رواية بك أحيا الفصل الثالث عشر 13 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الجزء الثالث عشر
رواية بك أحيا البارت الثالث عشر
رواية بك أحيا الحلقة الثالثة عشر
الفصل الثالث عشر “حظ عاثر”
” الأيام تمر، حتى وإن بقينا نحن في نفس مكاننا دون خطوة زائدة، الأيام تسير ولا تنتظر أحد، عقارب الساعة لن تتوقف لأجل أحد، وتقلبات الزمن لا تخضع لأحد، ولا تشفق بأحد، ولا تحدث وفقًا لرغبة أحد، فصدق من قال “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”
ديسمبر لعام ٢٠١٨…
ثلاثة أعوام كاملةً مروا.. ثلاثة أعوام تغير بهم الكثير، ولنسرد أهم ما تغير في حياة ابطالنا..
“خديجة”
تخرجت من المرحلة الثانوية بمجموع سبعون بالمئة فقط وقد كانت شعبة علمي علوم فخسرت حلمها في الالتحاق بأحد الكليات الطبية كما كانت تحلم دومًا، وشعرت أنها تائهة ولم يعد يفرق معها تحديدًا بأي كلية تلتحق حتى أنها باتت تفكر في ألا تلتحق بأي كلية وتكتفي بتعليمها الثانوية.. فقد استُهلكت بحق، ما حدث معها في تلك الثلاث سنوات كان كفيلاً بهدم رجل فما بالك بأنثى ضعيفة، هشة، صغيرة السن مثلها! ماحدث معها يفوق احتمال كل البشر، يكفي معانتها النفسية، وصمودها للآن لا يدل سوى على مدى قوتها حتى وإن لم تعلم هذا، يدل على أنها كالشجرة ذات الجذر المتعمق لن تقدر أي رياح عاتية على كسرها.
وقفت أمام المرآة تلف حجابها الأسود حريصة ألا تُظهر خصلة واحدة من شعرها، وبعدما انتهت عدلت كنزتها السوداء كحال تنورتها وتأكدت أنها تغطي أردافها فهي تعلم أن ثيابها باتت تضيق عليها مع تغير جسدها وبروز منحنياته ولكن ما باليد حيلة فهي لن تقدر على جلب تنورة جديدة حتى، نظرت لذاتها في المرآة بعدما توقفت عن تفقد ذاتها واصبحت تتفقد وجهها فقط.. عيناها الواسعة السوداء كعين المها المحيطة بأهدابها الكثيفة، حاجبيها المنمقان، وأنفها متوسط الحجم وبهِ استقامة، شفتيها التي لم تميل للغلظه بل بدت طبيعية تمامًا، وبشرتها الخمرية، بدت فتاة عادية ليس بها ما يجذب، بالعكس مع ارهاقها وتعبها والهالات السوداء القليلة التي زينت اعلى عيناها وشحوب بشرتها لحد ما، كل هذا جعلها ترى ذاتها اقل من أي فتاة عادية، لوت فمها بمرارة وهي تسير بكفها على وجنتها وتغمغم:
_ يعني لا مال ولاجمال ولا حتى حظ حلو في الدنيا!
صمتت قليلاً قبل أن تستوعب ما قالته فغمغمت مرة أخرى بضيق من ذاتها:
_ استغفر الله العظيم ايه الي بقوله ده بس، الحمد لله على كل حال.
عادت تنظر لتنورتها وهي تستدير لتصبح بجنب وعوجت رأسها لتنظر لأسفل ظهرها فضيقت ما بين حاجبيها بضيق وهي تقول:
_ برضو ضيقة، البلوزة مش مغطية وقصرت هي كمان.
عادت تقف كما كانت معتدلة وفكت حجابها لتلفه بوضع يجعل معظم الحجاب خلف ظهرها ولكن طوله لم يصل للطول الذي أرادته، تفحصت ذاتها مرة أخرى لتجد الوضع لم يتحسن، فنفخت بانزعاج وهي تقول:
_ يوووه بقى! اعمل ايه تاني! ايش حال ماكنت باكل طقة اه وعشرة لأ! نفسي افهم بس جسمي ده بيتخن من الهوا! ياربي اعمل ايه بقى معنديش حل تاني والله، هنزل بقى وربنا يسامحني، على ما اقدر اجيب جيبه تانيه اوسع او فستان.
التقطت حقيبتها واتجهت لخارج الغرفة لتجد شقيقها “مصطفى” يجلس فوق الأرضية ويضع كتبه أمامه منحنيًا يذاكر دروسه، فهو في المرحلة الاعدادية، ابتسمت بحنو وهي تتجه نحوه متسائلة:
_ ايه يا صاصا الي مقعدك كده بس؟ ضهرك هيوجعك.
رفع رأسه لها وهو يردد ساخرًا:
_ لا حوشي الانترية الي سايبه وقاعد على الأرض.
رمشت باهدابها بحرج من رده، وغمغمت بهدوء:
_ مش قصدي، بس قصدي تدخل على السرير احسن.
طالعها بضيق وهو يعقب:
_ سرير ايه الي اذاكر عليه؟ انا لما بقعد عليه بعوز انام.
لاطفته وهي تقول مبتسمة:
– معلش يا حبيبي ان شاء الله ربنا يفرجها ونجيب كنبه وكرسيين هنا.
رفع جانب فمه ساخرًا وهو يحدقها بعينيهِ البنية مستهزأً:
_ كنتِ عرفتِ تجبيلي الكتب الأول، مش جبتيلي كتابين الشهر الي فات وباقي الكتب كل حصة اروح للمدرسين من غيرهم ويحرجوني.
ادمعت عيناها وقد شعرت بالاختناق من ضغطه عليها وهي تقول:
_ اعمل ايه بس يا مصطفى هو انا بايدي! ما على يدك مرتبي يادوب بيكفي إيجار الشقة والكهربا والماية واكلنا وفلوس دروسك بالعافية.
احتد صوته وهو يخبرها:
_ ما تطلبي من الدكتور ده يزود مرتبك، مانتي بقالك سنة معاه.
هزت رأسها بنفي وهي تجيبه:
_ مينفعش، كفاية الراجل مديني مرتب عمر ماحد كان هيدهولي في اول شغلي كده، مينفعش ابقى بجحة واطلب منه زيادة كمان.
اشاح بيده بضيق وهو يقول بينما عاد للنظر في كتبه:
_ خلاص خلينا كده لحد ما نشحت.
تنفست بعمق وقد احتل الألم والحزن ملامحها قبل أن تنسحب من أمامه بعدما قالت:
_ ربنا كريم وان شاء الله هيسترها معانا ومش هنشحت ولا حاجه، وحاضر هجيبلك الكتب النهاردة.
اتجهت لباب الشقة مغلقة اياه خلفها لتستند على الحائط المجاور له وتساقطت دموعها بعجز وهي تغمغم بتعب:
_ يارب تعبت.. يارب مبقتش عارفة اتحمل ايه ولا ايه.
ظلت هكذا لدقيقة قبل أن تمسح دموعها وتستقيم مكملة سيرها قاصدة عيادة دكتور “كمال مختار” التي تعمل بها.
________________
وهناك على بُعد بعيد جدًا عن مكان “خديجة” كان يتحدث مع ولده بالهاتف بعدما خرجَ من المنزل كي لا يستمع أحد لهذه المكالمة، حاول استمالته وهو يقول برجاء:
_ بكفياك بُعد يا باهر، مكفكش سنتين ونص يا ولدي؟ مهمل بوك وخوك وامك ليه كل ده؟ الي حُصل حُصل وعدى عليه زمن ارچع بجى.
اتاه رد الآخر وهو يقول بضيق:
_ الي حُصل مش هين يابوي، ولا هنساه حتى لو بعد عشر سنين، بس الاكيد اني هرچع لبلدي وناسي بس مش دلوجتي، مجادرش صدجني، لما اهدى هرچع.
احتل الحزن ملامح والده وهو يقول:
_ بكيفك يا ولدي، منها لله الي كانت السبب.
قاطعه “باهر” باختناق:
_ الله يرضى عنكَ ماعاوز اسمع سيرتها واصل.
_ خلاص يا ولدي المهم جولي اخبار شغلك ايه يا دكتور!؟
اتاه رده الهادئ وهو يقول:
_ الحمد لله يابوي ماشي زين، وكل يوم بكتسب خبرة.
_ربنا يصلح احوالك يا ولدي يارب، ويحنن جلبك علينا.
على الجهة الاخرى، اتجه للشرفة وهو يستمع لدعوة والده، ليزفر بضيق شاعرًا بالتقيد، فهو من جهة يريد العودة لوالديهِ فلا ذنب لهما فيما حدث وسبب ابتعاده عن البلدة عامان كاملان، وبنفس الوقت لا يشعر ذاته مؤهلاً للعودة أبدًا، ليس الآن على الأقل، ليس وهو يشعر أن ما حدثَ حدثَ بالأمس! اغمض عيناه السوداء الواسعة وهو يضغط على نواجزه بغضب حين عادت له ذكريات عامان ونصف مضت.
__________________
وعند بطلة أخرى……
انتهت من وضع الكحل في عينيها السوداء الضيقة، ورتبت خصلاتها جيدًا اسفل حجابها، والتقطت حقيبتها القماشية بعدما قيمت ما ترتديه في المرآة للمرة الأخيرة باهتمام ليلاقي استحسانها، فقد أرتدت فستان صيفي باللون البني الفاتح لائم بشرتها الخمرية الفاتحة، ولفت حجاب من نفس اللون بهِ نقوش سوداء، نظرت لملامحها بابتسامة فلدومًا ترى ذاتها جميلة، بشفتيها الغليظتان قليلاً باغراء، وانفها المستقيم حتى قرب نهايته فيتسع قليلاً، وحاجبيها الأسودان المنمقان بعناية، ابتسمت لذاتها وهي تردف بعقلها:
– مخبراش كيف البهيم ده ملفتاش نظره.
ضحكت لذاتها بخفوت على سبّها إياه، قبل ان تخرج من الغرفة لكي تذهب لمقصدها، لكنها وجدت والدتها تجلس في بهو المنزل، فقالت بهدوء مقتضب:
_ انا هوصل للحاچ سالم اشوف نتيجة التنسيج “التنسيق”.
رفعت عيناها لها من اناء الرز الذي تقوم بتنقية ما بهِ من غبار او حبة فاسدة، وقالت بحدة:
_ وانا جولتلك متروحيش.
قطبت حاجبيها بضيق متسائلة بانزعاج واضح:
_ وه! ليه؟ مالزمن اشوف التنسيج جابلي چامعة ايه؟ ولا هنجم عاد!
وضعت الاناء جانبًا وهي تضع كفيها فوق بعضهما واسندتهما فوق بطنها في حركة شعبية، وهي تردف ساخرةً:
_ لا يا حيلة امك، مهتنجميش، بس مش هتفرج التنسيج اختار ايه، اكده او اكده، مهتتحركيش من الدار، لا هتسافري مصر ولا حتى سكندرية كيف ما بتجولي، ولا في چامعة من أصله بكفياكِ تعليم لحد اكده.
اتسعت عيناها بفزع، وشحب وجهها بعدما استمعت لحديث والدتها الذي لم تتوقعه، وقالت بخفوت:
_ يعني ايه!؟ انتِ مجولتليش اكده جبل “قبل” سابج.
ببرود تام اجابتها مبتسمة بسماجة:
_مكنتش رايدة خوتة دماغ، جولت اجولك في وجتها احسن.
حركت رأسها نافية بعدم تصديق، وأردفت:
_لاه، مهتحرمنيش من حلمي ياما صُح؟ ده.. ده انا چبت ال٩٦ وهدخل طب اسنان حتى لو بعيدة كيف ما كنت رايدة.. مهتجسيش عليَّ اكده.. انا خابره إنك بتهزِري معاي صُح.. انتِ بتضايجيني عشان بتحبي تشوفيني مضايجة، بس مهتعمليش اكده.
لم يظهر على ملامحها اي تأثر ولو طفيف! وكأنها لا تستمع إليها، أو أنها جماد لا يشعر! ظلت صامتة حتى انتهت الأخرى فعادت تلتقط اناء الأرز تكمل ما تفعله وهي تقول بقسوة:
_ همي غيري خلاجاتك “ملابسك” معوزاش وچع دماغ.
انهارت، وتُلفت اعصابها وهي تدرك جدية والدتها، لتسقط حقيبتها أرضًا، وأردفت بنبرة باكية، بينما عيناها احتقنت بالدموع:
_ حرام عليكِ.. انتِ بتعملي معايا اكده ليه؟ ليه مصممة تكسري بخاطري، وتدوسي على جلبي، هو انا مش بتك؟ لما انتِ مهتحبنيش خلفتيني ليه؟ چبتيني عشان تعذبيني وياكِ؟ عملتلك ايه لاجل الجسوة دي كلها؟!!
رفعت عيناها لها وهي تحدقها بشرر، وكأنها ترى عدوًا أمامها وقالت بسخرية:
_ هه، لو كنت خابرة اني هخلفك انتي مكنتش حملت من أصله، بس نجول ايه، طول عمري حظي فجر “فقر”.. واه، عشان تكملي ندب.. اعملي حسابك انا وعمك اتفجنا ان خطوبتك الشهر الچاي.
جحظت عيناها بفزع، وشهقت بقوة وهي تسألها بضياع:
– خطوبة؟ خطوبة ايه؟ خطوبة مين؟ انا… انا مفهماش حاچة.
وضحت لها الأمر وهو تقول بملل:
_ خطوبتك يامحروسة، خطوبتك على وِلد عمك.
دارت عيناها بضياع اكبر، وشردت بنظرها لثواني بصمت كأنها تستوعب ما تتلقاه من صدمات حتى سألتها بتيه:
_ وِلد عمي مين؟
ببرود تام كانت تجيبها وهي تحرك حبات الرز في الطبق وتنظر له:
_ ابراهيم.
تدلى فكها للأسفل بصدمة، وهي لا تستوعب ما تسمعه، لم يُذكر أمامها سلفًا أنَ ابراهيم يريد الزواج منها؟ لم تشعر منهُ بنظرة أو فعل أو حتى شعور يوشي بتفكيره بها! ولكن كل هذا لم يمنعها من الهدوء، بل وابتسم ثغرها ابتسامة بالكاد تُرى كي لا تكشفها والدتها، وتنحنحت بتوتر وهي تسألها بنبرة بدت اكثر هدوءًا:
_ ابراهيم؟ هو… هو يعني الي حدت “كلم” عمي! جاله انه رايدني يعني!؟
لوت فمها بضيق وهي تحرك حبات الأرز:
_ وهيفرج “هيفرق” معاكِ؟
توترت في وقفتها وهي تعض على شفتيها السفلى بارتباك وقالت:
_ وه! يعني مهيفرجش كيف؟ جولي بس وريحيني.
رفعت رأسها تحدقها بصمت لثانية كأنها تستشف ملامح وجهها، قبل أن تدرك أنها ارتاحت للفكرة، لكنها لم تهتم وهي تقول بهدوء:
_ مخبراش.. عمك هو الي اتحدت وياي، جالي انه رايد ياخدك لابنه.
اختفت الراحة من ملامحها، وقطبت جبينها بعدم فهم متسائلة:
_ يعني ايه؟ مش هو الي رايدني؟
_ مهتفرجش معايا، كفاية عمك رايدك، حتى لو هو مرايدش، مهيجدرش يجول لابوه لاه “لا” .
طفرت الدموع من عينيها بعدما أدركت عدم رغبته بها، وتحطمت آمالها، وعادت بائسة كما كانت تمامًا، وهي تدرك أنها لم تنجح في لفت نظره يومًا، فقالت بنبرة مختنقة:
_ وانا مهتجوزوش ياما مادام مش رايدني.
انهت حديثها واتجهت لغرفتها ودموعها تسبقها، وضعت “سرية” الطبق بحدة فوق الأريكة وهي تنهض بملامح غاضبة بشدة، تلحق بها وهي تهتف بصوتٍ عالٍ:
– بجى بجولك الراجل مهيجدرش يجول لابوه لاه، وانتِ هتجوليلي انا لاه، ده انا كنت اجطم رجبتك.
دلفت للغرفه لتلتف لها “فريال” باكية وقد أُرهقت اعصابها وقالت بقهر:
_ معوزاش، مهتجوزش انا دلوجتي…واه بجولك لاه والي كيفك فيه اعمليه.
اقتربت منها “سرية” خطوة واحدة وهبطت على وجنتها بكفها بعنف جعلها ترتد للخلف بضعف، ولم ترحمها حين رفعت وجهها لها تحاول الحديث، لتنالها صفعة أخرى ادمت جانب شفتيها، أجهشت في البكاء أكثر مرتدة للخلف بخوف تلقائي، لتعود “سرية” تجذبها من ذراعها بقوة لاوية ذراعها خلف ظهرها، مرددة بملامح جامدة ظهرت بها قسوتها المعتادة وبنبرة جامدة قالت بتحذير:
_ الله في سماه يوم ما تفكري تعصيني وتخرجي عن طوعي لأكون جتلاكِ وشاربة من دمك.
هزت رأسها باصرار نافية الانصياع، وهي تهتف من بين شهقاتها:
_ماهتجوزوش ياما حتى لو جتلتيني ماهتجوزوش.
صفعة أخرى أعنف سقطت على وجنتها الملتهبة من كم ما لاقت من صفعات ووالدتها تهتف بنبرتها القاسية:
_ هتتجوزيه ورجلك فوج رجبتك، معندناش بنات تجول رأيها في جواز.. وإن كنتِ أنتِ عبيطة ومعرفاش مصلحتك يبجى كلامك ملهوش عازه عِندي.
صرخت في وجهها وهي تقول بقهر:
_ ماريدنيش! هو ماريدنيش ومغصوب على جوازه مني.
قطبت “سمية” حاجبيها باعتراض بعدما تركت ذراعها منفضة اياه:
_مخبولة اياك! مفيش راجل بيتجبر على جوازة، انا مجولتش انه مجبور، جولت معرفاش اذا كان هو الي طالب ولا عمك، وحتى لو عمك هو متربي مهيجفش في وشه كيفك يا عديمة الرباية، وليه هيبجى مش رايدك؟ عفشة ولا ناجصة ايد! ومادام عمك كلمني اكيد هو موافج.
هزت رأسها بيأس وهي لا تهتم لحديث والدتها الأخير، وبدموعها التي تغرق وجنتيها قالت:
_ يبجى جال اهي جوازه والسلام، يعني برضو ماريدنيش انا! ماريدش فريال ياما، وطول حياتنا سوا عمري ماهشوف في عينه نظرة حلوة ليَّ.
اقتربت خطوة منها ممسكة ذراعها بحدة أخافت الأخرى وهي تهتف بحدة:
_ بت أنتِ كلام فاضي معوزاش، كلامك ده ملوش عازة عندي، الي ليكِ ان الراجل موافج على الجوزاة ان شا الله يفشفش عضمك بعدها مليش صالح، وإن سمعت صوتك ولا كلمة لأ نطجتيها هجطع خبرك.
نفضتها عنها دافعة اياها للخلف بقوة أسقطتها أرضًا ولم تعبأ لها وهي تخرج من الغرفة مغلقة الباب خلقها بقوة.
ضمت ركبتيها لصدرها وهي تردد بنبرة مختنقة من بين شهقات بكاءها:
_ حرام عليكِ، ليه غاوية تعذبيني وتحرجي جلبي، هعيش ازاي وياه وانا خابره انه مجابلنيش، هعيش ازاي وياه وانا حبه معشش في جلبي.. جلبي الي مش هيلاجي نظرة منه ترضيه.
هزت رأسها بقهر على حالتها ووضعها وهي تجهش في بكاء عنيف، عاجزة عن الرفض، ومقيدة عن التصرف، كالبهيمة التي تساق للذبح، فلا تملك قرارًا في يدها ينقذها من مصيرها الغابر.
___________________
وقف بجسده المعضل والذي اكتسب بنيان اقوى مع مرور الثلاث سنوات ومواظبته على ممارسة رياضاته المفضلة، حتى ذقنه نمت اكثر فأصبحت لحية اثقل من السابق لكنها ليست بالثقيلة فهي فقط مهذبة ووسط بين اللحية الخفيفة والاخرى، واضعًا كفه في جيب بنطاله القماشي الأسود، وواقفـاً بشموخ كعادته فاردًا ظهره، وكفه الأخرى ينفس لفافة التبغ من بين أصابعه، اخرج دخانها من فمه، وعقله شاردًا بعيدًا، هناك… بها، “فتاته الصغيرة” التي يصر القدر على ابعادها عنهُ بكل السُبل، فالرجل الذي كلفه بالبحث عنها توفى في حادث سيارة قبل أن يكمل بحثه، وقبل انقضاء الشهر ونصف الذي حددهم له “مراد”، وهذا جعله يكلف رجل اخر، بحث من اول وجديد على قائمة من يدعون “محمود الدالي” في سوهاج، والبحث ثم تصفية الأسماء اخذ خمسة أشهر كاملين، وبعدها ابلغه بالبشارة وانه وجد الشخص المعني، واخبره بعنوانه، ليركض “مراد” على الفور الي سوهاج رغم تخطى الساعة الثانية صباحًا لكنه لم يهتم، وحين وصل أخيرًا لمنزلها حدث ما لم يتوقعه..
منذُ عامان ونصف…
اوقف سيارته مصدرة صريرًا عاليًا كالعادة يدل على مدى سرعته، ترجل من السيارة بقميصه الغير مرتب وخصلات شعره المبعثرة، مظهره دل بوضوح على مدى استعجاله، فلقد كان يستعد للنوم حين جاءه الخبر، فنهض مسرعًا وارتدى ما جاء أمامه دون اهتمام، فقط يهتم بان يصل لها، وصوله كان مع بداية انكشاف ضوء النهار وانجلاء الليل، فقد وصل بعد الفجر بقليل، وقف ينظر لباب المنزل بقلب آلمه من كثرة دقاته، لا يعلم ماذا سيفعل حين يراها! وماذا ستكون ردة فعلها؟ هل يجب عليهِ معاقبتها لابتعادها عنه؟ أم احتضانها لسد شوقه!؟ حقًا ليس لديهِ أدنى فكرة عن كيفية اللقاء، لكنه متحمس جدًا له، تحرك تجاه الباب وخطواته مترددة، تارة يتقدم وتارة يتأخر، يزدرد ريقه بتوتر كبير، لم يشعر بأيًا من هذا من قبل، لم يعش كل هذه المشاعر المتوترة سلفًا، وصل أمام الباب ليأخذ نفسًا عميقًا وهو يقرر طرقه، رفع قبضته وكاد يطرق الباب لكنه توقف حين ضرب بعقله شيء.. ماذا سيقول لمن يفتح أيًا كان؟ إن سأله ماذا يريد ماذا سيخبره؟ وإن كانت هي ماذا سيقول لها؟ وماذا ستفعل أن أخبرها بهويته؟ هل ستتقبله؟ أم ستصرخ طالبة الآمان من غيره؟ أم ستقذفه بعدة كلمات قاسية وربما تسبّه وتطلب منه الرحيل وألا يعترض طريقها مرة أخرى؟ ولأن “مراد” ذكي علمَ انه من الغباء ما سيفعله الآن، بل لربما يتسبب بتعقيد الأمر بينهما اكثر… ملسَ بكفه على الباب وهو يطالعه بقهر، حبيبته خلفه ولا يقدر على رؤيتها! من بحث عنها سبعة اعوام ونصف تقبع خلف هذا الباب اللعين ولا يستطع تخطيه! يالسخرية القدر!
واثناء وقوفه كان احدهم يمر فظنه قد طرقَ الباب ولم يجد اجابه، فوقف وهو يخبره:
_ يابو عمه، محدش اهنه.
تمالك نفسه قبل أن يلتفت لذلك الرجل، وعقد حاجبيهِ سائلاً اياه باستغراب:
_ اومال فين اهل البيت؟ مش ده بيت الحاج محمود الدالي، ابو سارة.
اومئ له وهو يقول:
_ ايوه، هو بيته.. بس هنجول ايه محدش خابر الي حوصل.
اتجه ناحيته حتى وقف امامه فسأله باستغراب:
_ انا مش فاهم، يعني هم فين ولا في ايه؟
ضيق الرجل عيناه بشك يسأله:
_ وانت تعرفهم منين؟
بهدوء اجابه:
_ معرفة قديمة.. المهم هم فين؟؟
قالها وهو يخرج بعض العملات الورقية من جيبه واعطاها للرجل، التقطهم سريعُا بابتهاج واجابه:
_ هجولك.. مخابرش اي المشكلة الي حصلت بين الحاج محمود وعيلته، بس احنا في يوم سمعنا زعيج من داره وصريخ وبعدها بيوم كان واخد عياله وعفشه “فرشه” وساب البلد، الحديت ده من اسبوعين أكده من وجتها محدش شافه واصل.
نظر للجهة الاخرى وهو يطلق ضحكة ساخرة، حقًا! هل ظلت هنا سبعة أعوام ومن اسبوعين فقط قررت الرحيل! يالحظه العاثر! حرك رأسه بائسًا، وملامح السخرية بدت تنجلي ويحل محلها كل معاني الألم، التفت للرجل بوجه جامد تحول في ثانية استطاع فيها مداراة مشاعره، قبل أن يسأله بنبرة اثارت ذعر الآخر:
_ بقى انتَ مش عارف السبب؟
توتر الرجل واذدرد ريقه قبل أن يقول بلجلجة:
_ والله يا استاذ… يعني.. هو بصراحة كل الي عارفه حاجه ممكن متفيدكش.
احتدت نظرته اكثر وهو يقول بقوة:
_ملكش دعوة تفدني ولا لأ، انطق.
اومئ برأسه سريعًا وهو يقول بخوف:
_ استهدى بالله ياستاذ هتتزربن “هتتعصب” ليه بس، هجولك.. هم من ييجي كام شهر اكده بعد ما مرته ماتت..
قاطعه “مراد” بصدمة وهو يسأله:
_ دنيا ماتت؟
تعجب الرجل من قوله اسمها دون القاب، فالفارق العمري بينهم كبير، لكنه لم يهتم كثيرًا وهو يسرد بشغف:
– ايوه، من ييجي كام شهر.. من بعدها والبت بتها مخابرينش اي الي جرالها، زي ماتكون عجلها من الصدمة فوت.
ارتجف قلبه بقلق وهو يشعر بشيء سيء اصابها، ومن عدة اشهر! إذًا حين شعر بقلبه يؤلمه بتلك الطريقة التي انبأته انها ليست بخير!، ولكن مهلاً ما له هذا الحقير يتحدث عنها هكذا! امسكه من تلابيب جلبابه بغضب وهو يهدر بهِ:
_ اتكلم بادب يا راجل انتَ، ولم لسانك اي عقلها فوت دي!
اسرع الرجل يحاول جذب نفسه من قبضة الآخر وهو يقول بتوتر:
_ وه! مجصديش يااستاذ والله، خلاص مهجولش كلمة عفشة.
تركه بملامح واجمة، واعين تنبعث منها شرارات الغضب، ليزدرد الرجل ريقه وهو يكمل:
_ احنا بجينا نسمع صراخها كتير وكان محمود في الكام شهر الي فاتوا بيتدلى لمصر كتير ولاني صاحبه من زمان سألته في مرة، فجالي انه هيخلي دكتور نفساوي من مصر يشوف بته، وجالي ان الي هي فيه دِه عشان كانت متعلجه بامها هبابة “شوية”، فموتها تعبها اكده، و بعد اليوم اياه الي جولتلك عليه بكام شهر، شوفت محمود وهو هيعزل، وجتها استغربت، وسالته على فين، جالي انه هيتدلى على مصر عشان يكمل علاج بته وان المشوار بعيد عليه فهيجعد في مصر، بس يدوب خلصنا حديتنا ومشي شوية سمعت “مصطفى” ولده بيتكلم مع واحد صاحبه بيجوله انه مهيعاودش أهنه تاني واصل، وهيبجوا في مصر، وجاله ان ابوي اتعارك مع عمتي وعمي عشان اكده مهيرجعش اهنه.. ده كل الي خابره والله.
عاد من ذكرياته حين شعر بلسعة اللفافة لأصبعيهِ فانتبه من شروده وهو يزفر بحنق، يتذكر كيف مضى بعدها شهر كامل بائسًا، فاقدًا الشغف، كانت اكثر فتره ظهر فيها عصبيًا وغاضبًا معظم الوقت، حتى انه ذات مرة رفع صوته على والدته من سوء مزاجه، ولكن بعدها ذكرَ نفسه انه وعد ذاته ألا ييأس، فعاد يبحث عن اقارب ذلك الرجل “والدها” وسرعًا ما توصل لعائلته التي تسكن في نفس البلدة ولكنه لم يستفيد من الأمر فحين ذهب لعمها متحججًا أن والده له دين لمحمود وجاء هو ليقضيه مكانه، اخبره الآخر ان شقيقة ترك البلدة منذ مدة، وحين طلب عنوانه الجديد، اقسم له انه لا يعرفه وقد تعمد شقيقه هذا لخلاف حدثَ بينهما، فلم يخبره بمحل سكنه، بل لم يهاتفه من وقتها حتى رغم مرور شهر ونصف، وانه قد ذهب من هنا مقررًا عدم العودة، ووقتها دارت الدنيا بهِ مرة أخرى، ولم يعد يدرك للقائها سبيلاً، وظل لثلاثة اشهر بعدها متوقفًا عن البحث لم ييأس، ولكنه لم يجد طريقه يصل بها إليها، حتى قرر إعادة ما فعله بسوهاج، فكلف شخص برجاله بالبحث عن اي عقد إيجار او شراء منزل وُثق في الشهر العقاري باسم والدها في نفس التوقيت الذي اخبره عنه ذلك الجار بذهابهم، ولأن القاهرة اكبر بكثير.. ولأن البحث بين ملفات الشهر العقاري ليس سهلاً، اخذ الأمر للأن ثلاث سنوات ولم يتوصلوا لشيء بعد….
اتجه لمكتبه وجلس فوقه بارهاق، مغمضًا عيناه بتعب من ذكرياته، يشعر بذاته يركض في سباق لا ينتهي ولا تظهر نقطة نهايته، عشر سنوات للآن ولم يجدها، لو كان يبحث عن إبرة في كومة قش لوجدها منذ زمن!
فتح عيناه سريعًا حين استمع لتلك الرنة المميزة التي خصصها لذلك الرجل المسؤول عن البحث عنها، التقط الهاتف مجيبًا على المكالمة وهو يتمنى لو يسمع خبرًا جديدًا يسعده:
_ ايوه يا نبيل.
اجابه “نبيل” سريعًا بنبرة فرِحة:
_ لقيناهم يا باشا، عرفنا مكانهم خلاص عيلة فيها كل الاسماء الي حضرتك قولتها بالاعمار كمان.
انتفض واقفًا وملامح وجهه ظهر عليها عدم تصديق واضحًا قبل أن تلمع عيناه بالدموع وهو يسأله بلهفة لم يحاول مدارتها:
_ بجد! لقيتهم بجد؟ لقيتهم فين؟ متأكد إن هم؟
اتاه الرد على الجهة الأخرى وهو يقول:
_ والله لقيناهم.. العقد باسم محمود الدالي، وساكن في الشقة بنت وولد، خديجة ومصطفى، ده الي عرفته لما سألت الراجل بتاع السوبر ماركت الي قدامهم، قال ان بنت الراجل وأخوها هم الي عايشين في الشقة بعد موت ابوهم من سنة، وانهم من الصعيد اصلاً.. وقال كمان ان البنت شغالة سكرتيرة عند دكتور نفسي.. كان فاكر اني عريس عشان كده قالي كل المعلومات دي وانا فضلت مفهمه اني فعلا عريس عشان اخد منه معلومات، لحد مابالصدفه وانا واقف قالي اهي نزلت اهي، لفيت لقيت بنت طالعه من باب العمارة، عملت نفسي عارفها واستأذنت منه وخرجت ومشيت وراها من غير ماتاخد بالها لحد ما عرفت العيادة الي شغاله فيها.
بهرولة كان يلتقط مفاتيح سيارته فقط حتى لم يهتم بسترته، وهو يركض للخارج بانفاس متسارعة، وعقله يردد.. لن اضيع اثرها مرة أخرى، حتى انه لم يهتم ب السكرتيرة الخاصة بهِ التي كانت على وشك دق باب المكتب، واصطدم بها بقوة اوقعتها ارضًا ولم يبالي وهي تطالع ركضه باندهاش فمنذُ متى وربّ عملها يركض هكذا بهرجلة!؟ والاندهاش كان نصيب كل من بالشركة وهم يروه يهرول بهذه الطريقه بل ولا يرتدي سترته كالعادة!
استقل المصعد الكهربائي وهو يهتف لنبيل، بتحذير:
_ متفارقش مكانك، ولو جيت ملقتهاش يا نبيل هاخد روحك.
واغلق الهاتف وانفاسه مسموعة كمن يركض في سباق، وكل ما يفكر بهِ حاليًا أن يلحقها قبل أن تضيع منه مرة أخرى، وهذه المرة ستكون القاضية بالنسبة له….
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)