رواية مصطفى أبوحجر الفصل الثالث 3 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت الثالث
رواية مصطفى أبوحجر الجزء الثالث
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الثالثة
-٣- ذكرى لا تُنسى
كانت الرائحة القوية لقهوة (الأسبرسو) تملأ أرجاء غرفة المعيشة ذات الطابع الحديث حيثُ استرخى مصطفى بجسده جالسًا أعلى أريكته الجلدية السوداء، وعم الدفيء الأركان التي تصاعد أعلاها بعض الأدخنة التي نفثها هو بتلذذ بجوار تناوله لرشفتي القهوة داخل فنجانه، بينما أصابعه عبثت بشاشة هاتفه ببطء مُستمتعًا بصور وأخبار حفل توقيعه التي ملأت مواقع السوشيال ميديا واعتلت صفحات الجرائد الإلكترونية …
في جميع الصور المُلتقطة والتي مسح أدق تفاصيلها بعدستيه كان يبحث عن وجهها بلهفة وسط مئات الأوجه التي ملأت حفلته بالأمس، كاد أن يفقد الأمل في الحصول على صورة تضُمها إلى أن حالفه الحظ بالنهاية فظهرت بوضوح كزهرة زرقاء مُتفتحة تجلس بِرقة وسط الصفوف الأخيرة ..
لفتت أنظاره إليها من أول وهلة بمعطفها الأزرق الرقيق ذات القُلنسوة المُضادة للمياه، والتي ظهر من أسفلها حجابها الوردي المُزركش عند اقترابها، كانت عيناه مُثبتتان عليها اثناء احتمائها بغطاء عربة الطعام تلك، رآها وهى في غاية ارتباكها تُحاول إغلاق أي منفذ في ملابسها يَسهُل من خلاله دخول قطرات المطر إليها قبل أن تتناول ما طلبته وتعدو باحثة عن مكان تجلس به ..
تمنى داخل قرارة نفسه أن تأتى للجلوس على طاولته، لكن ما الذي يدفعها لذلك رغم تواجد العديد من الطاولات الخالية من حوله، لحُسن حظه وبسبب تدافع قطرات المطر واقتراب طاولته إليها رآها تعدو نحوه على عجل فتصنع العبث بهاتفه وراقبها بأطراف عينيه حتى وصلت إليه ..
يبدو أنها لم تُلاحظه في البداية، هذا هو ما أدركه عندما شعر بارتباكها وترددها وأحس باستعدادها للمُغادرة، لذا فضل الخروج عن صمته ودعاها للجلوس مُتحججًا بانهطال الأمطار التي بدأت في التزايد ..
أنشرح قلبه فور رؤيته لغُلاف روايته الجديدة تعتلى حقيبتها، فحاول تجاذب أطراف الحديث معها مُستمتعًا بالنظر إلى ملامحها الجميلة الهادئة، فوجهها مُشرق مُستدير بغير امتلاء، يُزينه عينين واسعتين صافتين هادئتين ذات أهداب كثيفة وكأنهما لم يقعا أبداً على شر يُعكرهما، ذات أنف صغير يتناسب مع حجم وجهها وشفتان مُتناسقتان يُزينهما ابتسامة جانبية خجلة ..
أعجبه تورد وجنتيها أثناء الحديث وعدم نظرها إليه بصورة مُباشرة، إلا إنه ورغم ذلك كان ينتظر الفوز برهانه والتحقق من لون عينيها التي ظن أنها ستكون بلون العسل أو البُندق، لم يستغرق الأمر منه سوى عدة لحظات حتى ابتسم بثقة وهو ينهل منهما عندما رفعت رأسها إليه للتحدث عنه هو .. مصطفى أبو حجر ..
قاوم كثيرًا رغبته فى التعريف عن نفسه مُستمتعًا بكلماتها الرقيقة عنه وعن كتاباته دون سابق معرفتها بهويته، فانتفخت أوداجه بسرور وشعر بالفخر يملأه من كلماتها الصادقة الخالية من أي رياء، كانت تتحدث بهدوء ورزانة وعقلانية رغمًا عن رقتها ولُطف صوتها الخفيض فبدت بعيدة كُل البُعد عن هؤلاء المُعجبات اللاتي طالما قابلهن وكان يتضح عليهن علامات الهوس التام بوسامته وهيئته الأنيقة أكثر من كتاباته، استمتع كثيرًا بمُحاولتها للهرب من نظراته المُسلطة عليها عندما سألها بخُبث عن بطلها أو بصورة غير مُباشرة عن حبيبها، توقع رد فعلها ذلك ورغبتها في الرحيل لذا أنبأها عن اقتراب موعد ندوة كاتبها المُفضل بالداخل، مُمنيًا نفسه برؤيتها من جديد عقب أن تتفاجأ بحقيقة هويته ..
تمدد مصطفى بجسده على الأريكة عقب أن ارتشف الرشفة الأخيرة من فِنجانه مُتذكرًا اقترابها منه في نهاية الحفل حاملة نسخة روايته بين أصابعها، حين انفرجت أساريره وبات يَعُد الخطوات الفاصلة بينهما مُنتظرًا أن يتم الأمر بصورته الطبيعية لولا تَدخُل تلك المدعوة ((آلاء)) وظهورها المُفاجئ ..
هو يتذكر جيدا ذلك الشعور بالخيبة الذى ملأه عندما نجح في التخلص من تلك المُتطفلة وأسرع إلى الداخل من جديد بلهفة حيث ترك مُعجبته لكن للأسف حدث ما كان يخشاه وغادرت دون أن يستطع معرفة أى تفاصيل عنها أو حتى الظفر بحروف اسمها ..
صدرت منه زفرة حارة بعد أن سيطر عليه ذلك الشعور بالخيبة من جديد وهو يقوم بتكبير تلك الصورة التي تحتويها مُحاولًا قدر المُستطاع رؤيه ملامح وجهها بشكل واضح ومُفصل، لكن وللأسف لم يستطع رؤية قسماتها كما رآها فى ذلك اليوم …
رغم ذلك لم يتملك منه اليأس وأنشغل تفكيره بالبحث عن طريقة يستطع من خلالها العثور عليها، ففكر فى مُشاركة صور الندوة على مجموعته الخاصة أو صفحته الشخصية طالبًا ممن حضروا التعليق ؟
لكنه سُرعان ما تخلى عن تلك الفكرة الساذجة فمِن الواضح أنها ليست من أولئك الباحثين عنه على صفحات الإنترنت، فلو كانت كذلك لعَرفته فور رؤيته …
لكن كيف لها أن تكون من أشد المُعجبين بكتاباته إلى تلك الدرجة دون أن تُفكر فى مُتابعته إلكترونيًا !
تنهد باختناق وثنى كِلتا ذراعيه الممددتين إلى الوراء شابكًا راحتيه تحت رأسه بإحباط بعد أن ترك هاتفه أعلى المنضدة التي تجاوره عقب فشله فى التوصل إلى طريقة مُجدية للعثور عليها …
في تلك اللحظة شعر بالخيبة والإحباط يتسللان إليه، فظن إنه من الأفضل له الآن أن يزيحها عن تفكيره مُتمنيًا أن يسوقها القدر إليه أو أن تجمعهما الصُدفة ذات يوم ..
*******************************
كان ضوء الهاتف الساطع بقوة والذى ألقى بنوره على قسماتها؛ كافيًا لإيضاح ذلك التجهم والعبوس اللذان سيطرا على وجهها المُمتعض ..
فبعد أن غرقت الغرفة في بحور الظلام الدامس نتيجة لإحكام قاطنته إغلاق جميع الستائر وإطفاء كل مصادر الإضاءة، توهج هو مُنيرًا تلك البقعة الصغيرة التي احتلتها هي أعلى فراشها بجوار صغيرتها ..
أخذت تتفحص هاتفها بضيق على غير هُدى وتزفر بين الحين والآخر مُحاولة عدم التفكير في الأمر بعد أن أعادت كلمات والدتها إليها ذكريات بائسة حاولت هي طوال تلك السنوات نسيانها قدر المُستطاع ..
كم كانت بلهاء عندما وقعت في غرامه مُنذُ الصغر، فكان هو حُبُها الأول والأخير الذى لم تعرف سواه حتى تلك اللحظة ..
إلا أن رفضه لها في ذلك اليوم وتعمده لإذلالها على هذا النحو بعد أن صرحت له بحُبها، كان ذلك هو السبب الأوحد لرفضها له عندما تقدم لخِطبتها بعد عدة أشهر، حيثً أرادت أن تُذيقه مرارة الرفض وقساوة الخُذلان مثلما فعل هو بها من قبل …
لكنها رغم ذلك انتظرت إلحاحه في الزواج منها أو مُحاولته لإقناعها والتصميم على التواصل معها ورؤيتها لمعرفة السبب وراء رفضها رغم عِلمه بولهها به، هي تعترف بصدودها له العديد من المرات وإحراجه وسط زملاؤها ذات يوم، إلا أنها لم تتوقع أبدًا سماعها إعلان خبر خِطبته قبل مُرور شهرين على رفضها له ..
حقًا هي لم تستطع استيعاب ما حدث بل لازمت فِراشها لعدة أيام غير قادرة على مُغادرته، فلم يكن السبب وراء رُقادها عضويًا بل هو تأديبًا لنفسها التي استكبرت وعصت وتمردت على رغبة قلبها حتى أضاعته من بين يديها، وبعد الكثير من الوقت لم تستطع شمس التعاف والخروج من انكسارها ذلك إلا عندما أقنعت حالها أنه لم يتقدم لخِطبتها إلا لصلة الدم التي تربطهما فقط؛ لا أكثر ولا أقل، وعِند رفضها له قام باختيار أُخرى دون تفكير، فهو من البداية لم يُكِن لها ذرة حُب واحدة أو إعجاب ، لهذا السبب لم تتوقف حياته عِند مُمانعتها للزواج به.
ولهذا السبب أيضاً قبلت دون تفكير بأول من تقدم إليها بعد إعلان خِطبة ((أسامة)) بثلاث أسابيع …
((ماجد)) زوجها الأسبق والذى وافقت عليه فقط كيدًا فيمن لم يكترث لأمرها يومًا مُحاولة إثبات قُدرتها على تخطيه وأن هُناك من يُريدها حقًا لذاتها لا مَن يرغب في الزواج منها شفقةً وإجبارًا ، لذا ارتضت به رغمًا عن اعتراض قلبها وعدم اقتناع عقلها..
ووسط استنكار ودهشة من أهلها تصالحت مع فكرة العيش داخل منزل العائلة على بُعد طابق واحد من والدته وأُختيه، وافقت على التنازل عن الكثير من أحلامها رغمًا عن كُل الإشارات البينّة الواضحة والتي تُنبئ بفشل تلك الزيجة وأبرزها كان عدم التوافق الواضح بينها وبينه ..
غضت الطرف عن كُل ذلك فقط كي تُثبت لمن رفضها بأن هُناك من يتيه بها حُبًا وشوقًا ولا يستطع احتمال ابتعادها عنه ..
لذا عَجلت بالزواج من ((ماجد)) فور معرفتها باقتراب زواج ((أسامة)) ..
وبعد أقل من سنة في يوم زواجها المشؤوم، وقبيل فرحها بعدة ساعات عَلِمت أن من أحبته أصبح حُرًا بعد أن قام بفسخ خِطبته منذً عدة أسابيع ولم يُخبرها أحد ..
حينها تتذكر جيدًا أنها سقطت على المِقعد المجاور لها بعد أن عجزت قدماها عن حملها، وللمرة الأولى في حياتها تشعر أنها قد وقعت داخل فخ أحسنت صُنعه بيديها بل وغزلته بحرفية عالية حولها حتى بات من المُستحيل لها الآن الفِرار من شِباكه، فأصبحت في حيرة من أمرها بعدما أشتد الخِناق عليها ..
ماذا تفعل ؟ هل تتمرد وتُعلن رفضها الزواج !
لكن ما ذنب والديها ! كيف لها أن توصمهما بالعار وتُدنس رأسيهما في الوحل إلى هذا الحد ؟
لقد آن الآوان لتتحمل نتيجة عِنادها واختيارها الخاطئ، وتستسلم لِتحدِ القدر الذى طالما وقف حائلاً بينها وبين من أحبته ..
أما الآن وبعد مرور عشر سنوات كاملة فهي تَعُض أطراف أناملها ندمًا على قرارها ذلك، فياليتها انصاعت لنِداء قلبها وقتئذ، لكنها وللأسف أضاعت فُرصة نجاتها الوحيدة ومضت في طريقها رغمًا عنها دون أن تدرى أنها تخطو أولى خطواتها للجحيم فور زواجها من ذلك الأرعن ..
*************
كان شخير ماجد الرتيب المتعالي هو أول ما تلقته أذني شمس الغارقة في أحلامها، ساحبًا إياها من ذلك العالم الوردي الذى لم تستغرق داخله سوى سويعات قليلة لتنتقل دون مُقدمات إلى واقعها الذى لم تعلم عنه شيئًا بعد، أفاقت بعد عدة دقائق على الكثير من الطَرقات المُتتالية العنيفة والتي تتابع علوها تدريجيًا على باب الغُرفة الخارجي فاستقامت جالسة أعلى فِراشها بذُعر تنظر إلى زوجها الذى بدأ يفرك عينيه بتكاسل قبل أن يتمطئ ويتثاءب بصوت مُرتفع ممطوط، صحبه بعض التأففات مُعلنًا عن تذمره واحتجاجه وهو يُطالع ساعة هاتفه التي لم تتجاوز العاشرة صباحًا ..
انكمشت هي أعلى فراشها بعد أن سترت جسدها بشُرشف الفِراش وعلامات الرُعب تتجسد أعلى وجهها مُتسائلة بصوت خفيض :
_ هو في حد معانا في الشقة ؟
أعتلى صوت تمطأه من جديد قائلًا بغير اكتراث :
_ دي تلاقيها أمي وإخواتي البنات جايبنلنا فطار الصباحية ..
أعتلت علامات الدهشة وجهها مُتسائلة وهى تهم بالنهوض لالتقاط ردائها الحريري ذات الأكمام الطويلة قائلة :
_ ودخلوا الشقة إزاى ؟
أجابها أثناء ارتدائه لخُفه المنزلي بينما الطرقات تزداد عُنفًا وعُلوًا :
_ حبيبتي إحنا هِنا معندناش شقق بتتقفل ..
وقبل أن تصيح هي مُعترضة أضاف ماجد برقة بعد أن أرسل إليها قُبلة فى الهواء :
_ صباحية مباركة ياعروسة ..
ومن ثَم توجه بخطوات ثابته إلى الباب يفتحه بينما هي أصابها التوتر حتى عجزت عن إحكام إغلاق ردائها فاحتمت بضلفة دولابها في الوقت الذى خطت فيه أقدام الوافدات أرض الغُرفة وصدحت الزغاريد بصوت عالٍ زاد من ارتباكها، أتبعه صوت والدته قائلة بعد العديد من القُبلات التي أغدقت بها فتاها :
_ إيه ياماجد كُل ده نوم …
قالت جُملتها تلك وهى تنظر نظرة جانبية إلى ما ظهر من أطراف ثوب شمس من وراء الضلفة، في نفس اللحظة التي تحركت فيها العروس عقب انتهائها من إحكام ردائها وتوجهت إلى الجمع على بُعد خطوات من مدخل الغُرفة وسط همهمات إخوته وتشدقاتهم الغير مُبررة، فمدت يدها تُحيى الأُم وأومأت برأسها مُبتسمة إلى الأخوات قبل أن تستأذن مُغادرة إلى الحمام ..
وما إن ابتعدت عدة خطوات عَنهُن حتى آتاها صوت كبيرتهم قائلة بصوتٍ واضح تعمدت وصوله إليها :
_ مالها مراتك ياماجد من أولها كده العوجان ..
أوقفتها تلك الكلمات بمحلها فالتفتت بصدمة إلى زوجها الذى تلاقت نظراته بها في نفس اللحظة، فاتسعت عيناها بعدم فهم مُنتظرة دِفاعه عنها إلا أنها لم تتلق منه سوى ابتسامته المُلازمة له قائلاً لوالدته بتملق :
_ وهو حد يقدر يتعوج عليكي وأنا موجود على وش الدُنيا ياست الكُل ..
وأتبع قوله بانحناءة بسيطة لتقبيل يد والدته مُضيفًا :
_ ربنا يخليكى لينا ..
توجهت أنظار إخوته في الحال إليها بعد أن علت شِفاههن ابتسامات الانتصار والتشفي قبل أن تقول إحداهُن مُتشدقة بتهكم وكأنها تُريد إثبات مكانتهن لدى شقيقها :
_ أُمال مسلمتش علينا يعنى، وأحنا اللي جايين شايلين شيء وشويات وطالعين نباركلكوا ..
ثُم أضافت غامزة إلى شقيقتها :
_ مع إن المفروض يعنى أمها هي اللي تجيب فطار الصباحية ..
أحمر وجه شمس بغضب وخرجت زفراتها حارقة في انتظار رد زوجها عنها، لكنها لم تحظ سوى بانكماش تلك الابتسامة على شفتيه مُصاحبًا لها بعض نظرات العتاب للمُتحدثة، مما دفعها للرغبة في الرد دِفاعًا عن حالها وردًا لكرامتها المُبعثرة إلا إنه أوقفها بنظرة حادة مُحذرة قبل أن تظهر تلك الابتسامة المُستفزة أعلى شفتيه من جديد مُجاملاً لعائلته، فاستدارت هي مُكملة خطواتها المُتدافعة إلى الحمام بعد أن تجاهلت نظرات شقيقاته
الظافرة…
وقبل أن تُغلق باب الحمام جاءها صوت والدته قائلة بصرامة :
_ أعمل حسابك العصر تجيبها وتنزل ومن بكرة تبقى تحت من ٨ الصبح إيديها بإيد أخواتك ومراتات إخواتك في الطبيخ والغسيل ..
في تلك اللحظة لم تستطع هي سوى أن تدفع باب حمامها بقوة من ورائها بشكل مُتعمد ردًا عليها عله يصل إلى مسامعهن فيشعرن بعدم رغبتها في تواجدهن داخل منزلها …
وبعد العديد من الدقائق قضتها داخل حمامها بلا هدف فى انتظار رحيلهُن، التقطت أخيرًا أصوات حديثهن الصاخب على درجات السُلم مما دفعها للخروج بسرعة كي لا تستمع إلى كلماتهن عنها فيزيد ذلك من الغضب المكتوم بداخلها، تدافعت بخطوات سريعة إلى غُرفتها باحثة عن زوجها الذى وجدته مُستلقى أعلى الفراش بلا اكتراث يعبث بهاتفه، وقبل أن تتفوه بأولى كلماتها الساخطة لاحظت أدراج غُرفتها الشبه مفتوحة فتوجهت إلى إحداها لتُفاجئ بمحتوياته المُبعثرة بوضوح …
ألتفتت بشكل تلقائي إلى ضلفة ملابسها والتي وجدتها هي الأُخرى غير مُغلقة بإحكام بعكس ما تركتها، فاقتربت منها تفتحها بحدة لتقع عيناها على ملابسها المُكومة بغير ترتيب في كُل رف من الرفوف فنظرت إلى زوجها مُتسائلة بعدم تصديق :
_ مين فتح دولابي وفتش في حاجتي بالمنظر ده ؟
تجاهل صدمتها تلك قائلاً بهدوء دون أن ينظر إليها :
_ إخواتي كانوا بيتفرجوا ..
أتسعت عيناها وأرتفع إحدى حاجبيها وهى تُردد بنبرة هامسة سُرعان ما ارتفعت :
_ إخواتك فتحوا دولابي وفتشوا في حاجتي ؟ وأنت سكت كده ومعملتش حاجة ؟
أتتها إجابته وسط ابتسامته الهادئة قائلاً بلامبالاة :
_ وفيها إيه؟ إعتبريهم إخواتك ياشموسة إنتى عارفة البنات بقى بيحبوا يتفرجوا على حاجة بعض ..
أزداد صوتها ارتفاعًا حتى كاد أن يصل حد الصُراخ قائلة باعتراض :
_ انت إزاى تسمحلهم يقربوا من حاجتي في غيابي ..
في تلك اللحظة تغيرت لهجته الهادئة واختفت الابتسامة من أعلى شفتيه بعد أن عبس بما بين حاجبيه قائلاً بخشونة وبلهجة سوقية :
_ جرى إيه ياشمس مالها حاجتك ماهي زي ماهي لازادات ولا نقصت ..
ودون أن تعي هي قالت باشمئزاز :
_ وأنا إيش ضمني ؟
رمقها ماجد بنظرة طويلة ساخطة قبل أن يُغادر الفراش ويتوجه إليها بخطوات ثابتة قائلاً :
_ خلى بالك على كلامك .. أنا أخواتي عنيهم مليانة .. مش هيبصوا لشوية الهلاهيل اللي إنتى جايباها .. ولا حد قالك عننا حراميه !
رغمًا عن تخوفها من نبرته الهادئة التي تلفظ بها كلماته بعكس ما توقعت إلا إنها أكملت بعناد وبكلمات مُرتعشة حاولت إخراجها مُتماسكة :
_ حرامية ولا مش حرامية بقى لنفسهم أنا حاجتي محدش يلمسها إلا بإذني، ومادام حاجتي شوية هلاهيل يبقى مكانوش فتشوا فيها .
ثُم أضافت عاقدة ذراعيها أمام صدرها بتحد :
_ أنا عاوزة مفاتيح الدواليب بتاعتي والأدراج ..وباب الشقة كالونه يتغير .. محدش يخش شقتي في غيابي ..
استمر هو في التحدث بنفس النبرة الهادئة رغمًا عن حدة كلماته قائلاً :
_ أتعدلى ياشمس ومتنكديش على نفسك يوم صباحيتك، ومتتعبيش نفسك النظام اللي ماشي على مراتات إخواتى بقاله سبع سنين هيمشى عليكى إنتى كمان، فاعتراضاتك دي احتفظي بيها لنفسك ..
لكن عِنادها أرغمها على الرد عليه بصوت أعلى قائلة بسخرية مُتعمدة :
_ وهى فين الصباحية دي لما ألاقى ناس غريبة ناطين عليا في أوضتى الساعة ١٠ الصبح ..
فى تلك اللحظة تفاجئت بيده تمتد إلى رأسها تُمسكها من شُعيراتها بقوة قائلاً بلهجة تحمل بين طياتها الكثير من عبارات التحذير رغمًا عن انخفاض صوته :
_ لحد هِنا ومش هفوتلك، أهلي ميتقالش عليهم ناس غريبة ده بيت ابنهم يخشوه وقت ما يحبوا سواء أنا موجود أو مش موجود .. إنشالله يخشوا عليكى وإنتى نايمة..
ثُم أضاف جاذبًا إياها نحو الفراش :
_ وإخواتي يفتحوا أي دولاب في أي وقت وياخدوا كمان اللي يعجبهم ..
خرجت كلماتها ضعيفة مُتألمة وهى تُحاول التملص من يده المُحكمة على شُعيراتها قائلة :
_ أنت بتقول إيه أنت أكيد إتجننت .. أوعى كده سيبنى ..
لم تزده كلماتها سوى قوة، فزاد من جذب شُعيراتها إلى الأسفل قائلاً بنبرة أقرب إلى الفحيح :
_ قلة أدب أنا مش عاوز وهفوتلك كلامك عشان لسة متعودتيش على طباعنا، بس المرة الجاية مش هتخرجى من تحت إيدى سليمة …
قذفها من بين يديه أعلى الفراش مُكملاً بصرامة :
_ إعملى حسابك بكرة من الساعة ٨ الصبح تنزلي تحت تساعديهم في شغل البيت وعمايل الأكل واللي تؤمرك بيه أمي تعمليه ..
رمقها بنظرة طويلة مُحذرة قبل أن ترتسم الابتسامة أعلى وجهه من جديد قائلاً وكأن شيئًا لم يحدث :
_ يلا عشان نفطر …
تركها مُتوجهًا إلى الخارج بدم بارد وشهية مفتوحة بينما هي اعتدلت جالسة أعلى فِراشها بجسد مُنحنى بعدما اتأكت على سطُحه براحتيها مُنكسة وجهها للأسفل فبدا جسدها النحيل مُتقوساً، وسقطت دمعاتها سِراعًا على الفراش لتُبلل بُقعة مُحددة أسفل وجهها ازدادت اتساعًا كُلما هطل المزيد من مقلتيها ..
((هل هذا هو ما تمنته في صباح أول يوم زواج لها ؟)) قفز ذلك التساؤل إلى رأسها لتكون تلك البداية لسلسة تساؤلات لم تنته طوال خمس سنوات كاملة من العذاب والقهر حيثُ اعتاد عقلها التوقف عن العمل لعدة لحظات بشكل يومي نادبًا حظها المُتعثر ومُذكرًا إياها بحماقتها مؤنبًا لها على واقعها الأليم ذلك الذى أوقعت نفسها به بعد أن ضحت بسعادتها مُتعمدة وتجاهلت نداء قلبها ..
لم تشعر سوى بدمعاتها تنهمر على وجنتيها فور تذكرها لما عاشته من حياة بائسة أليمة فكفكفت دمعاتها براحتيها عِند تصاعد صوت طرقات خفيفة علمت من خلالها هوية الطارق الذى لم يكن سوى والدتها تدعوها لتناول وجبة الغذاء، لذا سارعت شمس بإغلاق شاشة هاتفها وتصنعت النوم قبل أن تفتح الطارقة باب الغُرفة ببطيء وتتحسس أولى خطواتها في الظلام إلى الداخل هامسة باسم إبنتها، لكن عندما ترامى إلى سمعها صوت أنفاس الفتاتين المُنتظمة، تحركت على مضض متوجهة إلى الخارج من جديد وأغلقت الباب من ورائها بخفة ..
ما إن التقطت أذني شمس صوت انغلاق الباب وأحست بالظلام الدامس يعُم أركان الغُرفة من جديد، حتى فتحت عينيها ببطيء وجالت بهما في الأرجاء بحذر قبل أن تعتدل جالسة كالسابق، تنفست بعُمق مُحاولة إخراج تلك الشُحنات السالبة التي تجمعت بداخلها إثر الذكرى الأليمة التي جالت بخاطرها فلم تجد ملاذًا لها سوى أن تستكمل كتابة روايتها الأولى التي نسجت خيوطها مُنذُ شهور عديدة ورتبت أحداثها بطريقة رقيقة تُناسب خيالها الحالم لتهرب داخلها من واقعها المُرهِق ..
بالفعل هي على وشك وضع الخطوط الأولى لفصل النهاية مُحاولة قدر الإمكان إخراجه بصورة مُلائمة واقعية إلى حد ما ليتقبلها العقل بسهولة ويُسر كما هو الحال في روايات كاتبها المُفضل ((مصطفى أبو حجر )) والذى تأثرت به بشكل واضح وصريح حتى أنها قد استخدمت بعضًا من عِباراته وألفاظه دون أن تشعر، إلا أن الجانب الرومانسي العاطفي طغى على كلماتها وحبكتها بطريقة واضحة فجعل لها أسلوبًا فريدًا مُميزًا لم تفطن هي إليه بعد ..
لقد أجادت الدمج في أحداث روايتها بين ما أرادته دومًا وبين الخيال فلم تستطع مُقاومة وصف ذلك البطل المغوار الذى طالما داعب خيالها، واضعة أمامه بطلة بنفس ملامحها وصفاتها وكأنها تُحاول إدخال نفسها بين طيات كلماتها والاستمتاع بتلك الحالة التي تعيشها البطلة، وبريشة فنان حالم أجادت هي رسم جميع المشاعر التي طالما حلمت بتبادلها يومًا مع أحدهم وعبّرت عنها بأسلوب بسيط سلس حسبما شعرت به دون تكلف أو عناء، فهي أحبت ما كتبته حقًا وشعرت بتميُزه رغمًا عن عدم إطلاع أحدًا عليه إلا إنها أحست أنه يُعبر عنها بصدق وعن قلبها الصغير الذى لم ينعم يومًا بحبيب وفىّ مُخلص …
لقد ملأها ذلك الإحساس المٌفرط مع أبطالها، حتى باتت تربطها بهم صلات الآدميين وباتت تشعر لهم بالحُب والبغضاء، والإعجاب والرثاء حتى أنها بَكت مع بطلتها بحُرقة ذات يوم عِند حُزنها وتعايشت معها في لحظات الحب والاشتياق، فتذوقت سعادتها ورفرف قلبها مثلها للقُبلة الأولى بينها وبين بطلها، خَجِلت وضَحكِت و تملكت الغيرة منها إزاء بعض فتيات نسجتهُن هي في خيالها لتزيد من واقعية كتاباتها ،وتُحكِم عُقدتها التي سرعان ما تنفك بسلاسة وتنكشف الحقائق للأبطال فتُكَلل قصة الحب بالزواج وتغدو النهاية سعيدة لكُل الأطراف ..
بعد العديد من الساعات قضتها شمس في كتابة الفصل الأخير من روايتها، تنهدت بحرارة وهى تخُط آخر كلمات الخاتمة بينما الابتسامة الراضية السعيدة تملأ ثغرها وكأنها هي من ظفرت بحبيبها في النهاية، قامت بحِفظ كُل التعديلات قبل أن تُغلِق ملف الكتابة بارتياح مُحتضنة هاتفها بقوة بعدما تعايشت بجميع مداركها مع تلك الحالة الحالمة التي استمرت لشهور كاملة وكانت من إحدى أسباب تجاوزها لمِحنة طلاقها..
في تلك اللحظة طرأ على تفكيرها تساؤل لم يخطر على بالها من قبل، لِما لا تقوم بنشر روايتها على المواقع الإلكترونية ليعيش القُراء تلك الحالة من السعادة التي غمرتها، لكن ماذا لو لم يُثير إعجابهم أسلوب كتابتها خاصةً وأنها مُجرد هاوية لم تُطور من أسلوبها بَعد وطريقة سردها ضعيفة للغاية_ أو هذا ما ظنته وقتها_ ..
وبعد الكثير من التردد فكرت في عَرضها أولاً على صديقتها لمعرفة رأيها، لكنها بالتأكيد في كُل الحالات ستُجاملها حتى لو أن ما كتبته مجرد هُراء لايرقى لعرضه على الآخرين ..
وفى تلك اللحظة أضاءت فكرة ما بداخل ذهنها، والتمعت عيناها ببريق واضح وانفرجت شفتاها بابتسامة مؤيدة استحسانًا لها ..
لِم لا تُرسلها إلى مصطفى ؟ هو بالتأكيد لن يُجاملها لأنه لا يعرفها، بل من المُمكن أن يُساعدها في التوصل إلى مواطن الضعف والقوة بداخل كتاباتها مُوضحًا لها أخطائها ..
لكن سُرعان ما خبت تلك اللمعة وانكمشت الابتسامة عند تفكيرها بإنه لن يمتلك الوقت من الأساس لقراءة روايتها أو الاطلاع عليها، ورغم ذلك قررت المُحاولة بلا أمل فإن تجاهلها فلا ضير من ذلك وستعتبر ذلك علامة من علامات القدر تُخبرها بعدم نشرها ..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)