رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم رحمة نبيل
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الحادي والعشرون
رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الحادي والعشرون
رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الحادية والعشرون
اشباح الماضي تلاحقك ولا فرار لك منها سوى إليها، لا تنفك تقفز أمام عيونك، تفتح لك ذراعيها وهي تقول ببسمة واسعة ( أولم تشتق لوجعي وسوادي ؟؟)
وهو كان لديه من الماضي ما يكفي ليظل طوال حياته في المنطقة المظلمة …
كان يسير عائدًا في ميعاده المحدد من تلك الورشة التي يعمل بها كصبي مساعد، لكن وقبل أن يخطو نادر لشارعه اتسعت عيونه بقوة ضاربًا جبهته حانقًا من ذاكرته اللعينة :
” نسيت الشنطة بتاعة مَقدس ”
وسريعًا استدار صوب مقر عمله، متخلفًا عن ميعاده المعروف في العودة، لينجو من كارثة أصابت تلك الأسرة جميعهم دون استثناء لأحد .
امسك نادر الحقيبة وهو يتحدث لرب عمله الذي كان يستقر بمقعده أمام المحل يسحب دخان ارجيلته بكل أريحية :
” لا أنا كده خلاص خلصت انهاردة ومش عايز اتأخر، اصل انا عايز ارجع قبل ما اختي تنام واديها الشنطة دي هدية ”
كانت يتحدث بسعادة كبيرة وقد أوشك على أن تنبت له أجنحة، لا يصدق أنه وبعد أيام عمل طويلة تمكن من شراء حقيبة مدرسية جديدة لشقيقته الحبيبة، الآن يتخيل نفسه يقدمها لها وهي تنقض عليه بالتقبيل والعناق وهو يبادلها الحب حبًا مضاعفًا .
لكن ذلك الرجل المقيت الذي يعمل معه أجبره على البقاء وانهاء ذلك العمل الذي جاءه متعجلًا، وضع نادر الحقيبة أعلى أحد المقاعد بحذر شديد، ثم تحرك ينهي ذلك العمل سريعًا يتمتم بغضب :
” افضل أنت طول الوقت قاعد تشد في الشيشة اللي في ايدك وملكش ريحة اللازمة وفي الآخر ترميلي قرشين ”
وهكذا تأخر نادر أكثر وأكثر عن موعد عودته، حتى مرت ساعتين، وبمجرد أن انتهى من نصف العمل، قرر أنه يكفي تأخرًا، حمل الحقيبة وركض سريعًا خوفًا أن يوقفه ذلك البغيض، يركض وهو يسمع سبابه له وتوعداته بالويل .
ونادر يضحك بصوت صاخب، يهرول بين الطرقات صوب المنطقة التي يقطن بها، حيث كان عمله يبعد عن منزله ..
وبمجرد أن خطى للشارع الخاص بهم حتى رأى تجمهرًا للجميع؛ البعض يتحسر والبعض يضرب الاكفة قهرًا على ما حدث، لم يفهم نادر شيئًا، لكنه تجاهلهم وسار صوب منزله.
لكن لحظة واحدة، لحظة توقف بها العالم حوله وهو يرى منزلًا محترقًا وصرخات تعلو من داخله، وذلك المنزل لم يكن سوى ……حياته .
سقطت الحقيبة من يد نادر وقد ارتجف جسده بقوة وشعر بطنين قوي اصمه عما يحيط به، الجميع يتحرك ويتحدث وهو لا يرى سوى منزله الذي يشتعل أمام عينيه، ابتلع ريقه يتحرك بأقدام مرتجفة صوبه، دهس الحقيبة أسفل أقدامه وكأنه يدهس معها طفولة ضاعت من بين أنامله ..
وفجأة زادت خطواته حتى أصبح يهرول بقوة وهو يصرخ بجنون :
” ماما …مقدس … مازن”
اخذ يردد جميع اسماء عائلته يتمنى لو يسمع صدى لصرخاته واحدهم يخبره أنهم نجوا وهم بالخارج، لكن كل ما شعر به يد تجذبه بعيدًا ورجل يستغفر الله ويردد كلمات غريبة حول حالته البائسة بعد موت جميع أفراد اسرته، مهلًا جميع أفراد أسرته ؟؟
وفجأة أطلق نادر صرخة عالية يضرب الرجل راكضًا صوب المنزل، يصرخ ويبكي وينتحب على الجميع ولم يكد يصل للنيران، حتى شعر بمن يجذبه ليسقط جسده على الأرضية الترابية التي تمسك بها صارخًا، رافضًا التحرك :
” لا، سبوني، سبوني، هما جوا، حد يخرجهم الله يكرمكم، أنا مليش غيرهم، يا ماما …يا ماما ”
كان يبكي وينتحب بقوة حتى شعر بمن يجذبه في قسوة وبطش شديد، ثم باغته بصفعة قوية وصرخة اقوى لم يستوعب منها شيء.
عمه يقف أمامه ويصرخ به في غضب شديد أن الجميع رجل وحتى ابنه الوحيد رحل، أخذ عمه يصرخ ويوبخه، وهو لا يشعر بشيء، ولم يتوقف معتز عن الصراخ إلا حينما أبصر جسد نادر يرتطم بقوة في الأرض …
وحينما أفاق وجد نفسه في المشفى محاط بالعديد والعديد من المرضى، في غرفة مليئة بالبكاء والضجيج والصراخ، حاول الحديث، البكاء، أو الصراخ ..
لكنه عجز، عجز عن ابسط حقوقه في التعبير عن حزنه والبكاء، وفجأة وجد عمه يقترب منه بخطوات بطئية ضعيفة، ابتسم نادر بأمل من بين دموعه يتمسك بمرفق عمه يشير له بعينيه أن يخبره أن كل ذلك حلم، لكن كل ما فعله عمه هو أنه ألقى في وجهه كلمات أصابته برصاصة أخرى اخترقت صدره :
” كل عيلتك ماتوا، ومتبقاش غيرك، انت بتعرف تشتغل وتصرف على نفسك، شوف حالك بعيد عني ومش عايز المحك تاني ”
صمت ثم قال بحقد شديد وغضب :
” كل ما بشوفك بشوف ابني اللي ضاع بسبب ابوك واللي عمله”
أنهى حديثه بقسوة وكأنه ما جاء سوى لينهي علاقاته بذلك الصبي المسكين الذي فقد شعوره بالحياة حوله، جميع أفراد عائلته رحلوا؟! جميعهم ؟؟ والدته والصغيرة، مازن وميمو الحبيبة، جميعهم تركوه بكل أنانية ليقاسي الحياة وحده ؟؟ والآن ماذا ؟؟
حرك نادر عيونه حوله وهو يرى العديد من الأسرة والعديد من الأشخاص، كلمات مترامية، صرخات معترضة، صيحات مستنكرة، الحياة حوله تدور وهو من توقفت حياته، الجميع محاط بعائلته وهو وحيد هنا، جميع عائلته تركوه وحده، ما له في هذه الحياة سوى الوجع ..
ودون أن يشعر ألقى رأسه على الوسادة ببطء وحدق في السقف الملئ بالشقوق دون كلمة واحدة، ومن داخله هناك حرب طاحنة تدور، هو لا يمتلك القدرة على الحديث أو الاعتراض، أُلقي على قارعة الطريق في وسط غابة اعزلًا، لا رفيق له ولا أنيس لوحدته، كل ذلك وهو صبي لن يكد يتم الثالثة عشر من عمره، هبطت دموع نادر وهو ما يزال يحدق بجمود كبير في سقف المشفى أعلاه …
” نادر حبيبي ..نادر ”
أبعد نادر رأسه ببطء عن صدر شقيقته الذي كان يرتاح عليها، وحدق في وجهها من بين دموعه لتمسحها هي بحب شديد وهي تقرب رأسه لها تقبلها بلطف :
” مالك يا قلبي زعلان ليه ؟؟ مش مَقدس معاك ؟؟ ”
هز نادر رأسه وهو يحاول أن يتمالك نفسه أمام نظراتها لتبتسم له بحنان وتردف بجدية :
” أنت بتروح للدكتور بانتظام صح ؟!”
هز نادر رأسه بإيجاب، ورغم أنه لا يرى فائدة من هؤلاء الاطباء الذين يحاولون منذ سنين مساعدته للحديث، إلا أنه لا يستطيع التوقف عن الذهاب فقط لأجل ألا يغضبها .
ربتت ميمو أعلى رأسه بحب شديد :
” جدع يا قلبي، أكلت ؟؟”
صمت نادر ثواني ليتذكر نيرمينا ويبتسم بلا إرادة، وميمو التي تراقبه باهتمام.
ارتسمت بسمة مكر أعلى شفتيها لتطلق ضحكات قوية لم يكن الهدف من خلفها سوى إزاحة غيمات حزن شقيقها الأصغر :
” طالما ابتسمت كده يبقى نيمو صح ؟؟ اللي يشوفك دلوقتي ميشوفش اول ما جيت وأنت كل شوية تشتكيلي أنها لازقة فيك ”
رفع نادر أصابعه يحركها في إشارات معروفة يفهمها، وتفهمها ميمو التي تعلمتها معه خصيصًا لأجل خلق لغة مشتركة بينهما، ونادر يشير لها بكلمات وحركات حادة ..
” هي اللي كانت كل شوية تنط في وشي وانا مش بحب كده، وبعدين هي عايزة نكون صحاب وانا وافقت ”
ارتفعت قهقهات ميمو أكثر وهي تغمز له :
” معجبة بيك يا نادر يا قمر انت، بزمتك حد يقاوم الكاريزما والغموض ده، تعرف أنت لو مكنتش اخويا أنا كنت ارتبطت بيك، حتى لو أنا اكبر منك مكنتش هسيبك”
منحها نادر بسمة محبة وحنونة لتبتسم له، قبل أن تقول فجأة وهي تضرب كفيها ببعضهما البعض :
” شوف كنت هنسى أنا جيت ليه ”
نظر لها نادر باهتمام شديد لتنظر هي بقوة صوب عينيه وصمتت ثواني قبل أن تقول ببساطة وهدوء وبسمة مترددة :
” فيه عريس اتقدملي ..”
اتسعت أعين نادر بقوة، قبل أن تسوّد ملامحه وهو يتذكر ذلك الزوج الذي سبق واقتطف شقيقته الحبيبة وأراها من الويل حتى ذبلت، ليته وصل قبل موته، فقط لو كان جاء ورآه يقسم أنه كان ليأخذ منه قصاصه …
رفع نادر أصابعه يشير بغموض :
” صلاح ؟؟”
ابتسمت له تهز رأسها بخجل شديد وكأنها أمام والدها تخبرها برغبة صديقها في الجامعة بالتقدم لها.
وعلى تلك النظرات ارتسمت بسمة نادر الحنونة يشير لها بتفهم :
” بتحبيه ؟؟”
وهي التي لم تعتد الكذب أو الالتفاف حول المواضيع، هزت رأسها بايجاب فورًا، تنظر لأخيها بحب تعلم في قرارة نفسها أنه وحتى إن كان يرفض أن يقترب أحدهم منها، فلن يرفض شخصًا هي تريده ..
وقد كان حيث رفع نادر أصابعه يشير لها :
” طالما هيخليكِ سعيدة، فأنا اكيد مش هعترض عليه، أنا بتشعلق في أي حاجة تفرحك ”
وفورًا أطلقت ميمو ضحكة عالية وصرخة سعيدة وهي تنقض على نادر بالاحضان ليسقط الاخير على الفراش بقوة وهي تقبله بحب من وجنته، يشعر أن ميمو عادت بالسنوات لتلك الصغيرة الحالمة التي كانت تقفز فرحًا حينما يحضر لها شيئًا تشتهيه .
ضمها نادر بحب وهو يضحك عليها بلا صوت يقبل رأسها بحب وفي عيونه تلتمع نظرات حمائية وخطر كبير، فهو اقسم منذ علم أنها حية، بعد سنوات من الوحدة والمعاناة، ألا يدع شيئًا يقترب منها، ولو كان ذلك على روحه….
______________________
يجلس على مقعده في نافذة المنزل التي تتوسط البهو، يشعر أنه خارج هذا العالم، هو هناك في عالم آخر، عالم خاص بهما فقط .
تنفس بصوت مرتفع وسعادة طاغية تحوم حول رأسه، لا يصدق أنها وافقت على الزواج منه، وافقت على منحه قلبها طواعية، وهو من ظن أنه سيخوض حروبًا ليظفر به ..
وفجأة شعر ببسمته تخفت شيئًا فشيء حينما تذكر كل ما أخبرته به، غضب وصدمة هو كل ما ظهر على ملامحه الشاحبة، ولكم تمنى لو أن ذلك القذر حي ليقتله مئات المرات بيديه، تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يبتعد عن تلك النقطة ويسير بخطى مستقرة صوب اللحظة التي أخبرها فيها أنه لا يهتم لكل ذلك .
” انسي كل ده وركزي في اللي جاي معايا، قدامنا فصول كتير نكتبها سوا يا مقدس ”
وتلك البسمة التي ظهرت من بين امطار عينيها أخبرته انه أحسن ردة فعله، وحينما ودعها ورحلت هي، سار في طريقه يشعر بنيران تحرقه، غضب كبير وحسرة على ما حدث لها، حتى أنه ارتكن لأحد الجدران وبكى بقهر لكل ما سمعه منها …
كان يقف في أحد أركان مكانٍ قريب من موقف السيارات بعدما طلب من ميمو أن تتركه في هذا المكان، لم يستطع أن يتحمل مكوثه جوارها وكلماتها تتردد في أذنه، يدرك جيدًا أن ما أخبرته به لا يمثل شيئًا مما حدث لها، وكان ذلك واضحًا من تعابير وجهها..
انهار ارضًا يضم ركبتيه لجسده وهو يدفن وجهه باكيًا بصوت مرتفع وقوي، صوت جعل المارة ينظرون له بشفقة، البعض يظنه يبكي ظروف قاسية، والبعض الآخر يظنه مجروحًا، وهو كان كذلك، جُرح حتى نزف ..
أفاق صلاح من كل شروده فجأة على جسد يهجم عليه مسقطًا إياه ومقعده ارضًا بقوة، وصوت صالح يقول بسعادة كبيرة :
” خلاص وافقوا وحددنا ميعاد الخطوبة يا صلاح، أنا مش مصدق بجد ”
ضحك صلاح من بين امواج غضبه يحاول أن يبعد صالح عنه ليعدل من وضعيته، لكن صالح كان مصرًا على تشديد عناقه وتعبيره عن حبه بتلك الطريقة البدائية ..
” مبارك يا حبيبي، ربنا يسعدك دايما ”
نهض صالح سريعًا وساعد شقيقه ليفعل المثل، ثم ضمه بقوة وفي تلك اللحظة بادله صلاح العناق بحب شديد يربت عليه سعيدًا لأجله، أنه واخيرًا وبعد ابحار لأعوام وجد اخوه مرساه، كما وجد هو طوق نجاته …
ابتعد صلاح عنه يقول بحب اخوي :
” ها حددتوا امتى الخطوبة ؟!”
” كمان اسبوع باذن الله، بس اسمع يا صلاح أنا عايزك طول الخطوبة جنبي لاحسن الواحد مش ضامن يبقى واقف في امان الله يلبس العروسة الدبلة يلاقي رصاصة دخلت في صدره ولا سهم رشق في نافوخه ”
ارتفعت ضحكات صلاح بقوة على ذلك الصراع الناشئ بين شقيقه واشقاء رانيا :
” ليه يابني هي الخطوبة في صالون بيتهم ولا في ساحة الحرب ؟!”
أطلق صالح صوتًا ساخرًا عاليًا من حنجرته معبرًا عن غيظه وغضبه منهم جميعًا :
” والله يا صلاح كلمة ساحة حرب دي اقل كلمة توصف اللي بيحصل، أنا بروح هناك وانا عارف إن دمي هيتحرق، حسبي الله ونعم الوكيل في كل ظالم، بيتعبوني والله، طول القعدة على اعصابي عشان ارد على أي كلمة بتتقال”
ابتسم عليه وهو يردد بصوت منخفض :
” الحمدلله ربنا نجاني من الحوارات دي كلها ”
” بتقول ايه ؟؟”
رفع له صلاح رأسه ليقول بجدية وهو يتحرك صوب الباب يلاقي والده مساعدًا إياه ليرتاح على الأريكة :
” بقول إن رائد كلمني وقال إنه حاول يوصلنا من بدري بس معرفش، بلغني ننزل البلد بكرة عشان كتب كتابة على تسبيح ”
ابتسم مرتضى بسعادة كبيرة لذلك الخبر المفرح :
” طب والله جدع الواد رائد، مش بيضيع وقت، مش زي اخوك اللي رايح يحدد معاهم ميعاد الخطوبة بدل ما يقولهم عايز اكتب كتاب على طول ”
ألقى صالح بجسده جوار والده وهو يحدق في وجهه باستنكار شديد :
” يا حاج أنت مكنتش قاعد معانا ولا ايه ؟؟ كتب كتاب ايه اللي عايزني احدده؟؟ احنا هنفتري من أولها ؟؟”
صمت ثم قال بسخرية وهو يلوح بيديه في الهواء :
” أنت مفكر الموضوع بالسهولة دي ؟! خطوة زي كتب الكتاب محتاجة قبلها نقاشات واتفاقيات ومعاهدات سلام وتدخل قوى الأمن المركزي، وحضور الأمم المتحدة، ولو اضطرينا هنتخذ منهم رهائن واسرى، ده انا عشان بس اعمل خطوبة واخطب أختهم وكانوا هيولعوا فيا عايش ”
خلع مرتضى نعاله يطلق تأوهًا عاليًا :
” أنا برضو مش فاهم مالهم اخواتها دول ؟؟ ”
” مرضى نفسيين يا حاج ربنا يسترها، ويحفظ علينا نعمة العقل يارب ”
وقد اقتنع مرتضى بتلك الإجابة، ومن ثم نظر لصلاح الذي كان صامتًا شاردًا بشكل غريب جعل والده ينتبه له متسائلًا :
” مالك يا صلاح يا بني ؟؟ من وقت ما رجعت وأنت سرحان كده ”
نظر له صلاح دون أن يجيب لثواني قبل أن يبادر القول :
” حاج هو ينفع واحنا بنكتب كتاب رائد تكتب كتابي أنا كمان ؟!”
اتسعت أعين مرتضى بقوة، واستدار صالح صوب أخيه يحدق فيه بأعين ضيقة مفكرة، وصلاح لا يهتم بكل ذلك، هو فقط طرأت له تلك الفكرة وسينفذها ..
بادر مرتضى بالتساؤل :
” ايه وافقت على منال ؟! والله يا بني البنت فعلا تستاهل و…”
قاطعه صلاح سريعًا باستهجان :
” منال مين بس يا حاج، مين جاب سيرتها دلوقتي بس، أنا عيني على واحدة بعينها وهتجوزها يعني هتجوزها ”
نظر له مرتضى بفضول وصالح ببسمة جانبية يستمع لكلمات والده :
” ومين دي وبنت مين ؟؟”
اعتدل صلاح في جلسته وقال بجدية :
” اسمها ميمو يا حاج”
تشنج وجه مرتضى بعدم فهم :
” ايه ميمو ده ؟! دلع ده ولا اسم ولا ايه حكايته، بعدين تبقى بنت مين ميمو ولا عيلتها فين ؟!”
أجابه صلاح بهدوء تام وثقة كبيرة وغضب مكبوت :
” للاسف يا حاج كلهم توفاهم الله، عيلتها وجوزها الله يجحمه كلهم ماتوا ”
علت نظرات الشفقة وجه والده يضرب كفًا بالآخر وقد ظهر صوته متحسرًا مقهورًا لأجل تلك الفتاة :
” لا حول ولا قوة إلا بالله، كلهم ماتوا كده و….ايه ؟؟ جوزها ؟؟ جوزها ازاي مش فاهم ؟!”
نظر له صلاح وقد تحفز جسد صالح للدفاع عن شقيقه والوقوف بجانبه إن استلزم الأمر، يعلم أن والده ليس بذاك الشخص عقيم التفكير، لكنه أيضًا من ذلك النوع المشكك بكل شيء .
تحدث صلاح بقوة وثقة كبيرة :
” ميمو تبقى ارمله يا حاج ….”
________________________
دارت عيونها في المحيط الخاص بها، تحاول الفكاك كفأر صغير مسكين وقع في شرك مجموعة من القطط الشرسة، هكذا كانت هي بين الأربعة، لا تدري لها مخرجًا ولا تجد لها منقذًا، خاصة وأن والدها العزيز لم يجد افضل من اليوم للذهاب إلى القهوة ..
” اصبروا بس انا هفهمكم ”
وقبل أن تضيف جملة أخرى للأولى وجدت جبريل ينحني بجسده على فراشها ليصبح في مثل طولها :
” عايزة تتخطبي لده يا رانيا؟؟ من بين كل اللي اتقدموا ورفضتيهم، وافقتي على ده ؟!”
أجابت رانيا وهي تفرد كفيها أمامهم بقلة حيلة :
” والله ما انا اللي كنت برفض اللي فاتوا، أنتم اللي رفضتوهم ”
صرخ محمد بصوت جعلها تنتفض وتتمسك في جبريل الأقرب لها، وهي تختفي خلفه والاخير يحاول أن يدفعها بعيدًا عنه ليس فقط لتجنب أن يُصب جام غضب محمد فوق رأسه هو، بل ولأنه أيضًا غاضبٌ منها :
” اوعي من ورايا مش هحميكِ من حد تاني ”
لكن رانيا تشبثت في سترة جبريل باظافرها تردد متوسلة له :
” لا لا الله يكرمك يا جبريل، اصبر بس خمس دقايق اول ما يهدى ابعد عادي ”
” خمس دقايق عشان يهدى ؟؟ يا حبيبتي محمد عايزله خمس سنين عشان يبتدي يروق ويفكر كويس ”
وبانتهاء جملته دفعها أمامه لتكون في مواجهة محمد الذي امسكها من كتفها وهي شعرت بالأرض تهتز أسفلها، ابتلعت ريقها تقول ببسمة صغيرة :
” أنا مش فاهمة ليه كل العصبية دي ؟؟ ماله بس صالح يا جماعة ده حتى شخص محترم و…”
وقبل أن تكمل كلمتها وجدت جميع الأجساد حولها تتضخم، لا تدري بسبب الغضب كانت أم أنهم على وشك التحول وأكلها، ابتلعت ريقها ثم قالت بتراجع :
” بس …بس احيانا يعني بيكون شخص مش كويس ومش حلو، اه اصلا أنا ….أنا بس وافقت عشان بابا يا عيني صعب عليا، هو جالي قبل ما صالح يوصل وقعد يتحايل عليا اوافق وافرحه بيا”
رمقها الأربعة بسخرية لاذعة لتحاول هي الخروج من تلك الدائرة التي كانت تُحكم حول كل من تجرأ وطرق بابها، والآن وقعت هي في مصيدتهم …
” معلش ممكن بس أخرج من هنا دي لاحسن الأكسجين مبقاش يوصل وحاسة اني هقع منكم ”
أنهت جملتها تدفع أقلهم شراسة جانبًا وهي تنظر له باستجداء ولم يكن سوى عبدالله الذي سمح لها بالعبور، لكن ما كادت تبعتد خطوة واحدة حتى شعرت بمن يجذبها معيدًا إياها لمكانها وصوت عبدالجواد يعلو :
” استني لسه مخلصناش ”
نظرت له بنظرات مليئة بالرجاء والتوسل ليرفع حاجبه محاولًا ألا يتعاطف معها :
” متبصليش كده، اللي هقوله يتنفذ يا رانيا، مكالمات مع الولد ده ممنوع، مقابلات وكل الهبل ده ممنوع، ضحك وهزار وحوارات ممنوع ”
رمشت رانيا بدون فهم :
” ينفع اتنفس وهو موجود عادي ولا ممنوع ؟!”
ورغم معرفته أنها تسخر منه إلا أنه قال :
” لو قدرتي تكتمي نفسك يبقى كتر خيرك، ولما تحسي أنك هتموتي خلاص، تتنفسي نفس صغير ”
رمقته رانيا بنظرات حانقة وضيق شديد من تلك المبالغة في حمايتها، والتي بدأت تشعر أنها ليست حماية بقدر ما هو تحكم بها، تنفست بصوت مرتفع وقالت :
” حاضر هموت عشان متجوزش صالح، تمام كده ؟؟”
نظر الأربعة لبعضهم البعض وقد هالهم أن تسود ملامح شقيقتهم، بل واوشكت على البكاء، تراجع غضبهم فورًا وحل محله قلق وحنان ومحمد الذي كان يصرخ منذ ثواني تحول لشخص رقيق القلب يضم شقيقته بحب شديد :
” خلاص يا رانيا متعيطيش والله العظيم احنا بنعمل كل ده عشانك، خايفين الولد ده يتعبك في حياتك قدام، أنتِ مش شايفة بيتكلم ازاي وبيتعامل ازاي؟؟ بعدين يا رانيا يهون عليكِ تسيبينا ؟؟ ”
بكت رانيا في احضان محمد بقوة وهي تقول من بين شهقاتها :
” لا يا محمد والله انا بحبكم اوي بس ..بس بس انا عايزة صالح يا محمد ”
نظر الأربعة لبعضهم البعض وقد تأكدت شكوكهم حول معرفة شقيقتهم المسبقة لصالح، وأن الأمر لا يعتمد فقط على كونه جارًا لخالتهم، ورغم ذلك قبّل محمد رأسها بحنان يدفعها بلطف صوب الفراش :
” اللي أنتِ عايزاه هيحصل يا رانيا، بس متحاسبيناش على خوفنا عليكِ، احنا والله لا قصدنا نخوفك أو نزعلك، احنا بس مش حابين أن أي حد يستغلك أو يأذيكِ، وافتكري إن اللي بيجي سهل، بيكون التفريط فيه اسهل ”
نظرت له رانيا بدهشة كبيرة من بين دموعها ولم تستوعب شيئًا سوى أن الأربعة قبلوها تباعًا، ثم ارقدها عبدالجواد بحنان في الفراش مقبلًا إياها واغلق الانوار وهو يهمس لها :
” نامي ومتفكريش في حاجة يا رانيا، واعرفي أن أي حاجة هنعملها هتكون عشان مصلحتك وعشان نتأكد أن الشاب ده هياخد باله منك ”
وبمجرد انتهاء الكلمات خرج الجميع بهدوء من الغرفة تاركين رانيا تنظر في أثرهم بأعين متسعة، تحركت عيناها صوب السقف تحدق به في صدمة :
” هما وافقوا كده على صالح ؟؟ مش مصدقة بجد ”
ولم تهتم أنهم وافقوا ولكن لم يمنحوا صالح الرضى بعد، لكن هي ستكون جاحدة قانتة إن أرادت أكثر من ذلك، وفجأة انتفض جسدها عن الفراش حينما سمعت صوت هاتفها ينهي هدوء غرفتها …
نظرت لشاشة الهاتف في جهلٍ لهذا الرقم الغريب، لكن ثواني حتى أظهر لها التطبيق الخاص بجهات الاتصال اسم المتصل والذي كان ( صالح بتاع الميتين )، كتمت رانيا ضحكتها بصعوبة وهي تجيب على الهاتف :
” الو …”
” الو رانيا، صحيتك ؟؟”
كتمت رانيا ضحكتها بصعوبة كبيرة تتساءل وكأنها لا تعلم مع من تتحدث :
” صالح ؟!”
” أيوة أنا صالح، لقيتك مرنتيش بعد ما سبتلك رقمي في الجواب، فلجأت للوسيلة اللي بوصل ليكِ بيها دايمًا ”
صمت ثم قال ببسمة :
” كلمت محمود يكلم هاجر عشان تديني الرقم بما اني بقيت خطيبك ”
صمت ثواني ثم تساءل بجدية :
” حد عملك حاجة ؟!”
ابتسمت هي على خوفه الواضح وعلى تغيره في معاملتها هذه الأيام وكأنه تم استبداله بشقيقه :
” أنا بخير متقلقش يا صالح، دول اخواتي واكيد مش هيأذوني يعني ”
” أي حد منهم يقل أدبه عليكِ استخدمي الهدية اللي جبتهالك ”
وصل له صوت رانيا مستنكرًا وبشدة :
” أنت بتقول ايه ؟؟ عايزيني استخدم ادوات دفاع عن النفس على اخواتي !!”
ابتسم صالح بسمة جانبية ساخرة :
” أنا اصلا جايبهم مخصوص عشان الأربعة اللي عندك دول”
صمتت رانيا بحنق من كلماته، لا يعجبها أن يتحدث بهذا الشكل عن اخوتها :
” على فكرة بقى هما اساسا عمرهم ما يمدوا ايدهم عليا، دول حتى من شوية كانوا عندي وشكلهم كده تقبلوا الموضوع وتقبلوك ”
” تقبلوني أنا ؟؟ الله يجبر بخاطرك، رانيا اخواتك ممكن يتقبلوا العمى ولا يتقبلوني، أنا عارف أشكالهم كويس اوي”
زفرت رانيا بغيظ منه :
” أنت متصل بيا دلوقتي عشان تقعد تتكلم على اخواتي يا صالح ؟؟”
هز صالح رأسه رافضًا يقف في نافذة غرفته يراقب السماء في محاولة بائسة لاستدعاء لحظات رومانسية قد توحي له ببعض الكلمات الرقيقة، لكن كل ما خرج به هو :
” انهاردة كان فستانك حلو اوي، تفصيل ده صح ؟؟ أصله كان كأنه معمول مخصوص عشانك ”
ورانيا المسكينة التي لم تعد أذنها التقاط كلمات مغازلة من صالح، لم تستوعب النصف الأخير من جملته، وتوقفت عند النصف الأول منها :
” بجد والله ؟! متصل بيا الساعة ١ بليل عشان تسألني الفستان تفصيل ولا لا ؟! متحسسنيش اني هتجوز ترزي الله يكرمك ”
وتلك الكلمة العفوية التي خرجت منها تسببت في رسم بسمة واسعة على فم صالح الذي تنهد بصوت مرتفع وصل لها واضحًا ليجعلها تضيق حاجبيها في حيرة شديدة :
” مالك يا صالح ؟!”
وكان الرد من صالح كلمة واحدة، لكنها كانت كافية لوصف حالته :
” سعيد ”
” سعيد ؟؟”
همهم في استجابة خافتة :
” أنا سعيد يا رانيا لأول مرة اكون سعيد اوي كده، حاسس اني …حاسس بنفس فرحتي ايام ما كانت ماما عايشة، عارف ممكن ميكونش ده وقت مناسب عشان اقولك كده، بس انا فعلا بحس معاكِ بسعادة كبيرة حتى لو بنتخانق ”
ابتسمت رانيا بحنان شديد على كلماته والتي اعتبرتها اعتراف مبعثر، وبشكل عشوائي، لكن ما الضير أن يكون عشوائيًا كصاحبه؟! هي تتقبله مؤقتًا، لكنها في المستقبل ستتطالبه باكثر من ذلك ..
” هي …هي والدتك اتوفت وأنت صغير زي ماما كده ؟؟”
اغمض صالح عيونه بقوة قبل أن يجيبها بصوت مختنق، رافضًا أن يدخل في تلك الحالة الآن ومعها بالتحديد، ليجيب بنبرة غريبة :
” كان عندي ١٩ سنة ”
تعجبت رانيا نبرته ورغم ذلك لم تحب أن تضغط عليه كثيرًا :
” الله يرحمها ”
سقطت دمعة موجوعة من أعين صالح :
” ربنا يرحم امواتنا كلهم يارب”
ابتلعت رانيا ريقها تتساءل بوجع لتلك النبرة :
” صالح أنت بخير ؟؟”
” هكون بخير يا رانيا، هكون بخير متقلقيش، كلها اسبوع وتكوني خطيبتي واقدر اجي ازورك في البيت براحتي ”
ضحكت بخفوت تعلم أنه يحاول تغيير الأمر، إلا أنها لم تضغط عليه وهي تقول بصوت مرح :
” قصدك كلها اسبوع ويرحل السلام عن بيتنا ”
ضيق صالح نظراته بقوة وهو يقول بإصرار شديد :
” يرحل السلام أو يستقر السلام، أنا ميخصنيش في البيت ده كله غيرك يا رانيا، ومش هتخلى عن حقي فيكِ …”
صمت ثم قال بكل ثبات وثقة :
” تعرفي يعني ايه أنانية ؟؟”
وتعجبت رانيا ذلك السؤال الغريب :
” أيوة طبعا، بس ليه ؟؟”
ابتسم بسمة جانبية غامضة :
” تمام، دلوقتي هتشوفيها عملي يا رانيا ”
____________________
في صباح اليوم التالي …
توقفت سيارة صالح أمام منزل سليمان في قريتهم، هبط صلاح فورًا وهو يعدل من هيئته يحاول أن يهدأ من نفسه لأجل لقاء اليوم مع ميمو التي طلب منها المجئ لحضور عقد قرآن رائد دون توضيح أي شيء آخر…
انتفض يستمع لصوت صالح الذي أخذ نفسًا بصوت مرتفع يردد فاتحًا ذراعيه براحة :
” اه على الراحة النفسية يا جدع ”
ابتسم له صلاح يراقب والده وهو يتحرك داخل المنزل تاركًا إياهم يستقبلون موطنهم بالبسمات والذكريات، وتبعه صلاح الذي بحث بعيونه عن رائد وبمجرد أن لمحه اقترب منه ..
في ذلك الوقت كان رائد يتناول فطوره بهدوء مع تسبيح التي لم تمس الطعام، ليس لشيء إلا لأنها لا تشعر بالجوع ففضلت الجلوس بجوار والدة رائد والتمتع بصحبتها، ورائد يجلس أمامها على المقعد يتناول طعامه، لكن فجأة انقض صلاح أو صالح _هي لا تعلم حتى الآن كيف تفرق بينهما _يسحب رائد من ثيابه بقوة مرددًا :
” تعالى بسرعة عايزك ”
إذن هذا صالح بالتأكيد فهو الشخص الهمجـ …توقفت عن التفكير وهي ترى الشقيق الثاني ألقي بجسده على المقعد مكان رائد جاذبًا صينية الطعام له متناولًا ما تطوله يده بنهم شديد :
” صباح الزبدة يا نعمة، ايه الجمال ده بس ؟؟”
ابتسمت نعمة بخجل شديد ولم تكد تجيبه حتى اكمل صالح جملته المتعلقة :
” قشطة وبيض وعسل وجبنة ومربى، أنا اخر مرة شوفت الفطار ده كان في الحلم من سنتين ووقتها صحيت على صوت محمود وهو جايبلي بسكوت مملح وعلبة عصير تفاح ”
ضربته نعمة بشكل خفيف على كتفه ضاحكة من طريقته في الحديث :
” يووه جاتك ايه يا واد يا صالح ”
” رانيا ”
نظرت له نعمة بعدم فهم، ليبتلع هو ما في فمه مرددًا:
” قولي جاتك رانيا يا واد يا صالح، لاحسن بعيد عنك يا نعمة دي معصلجة وشكلها مش جاية غير على الاربعين”
نظرت له تسبيح بعدم فهم كيف ذلك صالح؟! والآخر الذي سحب رائد من بينهم هو صلاح ؟؟ ما الذي حدث في فترة غيابها ؟! آخر مرة رأت بها صلاح كان منمقًا هادئًا عاقلًا .
_______________
في الخارج نظر رائد بصدمة لصلاح :
” هتتجوزها؟”
” المفروض اني اتفقت امبارح مع الحاج وعلى أساس كده كلمت ميمو تيجي عشان اقولها الموضوع كله وش لوش، لكن عايزك في حوار كده ”
ولم يفهم منه رائد شيئًا، فقال صلاح بصوت خافت وكلمات مقتضبة :
” عايز اعمل مفاجأة ليها ومحتاج مساعدتك ”
تعجب أكثر رائد ولم يفهم شيئًا ليصرخ صلاح في وجهه بحنق :
” يابني ما تركز معايا كل ما اقول كلمة تبصلي بالشكل ده ؟؟ ”
نفخ رائد بقلة صبر، في الأساس هو يحسب الدقائق والثواني لتصبح تسبيح زوجة له، لا ينقصه أن يأتي صلاح ويشغله في أموره هو وتلك الميمو خاصته :
” يا عم فهمت أنك عايز تعمل ليها مفاجأة، عايز ايه قول، اخلص ”
” عايزك تجبلي شوية حاجات كده، ابعت حد يجيبهم واول ما تجيبهم هقولك تعمل ايه ماشي ؟؟”
نظر له رائد باستنكار ليمسك صلاح كتفه مترجيًا :
” أنا واثق فيك يا صاحبي، ارجوك عدي معايا اليوم ده، صدقني مش هنسالك أي مساعدة، وأنت عارفني لما بساعد حد، أنا بس عايز افرح مَقدس مش اكتر ”
ابتسم رائد بخبث شديد :
” ايه ده انت عرفت ؟؟”
وصلاح الذي لم يستوعب حتى تسرب اسمها من بين شفتيه بكل عفوية، هتف :
” عرفت ايه ؟!”
” اسم المدام يا حبيبي ”
نظر له صلاح متسائلًا :
” أنت تعرفه ؟؟”
أطلق رائد ضحكات عالية يربت على كتف صلاح الذي يبدو كما لو أن ذلك اللقاء ألغى كامل تعقله :
” الظاهر كده نسيت اني شوفت بطاقتها يوم ما جات تضمن بنت جوزها ”
نعم صحيح، كيف فاته الأمر وتجاهل تلك المعلومة، هل تعطل عقله بميمو لتلك الدرجة؟! لكن ايًا كان، ذلك أفضل، أن يعلم الاسم منها هي نفسها فهذا أفضل ما حدث له في حياته .
ابتسم بسمة صغيرة ولم يكد يتحدث حتى سمع رنين هاتفه يصدح في جيب بنطاله، أخرج الهاتف بسرعة ليجد اسم ميمو ينير الشاشة، أجاب سريعًا مبتعدًا عن رائد الذي راقبه ببسمة، ثم تحرك صوب المنزل ليتحدث مع تسبيح قبل انشغاله في الترتيبات، لكن أثناء ذلك سمع صوتًا يهمس باسمه ..
نظر حوله بتعجب يبحث عن مصدر الصوت، يقترب خطوات صغيرة من الشجرة التي تقع على حدود منزلهم ليجد أن منال تختبئ خلفها متحدثة بخفوت :
” كويس اني لقيتك برة، وفرت عليا كتير ”
صُدم رائد من وجودها ليقترب أكثر قائلًا بتعجب :
” منال ؟؟ بتعملي ايه هنا ؟؟ ابوكِ لو شافك هيطين عيشتك ”
” ما أنا عارفة، عشان كده انا جيت ”
نظر لها بعدم فهم :
” عشان يطين عيشتك ؟؟”
هزت رأسها نافية :
” لا عشان ابويا، أنت قولتله ايه خليته يتعصب بالشكل ده ويراقبني في الرايحة والجاية؟؟ اوعى تكون قولتله على اللي حكيتلك عليه ؟؟”
نفى رائد سريعًا برأسه ثم قال مطمئنًا :
” لا متخافيش أنا جبت الرفض مني ”
هزت رأسها ثم نظرت له بامتنان رغم كل شيء أنه لم يضطرها للحديث هي ومحاولة تبرير موقفها ورفضها لذلك الزفاف :
” بجد مش عارفة اشكرك ازاي يا رائد، شكرا اوي، الحمدلله شكل اللي عملته نفع وبابا مبقاش طايق يسمع سيرتك ولا طايق يلمحك ”
ابتسم لها رائد يجيبها بهدوء ولا يدري أيغضب لكلماتها أم يسعد لسعادتها تلك :
” على ايه يا منال، أنا اساسا محدش بيطيقني غير عيلتي، بعدين أنا عملت كده عشاني أنا كمان يا منال ”
شكرته منال أخيرًا وهي تتحرك بعيدًا عنه صوب منزلها، لكن في تلك اللحظة سمعت صوتًا انثويًا ينادي رائد بصوت غير مطمئن البتة :
” رائد ؟؟؟”
التفت رائد للخلف بريبة ليجد تسبيح تقف بتحفز وخلفها صالح الذي كان يرتشف كوبًا من الحليب مرددًا بكلمات زادت الطين بلة وهو يراقب رحيل منال وتحفز جسد تسبيح :
” موقف لا أتمناه للاربع تيران، لا استنى كده، في الحقيقة أنا بتمناه وبشدة، اللهي يتنكد عليهم نفر نفر يا رب ما يتهنوا بيوم مع أي بنت يختاروها زي ما هما منغصين عليا عيشتي كده ”
نظر له رائد ببرود وكأنه يسأله بحنق وتذمر شديد ( أترى أن هذا وقتًا مناسبًا لتعلن كرهك لاشقاء مخطوبتك ؟؟) لكن صالح وكعادته لم يهتم وهو يستمع لصوت والده يناديه من الداخل :
” ما تيجي يا صالح اظبط الاريال ده عشان الماتش هيبدأ”
وبتلك الكلمات سحب صالح نفسه من الحوار تاركًا تسبيح تحدق في رائد الذي حاول التحدث بهدوء شديد مبتسمًا بسمة غبية :
” دي ..دي منال ”
جيد رائد ها انت ذا على الطريق الصحيح لإنهاء تلك العلاقة قبل بدايتها، وكأنها تحتاج اثباتًا منك على هوية الفتاة التي كانت من المفترض أن تصبح زوجتك ..
تنحنح رائد بهدوء :
” هي بس كانت جاية تشكرني عشان نهيت الجواز وكده يعني ”
هزت تسبيح رأسها بهدوء وأبدت برودًا استفز رائد وبشدة :
” ربنا يقدرك على فعل الخير دايما يارب ”
وبهذه الكلمات أعلنت نهاية الحوار تاركة رائد يرمقها باستنكار وغضب طفيف :
” بس كده ؟؟ مفيش غيرة ولا عصبية ولا اي ذرة احساس حتى ؟؟ مفيش أنت جوزي او أي كلمة تثبت إن الانسان ده يلزمك في حاجة؟!”
كان يتحدث وهو يراقب دخولها، وهي بدا أنها لم تستمع لجملته، بل فقط تحركت صوب المنزل بحنق وغضب، ورائد توعد لها حينما تصبح زوجته أنه سيريها ..
سمع صوت صلاح خلفه يقول بجدية :
” ميمو وصلت على اول البلد، هاخد عربيتك اروح استقبلها ….”
_________________
قبل ذلك بساعة ونصف تقريبًا …
ابتعدت نيرمينا عن احضان سعيد تضم وجهه بين يديها في حنان شديد وحب :
” أنا بس مش حابة تقعد لوحدك، ما تيجي معانا يا سعيد ”
استدارت بلهفة قبل أن تنتظر رده صوب مختار الذي كان ينتظر أن تنتهي من كل ذلك ليرحلوا صوب قرية صلاح تلبية لدعوته ..
وقالت برجاء :
” مختار ممكن سعيد يجي معانا ؟؟ هو طيب والله مش هيزعج حد ”
ضحك سعيد على تصرفات شقيقته التي تتعامل معه كما لو كان طفلًا صغيرًا تود اصطحابه لمكانٍ ما، اقترب منها يقبل رأسها بحب شديد، ضامًا إياها لصدره :
” لا يا حبيبتي روحي أنتِ واستمتعي، أنا كده كده مش هكون فاضي وكنت شايل همك تفضلي لوحدك، كويس أن ميمو هتاخدك معاها ”
نظرت له بحب وقالت :
” هتكون بخير ؟؟”
” أنا بخير طول ما انتِ بخير يا نيرمينا ”
شعرت نيرمينا بالدموع تتدافع لعيونها وابتسمت باتساع شديد وهي تضم نفسها له بحب، في الوقت الذي هبطت به ميمو الدرج تراقب ما يحدث ببسمة جانبية ..
” يلا يا نيمو جاهزة ؟!”
ابتعدت نيرمينا عن احضان سعيد تقول بحماس شديد :
” أيوة جاهزة، أنا جهزت شنطة ليا فيها كل حاجة”
أنهت حديثها تشير صوب حقيبة ملابس كبيرة، جعلت مختار يتشنج مستنكرًا حجمها، بينما ميمو أطلقت ضحكة كبيرة وهي ترى ما أحضرت نيرمينا :
” كويس بس يا رب متكونيش نسيتي حاجة يا قلبي ”
هزت نيرمينا رأسها برفض، في الوقت الذي نظرت ميمو صوب مختار بخبث وقالت :
” شيل يا ميخو شنطة نيمو لبرة يلا عشان هنتحرك ”
نظر لها مختار حانقًا، لكنه لم يبدي اعتراضًا وهو يحمل الحقيبة متجهًا للخارج وخلفه نيرمينا تركض تقول بخجل أن يحمل كل تلك الحقيبة لأجلها :
” لا سيبها أنا هشيلها و…”
وقبل أن تكمل جملتها وجدت مختار يلقي لها بالحقيبة لتتلقفها وتسقط بها ارضًا بشكل جعلها تنصدم، وهو يقف من الاعلى واضعًا يديه في جيب بنطاله يراقبها تنظر له بدهشة، قبل أن ينحني حاملًا الحقيبة مانحًا إياها بسمة مستفزة، ثم أشار بأصابعه لها بكلمات لم تفهم منها شيئًا :
” متقوليش حاجة أنتِ مش قدها ”
ونيرمينا كانت تحرك عينيها فقط مع اصابعه التي تتحرك أمام فمه بشكل غريب، لم تستنتج منه سوى :
” عايز تشرب ؟؟”
فتح مختار فمه بحنق قبل أن يضرب رأسها بخفة متحركًا صوب الخارج وهي تركض خلفه تتحدث بصوت مرتفع :
” ايه ما أنا مش فاهمة ؟؟ عايز تاكل طيب ؟؟ أنا جبت معايا سندوتشات لانشون وجبنة، أنت بتحبهم صح ؟! ”
في الداخل وبعد رحيلهم كان سعيد يراقب شقيقته وهو يفكر في القرار الذي اتخذه، ثواني وسمع صوت ميمو خلفه يقول بصوت خافت :
” متقلقش نيرمينا معايا ”
نظر لها دون ردة فعل سوى أنه هز رأسه ببطء، وبعدها قال بهدوء شديد وبرود :
” عمر عامل ايه دلوقتي ؟؟”
اتسعت أعين ميمو بقوة ليبتسم لها سعيد وهو يقول :
” محتاجة شوية كمان عشان تعرفي تعديني يا ميمو ”
أنهى حديثه، ثم خطى صوب مكتبه وميمو تراقبه دون ردة فعل، فبعد تلك المواجهة الشرسة بينهما ما عادت تستطيع أن تتحدث بحرية مع سعيد ..
ابتلعت ريقها ثم قالت :
” سعيد ”
توقف سعيد لكن لم يستدر لها، وهي قالت ببساطة شديدة :
” الطريق اللي أنت ماشي فيه آخرته مش كويسة صدقني، سيبك منه وعيش حياتك ”
ختمت جملتها وهي تتحرك بعيدًا عنه تاركة إياه شاردًا لا يدري منذ متى يقف بهذا الشكل يحدق في باب مكتبه قبل أن ينطق بكلمات غامضة :
” هعيش، بس مش دلوقتي، لازم انهي اللي بدأته ”
دخل مكتبه يخرج هاتفه وهو ينظر له بتردد، ما عاد يستطع التراجع وقد أنهى جميع المعاملات وظل التنفيذ، هو فقط سينهي تلك العملية ومن بعدها سيحاول الانسلاخ عن الأمر برمته، ويتعالج ويغادر تلك البلدة بأكملها مع زهرته، أو يستقر بها إن أرادت، لكن فقط ينتهي منها .. ابتلع ريقه يضع الهاتف على أذنه :
” الو يا وسيم …جهز للعملية عايز اخلص منها في اسرع وقت ”
__________________
لأول مرة يكون وحده في المشفى دون صالح، ولولا أن أحدهما فقط هو من يحق له أخذ إجازة لكان ذهب معه، لكنه ولأجل ألا يضطر صالح للبقاء هنا، قرر البقاء وانهاء العمل الخاص بهما سويًا بمساعدة أطباء آخرين..
خرج محمود من قسم الفحص وهو يتحدث مع أحد الاطباء بجدية كبيرة :
” تمام العينات عامة واضحة وباذن الله ميكونش فيه أي مشاكل في النتايج، اهم حاجة بس هو تحليل الـ.. ”
توقف فجأة بتعجب حينما أبصر بتعجب سجدة تتحرك باكية بين الممرات وخلفها رجل يركض وهو يتحدث بصوت مرتفع وتوسلات وصلت للجميع واضحة ..
وقبل أن يتحدث بكلمة سمع الطبيب جواره يقول بسخرية :
” ربنا يتوب علينا من حوارات الستات في العمل، أنا مش فاهم ليه بينزلوا يشتغلوا ما كل واحدة تفضل في بيتها وتسيب الشغل للرجالة”
رمقه محمود بسخرية لاذعة :
” مش أنت برضو اللي رفضت زوجتك تولد عند دكتور وعملت مشكلة في المستشفى إن هما ازاي مش عندهم دكتورة نسا ست ؟؟ ”
نظر له صديقه باستنكار لكلماته التي تظهره بدائيًا منافقًا :
” أيوة بس دي حاجة لازم فيها ست، مش كل الشغل محتاج ستات، شغلتنا دي مش عايزة غير ستات ”
ربت محمود أعلى كتفه ببسمة :
” لا أنت بس بص كويس هتعرف أنها محتاجة ستات برضو ”
وبهذه الجملة أنهى محمود جملته وتحرك صوب مكتبه يخلع المعطف الخاص به في تعب شديد، فمنذ مساء البارحة وحينما عاد من الإسكندرية تم طلبه على وجه السرعة وقضى ليلته في المشفى، بالطبع صالح جاء له بضع ساعات، ثم رحل ليتجهر للسفر ..
جلس على مقعده بتعب شديدي يحاول أن ينال قسطًا من الراحة، لكن فجأة انتفض على صوت رنين الهاتف الخاص به، نظر له بأعين ضبابية ليجد أن المتصل هو نفسه ياسين شقيق هاجر والذي تحدث معه قبل أيام ..
ابتلع ريقه يجيب بلهفة :
” الو …”
” دكتور محمود ؟؟ حضرتك كنت كلمتني من يومين عشان موضوع مهم ”
ابتسم محمود باتساع شديد وكأنه نال جائزة كبيرة :
” أيوة يا فندم، ممكن اقابل حضرتك امتى ؟؟”
وصل له صوت ياسين يقول بهدوء شديد :
” بكرة هكون في القاهرة، تقدر تيجي المكتب بتاعي هبعتلك عنوانه ”
قاطعه محمود بلهفة شديدة لا يصدق أن الأمر يقترب، بسكوتته على أعتاب أن تصبح له ومعه للابد :
” عارفة يا فندم، ممكن بس تقولي بكرة الساعة كام وانا هكون عندك ؟؟”
أخبره ياسين ما يريد ثم اغلق المكالمة ومحمود انتفض سعيدًا، ونزع سترته وتحرك خارج المشفى بأكملها يتحدث لأحد الممرضين :
” لو حد سأل عليا قولهم في استراحة الغدا ..”
ركض بين الطرقات يود لو يتوقف في منتصف الطريق يرقص تعبيرًا عن سعادته، كل ذلك وهو فقط أخذ موعدًا من شقيقها، فما بال قلبه كمن لاقى القبول؟!
ماذا سيحدث له لو نال موافقة وأصبحت له وملكه؟!
ومن شدة سعادته اخرج هاتفه يتحدث لصالح، ثواني مرت قبل أن يسمع صوت صالح يتحدث له ليصرخ بسعادة كبيرة :
” كلمت اخوها وهو راجع بكرة القاهرة وهقابله يا صالح ”
وصل له صوت صالح السعيد والمهنيء له كما لو أن زفاف محمود على الابواب:
” مبارك يا صاحبي، خلاص كلها خطوة وتبقى ليك، أنا هحاول باذن الله اكون في القاهرة بكرة عشان ابقى جنبك”
ابتسم محمود حينما أبصر مخبز هاجر مفتوحًا للزبائن ليهرول صوبه بأقدام متلهفة وعيون مشتاقة ..
” تسلم يا صالح ده العشم، تفتكر المفروض أخد ماجد معايا؟”
” لا متبقاش غشيم زيي، اصبر نروح أنا وأنت نشوف الدنيا والمرة اللي بعدها ناخد ماجد وصلاح بالمرة معانا هو بيعرف يتكلم في المناسبات دي، مش عايزين نعمل مشاكل ليكون لبش زي اخوات رانيا اصلا العيلة دي كلها متعبة ”
هز محمود رأسه بخفة وهو يدفع الباب مصدرًا اجراس رقيقة بأصوات خافتة :
” اتفقنا و…”
توقف عن الحديث حينما أبصر هاجر تقف أمام طاولة مليئة بالأطفال تقدم لهم الحلوى ببسمة تنافس حلواها جمالًا، كانت فاتنة بكل بساطة، تلك المرأة خُلقت من الرقة، وخُلقت الرقة لأجلها ..
ابتسم وهو يتجاهل صوت صالح في الهاتف، يغلقه دون اهتمام وهو يدسه في جيبه يراقبها ببسمة واسعة وهي تتحرك كنحلة بين ازهار ملونة، ترتشف الرحيق وتوزع من عسلها على الجميع، وهو المسكين يقف كيتيم على قارعة الطريق ينتظر أن تمن عليه برشفة عسل وحيدة، بل هو يكتفي بنظرة فقط أو بسمة …
استدارت هاجر وهي تصفق للكل ببسمة، فقد كان المكان مزينًا لأجل أحد اعياد الميلاد، كانت تغني وتصفق مع الجميع مبتسمة، قبل أن تتوقف فجأة بتوتر حينما أبصرت محمود، ومحمود لم يعي شيئًا سوى أنه يود أن تصبح زوجته في تلك اللحظة لينتهي من كل ذلك العذاب الذي يمارسه على نفسه للتحكم بها أمام نظراتها…
تحرك صوبها لتسارع هي بالهرب كمن رأت شبحًا صوب المطبخ تاركة محمود ينظر لاثرها بصدمة كبيرة، رمش بعدم فهم، ثم تحرك خلفها وبمجرد أن دخل المكان وجدها تقول بملامح متوترة وبسمة واسعة تنافي ذلك التوتر :
” كنت مستنياك عشان تشوف الكيكة الجديدة اللي اخترعتها”
فرك محمود ذقنه بتعجب من طريقتها :
” هو ده هيبقى محتواكِ الفترة الجاية عشان تهربي مني ؟؟ اصل لو اتبعنا المنهج ده لغاية الفرح مش هلاقي بدلة تدخل فيا ”
ابتسمت له هاجر تحاول أن تنفي جملته تلك ..
” اهرب منك ؟؟ اهرب ليه ؟؟ أنا بس حباك تدوق الكيكة بتاعتي ”
” مش واضح يا هاجر، أنا شايفك متوترة ومش على بعضك”
نفخت هاجر في استهزاء شديد تقول باستياء من ظنه الظالم ذلك :
” متوترة ؟؟ فين ده ؟! أنا مش متوترة خالص على فكرة ”
حرّك محمود نظراته صوب يد هاجر التي كانت تنقبض وتنبسط على السكين، وقدمها اليمنى التي تهتز بسرعة كبيرة، مبتسمًا بسخرية لتتنهد هي بصوت مرتفع :
” ماشي أنا متوترة شوية صغيرة، بس ….اصل هقولك ”
صمتت ثواني تقترب منه بشكل صغير هامسة :
” أنا اساسا دي اول مرة حد يقولي كده، وانا مش عارفة المفروض اعمل ايه، فقولت احاول اتجنبك اليومين دول لغاية ما افهم الدنيا ماشية ازاي ”
نظر لها محمود ثواني لا يصدق ما تقول يرمقها بعدم فهم متسائلًا بجدية :
” أنتِ بتهزري صح ؟؟”
نفت هاجر برأسها، ليطيل محمود النظر لها ثواني قبل أن ينفجر في موجة ضحك كبيرة، كانت تهرب منه لأنها لا تدري ردة فعل لمثل تلك المواقف ..
وهاجر تراقبه وهي تشدد من تمسكها بالسكين ليجذبه منها محمود بحنان وحرص شديد، ثم وضعه على الطاولة ونظر لها بلطف :
” أنتِ حابة تتصرفي معايا ازاي يا هاجر ؟!”
حدقت به هاجر بجهل تحرك كتفيها ليوضح لها بحنان أكثر :
” يعني عايزة تعملي ايه واعمليه عادي، شوفي حابة تتجاهليني عادي، أو تعملي مكسوفة برضو عادي، وانا هعمل نفسي مش واخد بالي أنك مش عارفة تعملي ايه ”
ابتلعت هاجر ريقها تنظر له تهمس :
” يعني هو…هو ينفع متظهرش كل شوية في وشي، مش قصدي يعني متجيش بس انا …أنا بجد بتوتر وبحس اني المفروض اعمل حاجة وانا مش عارفة اعمل ايه ”
ابتسم لها محمود بسمة واسعة وقال ببساطة :
” بس كده ؟؟ تمام أنا موافق ”
افتر ثغر هاجر عن بسمة مصدومة :
” ده بجد ؟؟ فعلا هـ…هتعمل كده ؟! ”
ابتسم لها محمود يهز كتفه بهدوء شديد، ثم قال في جدية واضعًا يده جهة صدره :
” أيوة اوعدك وعد شرف اني مش هظهر قدامك تاني إلا بعد ما اقابل اخوكِ ”
وارتاحت هاجر لذلك الوعد، فمعنى أنه سينتظر عودة ياسين للظهور مجددًا أي أنه على الأقل سينتظر اسبوعًا آخر، فهي تعلم جيدًا أن ياسين دائمًا ما يخبرها أنه سيعود، لكنه يتخلف عن موعده ويمد سفره لأيام..
” تمام اتفقنا، مش هتيجي غير لما تقابل ياسين تمام ؟!”
هز لها محمود رأسه ببراءة شديدة :
” عيب عليكِ أنا وعدتك ”
ازدادت الراحة والسعادة أعلى وجه هاجر تتخيل أيام خالية من ذلك التوتر وتلك المشاعر الغريبة التي تختبرها معه، وتهرب منها، حملت صينية الحلوى وهي تتحرك صوب الخارج :
” تمام اوي، شكرا يا محمود بجد، أنت شخص لطيف ومراعي جدا ”
وبتلك الكلمات ختمت هاجر حديثها تستأذن منه لتقدم الحلوى للاطفال تاركة إياه يراقبها ببسمة، ومن ثم نظر لقطعة الحلوى التي وضعتها لأجله وبدأ يتناول فيها يحرك كتفيه بهدوء :
” آسف يا هاجر، كل شيء مباح في الحب والحرب ياقلبي ”
_____________________
كان يتحرك بالسيارة الخاصة بشقيقه على الطريق العام للقرية، والذي كان من ضمن الطرق القليلة المؤهلة لعجلات السيارات …
وفجأة توقفت سيارته في منتصف الطريق حينما قابل سيارة يعلمها جيدًا وقد كانت سيارة ميمو، ابتسم يتوقف، ثم هبط يتحرك صوبها ..
وميمو هبطت من السيارة تنتزع نظارتها الشمسية مبتسمة له بسمة مشرقة واسعة ساهمت في سرقة نبضة أخرى من نبضات قلبه …
تحرك لها صلاح بخطوات بطيئة حتى توقف أمامها يحدق فيها بحب :
” نورتي البلد كلها ”
” منورة بأهلها يا لذوذ، البلد جميلة اوي وشوفت اراضي كتير وانا جاية بجد كنت هركن العربية وانزل اقعد فيها ”
ضحك لها صلاح وهو يتحدث معها باندماج وسعادة متجاهلًا مختار الذي هبط من السيارة يضرب بابها في قوة واضحة، ومن ثم تحرك صوبها .
وصلاح يقول بجدية وحنان :
” لو تحبي ممكن اخدك الأراضي بتاعتنا بعد كتب كتاب رائد انهاردة ”
ابتسمت ولم تكد تتحدث، حتى سمعت خطوات مختار خلفها تقترب لتهمس بصوت منخفض لصلاح :
” موافقة اكيد، بس هنضطر ناخد مختار معانا، عشان هو مش بيحب يسيبني ”
نظر صلاح لمختار يتجاهله بشكل كامل، ثم هز رأسه موافقًا :
” مفيش مشكلة ابقي هاتيه يتسلى ”
رمقه مختار بجمود ليمنحه صلاح بسمة مستفزة، ثم تحرك صوب السيارة وهو يشير لهما أن يتبعانه :
” يلا اركبوا عشان اخدكم لبيت العريس ”
وبالفعل صعدت ميمو جوار مختار الذي قاد السيارة على الطريق خلف سيارة صلاح، وفي الخلف تجلس نيرمينا وهي تنظر لكل شيء حولها بانهبار شديد وفرحة كبيرة جعلت مختار يبتسم عليها …
وصل الجميع لمنزل رائد والذي سيقام به عقد القرآن في الوقت الذي كان جميع الرجال يعملون على قدم وساق، البعض يعلق اضواء متدلية على جدران منزل العمدة الخارجية احتفالًا بعقد قرآن بكره ووحيده …
وفي الداخل بعض الرجال يعلقون العديد والعديد من الأضواء وفتاة تقوم بصنع زينة من البالونات بشكل متناسق، ورائد يتحرك ليتأكد أن كل شيء تم جيدًا..
وحينما أبصرَ صلاح وضيوفه فابتسم يتحرك لهم وهو ينادي والدته التي أسرعت له لترحب بالضيوف ..
” نورتوا البلد كلها والله ”
ابتسمت له ميمو وهي تأخذ من يد مختار علبة متوسطة الحجم تقدمها له ببسمة :
” مبارك يارب، ربنا يتمم ليكم على خير ”
نظر رائد للهدية ثواني قبل أن يقول ببسمة :
” مكانش له داعي تتعبي نفسك، كفاية وجودكم والله وتشاركوني الفرحة ”
فتحت ميمو فمها لتجيب لكن صلاح تدخل وهو يقول :
” خلاص يا حبيبي خد الهدية وامشي، روح شوف بتعمل ايه، عم سليمان بيناديك ”
رفع له رائد حاجبه بسخرية متحركًا بعيدًا عنهم بعدما ودع ميمو بكلمات ودودو :
” الحاجة دلوقتي هتيجي تاخد البنات لاوضة تسبيح”
ثواني وابصر الجميع صالح الذي هبط الدرج يحمل سماعة صوت أعلى كتفه مرتديًا عباءة سوداء ناسبت طوله وأبرزت جسده، يتحرك بسعادة كبيرة متخيلًا نفسه في عقد قرآنه..
يغني بسعادة كبيرة يجمع حوله فتيان القرية الذين سعدوا وهن يصيحون بسعادة يجذبون رائد بالاجبار ليرقصون معه .
ضحك عليهم صلاح بقوة، لكن فجأة سمع صوت ميمو جواره تحدق في صالح باستحسان :
” ما شاء الله الجلبية ماشية اوي مع صالح، أنت هتلبسها ؟؟”
نظر لها صلاح بعدم فهم لتقول بحماس غريب :
” ما تلبسها كده عايزة اشوف شكلك بيها ”
رفع صلاح حاجبه مبتسمًا بسمة جانبية يقول بهدوء :
” شكلي هيبقى زي صالح كده بالضبط بس مسرح شعري”
أطلقت ميمو ضحكات عالية وهي ترى اقبال نعمة عليها تفتح ذراعيها، لتغمز له مشاكسة قبل أن تلقي بنفسها بين احضان نعمة :
” أيوة بس صلاح مش صالح ولا شبه صالح، فاكر كلامك ؟؟”
وبعد تلك الكلمات ذهبت لنعمة التي قبلتها بترحيب هي ونيرمينا وسحبتهما صوب الغرفة التي تقبع بها تسبيح، ونيرمينا تنظر لمختار وهي تودعه ملوحة له ببسمة سعيدة، والأخير يهز رأسه بيأس ..
أما عن صلاح فقد كان يقف ينظر لأثر ميمو بشرود قبل أن يبتسم فجأة، وقد استحسن فجأة فكرة ارتداء عباءة في حين أنه في المواقف العادية كان يرفض ارتدائها عكس صالح الذي يحبها كثيرًا، لكن إن أرادت هي أن تراه بها فلها ذلك .
أفاق فجأة على شعوره بيد أحدهم على كتفه، نظر جواره ليجد مختار ينظر له بحاجب مرفوع وتحفز شديد، ابتسم له بسمة صغيرة :
” ايه أنت كمان عايز تشوفني بالجلبية ولا ايه ؟؟”
ارتفع طرف شفاة مختار ليبتسم له صلاح :
” ده تقدم كبير اني خليتك تبتسم، عقبال ما تضحكلي يا حبيبي ”
تجاهله مختار وهو ينظر للمنزل وقبل أن يفكر بالخروج والبقاء جوار السيارة سحبه صلاح خلفه يقول بجدية :
” تعالى معايا خلينا نشوف هنجيب مقاسك منين ؟؟”
_____________________
ركضت إحدى الفتيات الصغار صوب غرفة الفتيات وهي تصيح ببسمة واسعة وحماس كبير :
” الرجالة خرجوا من الصلاة خلاص وجابوا المأذون معاهم عشان كتب كتب ابيه رائد ”
توتر جسد تسبيح بقوة وهي ترتجف لولا يد ميمو التي ضغطت على أكتافها بحنان شديد مطمأنه إياها:
” اهدي شوية، مفيش حاجة تخليكِ تقلقي اوي كده ..”
نظرت لها تسبيح بخوف تحاول أن تتنفس بشكل منتظم، قبل أن تسمع صيحات الفتيات وهم ينظرون من النافذة على جموع الرجال الذين خرجوا من الصلاة مباشرة على منزل العمدة .
تحركت صوبهم ميمو وتسبيح التي التصقت بالنافذة لتبصر رائد يتوسط الرجال وهو يسير مبتسمًا سعيدًا يتلقى مزحات الجميع بضحكات صاحبة وسعادة تكاد تقفز من عيونه ..
ابتسمت بسمة شاردة عليه، كان أكثر من وسيم بتلك العباءة البيضاء التي جعلته يبدو كما لو كان يشع، وجوارها ميمو اتسعت عيونها حينما أبصرت صلاح يتحرك خلف الرجال وهو يتحدث مع صالح مرتديًا عباءة باللون الرمادي، وما كادت تبتسم حتى اتسعت عيونها بصدمة ترى مختار يسير خلف صالح وصلاح وهو يرتدي هو الآخر عباءة باللون الكحلي يسير فيها متأففًا لا يبدو على وجهه الارتياح أبدًا، يمسك طرف العباءة كما لو كان سيسقط..
اتسعت بسمتها بصدمة تحدق فيه بحب شديد، صغيرها يبدو ناضجًا وسيمًا بتلك الثياب، ولم يكن تأثير مختار مقتصرًا على ميمو، بل امتد ليشمل تلك المسكينة جوارها والتي كانت تراقب مختار بأعين متسعة، تلك المرة الأولى التي تراه في هكذا ثياب …
اقتربت نيرمينا من ميمو تقول وهي تشير لمختار :
” الحقي مختار لبس زيهم ”
ابتسمت ميمو بأعين ملتمعة بدموع وهي ترى صلاح يجذب مختار لاحضانه بالقوة يجبره على السير جواره بدلًا من البقاء وحده :
” شايفة، حلوين اوي ”
في تلك اللحظة انتفضت جميع الفتيات على صوت نعمة التي اقتحمت الغرفة تملئها زغاريد عالية وهي تصفق و تغني بكل قوتها والنساء يرددن خلفها بسعادة وتسبيح تجلس بينهن بسعادة لم تكن تتخيل أنها ستحياها يومًا ..
وفي أحد الأركان كانت ميمو تراقب كل ذلك بأعين دامعة وبسمة واسعة أعلى فمها، تتذكر حينما كانت فتاة صغيرة تتوسط تلك الجلسات بسعادة واحلام غبية تنتظر أن تتوجه لها كلمات الأغنية يومًا ما، لكن ما غنى لها أحدٌ، وما صفق لها انسان …
مسحت دمعتها حينما رأت نيرمينا تحاول أن تتوسط النساء وترقص لهن جميعًا، تمارس هوايتها القديمة، ضحكت بقوة وهي تراها تبهر الجميع بحركاتها وتتذكر كلماتها قديمًا حينما كانت تركض لها هاتفة :
” هو أنا لو بقيت رقاصة عادي ؟؟ أنا بحب ارقص اوي وهبقى رقاصة شاطرة”
بدأت ميمو تصفق أكثر لنيرمينا التي أشعلت الأجواء وحينما لمحتها جذبتها معها، لتترك ميمو لنفسها العناء وتسعد في تلك اللحظات ..
وفي الاسفل
بدأ المأذون يخطب في الجميع خطبته المعتادة التي يذكر فيها كل ما يتعلق بتلك العلاقة المقدسة، والجميع يستمع له ببسمة وكلٌ يتخيل من سكنت القلب ..
وبعد ذلك بدأ المأذون يعقد القرآن، ثم نظر لهم يستدعي وكيل العروس والذي كان مرتضى الذي تطوع ليكون كذلك و صالح وصلاح كانا شاهدين على العقد، ومن ثم تم إحضار تسبيح لتدلي بموافقتها أمام الجميع وهي تشعر بارتجاف جسدها ومن ثم مضت باسمها ليرتاح جوار اسم رائد ..
واخيرًا أعلنها المأذون أمام الجميع :
” بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكم في خير ”
وبتلك الكلمات أعلن المأذون انطلاق سلسلة لا متناهية من الزغاريد التي رن صداها في المكان وبدأ الرجال ينقضون على رائد بالعناق والمباركات، وتسبيح التي خجلت من نظرات الجميع لها لتقرر الركض إلى الأعلى، لكن والدة رائد جذبتها صوب إحدى الغرف وهي تقول ببسمة :
” خليكِ هنا شوية ورائد جاي ”
اتسعت أعين تسبيح برعب وصدمة ولم تكد تعترض حتى أغلقت نعمة الباب وخرجت ..
في الخارج كانت ميمو تراقب ما يحدث ببسمة وسعادة لتلك الأجواء واندماج مختار حوله، حتى وإن كان جامدًا لا يتحرك من مكانه أو ينغمس معهم، يكفيها أنه كان يحرك عينيه في المكان باهتمام وفضول، أو لتكون دقيقة، هو يحرك عيونه مع نيرمينا التي كانت تقفز في المكان بسعادة وقد بدأ الرجال يتحركون صوب مجالسهم …
اقترب صلاح من ميمو يغمز لها :
” اتمنى تكون تضحيتي جات بفايدة”
ابتسمت له ميمو بسمة واسعة وهي تجيبه بهدوء :
” جات بفايدة اوي متقلقش ”
ضحك لها يشير لها بالابتعاد مع النساء:
” تمام روحي مع مرات عمي لمكان الستات بعيد عن الكل هنا ”
ومن ثم تحرك صوب غرفة الرجال ليجد رائد يتقدم صوب الغرفة التي أخبرته عن أن تسبيح بها، وخلال سيره شعر بتربيته على كتفه من كف صلاح الذي قال بسعادة :
” مبارك يا رائد، ربنا يجعلها زواجة العمر يا رب ”
ابتسم له رائد يعانقه بحب :
” عقبالك يا صاحبي ”
وبعد هذه الكلمات هرول بسرعة صوب الغرفة ودخل لها بلهفة شديدة، لكن ولشدة لهفته لم ينتبه أنه أفزع تسبيح التي انتفضت عن مقعدها بقوة ..
ابتلع ريقه يراها تنظر له بأعين متسعة، اقترب منها خطوات لتتراجع هي المثل، وهو يصر على التقدم منها أكثر، حتى أصبح على بُعد صغير منها، امتدت يده ببطء لنقابها يسألها بعينيه أن يفعل وهي أبدت رفضًا واضحًا، لكن لهفته اعمته عن توترها وهو يرفع عن وجهها ذلك النقاب ..
ابتسم حينما أبصرت عيناه وجهها المليح مجددًا، بتلك الملامح الرقيقة والصغيرة، ابتسم لها يدرك خوفها :
” تبارك الرحمن، جميلة وجمالك غطى على كل جمال يا تسبيح ”
كانت تسبيح تفرك كفيها بتوتر، وابتسمت له بسمة صغيرة مرددة :
” أنا …هو …الله يكرمك يارب ”
ضحك رائد بقوة عليها قبل أن يقتنص فرصته ويميل مقبلًا جبهتها مرددًا بسعادة :
” هو فعلا ربنا كرمني بوجودك يا تسبيح ”
نظرت له تسبيح بأعين شاردة في تفاصيله ولا تدري ما تقول، إلا أنه لم ينتظر منها كلمة وهو ينظر لعينيها بقوة وحنان في الوقت ذاته :
” ينفع اقولك اني طول الوقت معاكِ وجنبك بس بطريقتي وبشكل صح اكتر ”
رمقته بجهل ليمنحها بسمة صغيرة وهو يميل معانقًا إياها، ضاممًا جسدها لصدره، حيث الضلع الذي انشقت عنه وكأنه يود إعادتها لمكانها جوار قلبه وهمس بصوت حنون محب :
” أنا معاكِ طول الوقت وجنبك على طول يا توتا ..”
________________
بعد رحيل جميع الرجال وبقاء أفراد العائلة فقط، غادر مرتضى رفقة صالح ليغيرا ثيابهما بأخرى مريحة، ومن ثم يعودا لاستكمال السهرة مع الجميع ..
وصلاح بقي ليساعد سليمان في إنهاء بعض الأمور ومن ثم خرج من المنزل يشير لمختار الذي تجهز وحمل الحقائب أن يتبعه بالسيارة الخاصة بهما يرشدهما لمنزله حتى يستبدل الجميع ثيابه ويرتاحوا من عناء الطريق واليوم ..
دقيقتين وتوقفت جميع السيارات أمام منزل محاط بسياج عالٍ بشكل غريب، وأمامه يقف رجل يرتدي جلباب يعطيه هيبة كبيرة، وجواره تقف امرأة بملامح مقتضبة سوداء .
وفي السيارة عند صلاح انقبضت ملامحه بغيظ وغضب مكتوم حينما أبصر وجه تلك السيدة، هبط من السيارة الخاصة بصالح وأغلق الباب بقوة شديدة خرج على إثرها صالح يصيح :
” ما براحة على ام الباب مش كل شوية اوديها التوكيل ولا هي عشان مش ….ايه ده مين اللي جاب الست دي هنا ؟؟”
أنهى جملته بصوت غاضب وهو يشير لتلك السيدة التي كانت طاعنة في السن ليحدجه والده بنظرات محذرة جعلته يلجم لسانه وهو ما يزال يوجه لها نظرات كالسهام والأخيرة ابتسمت بلا اهتمام وبتجبر تحدثت :
” ايه يا صالح يا حبيبي، لسه لسانك فالت زي امك ؟! مش عارف بتقول ايه او بتكلم مين ؟؟”
وفي تلك اللحظة اندفع صوبها صالح، لكن ما وجد سوى جسد صلاح يتوسط المكان بينهما وهو يضمه محاولًا أن يجبره على الهدوء :
” اششش اهدى، بلاش تخليها تغلطك، دي ست كبيرة وأي كلمة هتتحسب عليك مش ليك، أهدى وأعقل دي عمتك الكبيرة ”
صاح صالح في اعتراض شديد وكره يملء صدره لتلك المرأة :
” مش عمتي ولا هتبقى عمتي في يوم، الست اللي تقول كلمة على امي ملهاش احترام مني ”
ونظرة عمته أصابت مرتضى بالرعب من غضبها، فهو يدري بشأن أخته الغير شقيقه والتي تترأس العائلة بأكملها لكبر عمرها مقارنة بالجميع :
” صالح ..عيب كده يا بني، دي عمتك ”
نظر له صالح بقهر وهتف من بين أسنانه وكأنه يبصق الكلام :
” قولت مش عمتي، الست دي أنا لا ليا علاقة بيها، ولا ليها عندي اي احترام ”
ولشدة غضب صالح لم يكن يحسب لكلماته حسابًا، لكن صلاح والذي احتفظ بآخر ذرات عقله جذبه للداخل بقوة شديدة :
” بس بقى يا صالح مش كده، متصغرش ابوك، عيب عليك ”
نظر له صالح بقهر شديد ولم يكد يتحدث حتى سمع كلاهما شهقة عالية خرجت من فم عمتهم المصون واعينها جاحظة في إحدى الجهات …
نظر الاثنان صوب تلك الجهة ليروا أن السبب الذي جعل أعين عمتهم تتسع بصدمة كمن صادفت شبحًا، وفمها يُفتح بهذا الشكل المثير للضحك هو رؤيتها لميمو التي كانت ترتدي بنطالًا من الجينز وسترة سوداء من الصوف أعلى ثياب بيضاء، نزعت ميمو النظارة وهي تبتسم للجميع وما كادت تتحدث بكلمة حتى عاجلتها تلك السيدة بصرخة :
” مين دي ؟؟ ولابسة كده ليه دي ؟؟ بنت مين يا بت أنتِ ؟؟”
استدارت لها ميمو بتحفز وضيقت أعينها ومختار الذي توقف في ظهر ميمو نظر لها بشر، لكن لم يتحدث أحدهم بكلمة سوى صالح الذي ابتسم بسواد شديد وقد وجد أخيرًا شيء قد يحرك مياه عمته الراكدة، لذلك دفع صلاح جانبًا وهو يتحرك صوب ميمو يقول بفخر شديد أصاب عمته في مقتل :
” دي ؟؟ دي عقبال احفادك يا عمتي، تبقى خطيبة صلاح وقريب اوي مراته ….”
والشهقة التي أطلقتها عمتهم كانت أكبر دليل أن صالح أصاب هدفه بامتياز، وارتسمت بسمة متشفية أعلى شفتيه، دفعه صلاح جانبًا بغيظ شديد أن أستخدم ميمو في حرب لا علاقة لها بها، وخاصة أن تلك الحرب مع الحرباء المسماة _ جورًا_ عمتهم …
ارتفع صوت عمتهم باستنكار واشمئزاز مشيرًا لميمو :
” دي ؟؟ خطيبتك يا صلاح ؟؟ ملقتش غير قليلة الحيا دي تتجوزها ؟!”
ارتفع حاجب ميمو بقوة وقد ارتسمت بسمة جعلت اجراس الانذار تضرب في عقل صلاح وهو يراها تعقد ذراعيها أمام صدرها مجيبة عمته بهدوء مستفز غامزة لها بخفة :
” قليلة الحيا وانا لسه مقولتش ولا كلمة ؟؟ طب استني تشوفي بعينك طيب عشان تعرفي قلة الحيا على حق الله ”
نظرت العمة لها بتحفز وميمو تقف بثبات في وجهها تنتظر منها كلمة، وصلاح المسكين بينهما يسب صالح الذي أعلن تلك الحرب المبكرة، والمبكرة جدًا …
_______________________
خيوط تتشابك وأخرى تتفكك، قصص تبدأ وأخرى اقتربت من وضع نقطة نهايتها، والفوز للاذكى والاسرع…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)