رواية غوثهم الفصل الأربعون 40 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الأربعون
رواية غوثهم البارت الأربعون
رواية غوثهم الحلقة الأربعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الأربــعــون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_________________
بك أستجير ومن يجير سواكا
فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا
إنّي ضعيف أستعين على قوي
ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا
أذنبت يا ربي وآذتني ذنوب
مالها من غافر إلاكا
دنياي غرتني وعفوك غرني
ما حيلتي في هذه أو ذاكا
لو أن قلبي شك لم يك مؤمناً
بكريم عفوك ما غوى وعصاكا.
_”نصر الدين طوبار”
_________________________________
_ لم تكن معركةً سهلة، بل كانت حربًا دامية،
حربٌ خسرت بها الكثير حتى نفسي ولما وجدتكِ
وجدتني معكِ، فإذا كنتُ أنا صاحب العزيمة، إذًا أنتِ من لأجله تُدعى العزائم، أنا وإن طال الزمان فوق زمانه زمانًا لأجلك هُنا وحتى إن كنتُ بعيدًا فأنا لأجلك قادم
فالليل وإن طال ظلامه وأصبح بدرجةِ القاتم
فأنا لأجلكِ وأجل عينيكِ والحصول عليكِ عازم، فُرضت علىَّ شتى الحروب ولأجل عينيكِ خوضتها، حروبٌ خرجتُ منها منتصرًا وعيناك بها دُرة المظالم.
<“ظنوني عروس الماريونت، لكني صاحب الخيط”>
في مكانٍ أخر بمنطقة “الزمالك” وقفت “مادلين” تتنصص على حديث “سامي” و “عاصم” حينما وصلها ذِكر اسم “يوسف” لذا قررت أن تستمع لحديثهم حتى انفعل “سامي” وهو يقول بغضبٍ لم يسيطر عليه:
_أنا مش هتحمل وجود “يوسف” في الشركة والبيت، صدقني إحنا كدا زي الطُعم في أيده، اسمع مني، هي قضية يلبسها هو ومحدش هيقدر يتكلم، سيبني أظبط كل حاجة وأنا هخرجه من الشركة في غمضة عين.
شهقت “مادلين” بتلقائيةٍ ثم تحركت لداخل شرفة الحديقة تطلب رقم “يوسف” وما إن رد عليها قالت بلهفةٍ:
_أيوة يا “يوسف” ؟؟.
كانت “شهد” تتابع تحركاتها وحينما وجدتها تطلب رقمه دلفت تقف أمامها وهي تبتسم بخبثٍ جعل الأخرى تصمت عن التكملة بينما “يوسف” رفع صوته في الهاتف يسأل بحيرةٍ:
_إيه يا “مادلين” ؟؟ ألو…ألو يا “مادلين”.
دلف في هذه اللحظة “سامي” يسأل بتعجبٍ عن سبب وقوفهما فتبدلت ملامح “شهد” وهي تقول بخوفٍ:
_ألحق يا أنكل، شوفت طنط “مادلين” عملت إيه ؟؟.
سقط قلب “مادلين” من محله وبدا عليها الخوف والاضطراب في هذه اللحظة خاصةً أن الأخرى تطالعها بتشفٍ، وحينها تأكدت أن نهايتها أقتربت لا شك في هذا، وعليها أن تتحمل عواقب هذا القرار، لكنها تذكرت أن زمن خوفها ذهب وولىٰ، فكل ما عليها أن تستعيد السيطرة على مجرىٰ الأمور لذا بدلت ملامحها إلى الثِقة والثبات وهي تقول بطريقةٍ اجادت الاتسام بها:
_هكون عملت إيه يعني ؟؟ كل الحكاية أني كلمت “نادر” أقوله يتصرف وييجي قبل عيد جوازهم علشان “شاهي” متزعلش، الأستاذة بقى زعلانة علشان قولت كدا.
صُدِمَت “شهد” مما رآته من “مادلين”فلم تتوقع منها أن تسحب البساط من أسفلها بهذه الطريقة بل تتحول كافة الأمور لصالحها، في حين أن الأخرى طَلَّ الشر من نظراتها وهي تبتسم لهذه التي ألجمها الحديث فيما وقف “سامي” بتعابيرٍ باردة لم يهتم بكلتيهما بل هُناك ما يشغله أكبر بكثيرٍ من هذا لذا قال بنبرةٍ فاترة توحي بعدم اكتراثه لما يدور:
_عادي يعني يا “شاهي” هي بتهزر معاكم، المهم يلا علشان ناكل الغدا جِهز خلاص، “نادر” كدا كدا قرب ييجي وأكيد مش هيتأخر عن عيد جوازكم.
ابتسمت له “شـهد” بتوترٍ تحاول الإنخراط في هذا الجو المشحون بطاقةٍ سلبية بينما هو أبتسم لهما ثم انسحب من المكان نحو الخارج و”شهد” تتابعه بعينيها حتى شعرت بالألم في مرفقها نتيجة إمساك “مادلين” لها وما إن طالعتها الأخرىٰ ضغطت “مادلين” عليها أكثر وهي تقول من بين أسنانها بغيظٍ منها:
_عاوزاكِ تحترمي نفسك كدا وتتلمي معايا بدل ما أزعلك أنا، سيبك من إن اسمي “مادلين” ولا شكلي الحلو دا، أنا من الأخر كدا من اسكندرية، يعني بنات بحري من الأخر، ماشي يا حلوة؟؟.
سحبت “شهد” يدها من قبضة “مادلين” بالرغم من إحكام الأخرى عليها وما إن أبعدت يدها عن الأخرى قالت بثباتٍ تحاول الاتصاف به:
_أنتِ لو مش عارفة إنك غلطانة مش هتعملي كدا، أنا شوفتك بتتصنتي عليهم وبعدها كلمتيه، أكيد مش صدفة وفيه حاجة بينك وبينه.
ابتسمت “مادلين” لها ترفع معدل غيظها وأضافت تؤكد صدق حديثها حين هتفت باتكاءٍ على حروفها:
_بالظبط، علشان كدا بقولك اطلعي منها أنتِ، أنا وهو صحاب يبقى الأفضل إنك تخليكي بعيد، ولا هنبقى احنا الاتنين قلالاة الأصل؟ كفاية أنتِ يا “شهد” واللي حصله منك.
زاغ بصر “شهد” بعيدًا فتركتها “مادلين” وهي تقول بنفس التأكيد الذي قالت به سابق حديثها:
_عاوزة أقولك إنك خسرتي كتير أوي لما سيبتيه، علشان “يوسف” مكسب لأي حد، ودا أنا شوفته بعيني، واللي زيك ضيعت النعمة من أيدها وهتفضل تعض أيدها طول العمر من الندم، أحسنلك أبعدي عن طريقه علشان متداسيش بالرجلين.
تركتها ورحلت من المكان بينما “شهد” وقفت تطالع أثرها بعينين دامعتين وقلبها يعلن العصيان أكثر من السابق على الجميع حتى نفسها، لذا ارتمت على المقعد في الشرفة تجلس عليه بملامح بُهِتَتْ وتبدلت وكأن خيبة الأمل سكنتها.
زفرة قوية أخرجتها “مادلين” من جوفها بعد خروجها من هذا المأزق الذي وُضِعَتْ بهِ، لم يهما نفسها بل ما أشغلها حقًا هو “يوسف” وتوريطه فيما قد يعرقل حياته، لذا برعت في إتقان دورها الواثق على الرغم من خوفها الذي سكن كل جوارحها، ووسط ادراكها للأمور خشيت أن يحدث أي شيءٍ من جهة تلك الحرباء لذا أخرجت هاتفها ترسل له بأنامل تهتز من فرط القلق:
_متكلمنيش دلوقتي خالص، أنا هبقى كلمك.
أغلقت هاتفها ثم مسحت المحادثة وكذلك رقمه من هاتفه تحسبًا لأي ظروفٍ طارئة قد تطلهما وتخنق عنقها خاصةً أن هذا البيت يمتليء بالكثيرين الذين يتسمون بالدهاء، لذا عليها أن تُجيد فنون المكر في التعامل هنا فإذا حاولوا اللعب بها عليها هي أن تمسك خيوط التحريك في هذه اللُعبة.
_________________________________
<“معاناة العالم تستوطن ملامحها، وهي تستوطني”>
كل الأجواء هُنا رائعة حيث الشمس ساطعة، والرمال الذهبية والخِيم العتيقة وكل المكونات المحيطة لهم جعلتهم في أوجِ من السعادةِ والحماس معًا، أجواء جديدة عليهم جميعًا عدا “يوسف” الذي راقب تعابير كلٍ منهم على حِدة بتركيزٍ ليقرأ التعابير الفرحة على ملامحهم وكأن السعادة كتبتها لتسجل وجودها هنا معهم، وصلت الرسالة لـ “يوسف” وأدرك الأمور سريعًا لذا أغلق هاتفه وعاد للخيمة يجلس بجوار زوجته “عـهد” تلك التي كانت تراقب المكان بعينيها تشعر بالذهول يسيطر عليها بعدما ظنت أن هذه الأماكن لم تكن واقعية بل هي تُسرد من ضمن قصصٍ قديمة أو عبر شاشات التلفاز، لم تتخيل أن ترى مكانًا بكل هذه العراقة.
جلس “يوسف” مجاورًا لها يسألها باهتمامٍ:
_المكان عجبك صح؟.
استقرت بنظرها على جهته وحركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له ثم أضافت بنبرةٍ ظهر بها الحماس بنفس القدر الذي حاولت اخفاءه به:
_أوي، متخيلتش المكان هنا يكون حلو كدا، أصيل وقديم وأنا بصراحة مُغرمة بكل حاجة قديمة، علشان كدا مبهورة.
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف بنبرةٍ هادئة يقول:
_أنا برضه بحب الحاجات القديمة، بحس أني هاويها، تحسي كدا إنها لسه ماسكة في أصلها، وأحلى حاجة هنا بقى في المكان دا أصله وعراقته، ولسه لما نشوف الخيول بقى، أتمنى تعجبك.
ابتسمت له ثم نطقت بنبرةٍ خافتة تحاول إخفاء خجلها:
_إن شاء الله.
في نفس اللحظة صدح صوت “سمارة” وهي تدخل لهما ثم قالت بنبرةٍ حماسية وهي تحمل صينية نحاسية عتيقة الطراز يرتص فوقها العصير والفاكهة، ثم وضعت الصينية واقتربت من “عهد” تُقبلها وهي ترحب بها وهتفت بحماسٍ:
_ياختي نورتينا، اللهم صلِّ على النبي وشك عسل، والله الواحد حاسس أنه مرفرف زي الطير من كتر فرحته بيكِ.
ابتسمت لها “عـهد” وهي تقول بنبرةٍ ودية وكأنها رفيقتها:
_دا شرف ليا طبعًا وأكيد ليا الشرف أني اتعرفت عليكِ، معلش ساعة كتب الكتاب كنت متوترة شوية والدنيا كانت لغبطة خالص.
ضحكت “سمارة” بفرحةٍ بسبب حديثها ثم نظرت لـ “يوسف” وهي تقول بسعادةٍ أدخلتها عليها الأخرى بسبب لُطفها:
_دي طلعت أصيلة زي ما الحج قالي، شايف الناس اللي تفتح النفس ؟؟ مش اللي في بالي بقى.
برق لها بنظراته يُحذرها من استرسال الحديث الذي يعلم مقصده وعن من تتحدث هي بينما “سمارة” بدلت حديثها بقولها لـ “عهد”
_ طلعتي عسولة بصحيح مع أني كنت فكراكي رافعة مناخيرك في السما، لامؤاخذة يعني دا انطباع خدته عنك، بس الشهادة لله أنتِ بنت حلال وشكلك طيبة أوي.
ابتسمت لها “عـهد” ثم قالت بنفس اللُطف:
_متخيرش عنك والله يا “سمارة” أنتِ شكلك بنت بلد وأنا بحب النوع اللي زيك كدا.
أشارت لها “سمارة” نحو الصينية وهي تبتسم وتقول بخجلٍ:
_طب يلا سمي الله وأشربي العصير لحد ما الأكل يجهز، عن اذنكم هروح اسلم على “قمر” حكم دي وحشتني خالص.
تحركت للخارج وتركتهما بمفردهما واتجهت نحو الخارج فوجدت “قـمر” تقف بجوار “إياد” و “أيوب” يلتقط لهما الصور مع بعضهما وبجواره تقف “وعد” حتى أشارت لها “قـمر” وبدلت وضعها مع “إياد” الذي وقف بجوار عمه، ثم تحرك بعدها “أيوب” يقف بجوار زوجته وهو يقول للصغير بلهجةٍ آمرة:
_خُد ياض صورني مع القمر.
غمز له الصغير بينما “قـمر” ضحكت رغمًا عنها حتى وجدت “أيوب” يقف مجاورًا لها ثم وضع ذراعه في خصرها يقربها منها حتى تحولت ضحكتها المنطلقة إلى أخرى خَجلة بسبب حركته فوجدته يُزيد من خطورة وضعها حينما أضاف بنبرةٍ خافتة في أذنها:
_ذوقك طلع قمر زيك كدا، دا يا هناه بيكِ.
انتبهت له ونظرت بتساؤلٍ عن مقصد حديثه، فأضاف هو مُردفًا مغزى كلماته:
_قلبي…يا هناه بيكِ أنتِ، وألف شكر على الهدية.
تنهدت بعمقٍ ثم نظرت أمامها تحاول كتم ضحكتها فحرك “أيوب” رأسه حتى يتسنى له رؤية ملامحها وحينها كان يلتقط لهما “إياد” الصور برفقة بعضهما بطبيعةٍ تلقائية لكن الصور كان لها رأيًا يختلف عن هذا وبدت كأنها مقصودة عن عمدٍ.
حينها ابتسم “أيوب” وهي تقف بجواره تبتسم للصغار لم يتخيل أن كُربة الأمسِ أضحت في قربها ربيعًا مُزهرًا بعدما ضربه الخراب واستوطن بداخله، هي نعمة من الخالق تستحق أن يحمد ربه عليها كثيرًا، فلذة القرب منها في حد ذاتها نعمة وهو أشد الفاقدين لنعمة وجودها والآن يهنأ بها معه وهي كل حقه.
اقتربت “سمارة” منهم تُرحب بهما حتى اقتربت منها “قـمر” تُقبلها وتحتضنها بينما “أيوب” أخفض رأسه وركز بصره مع الصغار حتى قالت “سمارة” مرحبةً به:
_نورت السمان كلها يا أستاذ “أيوب” والله البركة حلت على المكان بوجودك هنا، ربنا يفرحنا بيكم عن قريب بقى.
ابتسم بدون أن يرفع عينيه وقال بنبرةٍ هادئة يرد عليها:
_إن شاء الله يا مدام، والمكان منور بأهله وأصحابه وربنا يزيد ويبارك في خيره كمان إن شاء الله.
تعجبت “سمارة” من طريقته الغريبة عليها وهي تكاد تجزم أن هذه هي مرتها الأولى التي ترى فيها مثل هذا الشخص المهذب في حياتها مقارنةً بالشباب وطريقتهم مع بعضهم، لذا أشارت لهما على الخيمة ثم تحركت تغمغم لنفسها بتعجبٍ ازداد عن السابق:
_إيه ياختي الناس المحترمة دي؟ مكانش الراجل دا بقى مع الحج هنا على الأقل يلحقه قبل ما يسقط في الامتحان ؟؟.
في داخل المطبخ دلف “نَـعيم” يُلقي نظرة إشراف على المكان والطعام فوجد “جودي” تجلس بجوار “تحية” ترفض الخروج حتى قال لها “إسماعيل” يحاول معها:
_أنتِ خايفة ليه؟؟ على فكرة هما صحابنا برضه يا “جودي” مكسوفة ليه ؟؟.
ردت عليه الصغيرة بخوفٍ مما يدور برأسها:
_علشان معرفش حد منهم، مكسوفة والله يا “إسماعيل”.
أقترب “إيهاب” منها يحملها على ذراعه وبذراعه الأخر رتب فستانها وهو يقول بنبرةٍ هادئة على عكس طبيعته الجامدة:
_احنا معاكي كلنا أهو، بعدين يعني احنا جبناكي من الكافيه عند خالك علشان تقعدي في المطبخ هنا ؟؟ فيه برة بنوتة قدك ألعبي معاها مش أنتِ بتسمعي كلامي وبتحبيني؟؟ تعالي وهتشوفيهم كلهم برة بعدين دول صحاب “يوسف”.
تنهدت بضيقٍ فوجدت “نَـعيم” يقترب منها ثم مد يده لها بثمرة الموز وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_كُلي دي الأول من أيدي واطلعي اقعدي برة معاهم خليهم يشوفوا الحلاوة دي كلها من عندنا، يلا يا حبيبتي متقعديش هنا لوحدك كدا.
اخذتها من يده وهي تقول بخضوعٍ له:
_حاضر يا جدو، شكرًا.
قبلها على وجهها ثم التفت يأمر العاملين بالمكان بسرعة الانهاء وخرج من المكان في نفس الوقت الذي دلفت به “سمارة” للداخل وما إن رآت زوجها يحمل الصغيرة على يده اقتربت منه تقول بتهكمٍ:
_ما أنتَ حلو أهو وبتشيل، ولا لازم تكون عيني زرقا؟؟.
ضحك كل من بالمكان عليها فيما قلب “إيهاب” شفتيه بقلة حيلة وغلبٍ على أمره ثم انتبه لزوجته وكثرة حركتها بالمكان أمام الرجال بالخارج لذا عاد لجموده يقول بنبرةٍ جامدة:
_أنا عاوزك تِكني وترسي في حتة وتخفي حركة، يا تفضلي هنا يا تقعدي مع البنات برة، دخول وخروج كتير مش عاوز، فاهم يا عمنا ؟؟.
اندهشت من تغيره المفاجيء ونظرت إلى “تحية” التي أومأت لها بأهدابها أن تصبر وتتحمل طبعه جعلها تصمت تمامًا أمام النساء بينما هو أعطى الصغيرة لشقيقه ثم اقترب منها يقول بنبرةٍ أجشة في أذنها:
_تعالي اقعدي برة مع البنات لو زهقتي من هنا.
خرج وتركها خلفه حائرة من طريقته لا يتركها على حالها لو ثوانٍ معدودة، بل في ثوانٍ أخرى ينقلب الوضع برمتهِ وتقف هي تائهة بين رضوخها له وبين معاندتها معه وفي كلتا الحالتين هو الخَيال الذي يملك زمام الأمور وهي المُهرة الخاضعة له مهما جمحت معه.
خرج “إسماعيل” يحمل “جودي” على ذراعه وقد قابله “مُـحي” الذي ابتسم لها وهو يقول بسخريةٍ:
_أخيرًا خرجتي؟؟ الناس قربت تزهق ياستي.
ضحكت له بينما “إسماعيل” قال بقلة حيلة:
_أنا هروح أعرفها على البنت الصغيرة وبعدها أديها لـ “يوسف” تقعد معاه.
تحرك بها نحو “وعد” التي وقفت بمرحٍ و “ضُـحى” تلتقط لها الصور بهاتفها والأخرى تضحك بسعادةٍ وكذلك “إياد” أيضًا الذي وقف بجوار “قـمر” وحينها اقترب “إسماعيل” من “ضُـحى” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_معلش يعني لو مفيهاش إزعاج !!
التفتت له “ضُـحى” وما إن وقع بصرها عليه طَلَّ التساؤل من نظراتها مما جعله يقول بتوترٍ بسبب الموقف المحرج الذي وضع به بسبب هذه الصغيرة:
_دي “جودي” بنتنا هنا كلنا، بس هي مكسوفة تتعرف عليكم وأنا جاي علشان أعرفها على “وعد” ممكن ؟؟.
انتبهت لها “ضُـحى” فابتسمت بحماسٍ واقتربت منها أكثر وهي تقول بنبرةٍ أكثر من مُرحبة بالصغيرة:
_إيه العسل دا الله أكبر !! من غير إذن إحنا ضيوف هنا وهي صاحبة المكان، مش كدا يا “جودي”؟؟.
ابتسمت بخجلٍ للمرة التي لا تعلم عددها بينما أخذتها منه “ضَُحىٰ” ثم اقتربت من “وعد” وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_لقينا ليكِ ونس هنا أهو، دي “جودي”.
رحبت بها الصغيرة وكذلك الأخرى بينما “إسماعيل” استأذن من “ضُـحى” بقوله الثابت:
_طب أنتِ هتخلي بالك منها؟ يعني اتطمن عليها؟؟.
سألته “ضحى” بسخريةٍ وهي تجاهد لكتم ضحكتها:
_ياعم هو أنا هاخد أعضائها وأجري؟؟ ماهي معاكم هنا في بيتكم أهو، محسسني أني خطافة عيال ليه؟؟.
نظر لها “إسماعيل” بتعجبٍ فوجدها تسخر منه أو ربما بدت هكذا لذا ارتدى نظارته الشمسية وهتف بنبرةٍ فاترة:
_والله أنتِ أدرىٰ بقى.
تركها ورحل بينما هي نظرت في أثره بتعجبٍ ثم قالت بسخريةٍ وهي ترفع كفها بجوار رأسها ثم أشارت على الجنون بقولها:
_الواد دا مجنون ولا إيه ؟؟.
سار “إسماعيل” عدة خطواتٍ ثم التفت ينظر خلفه فوجدها تجلس على عاقبيها بجوار الصغيرتين وهي تبتسم لهما ثم التقطت لهما الصور مع بعضهما وكأنها صاحبة الأرض هُنا فابتسم هو بتعجبٍ ثم قال بسخريةٍ:
_البت دي مسمعتش عن الرهاب الاجتماعي؟.
تحرك نحو “مُـحي” الذي وقف يُشرف على شواء الطعام في مكانٍ يبعد عن موضع الجلوس وما إن رآه “مُـحي” قال بسخريةٍ:
_إيه ؟؟ معرفتش تظبط ؟.
نظر له “اسماعيل” بتحذيرٍ ثم وقف محله يقوم بتوزيع الهواء فوق الطعام وقد وصله صوت ضحكتها بجوار الصغيرات فحرك رأسه نحوها ليجدها تمسك بأيديهما معًا وتركض وكأنها صغيرة معهما، حينها تعجب أكثر منها لكنه سكت وعاد لما يفعله.
بداخل الخيمة جلس “إيهاب” بجوار “أيوب” و “عدي” يرحب بهما ويهتم بتقديم الضيافة لهما حتى قال “عُـدي” بنبرة يتخللها الود والعشم:
_احنا مش غُرب عن المكان، متتعبش نفسك بقى.
تدخل “نَـعيم” يقول بنبرةٍ ثابتة تليق بهيبته:
_لأ إزاي بقى أنتم أهل المكان يابني، دا البيت نور بيكم، وكفاية إن أستاذ “أيوب” جه لحد هنا بنفسه.
ابتسم له “أيوب” ثم تحدث يعاتبه بقوله:
_طب مين كدا اللي عاملنا غُرب ؟؟ أنا اسمي “أيوب” وبس من غير أي حاجة تاني، لو زي ما بتقول اعتبرني ابنك بقى.
ابتسم له “نَـعيم” وفاض الحنين من عينيه وهو يتذكر ابنه الكبير إذا أراد المولىٓ وبقى بجواره كان يتمنى أن يكون مثله، تمناها كثيرًا أن يكون ابنه كما “أيوب” في كل شيءٍ لكن تدابير الخالق فوق كل شيءٍ لذا تحدث يؤكد حديث الأخر قائلًا:
_بالظبط يابني، دا بيتك وشرف ليا كمان إنك تكون ابني.
كانت “عهد” صامتة لم تقوَ على الأخذ على المكان وكأنها مُحاوطة بأعين مراقبة حتى أنها جلست في أخر الخيمة منزوية بعيدًا وقد لاحظها “يوسف” فاقترب منها يتحدث بلهجةٍ قوية:
_تعالي معايا.
انتبهت له هي وحركت رأسها وكم كانت ممتنة له على طلبه هذا فهي حقًا تود التحرك للخارج لكنها تخجل حتى من هذا الفعل لذا حاولت أن تقف بنفسها فوجدتها يمد يده يساندها ويدعم ثقل جسدها وما إن طالعته هي قال هو بنبرةٍ رخيمة:
_اسندي عليا أنا هنا.
ابتسمت بتوترٍ ثم تمسكت بذراعه حتى وقفت أمامه بعدما تخدل جسدها من كثرة الجلوس وما إن وقفت أمامه قال هو لمن يجلسون خلفه:
_عن إذنكم يا جماعة راجع تاني.
تحرك بها نحو الخارج حيث مكان وقوف الفتيات مع بعضهن ثم أوقفها بجوار شقيقته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_خلي “عـهد” معاكم هنا، معلش هي مكسوفة شوية.
تحدثت “ضُحى” بسخريةٍ منها:
_مكسوفة من إيه ؟؟ دا إحنا خدنا راحتنا على الأخر.
ابتسم “يوسف” لها ثم قال بنبرةٍ ضاحكة:
_عاوزك بقى تاخدي راحتك زيهم كدا، يلا علشان أخدكم أعرفكم على الخيول “ليل” مستنيكم من بدري أوي.
أنهى حديثه ثم التفت ينظر لها وهو يسألها باهتمامٍ كونه أكثر الناس هنا درايةً بما تشعر هي به، نفس شعور الغُربة الذي سيطر عليه هنا يعلم أنها تشعر به أيضًا، وأنها مهما جرت الأمور سيظل هذا الشعور مرافقًا لها، لذا سألها:
_عاوزة حاجة ؟؟.
كثرة اهتمامه بها جعلها تقف تائهة، كل هذه الأمور جديدة عليها كُليًا، حتى أنها حركت رأسها نفيًا بعدما ابتسمت له وما إن تحرك من المكان شردت هي به، اهتمامه بها ومشاركتها في لحظات يومها إن لم يكن اليوم بأكمله، خشته وخشت كثرة اقترابه منها فهي أصبحت على حافة الهاوية معه في علاقةٍ لم تضعها ببالها لو لمرةٍ واحدة، وقد انتبهت لها “قـمر” وامسكت يدها وهي تقول بحماسٍ:
_يلا يا ستي أنتِ هتقفي برضه ساكتة؟.
ابتسمت لها “عهد” ثم انتبهت لهن ووقفت معهن تحاول الإنخراط في المكان لتسكت هذا الصوت الذي أخذ يرتفع بداخلها بأنها كما الغريب في طرقات المدينة، وحتى البيت الذي يحويها تركها وهذا هو الشعور الأمقت في حياتها.
_________________________________
<“كان حقًا عليكَ نصرة أخيك، فأنتَ سَتُسأل”>
جلس “أيـهم” في محل عمله الخاص به يتابع الدفاتر وحركات العمل من بعدما تدخلت الأمور في بعضها في غياب شقيقه مما أدى إلى تعطل الكثير من أمور العمل على الرغم من جهود الشباب المُكثفة لأجل إدارة العمل، وقد دلف له “بيشوي” يمسك في يده دفترًا أهلكته الأيام ثم جلس على المقعد المقابل له وهو يقول بنبرةٍ منهكة:
_اتفضل يا سيدي، راجع بقى الشغل دا مع اللي “تَـيام” جهزه علشان كل حاجة تبقى معروفة وفيه دفتر خرج من محل “أيوب” برضه لما كان مش هنا، وبرضه متسجل فيه كل حاجة، عاوزك بقى تعمل جدول محترم علشان الدنيا متتعكش.
أخذ “أيـهم” الدفتر منه ثم فتح أخر صفحاته يتابع ما تم تدوينه وبعدها أغلق الدفتر ثم اقترح عليه ما يُنهي غوغاء هذه الأمور:
_بقولك إيه تيجي الليلة دي تبات معايا ونسهر على الحاجات دي نخلصها ونظبطها في الدفتر الكبير، علشان الدنيا كدا هتبقى ملغبطة ودي فلوس ناس برضه، تمام ؟؟.
حرك “بيشوي” رأسه موافقًا ثم بادر في التحدث عن أخيه وعن حالهما مع بعضهما خاصةً أن “أيوب” امتنع عن الحديث مع أخيه، لكن هناك صوتٌ أوقف كل هذا حينما خرجت نبرته قوية وهو يقول بتهكمٍ:
_ينفع كدا يا أستاذ “أيهـم” اللي حصل دا؟.
انتبه كلاهما لمصدر الصوت فلم يكن سوى “جمال” والد “سعد” الذي توقع “أيـهم” حضوره فأرجع ظهره للخلف وهو يسأل بجهلٍ صدره عن عمدٍ:
_وهو إيه اللي حصل يا حج ؟؟ دا أنتَ منورنا حتى؟.
دلف “جمال” لداخل المحل يقف بوسطه أمام المكتب الخاص به وهو يسأله بنبرةٍ جامدة يحاول بها التخلص من عبء أفعال ابنه:
_اللي حصل في ابني، ابقى مروح بيتي ألاقي ابني بيترمي على عبتة البيت ؟؟ يتاخد من مكانه ويترمي على الأرض زي الكلب وكمان يرجعلي متبهدل كدا ؟؟ هي دي العشرة اللي كانت ما بينا، دا أبوك مصانش حتى لقمة العيش والملح اللي ما بينا.
ابتسم “أيـهم” بسخريةٍ وانتصب واقفًا وهو ينطق مُقللًا من الأخر وحديثه وطريقته أيضًا:
_عيش وملح ؟؟! اخرتها احنا اللي خونا العيش والملح كمان، يا حج دا أنتو لو واكلين العيش والملح على ترابيزة قُمار كان زمانكم صنتوه عن كدا، وكمان جاي تعاتب وتلوم؟.
تحدث “جمال” بكل قوةٍ به متغافلًا عن أفعال ابنه ومركزًا كافة الإتهامات على “أيـهم”:
_وهو اللي أنتم عملتوه دا مش غلط ؟؟ ابني عمل إيه علشان يتضرب ويتهان بالطريقة دي؟؟ وكمان يترمي على عتبة البيت؟؟ ليه إن شاء الله.
ترك “أيهم” محله ووقف أمام الرجل بصفات والده التي ظهرت عليه بكل قوةٍ، نفس الشموخ والعنفوان والدفاع عن الحق يتصف هو بهذه الصفات، لذا قال بقوةٍ لم تنفك عنه:
_أنتَ جاي تستعبطني يا حج !! قالولك عني أهبل؟؟ جاي عامل نفسك متعرفش ابنك عمل إيه رغم إنك عارف كدا كويس، وعارف إننا عارفين ومتأكدين كمان، علشان كدا سكت اليومين اللي فاته ومنتظرنا نكلمك، بس اللي حصل دا أقل واجب قصاد حق أخويا، حق أخويا اللي ابنك بلغ عنه ولبسه تهمة تقضي على مستقبله.
توتر “جمال” من نظرة “أيـهم” له بل من رؤية قوة غريمه “عبدالقادر” على ملامح ابنه لذا حاول الدفاع عن ابنه بقوله:
_ابني معملش كدا، إيه دليلك، بعدين لو دا كان حصل يبقى رد الفعل يكون كدا ؟؟ تقلوا بيه بالطريقة دي، مش كفاية إنكم وقفتوا في جوازته؟؟!.
ضحك “أيـهم” رغمًا عنه ثم ضرب كفيه ببعضهما وأضاف بنفس السخرية بسبب حديث الأخر:
_تصدق لولا العيبة كنت سمعتك كلام عيب، أنتَ جاي هنا تحاسبني على رد فعلي وسايب فعل ابنك؟؟ أخويا فضل محبوس ١١ يوم بيتعذب بس بسبب الصايع ابنك، أخويا إمام المسجد يبقى إرهابي ؟؟ أنا خدت ابنك يوم واحد بس جرب اللي أخويا شافه بس أقسم بالله أنا عندي استعداد أخليها مدة مفتوحة لحد أخر نفس فيا، ويا أنا يا ابنك يا حج على وش الدنيا دي.
تدخل “بيشوي” يفصل بينهما حينما كاد “أيـهم” أن يفقد أخر ذرة تعقل به وخاصةً وهو يتحدى “جمال” بنظراته لذا قال هو بنبرةٍ جامدة وهو يبعد رفيقه عنه:
_حج “جمال” اتكل على الله، أحسنلك يعني واللي حصل دا اعتبره محصلش أصلًا علشان لا أنتَ ولا ابنك عديم الرباية يخصونا في حاجة أصلًا، يبقى الأحسن ليك قبلنا تتكل من هنا، وابعت رسالة لابنك وقوله، العطار يوم ما ربى، ربى رجالة بجد، عندهم استعداد يدخلوا أرضك وبيتك نفسه يقتلوك ويخرجوا تاني، روح يا حج متشيلش نفسك غلط فوق غلط ابنك.
تحرك “جمال” من المكان بعدما قرر أن يستمع لهما، ظن هو في بادئ الأمر أن حيلته تلك ستنطوي عليهما وأنه سيخدعهما بفكرة أن ابنه لم يفعل هذا، لكن قوة الأخرين جعلته يلوذ بالفرار من المكان قبل أن تزداد الأخطاء فوق عاتقه، وبدلًا من اتجاهه لبيت العطار غير مساره إلى بيته بصمتٍ تامٍ وبداخله كل ما يتمناه أن تنتهي الأمور عند هذا الحد فقط دون أي مزايدات أخرى تُلهب شعلة النيران.
في بيت “العطار” قررت “آيات” أن تستغل غياب الصغير وشقيقها ثم قامت بترتيب البيت من جديد وقامت بتشغيل القرآن به وقامت بإغلاق الأضواء أيضًا وأشعلت البخور في البيت ثم خرجت تجلس في الحديقة بالخارج بعدما اخذت أحد الكتب المفضلة لديها، كتابٌ ساهم في تغير حياتها كليًا نصحها به “أيوب”، لذا لم تمل هي من قراءته بل تزداد متعتها في كل مرّةٍ تقرأه.
غاصت بين صفحات الكتاب ومعها القلم الخاص بها وبجواره الدفتر تقوم بكتابة الملاحظات التي تحتاج إليها من هذا الكتاب، حتى دلف لها “عبدالقادر” ثم وقف يتابع سكونها بعينين مُبتسمتين على الرغم من ثبات ملامحه، كانت تشبه الزهور التي تجلس وسطها، لذا أقترب منها يقبل رأسها حتى ابتسمت هي وأغلقت الكتاب ليجلس هو مجاورًا لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_قاعدة لوحدك ليه؟؟ مش كنتي روحتي مع أخوكِ أحسن؟.
جاوبته بخجلٍ وقلة حيلة تتمكن منها وقد انهتها بما تراه من جهتها للأمور:
_أنا معرفش حد هناك دا أولًا، ثانيًا هما مع بعض وأنا هروح أعمل إيه، غير كدا المكان أكيد مختلط وأنتَ عارفني بكون مش على راحتي، فالأحسن أفضل هنا وخلاص، اديني روقت البيت وحضرت حاجات مع طنط “وداد” وكمان بقرأ كتاب كان نفسي أعيده تاني، يعني استفادت كتير أهو.
حرك رأسه موافقًا لها بينما هي لاحظت أن ملامحه تحاول النطق بحديثٍ لم يقو على نطقه فسألته باهتمامٍ أخبره أنها فهمت سبب توتره:
_بابا أنتَ عاوز تقول حاجة؟؟ حاسة إنك متوتر.
هز رأسه نفيًا ثم أمسك كفها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_”تَـيام” بقاله كام يوم كدا متضايق تقريبًا من ساعة اللي حصل لـ “أيوب” وواخد مني جنب كمان وأنتِ برضه صح؟.
جاوبته مومئة برأسها وقد ظهر الحزن على ملامحها فوجدته يقول بقلة حيلة:
_أنا قولت أعرفك علشان ممكن تتكلمي معاه أحسن، يمكن يكون فيه حاجة مزعلاه، إيه رأيك لو أكلمه وييجي النهاردة علشانك النهاردة وتتكلموا سوى؟؟.
ابتسمت رغمًا عنها ثم أومأت موافقةً له بخجلٍ جعله يبتسم لها ثم ضمها إلى صدره وهو يقول بنبرةٍ خافتة لكنها وصلتها:
_ربنا يباركلي فيكم، كلكم وأشوف الفرحة مالية قلوبكم إن شاء الله.
استقرت “آيات” في عناق والدها وقد وقع بصرها على اسم الكتاب “استمتع بحياتك” للدكتور “محمد العُريفي” لذا كررت اسم الكتاب وقررت أن تبدأ رحلة الاستمتاع بالحياة وتأخذ معها في طريق الرحلة الرفيق الذي ستصبح الرحلة أبديةً معه هو.
أخذ “تَـيام” استراحة قصيرة من العمل حتى يذهب إلى تناول الطعام مع والدته لكنه لم يضع في الحسبان أن خالته تكون بداخل بيته، لذا عند وقوع بصره عليها زفر بقوةٍ فهو أخر ما قد يتحمله هذه اللحظة هو أن يدخل معها في نقاشٍ لم يُجدي بشيءٍ، لذا أقترب منها يرحب بها وقد خرجت والدته من الداخل تحمل صينية التقديم وسألته بتعجبٍ من تواجده هنا:
_مش عندك شغل يا حبيبي؟؟ فيه حاجة؟
حرك رأسه نفيًا ثم جاوبها بنبرةٍ هادئة:
_لأ متقلقيش كدا، الحج بس راح البيت يرتاح شوية وأنا لقيت الدنيا هادية في الشغل لسه مخرجين الرخام من المخزن والعمال طلعوا شغل، قولت أجي آكل لُقمة بعدها أروح أكمل تاني.
ابتسمت والدته له وكادت أن تتحدث وترد عليه وتخبره أنه أحسن صُنعًا فيما فعل لكن صوت شقيقتها قطع عليها سبل التحدث حينما تفوهت بقولها:
_كتر خيرك يا حبيبي، هو أنتَ فيه منك، واحد تاني غيرك كان ساب بنتهم بعد اللي حصل، بس أنتَ ابن أصول ولسه متمسك بيها، وكمان مراعي شغلهم؟ هما يطولوا؟.
ارتبكت “نجلاء” والدته من حديث أختها وازداد خوفها أكثر حينما نظر إليها ابنها بدهشةٍ وكأنه يخبرها بخيبة أمله فيها، لكنها حركت رأسها نفيًا تترجاه أن يمهلها فرصة واحدة للتوضيح وحينها حرك رأسه نحو خالته يبتسم لها ثم أضاف بعدما ابتسم لها بحديثٍ يرد به حق الغائبين:
_لأ للأسف أنا معملتش أي حاجة تخليني بطل أوي كدا، أنا عملت اللي عليا ناحية عيلتي، الحج طول عمره صاحب حق عليا، مقصرش معايا ولا مرة، طول عمره بيعاملني أني ابنه، دا أولًا ومن ناحيتي، أما من ناحية “أيوب” فهو أخويا الكبير وعمره ما عمل حاجة تغصب ربنا، وأنا مستعد أدافع عنه برقبتي، اللي يربي واحدة زي “آيات” كدا مستحيل يبقى وحش.
لوت فمها وقالت بتهكمٍ ترد عليه النِد بالند:
_آه ما أنا عارفة، طب خلي بالك بقى يا حبيبي أحسن تطلع زي أخوها هي كمان، ولا يسحبوك على هناك وتخسر نفسك أنتَ كمان، طب والله بنت أخت جارتنا جوزها معاه واحد في الشغل لعب في مخه لحد ما خلاه سافر معاه برة وأهله طلعان عينهم هنا، خلي بالك ياختي على ابنك.
نظر “تَـيام” لوالدته بقهرٍ وتأكد أن الحديث لم ينفعه بشيءٍ سِوى استنزاف طاقته لذا استأذن منهما ودلف غرفته يهرب من أحاديث تافهة كما شخصها تمامًا، هي تهين خطيبته وهو مجبر على التحمل لأجل والدته، وعلى ذِكر والدته فتحت باب غرفته واقتربت منه وهي تقول بنبرةٍ مُلحة حتى لا يحزن منها:
_والله العظيم ما كنت أقصد إن دا يحصل، والله الكلام جه صدفة كله يا حبيبي، هي كانت بتعزمنا وأنا قولتلها مش هينفع فيه ظروف، ولما أصرت عرفتها على أساس يعني إنها تسكت خالص عن العزومة دي، والله يابني ما كان قصدي إنها تزعلك كدا، متزعلش مني.
تنهد مُطولًا بثقلٍ ثم وقف أمامها يقول بنبرةٍ محشرجة تعبر عن مدى ضيقه واستياءه من الوضع وهذا الشعور المُقيت الذي تسرب لداخله:
_طب ليه من الأول ؟؟؟ أديني سبب يخليها تعمل كدا، قاصدة تقلل مني وخلاص ؟؟ أنا عملت ليها إيه، مش عاوز اتجوز أنا من العيلة، مش عاوز غير “آيات” ومش هرضى بواحدة غيرها، هي مالها !! اطلع أقولها على البلاوي اللي عيالها بيعملوها وتبقى قلة أدب بقلة أدب، أطلع أقولها إن بسبب بناتها وحركاتهم أنا مش عاوز غير “آيات” اللي أطهر من الطهارة نفسها ؟؟، تحبي أطلع أعرفها أنا متصدر لبناتها في كام مصيبة ؟؟ لآخر مرة أنا هسكت، بس المرة الجاية أنا مش هحترم حد.
سألته والدته بذهولٍ من حديثه وطريقته:
_أنتَ عاوز تفضح بنات خالتك يا “تَـيام” !!.
حرك رأسه موافقًا وأضاف مؤكدًا بنفس الطريقة:
_آه، علشان اللي بيته من الإزاز يتهد شوية وميحدفش الناس بالطوب، أقسم بالله لو جابت سيرة خطيبتي تاني أنا هقول على كل حاجة، علشان مش “آيات” اللي تتساوى بحد يا ماما.
نظرت له والدته بدهشةٍ ولم تنكر حزنها من حديثه وهي تراه يفضل أخرى عليها وعلى أفراد عائلتها، لم تتوقع أن تأتي من تشاركها فيه، بينما هو صمت عن الحديث وأدار رأسه للجهةِ الأخرى وقد صدح صوت هاتفه برقم “آيات” وما إن رأى الرقم أجاب بسرعةٍ تتنافى مع اقتضاب رده:
_ألو…
جاوبت هي بلهفةٍ قبل أن يسترسل في حديثه:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابتسم رغمًا عنه ثم قال بعدما بدل نبرته:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، دا إيه الحظ الحلو دا؟
ابتسمت هي بخجلٍ ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_دا نصيب ومكتوب يا “تَـيام” المهم بابا عاوزك تيجي تقعد معاه شوية النهاردة وقالي أكلمك، علشان كدا بسألك، هينفع تيجي النهاردة ؟.
ذُهِلَ هو مما وصل لسمعهِ ولم يتخيل أن تطلبه هي بنفسها، وعلى الرغم من فرحته بما طلبته منه لكنه تنهد بثقلٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة أو حاول أن يجعلها هكذا:
_ممكن مرة تانية إن شاء الله ؟؟ علشان بس ورايا كذا حاجة ومش هعرف أجي، متزعليش معلش، بس أول ما أخلص هاجي إن شاء الله، تمام ؟؟.
لاحظت “آيات” أن حاله تبدل وأن هناك ما يثير مضايقته لكنها لم تضغط عليه بل وافقته وأغلقت معه المكالمة، وعلى جهته هو أغلق الهاتف ثم وضعه على الفراش وتمدد على الأريكة الموضوعة بغرفته بدون أن ينبث ببنت شفة، فقط وضع ذراعه على عينيه وقد فهمت والدته أنه شعر بالضيق لذا خرجت وتركته بمفرده دون أن تُزيد من مضايقاته.
_________________________________
<“الليل في حضرتكم صُبحٍ…
وكل الطُرق تطوي إليكَ يا قَمري”>
تناولوا الطعام في مكانٍ سادته الألفة وسط مرح الصغار وترحيب “نَـعيم” بهم، كان يشعر أنه وسط عائلته وخاصةً حينما اندمج “أيوب” وسطهم وتحدث مع الشباب ومازحهم قليلًا رغم تحفظه على وقاره لتواجد النساء بالمكان، كان “يوسف” يشعر بالفخر والاعتزاز بما فعله “نَـعيم” لأجله وأجل عائلته، وتعامل في المكان وكأنه بيته هو.
بعد هذا توجهوا مع بعضهم نحو اسطبل الخيول بعدما ترأسهم “نَـعيم” وبجواره “إيـهاب” أيضًا، كانت هذه لحظة الحماس التي تأهبت إليها المشاعر وسط غروب الشمس اللامعة مع خيوطها السخية التي وصلت لأخر السماء، أجواء سياحية جديدة كُليًا على قانطي حارة “العطار”، كان “يوسف” يراقب ملامح شقيقته التي كانت تشعر بالسعادة والفرح وكذلك البقية على عكس “عـهد” التي لازالت تشعر بالقلق أو الغُربة أيهما أقرب لها.
وصل بهم “نَـعيم” إلى هُناك وفتح الباب الحديدي الكبير ومنه عبر إلى مكان الخيول الواسع الذي صمم لأجلهم، بغرفٍ مخصصة ذات فتحاتٍ أقرب إلى شكل نافذة بيضاوية الشكل لكي يخرج منها الفرس رأسه، وبقية المساحة عبارة عن بابٍ صغيرٍ يتم فتحه عند خروج الفرس.
انبهروا بما رأوا خاصةً تصميم المكان العتيق الذي صمم بالحجارة القديمة الفرعونية بُنية اللون، وعلى حواف المكان الأشجار والورود وكأنه فتح لهم أبواب عالمٍ أخر أشبه بصفحاتٍ حملت بداخلها حروف رواية تشبه الرحلة إلى عالمٍ أخر سحري.
وقف “أيوب” مدهوشًا مما رآه ثم نطق بنبرةٍ هادئة تحمل الراحة أو الانبهار معها بما رآه وخاصةً حينما تقدم رغمًا عنه لكن قدمه قادته إلى المكان لذا قال بإعجابٍ صريحٍ مُستشهدًا بآية من القُرآنِ الكريم:
_”وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا”
ابتسم”نَـعيم” له فوجده يضيف من جديد بنفس الانبهار البادي عليه منذ دخوله إلى المكان:
_بسم الله ما شاء الله، اللهم بارك.
أقترب منه “إيهاب” يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_ياعم هو أنتَ هتحسد الحاجة؟؟ طب دا أنتَ بركة اللهم صلِّ على حضرة النبي.
التفت “أيوب” برأسه له وهو يقول بنبرةٍ هادئة مُفسرًا سبب حديثه:
_ الحسد مذكور في القرآن، وعلى فكرة الحسد بييجي من غير قصد، يعني أنا مش هقصد الحسد وممكن عيني تتمنى الحاجة دي من غير قصد، علشان كدا لازم أنا أباركها، الصحيح من السنة أن يُبرِّك الإنسان –أي يدعو بالبركة-
إذا رأى ما يعجبه، وخاف على صاحبه من العين يعني جملة “اللهم بارك” مش بتتقال لمجرد إننا حابين نقولها ونرددها وخلاص، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
“إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له “بالبركة” فإن العين حق”.
ثانيًا: الحسد مذكور في القرآن وأي شخص ممكن يشوف عندك حاجة تعجبه أو نفسه يكون عنده زيها فيحسدها بدون ما يقصد ويتسبب في خرابها وممكن يوصل بالحاسد إنه يقتْل شخص بحسده وعينه ويتسبب في مرضه وفشله ومش محتاج أذكر لكم قصص عن الحسد أكيد كل شخص فيكم مر بتجارب زي دي وعشان كده الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بالدعاء بالبركة كقول: “اللهم بارك، بارك الله فيه” عشان تدفع العين
_والحسد بالمناسبة مُحرّم شرعًا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”. يعني الحسد دا شيء محرم على نفسي وبيأذيني أنا قبل ما يأذي غيري علشان كدا لازم أوقي لساني وأدربه، دا غير إن فيه فرق بين “ما شاء الله” و بين “اللهم بارك”.
استطاع بحديثه اللبق اليسير وأسلوبه السَلِس أن يستحوذ على انتباههم لذا قال بثباتٍ من جديد يفسر لهم مقصد حديثه السابق:
_الفرق بين “ما شاء الله” و “اللهم بارك”
(ما شاء الله) بتمنع الحسد عن الأشياء اللي تُخصنا
(بيتنا، شُغلنا، فلوسنا)
قال تعالىٰ ﴿وَلولا إذ دَخلتَ جَنتَكَ قُلتَ مَا شاءَ اللَّه﴾
أمَّا كلمات البركة ومُشتقاتها زي (اللهم بارك، الله يبارك لكُم) بتمنع الحسد من عين الناس وبتمنع إني أحسد حد على حاجة..
وسيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام قال :
“إذا رأىٰ أحدُكُم مِن نفسِه أو مالِه أو مِن أخيه ما يعجبُه فليدعُ لهُ بالبركة فإنَّ العين حقّ” وربنا يعافينا من شر أنفسنا إن شاء الله فإن النفوس تهلك أهلها.
ابتسموا جميعًا له بتقديرٍ لشخصه حتى مال “مُـحي” على أذن “إسماعيل” يهتف بسخريةٍ:
_إيه الراجل دا ؟؟ أنا حاسس إني عديم الرباية.
ارتسمت البسمة الساخرة على ملامح “إسماعيل” الذي حدثه بنفس النبرة الخافتة قائلًا:
_حاسس ؟؟ يا جدع دا أنا عاوز اروحله يربينا من تاني، الراجل اللهم بارك إيه دا ؟؟.
اندهش “مُـحي” من سرعة تأثير “أيوب” عليه بهذه الطريقة وكذلك “إسماعيل” نفسه، بينما “عـهد” لم تمنع نفسها من الإقتراب نحو “مُهرة” بيضاء اللون وقفت أمامها وهي تبتسم وكأن الأخرى سحرتها حتى تحدث “نَـعيم” بنبرةٍ هادئة يقول:
_دي اسمها “وردة” مُهرة حرة بتاعة “مُـحي” ابني.
ابتسمت “عهد” والتفتت له تقول بصدقٍ بعدما سحرتها الأخرى برونقها البراق:
_جميلة أوي، أول مرة اشوفها على الحقيقة.
اقتربت “وعـد” من “يوسف” تسأله بلهفةٍ:
_فين الخيل بتاعك مش قولت هتعرفني عليه ؟؟.
حرك رأسه موافقًا ثم أشار لها وللبقية نحو خيله ثم اقترب هو منه وامتطاه بخفةٍ ورشاقة كعادته بينما الأخر صهلل مُرحبًا برفيقه حتى أنَ عينيه ضحكت عند رؤيته، فابتسم له “أيوب” بإعجابٍ وقد التفت له “إياد” يسأله بإحباطٍ:
_طبعًا متعرفش تعمل زيه صح ؟؟.
حرك “أيوب” رأسه نفيًا بأسفٍ ثم أضاف بخيبة أملٍ:
_للأسف لأ، حتى لو جابوا خيل دلوقتي مش هعرف أتصرف
فتح “إيهاب” الباب لأحد الخيول وهو يقول مرحبًا بقوله:
_بس كدا ؟؟ ياعم تعالى هعلمك أنا.
ابتسم له “أيوب” ثم أقترب من الخيل وفي طرفة عينٍ أمتطاه هو الأخر بحركةٍ تشبه حركة “يوسف” إن لم تكن أكثرها خفة ورشاقة، حتى أن “إياد” تعجب من فعل عمه الذي خطفه من فوق الخيل ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة يقول:
_مين قالك إني مبعرفش أركب خيل؟؟ دي أول حاجة اتعلمتها، حتى الخيالين قصادك أهم يشهدولي.
تحدث “عُـدي” بنبرةٍ ضاحكة يقول:
_الشهادة لله لأ جامد أوي أوي، ياعم لسه هتبهرنا تاني؟.
ابتسم له “أيوب” ثم نظر إلى “يوسف” بطرف عينه بثقةٍ وكأنه يسأله عن رأيه حتى قال الأخر بتهكمٍ:
_طب سيبلنا حاجة نحط عليك فيها، حتى الخيل طلعت سوسة فيه، أخرك إيه يا “أيوب” ؟؟.
غمز له بثقةٍ وهتف يؤكد حديثه:
_مفيش، لو عليا مليش أخر كله بأمر الله.
تحدث “إياد” بلهفةٍ يطلب من عمه:
_طب يلا مشينا بالخيل شوية، دا بعد أذنه عمو طبعًا.
هتف “نَـعيم” يرد عليه بقوله مرحبًا بحديث الصغير:
_المكان كله تحت أمرك طبعًا ووعد مني لما نفيسة تخلف هديك الولدة بتاعتها زي ما عمك “يوسف” سبق وخد “ليل” ابن “شمس” وأنتَ اللي هتسميها كمان، الزمن بيعيد نفسه أهو.
ضحك له الصغير وشكره “أيوب” الذي تحرك بالخيل بتؤدة حتى لايقع “إياد” بينما “يوسف” أخذ “وعـد” معه ثم تحرك بالخيل خلف “أيوب” بخطواتٍ هادئة حتى لا تسقط الصغيرة من فوق الخيل.
بعد نصف ساعة تقريبًا عادوا لمكانهم من جديد والبقية في انتظارهم، كانت حينها “ضُـحى” تقف بجوار أحد الخيول تحاول التقاط الصور معه حتى فاجئها الخيل وحرك رأسه بُغتتةً فكادت أن تصرخ لكن وقوف “إسماعيل” بالقرب منها جعلها تلتزم الصمت، وقد لاحظ هو حركتها هذه فاقترب منها يعرض عليها باقتضابٍ:
_تحبي أساعدك ؟؟.
حركت رأسها نفيًا بسرعةٍ كُبرى فصهلل الخيل خلفها حتى خافت هي من صوته كثيرًا لكنها هنا في عقر داره فكيف تصرخ وهي من أتت إلى هنا، بينما هو مد يده يشير بكفه لها حتى أعطته الهاتف بكفٍ مُرتجفٍ فقال بنبرةٍ جامدة:
_استني هخليه يهدا.
تحرك نحو الخيل يمسح على رأسه ثم تحدث معه بعدة كلمات أثارت دهشتها كثيرًا خاصةً حينما نظر لها الخيل وكأنه يعتذر منها، فسألت هي بدهشةٍ أفرغت فاهها واوسعت حدقتيها:
_أنتَ قولتله إيه ؟؟.
ابتسم “إسماعيل” وردد بسخريةٍ:
_قولتله كدا كُـخ، وهو سمع كلامي.
نظرت للخيل من جديد فوجدته صامتًا وكأنه طفلٌ صغيرٌ توقف عن المشاغبة فور الاستماع لأوامر والده، بينما بادر “إسماعيل” والتقط لها الصورة وهي تنظر للخيل وهو ينظر لها ثم مد يده يعطيها الهاتف وهو يقول:
_الخيل دا بتاعي اسمه “قـمر” على اسم أخت “يوسف”.
عقدت ما بين حاجبيها باستنكارٍ فيما أعطاها هو الهاتف ثم تركها محلها وبعد اختفاء أثره قالت بنفس التعجب والاستغراب من شخصيته:
_الواد دا غامض كدا ليه؟؟.
وقف “يوسف” في الساحة الفارغة بجوار خيله حتى اقتربت منه “عـهد” تقول بنبرةٍ هادئة:
_متخيلتش إن المكان هنا يكون حلو كدا، والخيول كلها شكلها جميل ربنا يحيمهم ويحفظهم.
أمسك كفها بُغتةً ثم اقترب بها من “لـيل” وعلى الرغم من ارتجافة كفها إلا أنها تركت نفسها له حتى رفع كفها يمسح به على ظهر خيله في لحظةٍ سرقت أنفاسه، خشى أن يتكرر ما حدث في سابق الزمن، خشى أن يتعرف “لـيل” على قلبها ويرفض لمستها، على الرغم من خوفها منه إلا أنها مسحت على ظهر الخيل بحنان وابتسمت بحبٍ.
رد فعل الخيل كان ما ينتظره هو، حيث حرك رأسه للأسفل نتيجة لمستها الحنونة عليه وصدرت منها همهمات ناعمة لم تكن منزعجة، وهذا تحديدًا ما جعل “يوسف” يندهش، ليله ينبهر بليل عينيها !! أم أن سحرها وقع عليه هو الأخر؟؟ خرج من دهشته على صوتها وهي تستفسر منه بنبرةٍ هادئة:
_هو عمل كدا ليه؟
انتبه لها واستقر بعينيه عليها لتتلاحم نظراتهما سويًا، نظراتها رغم قلقها حنونة، وعيناها رغم سوادها دافئة، ليلٌ مُعتم تلألأت به النجوم أو لربما هي المدينة التي أحتوته في غربته، زاد الاستفسار من حدقتيها مما جعله يحمحم بشخونةٍ مستعيدًا ثباته من جديد وهو يقول بنبرةٍ رخيمة:
_علشان أرتحلك يا “عـهد”، اللي متعرفيهوش إن الخيول أنواع زي البشر، وبيحسوا بقلب اللي قدامهم، وبيميزوا القلوب الغدارة من القلوب الصافية بمجرد لمسة ايد، لو حَرن وصمم أنه مينزلش راسه يبقى عرف إن اللمسة قلابة.
سألته باهتمامٍ بعدما اندفعت وكأن جوابه نقطة فيصلية في حياتها يترتب عليها الكثير:
_طب وأنا !! هو كدا ارتاحلي؟.
حرك “يوسف” رأسه نحو الخيل الذي استكان تأثرًا بها، ثم نطق بدون أن يحيد بصره عن خيله وكأن يتحدث بلسان حاله هو:
_أكيد، لو مكانش ارتاحلك مكانش عمل كدا ودا عكس طبيعته أصلًا، قلبك صافي وعرف يلفت انتباهه.
ابتسمت “عـهد” بسعادةٍ ثم شملت المكان حولها بنظرةٍ وكأنها تخزن تفاصيله بذاكرتها حتى نظرت له من جديد تقول براحةٍ تخللت صوتها:
_عارف دلوقتي بس اتأكت ليه ربنا حرم على عباده السِحر علشان السِحر بيسرق العين ويغطي على المخ، أهو من ساعة ما دخلت هنا وأنا حاسة أني مسحورة، زي البطلة اللي دخلت قلعة غريبة عليها وعارفة انها هتوه فيها بس سحر المكان غلبها، علشان كدا المكان هنا زي السِحر.
ابتسم لها بعد حديثها، حيث شرحت الموقف من منظورٍ آخر لم ينتبه هو له إلا الآن، رآى السحر الذي تحدثت هي عنه وانتبه له لذا حينما التفتت هي تعطي كامل تركيزها للخيل كان حديثها يلوح في عقله لذا ذكر اسمها بقوةٍ رغمًا عنه:
_”عــهد” !!
التفتت له بتساؤلٍ عن سبب ذكره لاسمها فوجدته يقترب منها خطوةً ثم قال بصوتٍ رخيمٍ يعبر عن ما يدور بداخله أو ما قفز لعقله:
_صحيح ربنا حرم على عباده السِحر بس أنتِ عيونِك سِحرهم حلال.
ارتبكت في الحال وتورد وجهها بخجلٍ فطري وكأنها للمرةِ الأولى تستمع لهذا الكلام المعسول لذا ارتفعت ضربات قلبها ولم تتحدث أو ترد عليه بل شعرت أن وجهها الدماء تتدفق فيه وكأنها تخرج من أسفل جلد بشرتها، بينما هو لم يشعر بنفسه ولا حتى بما قاله لذا التفت يوليها ظهره يتعجب من نفسه كيف نطق وكيف قال ما قاله، لكن القلب عصي يعلن عليه العصيان منذ أن وقع البصر عليها واصطفاها من بين الخلق وخان لأجله العهد أيضًا، فماذا ينتظر بعد؟
أتت “وعـد” برفقة “ضُـحى” و “جودي” وخلفهن “عُـدي” و “إياد” فخرج كلاهما من توتره وانتبه إلى القادمين وخاصةً هي حينما حملت شقيقتها تأخذ منها الأمان بعدما توترت بسبب حديثه وكأنها طفلة صغيرة أخطأت وتبحث عن عناق والدتها تحتمي به.
على مقربةٍ منهم وقفت “قمر” بجوار أحد الخيول تمسح على رأسه و “أيوب” يراقبها من على مقربةٍ منها، لم يكذب عليه قلبه حينما أخبره أنها هي صاحبة الفؤاد ومالكته، لم يتوقع أن يكون هي دونًا عن غيرها، لم يتوقع أيضًا أن ينتهي الأمر به هُنا برفقتها لذا أقترب منها يبتسم لها فابتسمت هي الأخرى ثم سألته باهتمامٍ:
_قولي المكان هنا عجبك؟.
وزع نظراته على المكان ثم حرك رأسه موافقًا وهتف بإعجابٍ من جديد:
_المكان هنا عامل زي الكهف الآمن، تحسيه عكس كل حاجة برة واللي مهتم بيه فنان بصراحة، الورد مع الخيول مع الجمل العربية المكتوبة مع رسومات الزرع بصراحة المكان جميل و يا رب أقدر أتخطاه.
اقتربت منه تقول بحماسٍ شديد:
_عادي، “يوسف” قالي إننا ممكن نيجي في أي وقت، إيه رأيك نبقى نيجي نزور عمو “نَـعيم” مرة مع بعض؟
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ رخيمة:
_حلوة كلمة مع بعض دي.
ضحكت له بخجلٍ فوجدته يقول من جديد يخبرها عن نفسه:
_عارفة، أخر حاجة كنت ممكن أتوقعها أني اتجوز عادي ويكون عندي بيت كدا وتيجي واحدة تخليني أفكر فيها، بس عادي يعني كنت غبي، يعني في ظرف سنتين حصل عكس ما تخيلت خالص.
سألته باهتمامٍ وهي تطالع قسمات وجهه:
_حصلك إيه ؟؟.
رفع عينيه نحوها بعد سؤالها يجاوبها بصدقٍ:
_كنت زاهد بس اتفتنت.
ابتسمت بخجلٍ من جديد فسحب هو نفسًا عميقًا ثم قال مضيفًا على حديثه السابق:
_يعلم ربنا أني طلبت منه الزُهد في الدنيا، بس هو أراد إنك تكوني سبب الفِتنة التي تغويني، وبقيت بطلب منه الزهد في كل حاجة إلا أنتِ، جايلك واقع على جدور رقبتي.
فهمت مقصد حديثه ولمعت عيناها فورًا وأضافت بنبرةٍ مُحشرجة بعدما رفعت كفها تضعه على مرفقه:
_وأنا والله عاوزة أساعدك، بس أنا ضعيفة، أنا مش زيك، أنتَ اللي هتقويني وتكون سبب أني أدخل الجنة إن شاء الله، أنا اللي والله ضايعة وعاوزاك تاخد بأيدي معاك في الطريق، عاوزة أكون زيك، عاوزة أكون لايقة بيك، عاوزة استاهل أني أعيش معاك من غير ما أكون سبب يأخرك عن اللي أنتَ فيه.
اقترب لها يمد كفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة رغم ذلك قوية ومُصرة:
_أنا أهو بمد ايدي ليكِ وربنا يكرمنا مع بعض، ربنا قاله في كتابه العزيز، قال تعالى:
“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”
استقرت بنظرها عليه فأضاف هو مُفسرًا بطريقةٍ تحبها هي:
_يعني ربنا خلقك من ضلعي علشان نسكن بعض، يعني ناخد بايد بعض لحد ما نمشي من هنا ونروح الجنة مع بعض، عاوزين حد نسكنه من غربة الدنيا ووحشتها والحمد لله إنك معايا علشان ربنا يكرمنا ونروح الجنة مع بعض، أنتِ أقرب ليا من نفسي حتى يا “قَمر” وأنا مُرزق علشان أنا حبيب القـمر.
ضحكت له بسعادةٍ من بين دموعها فاقترب منها يلثم جبينها بحنوٍ ثم رفع إبهامه يمسح عبراتها وهو يبتسم لها وقد اقتربت منهما “ضُـحى” تقول بلهفةٍ:
_يلا علشان نمشي، بابا عمال يتصل بينا.
أومأ لها “أيوب” بينما “قـمر” مسحت دموعها ثم ابتسمت لها وتحركت معها وخلفهما “أيوب” في استعدادٍ منهم للرحيل من المكان الذي سحرهم جميعًا وكأن كلٌ منهم ترك لُبه هُنا طواعية منه بعدما سرقته الطبيعة الساحرة، في مكانٍ شمل الحضارة القديمة والحديثة والطراز العربي معهم مُشكلًا لوحة فنية ساحرة أعطاها الزمن الحرية لتعبر عن نفسها.
__________________________________
<بعض الضيوف نحملهم فوق الرأس، والبعض لا أهلًا به>
في حارة العطار كانت “مارينا” تجلس بجوار شقيقتها تعرض عليها ما قامت بجلبه لأجل عامها الدراسي الأخير من أدوات مكتبية وملابس خاصة بها، كانت والدتها بجوارها تشارك وكذلك “مهرائيل” التي أبدت إعجابها بالمشتريات، حتى آتى “جابر” من الداخل ينطق بتهكمٍ:
_يعني قاعدين هنا مروحتوش عند حبيبة القلب بنت “العطار” ساعات بحس إنها أمكم.
جاوبته “مهرائيل” بضجرٍ من حديثه:
_علشان هي أختنا مش غريبة، وبعدين طول اليوم كنت بكلمها وخطيبها رايح النهاردة يقعد معاها، ربنا يسعدها بقى مش زي ناس كدا مصدرة دماغها وخلاص.
اقترب منها “جابر” يجلس بجوارها وهو يسألها باهتمامٍ أرعبها:
_أنتِ بتلمحي لإيه؟؟ قولي قصدك.
سحبت نفسًا عميقًا تتسلح به بشجاعةٍ تعطيها قوة أمامه حتى وإن كانت زائفة، لذا قالت بثباتٍ:
_قصدي إن حجتك ملهاش لازمة، يعني دور إن “بيشوي” طمعان فيك دا مش مبلوع بصراحة، أصل دا واحد أغنى مننا بكتير مش حتة المحل بتاعنا اللي هيزوده، غير كدا عمو “عبدالقادر” بنفسه اللي حارة “العطار” كلها تبعه وافق إن بنته تتخطب لـ “تَـيام” اللي معندهوش ربع اللي عند أهل “آيات”، بس قالها كلمة أنه بيدي بنته لراجل بيحبها، يعني مفيش أي اعتبارات تانية حطها قصاد سعادة بنته علشان ببساطة مش أناني.
اتسعت عينا “جابر” بعد حديثها وكذلك البقية وقبل أن يرد عليها أو يسألها عن “بيشوي” صدح صوت جرس الباب فتحركت ابنته الاخرى تفتح الباب وكأن النجدة حضرت لهم قبل أن ينفعل وحقًا كانت نجدة مجازًا وموضوعًا حيث أتى “ملاك” خال “جابر” إلى هُنا وما إن وقع بصره على “مارينا” قال بفرحةٍ كبرى:
_حبيبة قلب جدو عاملة إيه.
ميزت “مهرائيل” صوته بالداخل فركضت نحوه هي الأخرى تصرخ باسمه بحماسٍ وفرحةٍ بينما “جابر” تسمر محله وهو يرى خاله على أعتاب بيته حتى أن زوجته طالعته بتشفٍ به ويبدو أن القادم عليه لم يكن رائفًا به.
_________________
_لا تنسوا الدعاء لإخوانكم في غزة وأرض فلسطين، وتذكروا أنكم تنصروا إخوانكم بالدعاء كما لو أنكم معهم في ساحة المعركة.
_إلى الجميلة “أماني محمد” كل عام وأنتِ بخير طيبتي دومًا وطابت أيامك بسعادةٍ وهنا وإلى كل من ولد في مثل هذه الأيام، أطاب الله قلوبكم وبارك لكم في عمركم.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)