رواية وما ادراك بالعشق الفصل الثامن 8 بقلم مريم محمد غريب
رواية وما ادراك بالعشق الجزء الثامن
رواية وما ادراك بالعشق البارت الثامن
رواية وما ادراك بالعشق الحلقة الثامنة
الفصل الثامن _ أطلال عشق _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
مضى أربعة أشهر على زواجها من “يحيى البحيري”، و بالكاد تعتاد المكوث لأيامٍ طويلة بدونه، إذ إنه كان حريصًا كل الحرص على أن يقضي أكثر الأوقات في منزل عائلته، لم يبيت معها ليلة واحدة بعد شهر العسل، بل كان يأتي لزيارتها مرة أو مرتان بالاسبوع في الصباح الباكر أو في المساء ثم يتركها و يعود لأحضان زوجته الأولى و عائلته.. عائلته الحقيقية !
إنه كريم جدًا، لا يبخل عليها بشيء، و كل طلباتها مجابة و حتى ما لم تطلبه يوفره لها، و لكن ليته يُدرك بأنها لا تهتم للماديات، إنها تتوق لعائلة مثل التي يكافح للحفاظ عليها، تريده هو، تريد أطفالًا منه، ما زالت لم تقطع الأمل في أن يسمح لها قريبًا بالإنجاب، إنها و إن وافقته مستسلمة لسحره الطاغي عليها، إلا إنها لم تقمع صوت غريزتها القوي كما يظنّها، ستعود لتفتتح معه حديثًا في أسرع وقتٍ، و عندما تفعل ذلك فإن قراره سيُحدد مصير هذا الزواج، إذا وافق سيكون من دواعي سرورها أن تبقى في عصمته، و إذا رفض فهي ستتركه مهما كلّفها الأمر.. لن يستطيع أن يرغمها على البقاء …
اليوم أخيرًا قرر أن يبيت معها، اتصل بها قبل أن يحضر في المساء و أبلغها بأنه اختلق كذبة أمام عائلته و أنهم يظنونه مسافرًا لبضعة أيام، و لكنه في الحقيقة باقيًا و سيقضي معها كل هذا الوقت، معها وحدها
لم تستطع “رحمة” إلا أن ترحب به طبعًا، و مثل العادة جعلها حضوره تنسى أيّ وحشة تستشعرها بعيدًا عنه، و ظلّت قدماها لا تلمسان الأرض منذ جاء و بقي بجوارها …
-خلاص مش قادر يا رحمة !
يُعلن “يحيى” للمرة الثانية بصرامةٍ أشد و هو يحاول درء يد زوجته الشابة عن فمه، بينما كانت الأخيرة تجثو أمامه فوق الفراش حاملة صحن من شرائح الفاكهة، أصرت عليه و هي تمد يدها من جديد بقطعةٍ من التفاح :
-عشان خاطري.. انت ماقربتش من الفطار خالص و شربت قهوة بس.. كُل دي من إيدي على الأقل.. عشان خاطري كُلها !!
رمقها بنظرته الصافية مطوّلًا، ثم تنهد و فتح فمه ملتقطًا قطعة التفاح بأسنانه، راقبته مبتسمة و هو يلوّكها ببطءٍ، كان آسرًا لعينيها هذا الصباح، مظهره عفوي و نادر ؛ شعره الناعم المتشابك، ملامحه التي لم تزول عنها آثار النوم بعد، جزعه العاري
لم تسمح بمغادرة السرير و صممت أن تأتي له بالفطور هنا، أرادت أن تدللـه كثيرًا، فقد بدا عليه الإرهاق منذ قدومه عندها، و كما ترى إن جهدوها قد أثمرت، الآن يبدو مشرقًا و وسامته الملائكية عادت تزلزلها من جديد …
-انتي مبتسمة أوي كده ليه ؟ .. سألها “يحيى” مبتسمًا بدوره
لتتحول ابتسامتها لضحكةٍ مجلجلة فتبدو كطفلة بهجة لنظره و هي تقع عرضيًا فوق صدره، فيحاوطها بذراعيه و لا يزال مبتسمًا في انتظار جوابها، تهدأ “رحمة” قليلًا و هي تخبره رافعة رأسها لتلاقي نظراته :
-أصلي لسا بفتكر أسماء عيلتك.. بصراحة حاجة غريبة أوي !
عبس مستوضحًا بصوتٍ أجش :
-إيه الغريب مش فاهم !؟
أسندت ذقنها فوق صدره معلّقة نظراتها بنظراته و قالت :
-انت اسمك يحيى.. تمام اسم حلو و جديد. لكن أسماء عيلتك تحس إنها قديمة أووي.. مثلًا أخوك رفعت. ابنك عثمان. بنتك صفيّة.. حاسة إني بشوف فيلم أبيض و اسود …
و مضت تضحك بانطلاقٍ مجددًا.. لكنها سارعت قائلة :
-أنا بهزر اوعى تزعل مني !
هز رأسه قائلًا بوداعته المعهودة :
-مازعلتش و لا حاجة.. انتي عندك حق. بس الأسماء في عيلتنا مش قديمة.. هي أسماء عريقة.
نظرت له ببلاهةٍ، فابتسم و هو يشرح لها ماسحًا على رأسها بحنو :
-عيلة البحيري مش ولاد إمبارح. جدي الكبير كان متجوز أكتر من واحدة. و خلّف كتير جدًا. اشتغلنا في كل المجالات على مر الأجيال دي.. في السياسة و الطب و المعمار لحد التجارة.. أنا إنهاردة واجهة العيلة دي. طبعًا رفعت أخويا مش فاضي للشغل. بس المهم قصة الأسماء جاية من الناحية دي. أنا اتجوزت بعد رفعت. لكن خلّفت قبله و كنت هاسمي إبني صالح على اسم أبويا. بس حمايا عثمان باشا المهدي اتوفى و كانت فريال في الشهور الأخيرة من الحمل. ف طلبت مني نسمي عثمان بدل صالح. و أنا ماحبتش أكسر بخاطرها لأنها كانت متعلّقة بأبوها و بتحبه جدًا. وافقت.. بس لما خلفنا تاني و جت البنت أنا بقى صممت اسميها على اسم أمي. صفيّة. فريال مقدرتش تفتح بؤها.
و ضحك بمرحٍ و هو يشرد بنظراته و كأنه يفكر في زوجته الغائبة …
شعرت “رحمة” بالغيّرة في الحال و استحالت الابتسامة على وجهها لتكشيرةٍ عميقة، انتبه “يحيى” لتصلّب جسمها، فنظر إليها مستطلعًا و هو يقول :
-مالك ؟
-و لا حاجة ! .. ردت باقتضابٍ ملحوظ
ابتعدت عنه الآن و قالت و هي تنهض واقفة :
-الجرايد إللي طلبتها برا. البواب طلّعها من شوية.. تحب أجبها لك ؟
أومأ لها قائلًا :
-أيوة بس قبل ما تجبيها تعالي.. قربي يا رحمة عايز أقولك حاجة.
أقبلت عليه طائعة، جلست على طرف السرير بجواره، تجنّبت النظر إليه، فلن يجبرها على التواصل بالعين، اكتفى بأن ينظر لها و هو يقول محيطًا خصرها بذراعه :
-يمكن نسيت أحط قواعد نمشي عليها أول ما اتجوزنا. اكتفيت بس إنك فاهمة ظروفي و إن عيلتي مش لازم ابدًا يعرفوا بالجواز ده. انا بقدرك أكتر لأنك احترمتي الشرط ده بالذات.. لكن إذا كنت هقولك كده دلوقتي ف ده عشانك انتي.. آخر حاجة ممكن أعوزها هي إني أضايقك بأي شكل من الأشكال. لو الكلام عن عيلتي و مراتي بالتحديد بيضايقك ماتحاوليش تفتحي معايا أي حوار عنهم. أنا مش ماعنديش مانع أكلمك عنهم لو حبيتي أو سألتي.. بس لما أشوفك اضايقتي كده مقدرش أتجاهل الموقف و أفوّته !
كانت تغرز أظافرها بقوةٍ في راحتيّ كفّها و هي تستمع إليه، حتى صمت الآن، أدرات رأسها تجاهه لتنظر إليه، بدا الحزن في عينيها واضحًا كالشمس، كذا نبرة صوتها و هي ترد عليه :
-أنا مش بضّايق لما بنحكي عن عيلتك.. بس بضّايق لما بسمعك بتتكلم عنها بالطريقة دي. انت مش بتشوف نفسك بتبقى عامل إزاي لو جت سيرتها في أي حاجة حتى لو صغيرة… انت بتحبها ؟
ما من فائدة معها، أرادت الألم، فليؤلمها مرةً واحدة لكي لا تجرؤ على الإقتراب من هنا مجددًا …
يسحب “يحيى” نفسًا عميقًا و هو يرتفع بجزعه أكثر بالفراش مرتكزًا على مرفقه، وجهه خالٍ من التعابير و هو يجاوبها الآن بهدوء :
-أنا قلت لك اتجوزت و أنا صغير أوي.. لو ماكنتش متأكد من مشاعري ماكنتش مشيت الخطوة دي. أنا بحب مراتي فريال. بحبها جدًا و مقدرش استغنى عنها. وجودها في حياتي ضروري زي الهوا إللي بتنفسه.
كم كان هذا مؤلمًا، حقًا، و كم شعرت بالسخافة، اعترافه كان بمثابة الإنذار الذي تحتاج إليه لتنهي ذلك الزواج المهزلة و فورًا، و لكن عوضًا عن هذا ابتعلت المذلّة و سألته بصوتٍ أبح :
-طيب أتجوزت عليها ليه لما انت بتحبها أوي كده ؟ لا تكون هي مش بتحبك !
ضحك من كلماتها و لا يعرف جديًا ما المضحك فيما قالته، تجلّت المرارة في صوته و هو يخبرها بصراحةٍ :
-فريال بتحبّني زي ما بحبها و يمكن أكتر. أنا واثق من ده زي ثقتي إن النار بتحرق مثلًا أو إن الشمس بتشرق كل يوم.. فريال بتحبني. بس مش بتحب الـIntimacy !
عقدت حاجبيها في دلالةٍ على عدم الفهم، فابتسم بتكلّفٍ قائلًا بوضوح أكثر :
-قصدي الحميمية.. عندها Limts. يعني حدود معيّنة في علاقتنا. بتحب نقرّب من بعض لكن ممنوع أستغل التقارب ده أو أطوّره. يعني باختصار فريال بتحب فيا الحبيب. مش الزوج.
رفعت حاجبيها و قد تلاشى عبوسها فور أن وضحت الصورة أمامها أخيرًا، إذن فهذا هو سبب زواجه منها، زوجته لا تقوم بواجباتها كاملةً تجاهه، لا ترضيه، لكنه يحبها، لا يمكنه الإستغناء عنها كما قال و في نفس الوقت لديه غرائز ليشبعها، فبحث هو عن أخرى تسد تلك الخانة الفارغة في حياته و في الخفاء، و كانت هي تلك الأخرى.. لا تعلم هل من سوء أم حسن حظّها !!؟
-المفروض أعمل إيه بعد إللي انت قلته ده !؟ .. تساءلت “رحمة” بصوتٍ مهزوم و منتهي
يعدل “يحيى” نفسه حتى يصبح في مواجهتها تمامًا، ممسكًا بوجهها بيد، و مقربًا إيّاها إليه من خصرها بيده الأخرى و هو يقول بخفوتٍ :
-إللي بتعمليه من أول يوم يا رحمة. انتي كمان مراتي زيها.. انتي كمان بحترمك و بقدرك.
همست بدموعٍ : بس مابتحبنيش زيها !!
كز على أسنانه بصبرٍ و قال متجاهلًا شكوتها :
-انتي في كل الحالات مسؤوليتي. عمري ما هاتخلّى عنك مهما حصل.. لكن مكانتك في حياتي انتي إللي بتحدديها. أنا برتاح معاكي. بتبسط لما بشوفك لما بكلمك.. انتي لحد دلوقتي كل حاجة كنت بتمناها. بتريّحيني و بتسمعي كلامي. لو ماتعرفيش انتي عندي حاجة قيّمة أوي.. و أنا محظوظ عشان لاقيتك. و اتجوزتك !
و جذبها لفمه ليقبّلها، لم تمنعه، و لكنها لأول مرة لا تستمد منه المشاعر المحببة كما في كل مرة يتقاربا هكذا، قبلته لم تداويها هذه المرة كما كانت تفعل من قبل، الآن قبلته تخلق ندوبًا عميقة بداخلها
الوجع هو كل ما تشعر به “رحمة” و للمرة الأولى بين أحضان “يحيى البحيري” …
______________________________
-ماما !
تلك الكلمة الوحيدة التي تمكن “عثمان” من نطقها، كانت كفيلة لتضع بينه و بين “شمس” مسافة كافية في الحال، أجفلت “شمس” حين أبعدها أخيها بشكلٍ مفاجئ عن حضنه، أدارت جسدها لتواجه سيدة المنزل، بينما غمر “عثمان” توتر شديد و هو يحدق في أمه متململًا
لا يعرف كيف يُبرر ما رأته !!!
في الجهة الأخرى، لا زالت “فريال” تقف عند عتبة باب المكتب، مرفوعة الرأس، يجلل وجهها الجميل كبريائها الأرستقراطي المتوارث، رغم الكارثة التي تلقّتها من إبنها ليلة أمس، لكنه لم يراها أكثر جمالًا و بهاءًا ممّا تبدو عليه الآن …
-اتفضلي يا فريال هانم ! .. قالها “عثمان” بهدوءٍ و قد استطاع أن يحكم سيطرته على إنفعالاته بسرعة
للحظات جالت “فريال” بناظريها بينه و بين أخته المزعومة، ثم أخيرًا حسمت أمرها و تقدّمت بالداخل بخطواتٍ ثابتة، متمهلة …
وقفت قبالة الإثنان، و بقيت تحدق بالأكثر بـ”شمس”.. تتأملها من رأسها لأخمص قدميها.. و لم يخفى على الأخيرة نظرات التقييم التي تحمل مسحة مهينة لشخصها… لكنها لم تهتز و لم يرتد لها طرف و هي تبادلها النظرات بثقةٍ
يستقر بصر “فريال” على وجه “شمس” الآن، ليمضي “عثمان” مبددًا الصمت المربك للأعصاب قائلًا بلهجته الرزينة :
-فريال هانم.. أعرّفك بشمس.. أختي إللي حكيت لك عنها !
و حوّل نظره تجاه أخته مستطردًا :
-شمس …
قاطعته “شمس” و هي ترمق السيدة الراقية باعجابٍ :
-منغير ما تقول يا عثمان.. معقول في حد مايعرفش فريال هانم المهدي. دي واحدة من امنياتي كانت إني أقابلها أو أشوفها من قريب.. أنا مش مصدقة إني واقفة قصادها دلوقتي !!
لم يُطرب “عثمان” لإطراء الفتاة، كان مشغولًا بردة فعل أمه، يتحسس منها أيّ حركة أو فعل، لكنها ثابتة، لتفتح فاها أخيرًا قائلة بلهجةٍ باردةٍ كالجليد :
-إنتي بقى شمس مش كده ؟ .. انتي بنت يحيى ؟
أومأت لها “شمس” و هي تجاوبها بابتسامةٍ رقيقة :
-آها.. مظبوط يا فريال هانم. أنا شمس. أصغر ولاد يحيى البحيري !
تبتسم “فريال” بخيّلاء و هي ترد عليها عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
-كنتي فين طول السنين إللي فاتت دي يا شمس.. ليه ماجتيش تشوفي اخواتك ؟ و فين مامتك يا ترى ؟ ماجتش معاكي ليه عشان نتعرف عليها ؟
رفرفت “شمس” بأهدابها قائلة بأريحية :
-مامي في لندن. أنا نزلت مصر لوحدي. بس أكيد هاتتبسط أوي لو عرفت إن فريال هانم بنفسها بتقدم لها دعوة مخصوصة و هاتيجي تلبيها في أسرع وقت.
رفعت “فريال” حاجبها متسائلة :
-مامتك إنجليزية !؟
شمس بنعومةٍ : لأ يا هانم. مامي مصرية و اسكندرانية كمان. بس احنا حياتنا كلها تقريبًا قضيناها في لندن. بابي نقلنا هناك من زمان أوي أنا كنت لسا طفلة صغيرة ساعتها. و كمان شغل مامي هناك عشان كده ماعندهاش وقت خالص تنزل معايا.
كان “عثمان” يراقب بتأهب مجرى الحديث بينهما، خاصةً حين جاءت “شمس” على ذكر والديها، استشعر النيران التي تأججت بصدر أمه، و تنبأ تحديدًا بردها الذي لم توفر جهدًا للإفصاح عنه على الفور …
-تبقى مين بقى مامتك دي !؟؟ .. احتدت لهجة “فريال” في هذه اللحظة
تحوّلت الوداعة على وجهها إلى قناعٍ من القساوة و الغضب و هي تقول تبصق الكلمات من فمها :
-اسمها إيه و من عيلة مين ؟ ما هي أكيد لو من عيلة معروفة مكانتش سمحت لنفسها تعيش على الهامش كده. باباكي بعتها على منفى. باباكي كان جبان. و مامتك جبانة أكتر منه و أكيد هانتواجه عشان أرميها بحقيقتها في وشها …
-ماما من فضلك ! .. تدخل “عثمان” بحزمٍ
إلتفتت “فريال” نحوه صارخة :
-أخـرس انـت.. تعرف تخرس ؟ أنا بتكلم إيّاك تقاطعني. انت نسيت نفسك يا ولد. نسيت أنا مـين ؟؟؟؟
ألجمت لسانه بهجومها العنيف عليه، لم يجرؤ على فتح فاهه مرةً أخرى، فقط ينظر إليها بصمتٍ تام يرى منها جانب لم يراه أبدًا طوال حياته، بينما تبقى “شمس” على استعدادٍ لسماع أيّما إهانة تعتزم أرملة ابيها المجروحة توجيهها إليها، كانت تعذرها، و لا تلومها أبدًا على أيّ شيء قالته أو ستقوله الآن …
تعاود “فريال” النظر إلى خيانة زوجها المتجسّدة بتلك الفتاة التي و لا ريب تحمل شبه أمها، تغزو حمرةٍ غاضبة بشرتها و هي تغمغم بغلظةٍ :
-بصي يا بنت يحيى.. انتي لو حاطة أمل على أي كلام قاله ليكي عثمان تبقي أكيد واهمة نفسك.. مايهمنيش هو قال لك إيه أو وعدك بإيه. إللي لازم تفهميه كويس إن طول ما أنا عايشة هنا في البيت ده مش ممكن أسمح لا ليكي و لا لأمك تعيشوا فيه يوم واحد. و ولادي تنسي تمامًا إنهم ممكن يكونوا اخواتك. أنا ماخلفتش غير اتنين بس. لو اعتبرت أي حد يجي يقولّي إنه ابن يحيى البحيري ماكنتش هاخلص. زي ما خلّفك بجواز أو منغير جواز ممكن يكون خلّف غيرك !!
الآن لم تستطع “شمس” الحفاظ على ملامحها المتسامحة أكثر، أحسّت بغضبٍ يوازي غضب الأخيرة، لا يمكنها أن تلتزم الصمت و هي تسمع إهانة أمها بأذنيها، عبست قائلة بتجهمٍ :
-أنا بنت شرعية يا فريال هانم. اسمي في شهادة الميلاد شمس يحيى صالح البحيري. و مامي من أول يوم بينها و بين بابي و هي مراته على سنة الله و رسوله. مامي صحيح مش من عيلة معروفة زيك. و يمكن في الأول قبل ما تتجوز بابي حياتها كانت بسيطة. لكن لما تشوفيها دلوقتي هاتتأكدي إنها ماتقلش عنك أي حاجة.. ست شيك. مستقلّة. غنيّة.. و صغيرة. عملت كل ده في عمر صغير !!
لو أن الكلمات تردي، لسقطت “فريال” صريعة الآن بعد ما قالته “شمس”.. لكنها لم تستطع فعل أيّ شيء.. كذا فمها بقى مغلقًا بلا حول و لا قوة
فقط تحدق فيها بقوةٍ و قد تلبّدت عيناها بطبقةٍ من الدموع الساخنة …
لم تشأ “شمس” أن تزيد عليها أكثر من ذلك، فضلت أن تنسحب على الفور، و قبل أن يضيف أيًّا منهم كلمةً أخرى نظرت إلى أخيها و قالت باقتضابٍ :
-عثمان أنا هامشي دلوقتي.. و بحب أطمن فريال هانم قدامك أنا مش مخططة أبدًا إني اتنقل هنا و أعيش في بيتكوا. عندنا شقة في المعمورة كان بابي اشتراها و سجلها باسم مامي قبل ما نسافر. بس أنا Actually مش قاعدة فيها دلوقتي. أنا نازلة في شيراتون هوتل. لو عوزتني هاتلاقيني هناك.. عن اذنكوا !
و لم تنتظر رده حتى، دنت منه لتقبّله على خدّه قبلة سريعة، ثم استدارت مغادرة بخطواتٍ متهادية …
صار “عثمان” بمفرده الآن أمام أمه، لا يزال متحفظًا و قلقًا بشأنها، حاول أن يتقرّب إليها و هو يقول بحذرٍ :
-ماما ..
جمدته بإشارةٍ من يدها، استجاب لها على الفور و بقى بمكانه، بينما تنظر بعيدًا عنه، تستجمع شتات نفسها التي بعثرتها “شمس” بكلماتٍ بسيطة.. لم تمر ثوانٍ أخرى إلا و شدّت قامتها متوجهة إلى الخارج
فور أن صارت بعيدًا عن مرمى ناظريه سمحت لدموعها ببلوغ مآقيها الآن.. لم تستطع أن توقفها حتى بعد أن وصلت إلى غرفتها.. بل انهارت بشدة و هي تطيح بكل ما تمسكه بيدها
إنهالت على كل شيء تكسيرًا و تدميرًا، وصولًا إلى إطار صورته الكبير، التقطت مزهرية و رشقتها تجاهه بعنفٍ صارخة :
-جـبــــــــــان.. خـايــــــن.. جـبــــــــــــــــــان …
و أكملت تحطيم الإطار و تفتيت زجاجه بنعل حذائها ذي الكعب العالِ، تبكي و تسبّه و هي تخرّب صورته قدر ما استطاعت، حتى غلبها التعب و أجبرها على التداعي فوق الأرض، فوق حطامه، فوق أطلالها هي الأخرى.. أطلال عشقها الكاذب
إنها لقسوة مميتة أن تكون حياتها كلها مجرد كذبة لعينة.. كذبة أصعب حتى من الموت.. ليتها لحقت به و لم تعرف ما اقترفه بحقها.. ليتها تموت الآن …
______________________________
نارية الطِباع.. كيف أل بها المطاف إلى هنا !؟
المُدللة، السطحية، و التافهة في أحيان كثيرة… هل يُعقل أن يُغيّر الزمن سجايا الإنسان في ليلةٍ و ضحاها ؟
الجواب هو نعم على ما يبدو، إذ أن هذا ما حصل لها بالفعل.. “مايا عزام”.. الثمرة الصالحة التي سقطت من شجرة معطوبة، إبنة لامرأة تحمل الشر في دمائها، و من جهة أخرى تُنسب لأب قضى حياته كلها مغتربًا بعيدًا عن أسرته، عدم انتمائه لأمها جعله يختار العيش بمفرده، ترك أولاده فقط لأنه اكتشف بأن ما يربط بينه و بين زوجته لم يكن يومًا حبًا، هكذا ورد إليه الاكتشاف الذي قلب حياتهم رأسًا على عقب
أفاق ذات يوم من نومه ناقمًا على كل شيء، أبدى عدائية غير مسبوقة نحو زوجته، و كأنه كان مغيبًا عندما قرر الارتباط بها، و تملّكته صحوة مفاجئة، لم يطيل مكوثه بعدها في بيت الزوجية، و عقد النيّة على السفر للخارج من أجل العمل و لم يعد يراهم إلا خلال زياراتٍ متباعدة و قصيرة جدًا.. لا تنكر “مايا” أن أبيها أحبها و أخويها.. و لكنها واثقة بأنه لم يحبب والدتها قط
و هل يجب أن تلومه على هذا ؟
إنها لم ترى أحدًا يحب والدتها، لقد كرهها الجميع، و لم يبكيها نفرٌ حين ماتت قبل خمس سنوات، حتى هي لم تحزن عليها، كيف تفعل و قد تسببت أمها في تعاستها !؟؟
بسبب أعمالها الشيطانية فرّقت بينها و بين الرجل الذي أحبّته بصدق، خطيبها.. لقد حددت بالفعل موعد الزواج معه.. و لكنه فاجأها ذات يوم بمقر عملها و فسخ الخطبة بأكثر الطرق إهانة إذلالًا و أمام الجميع… كانت فضيحة.. خزي تعاطت معه بجلَد يُحسب لها طوال السنوات الماضية
و رغم إنها تلقّت عروض زواج متعددة من بعد تلك الحادثة، لكنها بقيت على عزوفها عن الإرتباط بأيّ رجل، و قررت أن تبقى عزباء هكذا.. إلى الأبد …
-صباح الخير يا بابا !
تلقي “مايا” تحيّة الصباح بفتورٍ على والدها فور بلوغها حجرة الطعام بالطابق السفلي للفيلا الفخمة التي يمتلكها، قبّلته على خده بموّدة، ثم اتخذت مكانها بجواره
يتطلّع أبيها إليها مبتسمًا باشراقٍ و هو يقول :
-صباح الفل يا ست البنات.. شوفتي بيت أبوكي نوّر إزاي. جيتي مليتي عليا البيت و حياتي كلها.. مش مصدق إنك هنا معايا يا مايا !
تنهدت “مايا” راسمة على ثغرها ابتسامةٍ خفيفة، صبت لنفسها قدحًا من الشاي و هي ترد عليه برزانةٍ كان ليتعجب منها في الماضي :
-كله بوقته يا بابا.. كل حاجة بتيجي في معادها… هو مالك راجع إمتى ؟
ارتشفت القليل من الشاي و هي تصوّب عيناها إليه بانتظار ردّه، جاوبها “حسين” متأملًا في بهائها و ملامحها التي ازدادت نضجًا و جاذبية :
-هايكون هنا بعد بكرة إن شاء الله.. ماتقلقيش. إجراءات خروجه خلصت خلاص. بس لازم يقضي يومين في المفاوضية إللي اترحل منها على السجن.. أنا عارف إنك وافقتي تيجي هنا عشانه. و دي حاجة مش مضايقاني بالمناسبة.. بالعكس أنا مافيش حد الدنيا دي فرحان زيي. ولادي الاتنين هايرجعوا لحضني أخيرًا.
-ربنا يخليك لينا ! .. تمتمت “مايا” بابتسامةٍ متكلّفة
بدأت بتناول فطورها في صمتٍ، يراقبها أبيها مضيّقًا عينيه، يقلقه وضعها و هو يراها عن كثبٍ هكذا، لقد خطط بالفعل لمجرى حياتها هنا معه، و يعرف كيف يصنع معها و يمهد لها طريقها بشكلٍ مدروس
يضع “حسين” غليونه بين أسنانه، و يشعله مستمتعًا بمذاق التبغ الكوبي المفتخر، ينفث غلالة من الدخان أمام وجهه الهرِم و هو يقول مخاطبًا إبنته :
-قوليلي يا مايا قررتي تعملي إيه أول ما تستقري هنا ؟
أجابته “مايا” و هي تضع بفمها قطعةً من الخبز المحلّى :
-لسا ماقررتش.. بس الأكيد إني هاشتغل. أنا مقدرش أقعد منغير شغل.
-لازم تشتغلي في مجالك ؟ في التدريس يعني !؟
-لأ طبعًا مش لازم. أنا هادوّر و على حسب ما تيجي معايا.. المهم ألاقي مكان يريّحني.
-و انتي لسا هادّوري.. مكانك محفوظ يا حبيبتي. معايا في الشركة.
رفعت “مايا” عينيها لترمقه بنظرةٍ فارغة لوهلةٍ، ثم قالت :
-اشتغل معاك !!
حسين مقطبًا : عندك اعتراض ؟
هزت كتفيها بخفةٍ :
-لأ أبدًا. مش معترضة.. بس أنا مش فاهمة ممكن أعمل إيه في شركة استثمارات عقارية !
-يا حبيبتي أنوي انتي بس. احنا عندنا في الشركة أقسام كتير نقّي منها إللي يعجبك. و بعدين أخوكي كمان هايشتغل معانا. أظن مافيش ظروف مناسبة اكتر من كده كلنا هانكون مع بعض و الشركة في الأصل ملكنا مش شغّالين عند حد.. ها قولتي إيه ؟
-طبعًا مافيش مجال للرفض !
إلتفت كلًا من الأب و الإبنة نحو مصدر الصوت، فإذا به “نبيل الألفي” يقبل عليهما مبتسمًا بحلّته الرسمية و هو يستطرد :
-مايا مش هاتلاقي فرصة شغل أحسن من شركة أبوها. أكبر مؤسسة استثمار في الشرق الأوسط كله. و يمكن في العالم كمان.
تهلل وجه “حسين” لحظة رؤيته لـ”نبيل” و دعاه بحفاوةٍ كبيرة :
-أهلًا أهلًا يا نبيل. تعالى.. تعالى أقعد افطر معانا.
لبّى “نبيل” دعوته ساحبًا لنفسه كرسي قبالة “مايا” مباشرةً و هو يقول :
-أنا فعلًا سبقتكوا و فطرت في بيتي. انت عارف مقدرش أنزل منغير فطار. بس ممكن أشرب شاي معاكوا عادي.
و طفق يصب لنفسه فنجانًا من الشاي و هو يلقي نظرة نحو “مايا” مستطردًا بلهجته المرنة :
-عاملة إيه يا مايا ؟ يارب تكوني مبسوطة هنا معانا !
كانت “مايا” تنظر إليه بالفعل منذ قدومه، ليس إعجابًا بوسامته أو مظهره الراقي الجذّاب، و لكن لتتعرّف على الشخص الذي أبدى والدها تعلّقًا واضحًا به، و كأنه إبنًا حقيقيًا له مِمّا جعلها تشك حقًا و لا زالت.. هل يمكن أن يكون “نبيل” ذاك إبن أبيها ؟
لقد وصل إلى أمها طوال سنوات سفر زوجها إلى الخارج و حتى بدون أن يهبط في عطلاتٍ لمدة تصل إلى العام و العامين بأنه ربما، بل حتمًا قد تزوّج بأخرى، فلا يمكن أن يصبر الرجل على العيش دون امرأة لفترةٍ طويلة، لم تصدق والدتها حينها، كذلك هي، و لكن الآن فإنها تشك بالأمر !!
و لكن ما هو عمره يا ترى ؟ .. إنه يبدو رجلًا ناضجًا.. و لكن سنه من الصعب تحديده.. ذلك الأشقر الذي يمتلك مقوّمات عارض أزياء تكفي لجمع ثروةً… من المحتمل أن يكون والده هو نفسه والدها !!!
-أنا لسا ماكملتش هنا يومين يا أستاذ نبيل ! .. ردت “مايا” بلهجتها المتحفظة و هي تترك الطعام الآن و توليه انتباهها كاملًا
سمعت ضحكة أبيها المجلجلة يعقبها تعليقه الساخر :
-أستاذ ! أستاذ إيه يا مايا ده نبيل. أنا قلت لك نبيل ده واحد من العيلة مش مجرد شريك عمل. ناديه بأسمه عادي زي ما هو بينده لك بأسمك.
ركّز “نبيل” ناظريه على عينيها و هو يرد على “حسين” متفكهًا :
-جايز لسا مش واخدة عليا يا حسين.. معلش سيبها تاخد وقتها. بكرة لما تنزل الشركة معانا و نتعامل مع بعض أكتر هانبقى أصحاب أوي.
أومأ “حسين” مؤيدًا و قال :
-ايوة عندك حق.. و مش عايز أقولك بقى مايا إجتماعية جدًا و بتحب الناس.. زيك بالظبط. مش كده يا مايا ؟
حرّكت “مايا” رأسها من غير أن تنظر لأبيها، فقط جاملت “نبيل” بابتسامةٍ باهتة، و بدون أن تنبس بكلمةٍ أخرى، أخذت تكمل تناول الفطور و هي تتحاشى بعد ذلك أيّ نقاش مع الرجلين، جلست تستمع فقط إلى الثرثرة الخاصة بسوق العمل بينهما.. أجواء مملّة
لكنها مجبرة على تحمّلها …
______________________________
في اللحظة التي عادت فيها البيت، بيتها، بيت أبيها الذي ولدت و نشأت فيه، تلك اللحظة لم تفيدها أبدًا، بل أثقلت صدرها بالبؤس و شعرت برغبة في البكاء لدهور كاملة
إن كل شيء مختلف حقًا.. البيت نفسه مختلف.. أثاث، ديكور، والديها كان هنا منذ وقتٍ قريب، إنه لأمر مفجع أن تصدم بحقيقة موتهما معًا، لقد ماتا والديها حقًا، و ماذا أختها الرضيعة !!؟
يقول “فادي” بأنها لم تعد طفلة الآن، بل صارت صبيّة في طور المراهقة.. بحق الله متى حدث كل هذا !؟؟
يقول أيضًا بأن لديها زوج و طفلين.. كيف يمكن أن ينسى المرء أشياء هامّة كهذه ؟
إنها لا تتذكر شيء، لا تتذكر أيّ شيء مِمّا يخبرها به، و لا يسعها سوى الصمت و التعاطي مع الصدمات و هي تذرف الدموع فقط، دموع خالت بأنها لن تنتهي أبدًا
حتى حانت تلك اللحظة، و هي تجلس بالغرفة التي من المفترض إنها غرفتها التي تعرفها جيدًا قبل أن تتغيّر بهذا الشكل، تناهى إلى سمعها صوت، إنه نفس صوته، صوت الرجل الذي يزعم بأنه زوجها
لقد جاء الآن !
تسمعه في هذه اللحظة من وراء باب الغرفة و هو يتجادل مع أخيها في نقاشٍ محتد …
-انت إزاي تخرجها من المستشفى على هنا منغير أذني ؟
-كنت عايزني أعمل إيه. انت ماشوفتش حالتها !؟
-أنا قلت هاترجع البيت. بيتي. هناك مكانها جنبي و جنب ولادها.
-الظاهر انت مافهمتش كويس.. سمر مش فاكراك. و لا فاكرة أي حاجة حصلت بينك و بينها بما فيهم ولادها. سمر محتاجة وقت عشان تستوعب حقيقة إنك جوزها على الأقل.
-بلاش كلام فارغ. مافيش واحدة بتنسى جوزها. ديّتها أقرب منها بس و حتى لو نسيت زي ما هي مفكرة نفسها مش هاتقدر تنكر علاقتي بيها.. هي فين ؟
ارتجفت “سمر” بقوةٍ الآن و هي تسمعه يسأل عنها، عضت على قبضتها بشدة و هي تتلفت حولها عاجزة عن التصرف، بينما تسمع جواب أخيها على سؤاله :
-جوا في أوضتها. أنا مش هقدر أمنعك عنها. بس ياريت تتعامل بالعقل و ماتضطرنيش أقف قصادك لو هي رفضت تمشي معاك. أنا موجود هنا عشان أحمي أختي و أقف في ضهرها ضد أي حد حتى لو كنت انت !!
لم تسمع كلمةً أخرى، لكنها بعد لحظاتٍ رأت باب غرفتها ينفتح ببطءٍ، ثم يطل من خلفه الرجل الغريب الذي رأته لمرةً واحدة و لم تنساه أو تنسى وجهه قط …
وقفت بمنتصف الغرفة باسدال الصلاة، ترتجف من رأسها لأخمص قدميها و هي تحدق به يغلق باب الغرفة من ورائه، ثم يستدير ناحيتها بطوله الفارع، لاحظت بذلة سوداء مثالية تكسو جسده الضخم، بشرته البرونزية نظيفة و لأول مرة ترى النظافة بهذا الشكل و تستطيع استنشاقها على هذا البُعد أيضًا، هناك وشمًا في الأفق يتتبع فتحة قميصه على صدره
فجأة قطع نظرتها المتفحصة التي تشمله حين خطى تجاهها على مهلٍ، فوجدت نفسها تقفز في الحال متراجعة للخلف مع كل خطوة يخطوها قريبًا منها، حتى اصطدمت بخزانة الملابس و لم يعد هناك أيّ مهرب منه
توقف “عثمان” على بُعد قدمان منها، رأته يمسح جسدها بنظراتٍ عابسة، ثم تفاجأت بحدة لهجته و هو يقول :
-لسا مش عايزة ترجعي لعقلك يا سمر ؟
حاولت فتح فمها لتقول شيئًا، أيّ شيء، لكنه أثناها عن ذلك و هو يطرد زفيرًا حارًا من صدره، ثم يدس يده في جيب سترته ليسحب محفظته الثمينة، يخرج منها ورقة مطويّة بعنايةٍ، يفتح الورقة و يشهرها أمام عينيها، لترى صورتها بجوار صورته بينما يمضي صوته العميق قائلًا بحزمٍ :
-دي قسيمة جوازنا.. جواز رسمي. انتي مراتي يا سمر على ذمتي بقالك اكتر من 13 سنة. في الفترة دي خلفنا ولد و بنت. يحيى 12 سنة. و فريدة 9 سنين.. عايزة إثبات إيه تاني أكتر من كده ؟
هزت رأسها للجانبين مغمغة بنشيجٍ مكتوم :
-أنا مش فاكرة أي حاجة !
سحب نفسًا نزقًا عبر أنفه وهو يعيد الورقة و محفظته إلى جيب سترته، ثم قال فجأة:
-اقلعي الإسدال ده.
إتسعت عيناها على الفور، لم تصدق ما سمعته، فرددت لا إراديًا :
-نعم !!؟
كرر “عثمان” بحدة أكبر و هو يتخذ خطوةً تهديدية نحوها :
-بقولك اقلعي الإسدال ده. دلوقتي حالًا !
و بقى في انتظار أن تنفذ كلمته، لكنها لم تفعل و قد شلّها الخوف منه، فقطع المسافة بينهما قبل أن يرتد لها طرفها، أمسك بتلابيب الثوب الفضفاض و قال يتوعدها بجديّة لا تخضع للشك :
-لو فتحتي بؤك هاتندمي يا سمر.. صدقيني هاتندمي.
و كأنه يعرفها حقًا، و يعرف يقينًا أن وعيده سيقيّدها و يعجزها عن أيّ ردة فعل متهوّرة تقوم بها، بقيت مثل الدمية بين يديه، بينما ينزع الإسدال عنها ساحبًا إيّاه من رأسها، ثم يلقيه بعيدًا بلا اكتراثٍ
يبتعد خطوة للوراء حتى يعطي نفسه رؤية أكثر وضوحًا لجسدها، كانت ترتدي قميصًا قطنيًا بحمالاتٍ عريضة، بالكاد يغطي فخذيها، رآها ترفع ذراعيها كانما تعانق نفسها، تريد أن تستر ما بدى منها عن ناظريه الجائعين، و لكن ذلك التصرّف لم يفعل شيء سوى استفزازه
مال نحوها من جديد، تلاصقا تقريبًا، و صدمتها رائحته الذكية هذه المرة، مزيج من الحمضيّات و الفانيلا المدخّنة، كلما ازداد قربه منها دغدغ حواسها أكثر، و أرعبها أكثر و أكثر …
-انتي مراتي ! .. تمتم بقساوةٍ و هو يقبض على خصرها
ارتعدت فرائصها، لكنها لم تقوى على مقاومته، بقيت مصغية له فقط و هو يكمل على نفس النهج :
-كل حاجة بتقول ده. لو سألتي أي حد هايقولك دي الحقيقة.. ماتتوقعيش مني أعاملك عكس كده.. انتي تخصّيني. من راسك لضفر رجلك ملكي أنا.. فاهمة ؟
امتلأت عيناها بالدموع قائلة و هي ترجف كليًا و تشعر بالحصار أكثر بين يديه :
-أنا ماعرفكش.. يمكن حصل كل إللي سمعته منك و من فادي.. بس دي مش أسباب تخلّيني أقبل الواقع ده.. أنا شايفاك راجل غريب.. مقدرش أسلم لك كده بسهولة !!
بدا على وجه “عثمان” الجهد الذي يبذله ليسيطر على إنفعالاته، لكن كعهده دائمًا، استطاع أن يكون بارد الأعصاب و هو يرفع يده، ليلتقي إصبعه بشفتيها بينما يقول بهدوء :
-سمر. أنا شايف إن مافيش حاجة فيكي اتغيرت غير سذاجتك.. بقت الدُبل !
كادت ترد و تحاول الابتعاد عنه مرةً أخرى، لكنه جمدها زاجرًا و هو يضغط بإصبعه على شفتها :
-هششش !!!
فجأة نسيت “سمر” كل شيء، بقيت متحفزّة باضطرابٍ فقط لأقل حركة يقوم بها تجاهها، علاوةً على إصبعه الذي بدأ ينزلق برفقٍ على ذقنها و حلقها مسببًا لها القشعريرة و باثًا فيها مزيدًا من الخوف، حتى وصل إلى مفرق صدرها لولا زر البيجامة الذي استوقفه …
تنهدت “سمر” مجفلة بتوترٍ أشد و هي تعجز عن مقاومة سلطانه عليها، بينما ترى عيناه قد ركزتا على صدرها، ثم سمعته يهمس :
-مش هانعيده تاني يا سمر.. فكرة إنك تسيبيني و تروحي عند أخوكي دي امسحيها من راسك زي ما مسحتي 13 سنة بيني و بينك. مافيش قوى في الدنيا تقدر تبعدك عني..أنا مش ماشي من هنا إلا و انتي في إيدي …
شعر بصوتها يحاول بلوغ حنجرتها بضعفٍ مزري، فقاطعها للمرة الثانية و هو يرفع عينيه لينظر بعينيها التائهتين :
-تحبي اديكي امارة !؟
نظرت له باستغرابٍ، لم تفهم قصده في البادئ، لكنها ارتعشت و هي تراه يلعق شفته السفلى بشكلٍ مؤذي لمشاعرها، ثم يقول مقربًا وجهه من وجهها لتحس بحرارة أنفاسه على بشرتها :
-أنا حافظ جسمك حتة حتة.. كل شبر فيه متسجل في عقلي.. و أقدر و أنا مغمض عنيا أقولك في كام شامة و علامة مميزة… عندك حسنة بارزة تحت صرّتك.. و وحمة على شكل فراولة في نص ضهرك.. و في وحمة تانية في آ ا …
-اسكت !!! .. صرخت مقاطعة إيّاه هذه المرة و هي تكم فاهه بكفّها
إنبلجت ابتسامة خبيثة فاسقة على محياه و هو ينظر لها بتوقٍ صريح، بينما تردد بهستريا مدفوعة بالاستجابة السريعة لنبض قلبها :
-اسكت.. اسكت.. اسكت !!
شعرت بشفتاه تلثمان كفّها بقوةٍ، فلم تلاحق على الصدمات و سحبت يدها عن فمه، ليضحك و هو ينظر لها بتسلية قائلًا بحماسةٍ :
-انتي هاتمشي معايا دلوقتي.. مابقاش عثمان البحيري لو رجعتلكيش الذاكرة كلها الليلة دي. و هاتشوفي بنفسك.
كلماته الإيحائية مع نظراته كانت تميتها خجلًا و حياءً حرفيًا، لعلها ليست عذراء الجسد، و لكن عقليًا هي لا تزال عذراء بالفعل، لا يجوز أن يتحدث إليها هكذا، لا يمكنه أن يفعل معها مثل هذه الأشياء.. لا يمكن …
-أرجوك ! .. توسلته بضعفٍ واهن متشبثة بلوح الخزانة من خلفها
نظرت إلى عينيه بتضرعٍ و هي تستجديه :
-من فضلك.. انت بتقول إني مراتك. أكيد مهتم بمشاعري.. ماينفعش تعمل معايا كده.. أرجوك أنا مش هقدر أستحمل الوضع ده. أرجوك !!
و سحّت دموعها فوق خدّيها، بكت مقابله بحرارةٍ و هي تكبت صوتها بلا جدوى …
مسّت أوتاره الحسّاسة الآن، فأبدى لها التعاطف على الفور و هو يرفع يده ماسحًا على شعرها الفاحم السواد متمتمًا بلطفٍ :
-إهدي يا سمر.. أنا عمري ما حاولت أعمل حاجة غصب عنك.. انتي نفسك عارفة ده كويس. انتي حبيبتي.. مش ممكن أسمح لشيء يئذيكي في نفسك أو مشاعرك.
أخذ يزيل دمعاتها السائلة بإبهامه، بينما تحدق فيه بعينيها الملوّنة و هي تقول من بين أنفاسها المختلجة :
-انت بتحبني !؟
أومأ لها مجيبًا و قد رقت نظراته كثيرًا :
-بحبك طبعًا.. بحبك و ماحبتش قبلك. و لا ممكن أحب غيرك.. بحبك يا سمر !
ازدردت ريقها قائلة :
-خلاص.. يبقى تديني فرصة أعرفك من تاني.. أنا مش قادرة استوعب لغاية دلوقتي كل إللي حصل.
كزّ على أسنانه بحنقٍ مغمغمًا :
-لسا هاناخد فرصة ؟ ناقص تقوليلي أجي أتقدم لك من أول و جديد !!
شاهدها بعدم تصديقٍ و هي تومئ له بالإيجاب، ثم تقول :
-انت هاتعمل كده فعلًا.. على الأقل بيني و بينك. كل إللي بطلبه منك تديني شوية وقت. لو افتكرت بسرعة زي ما الدكتور قال هانرجع زي الأول.. لو مافتكرتش هكون اتعوّدت عليك. و هانرجع بردو.. بس دلوقتي لو رجعتني غصب عني مش هقدر أستحمل.. و الله صدقني !
تذرّع “عثمان” بالصبر مجاريًا إيّاها، و قال بهدوء :
-أمم.. يعني انتي عايزاني أبدأ معاكي من الأول. نرجع نتعرف على بعض و بعدين نعمل فترة خطوبة و بعدها نتجوز ! .. و انفعل فجأةً :
-ده إللي ناقص أخطبك و احنا معانا عيّلين.. طب الناس تقول إيه !!؟؟
ثبتته و هي تلقي بحجتها في وجهه بثباتٍ :
-لو بتحبني بجد زي ما بتقول هاتعمل كده.. القرار ليك. لو صممت أمشي معاك مش هقولك لأ.. بس حياتي معاك مش هاتبقى بإرادتي.. و فوق ما أنا شايفاك غريب عني هاكرهك. حتى لو رجعت لي الذاكرة مشاعري الجديدة مش هاتتغير من ناحيتك !!
امتد الصمت بينهما، يطالعها هو بنظراتٍ واجمة للحظاتٍ مطوّلة، ثم يرتد عنها خطوتين للخلف، تتنفس الصعداء أخيرًا لحظة خف ضغطه عليها، بينما يودع يديه في جيبي سرواله، بدا متعجرفًا و هو ينظر لها من علوٍ قائلًا ببروده الشهير :
-أوكي يا سمر.. أنا هاعملك إللي انتي عايزاه.. هامشي معاكي السكة دي للآخر. مش عشان قلقت من الكلمتين إللي لسا قايلاهم دول.. إنما عشان أثبت لك حاجة. مسيرك هاتعرفيها في وقتها.
كلماته على قدر غموضها لم تآبه لإيجاد تفسيرًا لها، فقط شعرت بالراحة لأنه أخيرًا نزل عند رغبتها، لكنها لم تكاد تشعر بتمام تلك الراحة إلا و قال لها بصرامةٍ :
-أنا هاسيبك مع أخوكي الفترة دي زي ما طلبتي.. بس الليلة دي أنا وعدت ابني إنه هايشوف أمه… هاتقابلي يحيى دلوقتي.. و هاتعملي إللي هقولك عليه بالظبط ! ………………………………………………………….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)