مقدرش أفوت الـ perfect دا كله.
تضرج وجهها بحمرةِ الخجل وهو يثني عليها أمام الجميع وعلى الرغم أن حديثه بدا مرحًا لدرجةٍ كُبرى لكن الصدق استشفته هي في كلماته وخاصةً حينما نظر لها من جديد يبتسم لها بعينيه فيما سحبت هي كفها من كفه أخيرًا وأخفضت راسها للأسفل ترتب حركة أنفاسها المتوترة.
في هذه اللحظة صعد “فَـضل” وخلفه ابنه “عُـدي” الذي قال بنبرةٍ ساخرة قبل أن يلج للداخل:
_مش قولتلك يا حج “فـضل” ؟ هتلاقيهم فوق السطح دول عالم فاضية وأولهم البت “قـمر” موراهاش أي حاجة.
انتبهوا لمصدر الصوت مع بعضهم في آنٍ واحدٍ فيما لاحظ هو جلوس هذه الغريبة معهم، فقال بآسفٍ وإحراجٍ مما تفوه به:
_أنا آسف والله، بس ماكنتش أعرف إننا عندنا سُياح هنا، لامؤاخذة يا جماعة.
أشار له “يوسف” بصمتٍ فاقترب “عُـدي” منهم وهو يلقي التحية وقد ابتسمت له “رهف” وهي توميء برأسها فيما قال “يوسف” بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ خريج لغات وترجمة صح؟
أومأ الأخر موافقًا بوجهٍ حائر الملامح من السؤال فوجد “يوسف” يعطيه ورقة تشبه الأوراق المالية وهو يقول بلهجةٍ آمرة:
_خلصلي الورق دا بسرعة.
أشار له بالجلوس فزفر “عُـدي” بضجرٍ وهو يقول:
_طب أنا جاي جعان أكلوني وبعدها إن شاء الله اشتغلك دوبلاج حتى محدش هيقولك حاجة، بس أكلوني.
قامت “عـهد” من محلها وأخذت الصينية المعدنية الموضوع بداخلها الفطائر وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_اتفضل دي تصبيرة، تشرب معاها حاجة؟.
أخذ منها الصينية وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_تسلم إيدك، “ضُـحى” هتقوم تعملي دلوقتي كوباية قهوة، والبت “قـمر” هتجيبلي مياه، علشان أعرف أركز كويس.
سأله “يوسف” بتهكمٍ من أوامره الكثيرة لكن الحديث خرج بوقاحته المعتادة:
_مش عاوزني أمسح الشقة لأمك بالمرة؟.
حرك رأسه نفيًا وقطم الفطيرة الصغيرة وما إن ابتلعها قال بنبرةٍ باردة أثارت استفزازه:
_لأ يا حبيبي أنتَ قبضني وأنا بعدها همسحلكم أنا.
ضحكوا جميعًا عليه وخاصةً “فضل” الذي رفع صوته قائلًا:
_بالنص ياض ها، بالنص.
ضحكت “رهف” بسعادةٍ غريبة وسطهم جميعًا، هذه العائلة الغريبة والأجواء الشعبية التي حرمت منها طوال حياتها وهي تعيش في منطقة راقية لا تليق سوى بعلية القوم، لكن هل هذه الأماكن تملك روحًا بسبب أهلها أم أن المكان بذاته، في هذه اللحظة أشفقت على “يوسف” ثم حسدته بمشاعر تشبه السلاح ذي الحدين، لقد حرم طوال حياته من هذه العائلة والآن أصبح معهم أخيرًا في أجواءٍ لم تشعر هي بها في حياتها.
اختلس “عُـدي” النظر لها وهو يتفحص الأوراق، من هذه الغريبة التي يبدو عليها أنها لا تنتمي إلى هنا، هل يُعقل أن تكون ألقتها إحدى الطائرات فوق سطح بيتهم؟ ما هذا التفكير الساذج أيها الأبله ؟ هل حقًا شارفت على إتمام عقدك الثالث من العمر؟ تبدو وكأنك طفلٌ في الخامسة من عمره.
هكذا كان يفكر “عُـدي” في ماهية جلوس هذه الفتاة أمامه، لم يعلم من هي حتى لم يتم التعارف عليها، تبدو بحِلتها الرسمية السوداء وحجاب رأسها وعينيها الزرقاوتين أنها تخرج من أحد الأفلام الكرتونية، أخذه الفضول أكثر وقد لاحظ “يوسف” نظراته فضربه في قدمه من الأسفل حتى صرخ “عُـدي” متأوهًا وقد لفت الأنظار له، فيما ضمه “يوسف” إليه وهو يقول بنبرةٍ مشفقة عليه:
_حبيبي جاله شد عضل، هيفك دلوقتي.
__________________________________
<“المرض في القلوب، الصحة في العقول”>
في شقة “نجلاء” والدة “تَـيام” مرضت اليوم كثيرًا وعادت من زيارة الطبيب من سويعات قليلة برفقة ابنها وقد أتت “تريز” لزيارتها برفقة “سلوى” والدة “مهرائيل” ومعها فتياتها الاثنتين.
قدمت لهن “نجلاء” العصير ونطقت ترحب بهن:
_نورتوني، لازم يعني أروح للدكتور علشان تيجوا تشوفوني؟ خلاص هتقطعوا بيا أنتم كمان؟
هتفت “سلوى” بأسفٍ لها:
_ ماهي مشاغل على الكُل مش على حد لوحده، بعدين لما عرفت جيبت أم “بيشوي” وجيت أهو، طمنينا بس الدكتور قالك إيه ؟؟
هتفت بقلة حيلة بعدما أطلقت زفيرًا قويًا:
_قالي الضغط لازم يتظبط وبدلي الدوا بحاجة تانية، سيبكم مني، المهم مبروك هتعملوا المقابلة رسمي إمتى ؟؟ أخيرًا نحسكم اتفك، مبروك يا “مُهرة”.
ردت عليها “مهرائيل” بنبرةٍ خجلة:
_الله يبارك في حضرتك، عقبال “تَـيام” بقى إن شاء الله يكون مع “آيات” في بيتهم، عاوزة أفرح بيهم أوي.
تدخلت “مارينا” تقول بحقدٍ عليه:
_وأنا نفسي اشمت فيه أوي، واد رخم كل ما يشوفني يقولي لسه متخرجتيش يا ساقطة؟ ساقطة مين هو اللي فاشل.
ضحكت النساء عليها فيما أضافت “تريز” بنبرةٍ ضاحكة وهي تضع اصبعيها أسفل ذقنها:
_يخيبكم، لا هو أنتم لسه بتناقروا في بعض؟
تدخلت “نجلاء” تشكو لهن بنبرةٍ حزينة:
_شوفتوا “آيات” !! عرفت إني تعبانة ومجاتش إزاي ؟ من ساعة الخطوبة وهي على قد المكالمة وخلاص، كأني غريبة عنها، والله عمالة أقول هتيجي هتيجي بس للأسف مبتجيش.
تدخلت “تريز” تنطق بتهكمٍ أخرج صوتها جامدًا:
_وياترى دا بقى تفكيرك؟ ولا تفكير الحرباية أختك؟
اتسعت عينا “نجلاء” بدهشةٍ فيما أضافت الأخرىٰ تُكمل على سابق حديثها الذي بدأته:
_قوليلي يا حبيبتي أنتِ تعبتي إمتى ؟؟.
تعجبت “نجلاء” من طريقتها وسؤالها لذا قالت بنبرةٍ مشدوهة ردًا على سؤالها:
_النهاردة الصبح وروحت للدكتور النهاردة.
ابتسمت “تريز” بتهكمٍ وأضافت:
_يعني مش راقدة من أسبوع ولا حاجة، بعدين البت مش فاضية وأنتِ عارفة كدا كويس، بعدين أنا عارفة كويس دا كلام مين، أختك اللي مش طايقة نفسها من ساعة ما ابنك بص برة العيلة، بس معذور هو أنتم صنف نسوان يتعاشر؟
ضحكت “سلوى” وفتياتها أيضًا فيما أضافت “تريز” من جديد بنفس الأسلوب:
_بصي يا حبيبتي إحنا مش غُرب عن بعض، وفي الحارة دي من عمر واحد مع بعض كلنا، بس مش هييجي على قلبي في غلاوة “رقية” من غير زعل يعني، كانت بنتي الكبيرة ولحد دلوقتي بدمع لما سيرتها تيجي….
توقفت عن الحديث تتنفس حتى لا تظهر دموعها الحزينة على رفيقتها ثم أضافت من جديد بنبرةٍ مختنقة:
_يعني اللي يزعل “رقية” يزعلني، و “آيات” دي بنتي وكملت أنا تربيتها بعد أمها، فبالراحة على البت ومالكيش دعوة بيها وخفي على ابنك شوية، في النهاية كل واحد في بيته مقفول عليه بابه، إبنك هو اللي باقيلك في الأخر.
تنهدت “نجلاء” بثقلٍ وهي تركز سمعها مع نصائح رفيقتها التي تملك الحق في قولها، شخصية مثلها يسهل السيطرة عليها بالأحاديث دون أن تملك رفاهية الرفض، كلما أدلى أحدهم برأيه أمامها تقتنع به دون أن تتميز بشخصيةٍ تعبر عنها هي نفسها، لذا تحسب نفسها من ضمن مرضى العقول في بعض الأحيان، من سهولة تأثرها بالآراء.
__________________________________
<“نحفر حفرةً لأخينا، عساه يقع بها”>
صوت الطرق على خشب باب ارتفع ليلًا وسط سكون الليل، وقف عامل النجارة يُتمم على باب البيت ثم قال بنبرةٍ عملية كروتينٍ اعتاده في مهنته:
_مية مية يا باشا، الكالون اتركب والباب ظبطته أهو، تؤمر بحاجة تانية ؟؟.
وضع “وجدي” كفه في جيب بنطاله ثم قال بنبرةٍ جامدة:
_تُشكر يا ريس لحد كدا، اتفضل حسابك أهو.
أعطاه الورقة المالية التي أخذها الأخر وقبلها ثم وضعها في جيبه بينما “وجدي” لمعت عيناه بإصرارٍ أكبر وعزم على إتمام ما أنتواه بعدما بدل مزلاج الباب وأغلق في وجه “عـهد” كل أبواب الدخول إلى هُنا مع مفاجأة أخرى يحضرها لها تأتيه بالكثير من الثمار الناضجة تطعمه وتُرضي اطماعه.
وقف يتشفى بنظراته وهو ينظر للشقة التي يريد اخذها لنفسه دون أن يملك أي وجه حق في هذا، حتى أتاه صوتٌ من خلفه يعرفه جيدًا وهو يقول:
_ها يا حج ؟؟ اللي اتفقنا عليه جهز؟
التفت لصاحب الصوت الذي لم يكن سوى “سـعد” وقال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم له:
_جهز يا باشا، الشقة اللي فوق ديه فضيت خالص، والسكان خدوا حاجتهم منها، مفتاحها أهو وخليتهم روقوها قبل ما يمشوا، حاجة تانية ؟؟.
هز “سـعد” رأسه نفيًا ثم صعد للأعلى وفي يده حقيبة كبيرة يبدو إنها بها الكثير من البطاقات أو دعوات كبيرة الحجم، دلف الشقة وأغلق بابها عليه ثم نظر للحائط الفارغ بها وقام بفتح الحقيبة التي لم تكن ممتلئة ببطاقات دعوية، بل صور “عـهد”، هوسه قاده إلى هنا ومعه صورها التي عثر عليها بكافة الطرق حتى شكلت له كنزًا ثمينًا.
أخرج الصور أرضًا ثم شرع في لصقها على الحائط فحتى وإن لم تكن معه برغبتها ستكون معه في خياله، لذا اندمج فيما يفعله وهو يقوم بتعليق صورها على الحائط وكأنه وصل لحد الجنون والهوس بها دون أن ينتبه أن حبه هذا تسبب في آذاها.
__________________________________
<“عليكَ أن تنتبه جيدًا في الظلام، قد تكون أنتَ النور”>
وصل “سراج” لبيته الذي يجاور بيت “عـادل” والد “نـور” تمم على البيت بكافة أموره وجلب الطعام والمُعلبات يضعهم بداخل الثلاجة، واهتم بصغيرته وطعامها حتى أصرت على دخول غرفتها وهو معها حتى لا تبيت ليلها بدونه.
دلف معها الغرفة يتسطح بجوارها على الفراش ويشاهدا الفيلم الكرتوني سويًا وهي تحتضنه، أرغمته على فعل مالم يريده هو، وهو كعادته يُسلم لها في نهاية الأمر باعتباره شخصها الوحيد في الدنيا ولم تملك هي سواه.
استمر في قضاء ليله بجوارها وهو يمسح على ظهرها، تلك الصغيرة صاحبة الملامح الإنجليزية خصلاتها الذهبية، وعيناها الزرقاوتان، وجنتاها الحمراوتان بشكلٍ ملحوظٍ، بشرتها البيضاء، هي جميلة ورقيقة تشبه كل ماهو جميل بعالمه، سرقت ملامح والدتها وجدتها لنفسها، هذه الصغيرة التي حُكمَ عليها بالوحدة منذ صغرها حتى هو في أي لحظة قد يفارقها للأبد.
أقترب منها يُلثم جبينها وأغلق التلفاز بعدما تأكد من نومها ثم ترك الفراش واقترب من زجاج الشُرفة المُطلة على حديقته وحديقة “عـادل” في آنٍ واحدٍ وقد أخرج سيجارته ينفث هوائها وهو يفكر في دنيته الصعبة التي لم يجد الراحة بها.
لاحظ حركة مُشتتة في الحديقة الخاصة بـ “عادل”، رأه هو تقريبًا يستند على مقاعد الطاولة الموضوعة وسط حديقته وهو يتحدث بالهاتف لكنه يتضح عليه التعب وكأنه يعاني من أزمة قلبية أو ما شابه، أمعن النظر أكثر فوجده يحارب لالتقاط أنفاسه ولم ينقذه أحدهم أو حتى يتقدم لاسعافه !!
انتبه له فوجده يسقط أرضًا والهاتف بجواره شاشته مُضيئة، ويبدو أنه كان يتحدث مع أحدهم، حينها ترك مكانه وركض من بيته إلى حيث مكان “عـادل” المُلقىٰ أرضًا وقفز من حديقته إلى حديقة الأخر واقترب منه يرفع جسده عن الأرض وهو يهز جسده ويقول بنبرةٍ عالية:
_يا “عـادل” بيه !! يا عمي، أنتَ سامعني؟
الأخر يبدو أنه أصبح في عالمٍ أخر غير البشر، وجهه أحمر بشدة والنفس أصبح معدومًا وثقل جسده بشكلٍ ملحوظٍ وقد لاحظ “سراج” ذلك وهو يحاول رفعه، لكنه انتبه للهانف المفتوح فأخذه يضعه على أذنه وهو يقول بلهفةٍ:
_ألو مين معـ….
بتر حديثه حينما وصله صوتها باكيةً وهي تنادي على أبيها بقولها:
_يا بابا رد عليا، أنتَ سامعني طيب، يا بابا رد متقلقنيش.
ذُهِلَ “سراج” من وصول صوتها لأذنه، صوتها الذي يسكن سمعه، نبرتها التي لم تشابهها أخرى، بكائها الذي يحفظه عن ظهر قلبٍ حينما كانت تبكي له، كل هذا دفعه إلى سؤالها مستنكرًا وهو يتمنى أن تُصدق على ما يستفسر عنه:
_نور !! أنتِ نور ؟؟.
نزلت دمعة هاربة منه وهو يسألها وقد تحرك قلبه من موضعه، يقسم له أنها هي، هي التي يعلم كافة تفاصيلها، تفاصيلها الرقيقة التي أسرته ببراءتها، اليوم يرى لمحة النور من وسط ثقب الظلام، فهل سيستقر بالنور، أم تصبح مجرد إضاءة عابرة لا أكثر؟.
_____________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)