رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وأربعة 104 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وأربعة

رواية أغصان الزيتون البارت المائة وأربعة

رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وأربعة

||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل المائـة وأربعة :-
الجُـزء الثـاني.
”إنه شعور الفقد اللعين؛ الشعور الوحيد القادر على قتلك حيًا.“
____________________________________
لم يُفرط بإستيقاظها، بعد أن غفت رغمًا عنها في ظل قضاء يومان مشحونان للغاية، تناست كل شئ بعدما تواجد “زين” بين ذراعيها، وتركت نفسها بإستسلامٍ للنوم، وهو أيضًا غرق معها في نوبةٍ مرتاحة. أخفض “حمزة” من سرعة القيادة خشية إيقاظها وكأنه يسير على لوح رقيق من الثلج، حتى وصلت به قيادتهِ أمام بوابة المنزل الذي ضم بين جدرانهِ أغلب أوقاتهم ومواجهاتهم. مرق الردهه وأوقف السيارة أمام المنزل، رفع حزام الأمان عن نفسه واستدار بجسدهِ نحوها قليلًا، كانت غارقة في النوم، وكأنها لم ترى الراحة بعد أن تركت “زين”، ولم تتذوق طعم النوم مُنذها. مدّ يدهِ ببطءٍ حسيس يحاول الوصول لشعرها دونما إشعارها بأي شئ، فدغدغت نعومتهِ الحريرية طبقات جلدهِ مصيبة إياه بمشاعرٍ ضربت منتصف توازنهِ فـ بددتهُ بالكامل، ونزعت عنه كل احتياطات الأمان المزيفة. لم يخطر على ذهنهِ يومًا إنه سيقع شرّ وقيعة، وإنه سينهزم بقلبهِ أمام الوحيدة التي وقفت بوجههِ بعد حروبٍ وطعناتٍ غائرة طالته منها. أبعد يداه فورًا حينما شعرت به، وخشى أن تنتهي هذه اللحظات بإستيقاظها، لكنها كانت تميل بوجهها ناحيتهِ بعفوية غير مقصودة، فـ ارتسمت بسمةٍ مبتهجة على محياه، وراقب غفوتها بصمتٍ تام مكتفيًا.. مكتفيًا بهذا -القليل جدًا- الذي حصل عليه منها.
************************************
كانت صبيحة غائمة لم تتأثر بحلول فصل الربيع، ولم تظهر الشمس في شروقها گكل يوم، محجوبة أسفل غطاء السُحب القطنية الكثيفة. فتح “نضال” بابهِ وهو يصيح مناديًا :
– ياعم بنادي من بدري.. عمي مصطفى مش عايز يشرب الشاي من غيرك.
وهزّ جسدهِ بشئ من العنف وهو يتابع :
– ده انت حتى نمت بدري امبارح!
لاحظ جمود جسدهِ، واستجابة عضلاتهِ الرخوة بصورة زائدة أكثر من اللازم مقابل هزّه ليست قوية. انتابه بعض القلق، وأصابت الرعشة نبرته وهو ينادي عليه بخفوت :
– راغب ؟!.
هزّ جسده مجددًا وهو يناديه، ولكن دون أدنى استجابة، فـ انخلع قلبهِ بفزعٍ وراح يفتح عيناه ليرى مؤشراتهما، فكانتا ساكنتين بهدوء مرعب، فـ تفحص نبض مرفقهِ ليحس تلك البرودة المرعبة على بشرتهِ، ولا يوجد أي شعور بنبضٍ أو ما شابه. تشنجت عضلات “نضال” وابتعد عنه فورًا ليسقط على ظهرهِ بعدما تعثّرت قدميهِ، و سرعان ما هرع بالنهوض وهو يصرخ مناديًا :
– عـــبيـــد…
************************************
تآوهت بصوتٍ مكتوم، عقب شعورها بوخزات موجعة لامست مراكزها الحسيّة في أماكن متفرقة من الجسم، ثم فتحت عيناها بترويّ لتحس بوجودها في الشارع. نظرت من حولها فـ اكتشفت نفسها مازالت في سيارتهِ، وهو مستمتعًا بالنوم على مقعد القيادة وكأنه فراشهِ الوثير، وحتى “زين” لم يعد بين يديها. تلفتت من حولها عساها تراه بالخلف ولكنه لم يكن موجودًا بالأساس، فـ دفعتهُ بعنفٍ وهي تصيح عاليًا :
– إنت!!.. أصــحـى كده و رد عليا الولد راح فين؟.
فتح عيناه بصعوبة بعدما نال قسطًا قصيرًا للغاية من النوم، وبرؤيةٍ مشوشةٍ كان ينظر بإتجاهها مُجيبًا :
– أكيد مكنتش هسيبه نايم في حضنك طول الليل وانتي نايمة.. كان ممكن يقع منك وانتي مش حاسه فـ خليت أم علي تاخده معاها فوق.
سحبت حقيبتها وبدأت تستعد لمغادرة السيارة وهي تغمغم بإنزعاجٍ :
– وانت سيبتني نايمة هنا ليه أساسًا!.
وترجلت عن السيارة شاعرة ببعض الدوّار قد سكن رأسها، فوقفت لحظات تستعيد فيها كامل تركيزها، بينما سار خطواتهِ نحوها ليقول :
– استني أنا هوصلك.. بس نطمن على زين وأغير هدومي ونمشي على طول.
ثم أمسك برسغها متابعًا :
– وانتي كمان تاخدي شاور وتغيري هدومك، حاجتك لسه في منها فوق.
سحبت رسغها منه وهي تشيح بعيناها عنه قائلة :
– هطمن على ابني وهمشي على طول.
وبخطواتها مضت نحو الباب بينما هو واقفًا ينظر لذهابها، عاجزًا عن إبقائها عنوة رغم إنه زوجها ويحق له قانونًا الإحتفاظ بها؛ لكن رغبتها في الذهاب تكبل معصميهِ، لا يقوَ على انتزاع حريتها في اختيار قدرها معه. حرر “حمزة” تنهيدة مُرّة من صدرهِ وسار للداخل كي يبقى معها وقت إضافي، وحينما صعد وجدها قد اندمجت مع الصغير قليلًا گشئ من الوداع، فأشار للمربية لكي تغادر وتتركهما بمفردهما، وبالفعل خرجت وأغلقت الباب من خلفها، فـ انتبهت لصوت الباب والتفتت أثر صوته لتراه يرنو إليها بتلك النظرة الشغوفة العاشقة، فهمت من لمعان عيناه كم يتوق إلى فرصةٍ تجمع بينهما، يشتاق إلى اللحظة التي ستتناسى فيها أصل معاركهم وحروبهم وتنصاع لصوت القلب الذي دقّ أخيرًا، لو إنهم أُناس عاديين للغاية، تعارفهم وقصتهم وحياتهم طبيعية، وحتى زيجتهم طبيعية أيضًا. تركت “سُلاف” صغيرها في فراشه وهي تقطع هذا الصمت قائلة :
– برضو مش هتسيبلي الولد؟؟.
– لما تختاري تعيشي معاه هيبقى معاكي للأبد
نظرت إليه ونبرة التهديد قد لامست صوتها :
– أنا لو عايزة آخده هاخده يا حمزة.. بس انا عايزاك تكون مقتنع إن من مصلحة زين يكون مع أمه.
أحنى بصره عن رؤيتها وهو يخطو نحوها حتى صار أمامها مباشرة، ثم رفع عيناه نحو شفتيها، ثم أنفها، حتى وصل لعيناها، وصوته الرخيم يحتك بمسامعها گنوع من الطرب الرقيق :
– مفيش مصلحة أكبر من وجوده معانا احنا الأتنين.. مشكلتك كل شويه تنسي إنك مراتي ولسه على ذمتي لحد اللحظة دي.. وانا اللي لو عايز أخليكي هنا هخليكي، بس مش عايزها تيجي كده.
قبل أن تتحرك من أمامه كان يحاوط ذراعيها ليوقفها بمكانها :
– أنا عايزك معانا، اللي فات مستعد أنساه كله مقابل إنك توافقي.. أبدأي من جديد معايا ومع زين وانا مستعد أنسيكي كل اللي حصل.
منعت ابتسامة سخرية من أن ترتفع ثغرها، وسألته بترقبٍ :
– بأمارة إيه؟.. أنا وانت بينا دم يا حمزة.. ليه مصمم تنسى السبب الحقيقي اللي جمعنا!.
بدون شعور هزّها بإنفعال وهو يحاول إقناعها بما ترسخ في ذهنهِ :
– أنا مفيش بيني وبينك أي حاجه.. أنا اتظلمت في وسط الحكاية دي وانتي كمان اتاخدتي في الرجلين، إحنا ملناش ذنب في كل ده ليه مش عايزة تفهمي.. أنا خسرت كل حاجه، مش هتحمل خسارة كمان.. كـفـايـة يا سُـلاف كــفـــاية.
بدأت أصوات الزمجرة تأتي من فراش “زين”، فـ وجدت حجة مقنعة تفلت بها من حصاره الذي يُضعفها به في كل مرة، انصرفت عنه لتطمئن على “زين”، حملته في حضنها وهي تهتف بـ :
– تعالى عشان نعمل الفطار ياروحي.. تعالى شكلك جعان أوي.
هربت كعادتها، عادتها التي تبرع فيها جيدًا كلما تتأزم الأمور أمامها، وهو گكتلة من النار تتطاير منها الشظايا من فرط غضبه من كل شئ حوله، أثمان غالية ما زال يدفعها، ضريبة باهظة ما زال يسددها، ولا يعلم ما الذي ينتظره في المستقبل أيضًا، هل هي خسارة جديدة أم سيعيش على أطلال المفقودين!؟.
*************************************
أربعون دقيقة من الرهبة، من الذعر، من الخوف، قضاها الجميع في رواق المشفى في انتظار خروج الطبيب إليهم، على أمل أن يُكذب الحقيقة التي يعرفونها جيدًا. كاد “مصطفى” يلفظ آخر أنفاسه من فرط الذعر، حتى ضربات قلبه غير منتظمة ونبضه بدأ يضعف، وهو يرى نصب عينيه الخسارة الفادحة لكنزهِ الوحيد الذي بقى له بعد سنوات مديدة من الوحدة. خرج الطبيب وعلامات الأسف على وجهه، فـ ركض “نضال” نحوه يسأله فزعًا :
– أكيد دي حالة إعياء.. أنا حسيت بنبضه واحنا بننقله العربية.. مش كده ؟.
ذمّ الطبيب إلى شفتيه وقد وزع نظراتهِ على الحضور قبل أن يردف بـ :
– للأسف.. المرحوم متوفي بقاله ٧ ساعات أثر توقف عضلة القلب، ده غير إن….
صمت لحظة قبل أن يتابع :
– كان في إنسداد رئوي بسبب جلطات الدم الوريدية وده ضاعف فرصة الوفاة.. أنا آسف جدًا، البقاء لله.
تشنج “مصطفى” على مقعده وهو يحاول التغلب على عجزه وشلله لينهض، أراد للحظة أن يقف على ساقيه ويركض نحو ابنه الوحيد، يراه، يلمسه، أو يودعه لآخر مرة؛ لكنه العجز اللعين هو الذي يمنعه. حاول “عِبيد” منعه من تلك الحركات المندفعة ويثبته على المقعد المتحرك وهو يحثّه على الهدوء قليلًا :
– أهدا ياعمي أرجوك.
صرخ “مصطفى” هادرًا في الجميع :
– عايز أشوف ابني.. هاتـولـي ابنــي أشـــوفـــه.
تصلب “نضال” في مكانه عاجزًا عن التحرك، و “عِبيد” غير قادر السيطرة على” مصطفى” الذي اهتاج حتى وصل لذروة العصبية وعدم التصديق، رافضًا للواقع الذي يراه أمامه وكأنه يعود بالزمن لخمس وعشرون عامًا للوراء، وقد تجددت كل مشاعر الحزن والفقد مرة أخرى؛ لكنها أقوى وأثقل من ذي قبل، مشاعر في وسعها القضاء عليه نهائيًا.
**************************************
صف “حمزة” سيارتهِ بعيدًا عن بوابة السجن الرئيسية، وترجل عنها ليمشي إلى هناك سيرًا. أجاب على المكالمة التي وردتهِ حينئذٍ قبل أن يدخل :
– أيوة يا زيدان.. خير يا وش الخير.
جمد “حمزة” في مكانه، توقف الشعور بأي شئ لحظات عديدة، حتى أحس بإختناقٍ يطوّق عنقه :
– حصل أمتى وإزاي ؟.. أقصد في حد وراها؟؟.
ساورته الشكوك حول الطريقة التي لقى بها صديق عمره حتفه، لكن الجواب كان أكيدًا غير قابل للشك، فأنقبض قلبهِ وقد أصيب بألمٍ فيه، متجاوزًا كل مشاعر الغضب والكراهيه والحقد التي كان يكنّها، وتذكر فقط سنوات الكفاح والصداقة التي جمعتهم، حتى كل الأعمال المنافية فعلوها معًا، من كان يصدق بعد كل ذلك تتحول علاقتهم لوهمٍ كبير. تجمعت الدموع في عيني “حمزة” على الفور وهو يتمتم بصوت حزين :
– إنا لله وإنا إليه راجعون!.. أقفل دلوقتي عشان أشوف هعمل إيه.
أغلق الهاتف وعاد ينظر نحو السجن، كان على وشك زيارة والدهِ، لكنه تلقّى خبر ألجم حتى ساقيه. فرك وجهه وحتى عيناه التي بدأت تجمع الدموع، ثم تنهد مطرقًا رأسهِ ليهمس بـ :
– ياترى فاضل مين تاني!!.
نظر لساعة يدهِ، ثم التفت موليًا ظهرهِ للسجن عائدًا لسيارتهِ، كي يلحق بتلك المصيبة التي حطت على رأسه ورأس آل زيّان جميعًا، على الأقل لا يتركها في موقف گهذا بعدما رأى كامل انتمائها للعائلة.
استقر “حمزة” في سيارتهِ وبدأ في قيادتها بينما كانت تتبعه تلك العيون المترصدة خلفه، حتى رآه ابتعد عن السجن فـ استخدم هاتفه لإجراء مكالمة هامّة :
– أيوة.. مشي قبل ما يدخل الزيارة، شكله كده ملهوش نصيب يشوف أبوه للمرة الأخيرة!.
**************************************