رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل السادس والأربعون 46 بقلم سارة علي
رواية حبيسة قلبه المظلم الجزء السادس والأربعون
رواية حبيسة قلبه المظلم البارت السادس والأربعون
رواية حبيسة قلبه المظلم الحلقة السادسة والأربعون
” أنت مراوغ …”
قالتها ليلى بصدق جعله يبتسم بجاذبية وهو يوافقها :-
” جدا .. وذكي جدا .. وعندما أريد شيئا أناله دائما …”
لمح الحدة في عينيها فأكمل وأنظاره تتجه نحو الكأس الموضوع أمامه والمملوء بالماء :-
” أنا لا أخسر أبدا … هذا طبعي … عندما أريد شيئا ستجديني أحارب بكل قوتي لإمتلاكه ولن أتنازل عنه ..”
قاطعته من بين أسنانه :-
” أنا لست شيئا يمكنك إمتلاكه يا كنان بك …”
رد بسلاسة :-
” الزواج ملكية يا ليلى .. ملكية مشتركة …”
توقف قليلا يتأمل ملامحها المعترضة ليضيف بهيمنة تليق به :-
” رغبتي بك كزوجة لا تقلل من شأنك .. ولا حتى من شأني … زواجي منك سيجعلك ملكي .. ”
إسترسل مانعا إعتراضا على وشك أن يصدر منها :-
” لإنك ستكونين زوجتي .. ملكي … وأنا أيضا سأكون زوجك .. ملكك .. أليس هذا مفهوم الزواج …؟! هو حق ملكية غير مشروط من قبل الطرفين …”
نطقت أخيرا :-
” كلمة ملكية لا تعجبني ولا تلائم مفهوم الزواج ..”
قال برزانة :-
” أحب سماع وجهة نظرك إذا ..؟!”
ردت بحيادية :-
” يمكننا إستبدال هذه الكلمة بكلمة أخرى .. لائقة أكثر ومناسبة تماما .. الزواج ليس حق ملكية كما تدعي .. الزواج هو إرتباط .. إرتباط إثنين من المفترض أن يقضيان ما تبقى من عمرها سويا … الزواج هو قرار مشترك بين إثنين سوف يتشاركان كل ما هو أساسي في حياتهما القادمة .. إثنان سوف يبنيان مستقبلا لهما ولأولادهما أساسه الحب والمودة والرحمة …”
تنهد قائلا :-
” وهذا ما أريد مشاركته معك …”
تأملت الصدق في عينيه …
كانت تشعر بصدق نواياه …
كانت تشعر بصدق ما يتفوه به ..
ورغم شعورها ذاك ذكرت نفسها ألا تتعجل ..
ألا تثق بحديثه فورا ..
ألا تبني آمالا معه …
ربما هو كاذب .. أو ربما صادقا لفترة ما …
يجب ألا تنسى أن ما سيربطها به مستقبلا اذا وافقت على طلبه حياة كاملة …
وفي هذه الحياة لن يكون هناك ضمانات ..
كاذب من يقول إن هناك شخص ما مضمون في حياتك ..
لا أحد مؤهل للثقة ..
لا كنان ولا غيره ..
قالت بنبرة بدت ثقيلة :-
” حقا لا أفهم سبب إصرارك هذا … مالذي يجعلك تكرر عرض الزواج مجددا بعد رفضي السابق …؟!”
قاطعها بثبات :-
” رفضك مسبقا غير محسوب بالنسبة لي .. ثانيا ما الغريب في ذلك ..؟!”
أجابت بمنطقة :-
” تمسكك بي .. إصرارك على الزواج مني ..أليس هذا غريبا …؟! ”
أكملت تبتسم بتهكم خفيف :-
” برأيي يجب أن يكون وراء هذا الإصرار دافع يستحق وحقا أنا لا أستطيع تخمين الدافع خلف إصرارك ..”
رد ببساطة :-
” أنتِ.. أنتِ هو الدافع يا ليلى .. لا أفهم حقا لماذا لا تصدقين ..؟!!”
ردت بنفس البساطة :-
” لإنك لا تمنحيني سببا منطقيا .. متى أصبحت مرغوبة بالنسبة لك ..؟! لأكن أكثر دقة … لماذا أنا تحديدا من تريد الزواج منها ..؟!”
أضافت وهي تنظر إليه بقوة :-
” رجل مثلك .. يمتلك كل شيء .. لن يتمسك بأي إمرأة ويصر على الإرتباط بها إلا إذا كان يحبها وأنت لا تحبني فلماذا تريديني بينما هناك الكثير من النساء غيري حولك …؟!”
سألها :-
” هل وجود الحب شرط في إختيار شريك حياتنا ..؟! ”
ردت بجدية :-
” قد يكون الحب ليس شرطا لإختيار الزوجة لكن هو سببا حقيقيا يجعل الرجل يلاحق من هواها قلبه ويصر على نيلها … ”
سأل بخفة :-
” ومن أخبرك إني لا أحبك ..؟!”
ردت دون أدنى تأثربكلامه :-
” لو كنت تحبني ما كنت لتخفي هذا .. أنت لست من النوع الذي يخشى إعترافا بالحب …”
ابتسم بجانبية قائلا :-
” أصبحتِ تعرفينني جيدا يا ليلى …”
مطت شفتيها تردد :-
” ليس كثيرا .. لكنني إكتشفت البعض من صفاتك …”
قال بثقة :-
” وسوف تكتشفين المزيد بعدما نتزوج…”
ضحكت بإستخفاف تردد :-
” ما هذه الثقة ..؟!”
قال بنفس الثقة المغيظة :-
” سترين بنفسك إن ثقتي في محلها ..”
ظهر التجهم على ملامحها بوضوح عندما نطقت أخيرا بملل :-
” أنا سئمت من هذه المراوغات ..”
قال بحرية :-
” أين المراوغة يا ليلى ..؟! بالنسبة لي فأنا صريح وواضح لكن أنت من تتعمدين اللف والدوران كي تصلين الى نفس النقطة … كي تهربين من هذا العرض مجددا ..”
احتدت ملامحها وهي تردد :-
” انا لا ألف ولا أدور يا كنان .. هذا ليس طبعي .. كما إنني لا أهرب …”
قال بسرعة حاسمة :-
” إذا تزوجيني ..”
نظرت له ببلاهة ليضيف بثقة ممزوجة بهيمنة أسرتها للحظات :-
” تزوجيني يا ليلى .. أعدك كل شيء سيكون كما تريدين .. سأحقق لك ما تتمنين … ستكونين ملكة متوجة معي … وافقي يا ليلى ولن تندمي أبدا …صدقيني .. ”
نطقت أخيرا وهي تحرر عقلها من آسر نظراته ونبرته القوية وكلماته :-
” لا تتحدث عن وعود مبالغ فيها بهذه الثقة .. ”
قاطعها بجدية :-
” انا لا أنطق حرفا واحد لست واثقا منه ولو مثقال ذرة …”
عادت تتأمله بصمت ..
حديثه وهيبته وثقته بنفسه كلها مرهبة لها ..
تلك الوعود التي يطلقها على مسامعها تحرك شيئا ما فيها رغم عدم رضاها عنها ..
هي لا تقتنع بجميع ما يقوله رغم إنجذابها الفعلي نحو كلماته …
كلماته التي تبدو صادقة للغاية بقدر ثقته بنفسه ورغم هذا ترفض تصديقها ….
كانت سوف تسأله سؤالا محددا …
لماذا يفعل كل هذا لأجلها ..؟!
لمَ هي دونا عن البقية ..؟
مالذي وجده بها ..؟!
لكنها بالطبع لن تفعل .. لن تسأله سؤال كهذا يقلل منها ومن نظرتها لنفسها …
تحدثت أخيرا وعيناها بدتا تحملان مشاعرا مختلطة لا نهاية لها :-
” وإذا تراجعت عن وعودك …؟! وإذا فشلت في تحقيق ما قلته قبل قليل ..؟!”
أجابها دون يرمش بعينيه للحظة :-
” لن يحدث …”
عادت تسأله مجددا بهدوء :-
” وماذا عن علاقاتك النسائية …؟!”
رد ببساطة :-
” كان لدي علاقات نسائية … لن أنكر هذا .. لكن جميعها كانت عابرة .. وإنتهت منذ بضعة سنوات …”
قاطعته ببرود :-
” سمعت إنك زير نساء وترافق أجمل النساء بإستمرار …”
ضحك مرغما وهو يقول :-
” الصحافة تبالغ قليلا … حتى قبل ثلاثة أعوام كانت لدي علاقات لكنني قطعتها جميعها منذ ثلاثة اعوام او ربما أكثر بقليل … ”
” لماذا ..؟!”
سألته بإهتمام بارد ليجيب بجدية :-
” حدثت الكثير من الأمور ، أهمها إنني مللت … أعتقد إن علاقاتي السابقة كانت فورة شباب طبيعية وإنني عندما وصلت الى مرحلة النضوج المفترضة لم تعد تلك العلاقات تستهويني ..”
أكمل يخبرها بصراحة مطلقة :-
” مثلي مثل أي شاب .. تعرفت على العديد من الفتيات خاصة في بداية شبابي … لكن بعد مرور عدة سنوات وتحديدا عندما بدأت أنضج وأنشغل بعملي أكثر بدأت علاقاتي تقل تدريجيا حتى قطعتها تماما …. ”
عادت تسأله بعدم إقتناع :-
” هل تعني إنك لم ترتبط بإمرأة منذ ثلاثة اعوام ..؟!”
رد بجدية :-
” بالضبط … ولكن مع ملحوظة إنني تعرفت مرتين على فتاتين كان هناك مخطط للزواج منهما … تعارف عادي ولم يطل كثيرا …”
” لماذا ..؟!”
قالتها بسرعة ثم لاحظت إنها تسأل بكثرة فهتفت بحرج خفي :-
” إعذرني ولكن من حقي أن أعرف كل شيء عنك …”
قال ووهو يبتسم بخفة :-
” حقك طبعا .. اما جوابي فسيكون إنني لم أحد فيهن المرأة التي أريد الإستقرار معها .. انا يا ليلى كنت أخطط للزواج منذ أن قطعت علاقاتي العابرة جميعها .. أردت الإستقرار وتكوين عائلة والأهم على حصول على وريث لي خاصة بعد نجاحي المبهر في مجال الأعمال منذ تنحي والدي عن إدارة شركات العائلة .. وبالتالي بحثت عن زوجة وكانت هاتين الفتاتين مرشحتين ولكنني لم أشعر بأن أيا منهما تنفع لتكون زوجتي وشريكتي الى الابد ..”
” ولكنك شعرت بهذا معي ..؟!”
سألته وهي ترفع حاجبها ليرد وهو يبتسم :-
” بالطبع وإلا ما كنا لنجلس هنا ونتحدث …”
” ومالذي يختلف بي عنهن لتشعر إنني هي الزوجة المناسبة لك …؟!”
رد بجدية :-
” الكثير من الأشياء … شخصيتك … قوتك … ذكائك .. إخلاصك والأهم إنني منذ أول مرة وقعت عيناي عليكِ فيها شعرت بشيء قوي يجذبني نحوك .. ربما لن تصدقيني لكن هذه هي الحقيقة .. منذ أن رأيتك لأول مرة وأنا إنجذبت إليك بقوة وبعدها لم أستطع منع نفسي من التعرف عليك فسارعت أراقصك دون تردد … أنا إنجذبت كليا لك ووجدت نفسي لا أرى سواكِ زوجة لي وأما لأولادي ..”
عاد التوتر يغزوها بفعل كلماته لكنها تجاهلته عن عمد وهي تقول :-
” وماذا عن زواجي السابق ..؟! ألا يضايقك كوني مطلقة …؟! ألا يزعجك كونك لست الرجل الأول في حياتي …؟!”
كانت تتعمد التحدث بهذه الطريقة ..
ربما هي تختبره .. تختبر مدى قناعته بها …
رد وقد أظلمت عيناه للحظات :-
” زواجك كان ماضي وانتهى .. كونك مطلقة فهذا لا يعنيني بشيء ولا يؤثر علي بتاتا .. لست رجعيا يا ليلى كما إنني أعرف بزيجتك السابقة قبل أن أراقصك في تلك الليلة حتى يعني قبل أن أقرر الزواج منك ….”
صمتت مجددا وقد وجدت نفسها عاجزة عن قول شيء ما ..
هو يحاصرها من جميع النواحي …
لا يترك لها مجالا للرفض ….
لكنها لن تنهزم ..
ستحاول مجددا …
قالت بتهور تدركه لكنها مصرة على القدوم فيه :-
” وماذا عن حقيقة كوني لا أحبك والأهم إنني مغرمة برجل آخر ..؟!”
جمود كامل سيطرة عليه ..
وجهه أصبح جامدا بكل إنش فيه …
نظراته أصبحت قاسية ….
بالكاد تحركت شفتاه وهو يقول بجمود أجفلها لا إراديا :-
” إياك أن تذكري هذه السيرة مجددا أمامي ..”
قاطعته مصرة على التمادي :-
” هذا واقع حال ..”
ثم شهقت وهي تجد كفه تقبض على كفها تسألها وعيناه تنظران في عمق عينيها العسليتين بقوة :-
” مشاعرك ستنهيها بنفسك طالما سترتبطين برجل آخر واجب عليك إحترامه والإخلاص له …”
شعرت بجفاف فمها عندما إلتقت عيناها بعينيه بينما كفه تمسك كفها بتملك وإحكام ..
ورغم طريقته وبرودته لكنها لم تشعر بالنفور من لمسته تلك …
ربما يبدو الأمر غريبا …
نطقت وهي تبلل شفتيها بحركة أثارت غليانه :-
” وماذا لو لم أستطع فعل ذلك ..؟!”
رد بقوة وهو يشدد من قبضه على كفها يتجاهل شفتيها المغريتين :-
” ستفعلين .. طالما أنا معك ستفعلين … بوجودي سوف تنسين أي رجل آخر عداي .. انا لن أسمح لأي رجل أيا كان أن يجذب ولو القليل من تفكيرك أما قلبك فإتركيه لي وصدقيني سأحرره من كل هذه المشاعر الغبية حتى تنسين أي شخص قبلي كما لن يكون هناك أي شخص بعدي …”
سحبت كفها من كفه وهي ترمقه بنظرات قلقة ليضيف عن قصد :-
” إلا إذا كنت لا تريدين النسيان .. تريدين العيش على أطلال الماضي .. فحينها سيكون الأمر مختلفا ..”
هل هذا صحيح ..؟!
هل هي لا تريد النسيان ..؟!
بالطبع لا ..
هي تريد التخطي منذ أشهر ..
منذ أن تزوج نديم بأخرى …
ربما لم تتخذ خطوة فعلية بسبب إنشغالها بأمور أخرى لكنها قررت نسيانه وعزمت على التنفيذ …
هي لا تريد أن تعيش على اطلال هذا الحب …
لا تريد ذلك ..
يبدو إنه قرأ أفكارها فقال بتروي :-
” قولي موافقة يا ليلى وأعدك إنك ستبدئين حياة جديدة معي .. حياة مختلفة كليا … سوف تنسين الماضي بكل ما فيه … كل شيء سينتهي فمعي ستكون هناك بداية جديدة لكل شيء .. بداية مختلفة ومثالية ..”
شحبت ملامحها وعقلها عاجز عن التصديق ..
هل يمكنه فعل هذا ..؟!
هل يمكنه جعلها تتخطى الماضي ..؟! بل وتبدأ من جديد ..؟!
هل يمكن أن تتجسد النجاة في رجل ..؟!
هل تتخلى عن مبادئها السابقة ..؟!
هل تتجاهل وجهة نظرها المعتادة ..؟!
هل تجازف بنفسها مجددا ..؟!
هل تخضع لسطوة رجل مجددا …؟!
هل تقامر على حياتها ومستقبلها ..؟!
هل تخوض تجربة نجاحها غير مضمون والمبرر الوحيد لخوضها إن قلبها سيكون خارج المعادلة …؟!
وماذا عن البقية ..؟!
هل آمان قلبها كافي لتتجاهل كل شيء غيره وتدخل في علاقة جديدة لا تدرك معالمها جيدا …؟!
وأمام كل هذه التساؤلات وجدت نفسها تنطق بخفوت متردد :-
” موافقة …”
…………………………………..
كانت هايدي تقف أمام صلاح بتحفز وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها تنتظر خروج شريف الذي ما زال في الداخل عند شقيقتها يفحصها بعد إفاقتها من غيبوبتها القصيرة كي يطمئن عليها….
أخذت تنظر هايدي له بنظرات حارقة تجاهلها صلاح الذي كان يقف قبالها مستندا على الحائط خلفه ينتظر خروج شقيقه هو الآخر ..
بالكاد كانت هايدي تسيطر على أعصابها كي لا تنفلت أمام هذا الأرعن فتبطش به وتفتعل فضيحة جميعهم في غنى عنها …
خرج شريف تتبعه الطبيبة النسائية التي تابعت حالة شقيقتها وطفليها معه وأخدت تتحدث معه بصوت منخفض قليلا قبل أن تمنحه إبتسامة رسمية لا تخلو من الود كونها زميلة قديمة له وغادرت المكان لتتجه هايدي نحو شريف تسأله بلهفة :-
” هل يمكنني رؤيتها ..؟!”
أجاب شريف وهو ينظر الى شقيقه الصامت لا إراديا والذي بقي واقفا مكانه :-
” بالطبع .. لكن يجب أن نتحدث أولا بينما يتم نقلها الى غرفة أخرى مناسبة أكثر لها بعد إفاقتها وإستقرار حالتها عموما ..”
تبعته هايدي وكذلك صلاح مرغما حيث جلس كلا منهما امام مكتب شريف الذي نطق بجدية :-
” حالة نانسي من الناحية الجسدية مستقرة …”
زفرت هايدي أنفاسها بإرتياح ثم ما لبثت أن سألته :-
” والطفلان ..؟! هل هما بخير ..؟!”
نظر صلاح لشقيقه بترقب فبادله شقيقه نظرة حازمة وهو يقول :-
” نعم ، وضعهما بخير عموما ..”
تمتمت هايدي بالحمد بخفوت بينما احتقن وجه صلاح بعدم رضا فلم يكن هذا ما يريد سماعه …
قال شريف متجاهلا ملامح شقيقه التي أظهرت بوضوح ما يعتمل داخله :-
” ولكن ما زال هناك شيء هام .. بل عدة أشياء في الحقيقة ..”
سألته هايدي بقلق عاد ينبعث داخلها :-
” أشياء ماذا ..؟!”
أجاب شريف :-
” مبدئيا حالة نانسي النفسية تبدو غير واضحة …”
سألته هايدي مجددا بإرتباك :-
” كيف يعني ..؟!”
شرح شريف لها :-
” حسنا لم يمر سوى فترة زمنية قصيرة جدا على إستيقاظها ورغم إنها جسديا بخير إلا إنها لم تمنحنا أي ردود تبرهن لنا إستقرار حالتها النفسية ولو قليلا.. هذا شيء متوقع لما مرت به لذا نحن سننتظر مرور بضعة أيام نراقبها خلالها ونهتم بها حتى نعلم إلى أي مدى بلغ ضررها النفسي وكم من ستحتاج من علاج ….”
قالت هايدي بصدق :-
” المهم إنها بخير … انا معها ولن أتركها حتى تتشافى كليا … جسديا ونفسيا ..”
أكملت وهي ترمق صلاح :-
” لن أتركها أبدا ولن أسمح لأي شخص مهما كان بإيذائها ..”
قال شريف مضيفا :-
” هناك شيء آخر … الحمل تقدم كثيرا .. تبقى حوالي أربعة شهور على ولادة نانسي … علينا أن نتصرف ..”
نطق صلاح أخيرا :-
” كيف يعني نتصرف ..؟!”
رد شريف بعقلانية :-
” يعني ماذا سنفعل ..؟! كيف ستنجب الطفلين وماذا سنقول للجميع ..؟!”
ظهر التوتر على ملامح هايدي وهي تسأل بإضطراب :-
” ماذا سنفعل إذا ..؟!”
رمق شريف صلاح بطرف عينيه وقال بجدية :-
” أنا رتبت كل شيء ….”
” كيف ..؟!”
سأله صلاح ليجيب شريف :-
” جهزت شقه لكما … ستبقيان بها حتى تنجب نانسي طفليها على خير… ”
أشار الى هايدي :-
” هايدي … ستخبرين والدتك بحمل نانسي وإنها ستبقى بضعة أشهر في الخارج وتحديدا في تركيا حيث بدأ صلاح العمل في فرع شركة صديق له هناك …”
أضاف مشيرا لصلاح هذه المرة :-
” نفس الشيء سأقوله أنا لوالدتي يا صلاح …”
أكمل بتحذير :-
” وإياك ثم إياك أن يلمحك أحدهم حتى تننهي الأشهر المحددة على خير ثم تظهران من جديد ومعكما الطفلين وقد مرت أشهر على ولادتهما …”
قال صلاح بعدم تصديق :-
” سأبقى مسجونا لشهور طويلة في تلك الشقة …”
هدرت هايدي :-
” وهل يمكنك أن تفعل غير هذا ..؟!”
قال صلاح من بين أسنانه :-
” لا يمكنني تحمل هذا الوضع يا شريف ..”
هتف شريف بتروي :-
” اصمت يا صلاح … هذه الطريقة الوحيدة لحفظ سمعتك أنت وزوجتك وطفليك القادمين أمام العائلة والجميع ….”
سألت هايدي بقلق :-
” ولكن ماذا لو شك أحدهم ..؟! يعني الطفلان سيكبران بإذن الله و ..”
قال شريف بجدية :-
” نانسي حاليا قاربت على إنهاء الشهر الخامس من الحمل .. زواجهما مر عليه حوالي شهرين .. ستقولين إنها حامل في شهر ونصف .. يعني حملت بعد الزواج فورا وسوف نبلغهم إنها أنجبت مبكرا أي في الشهر السابع .. ومن المفترض أن تنجب نانسي بعد أربعة أشهر ولكننا سننقل خبر الإنجاب بعد الولادة بشهرين أي سيكون هناك فرق شهرين وهذا لن يظهر عندما تعود نانسي مع الطفلين وقد تجاوزا الستة أشهر بإذن الله ..”
قال صلاح :-
” هذا يعني إننا سنقضي ما لا يقل عن عشرة شهور بعيدا عن العالم ..”
صاحت هايدي بنفاذ صبر :
” هذا كل ما يهمك … ألا يهمك وضع طفليك حتى ..؟!”
قال بعصبية مكتومة :-
” طفلاي اللذان فرضتهما شقيقتك علي ..”
اتسعت عينا هايدي بعدم تصديق لمدى حقارته ولا مبالاته بينما صاح شريف عليه بتنبيه ليقول صلاح بلا مبالاة :-
” أنا لم أقل شيئا خاطئا … كما إنك لا تتوقع مني أن أبقى حبيس الشقة لعشرة شهور وربما أكثر ..”
قال شريف :-
” لا حل آخر لدينا يا صلاح … لا يجب أن يراك أحدهم فينفضح سرنا .. ألا يكفي إنني حرصت أن أبعد جميع من يعرفنا في المشفى عن نانسي ولن أترك معها سوى اشخاص محدودين أعرفهم جيدا وأثق بأمانتهم … هذا غير قلقي من رؤية أحدهم لك خلال الفترة السابقة التي لا أعلم أين قضيتها ..”
هتف صلاح ساخرا :-
” يا لها من خطة رائعة … أبقى سجينا مع نانسي لشهور … أي عقل يقبل بشيء كهذا ..؟!”
انتفضت هايدي من مكانها تصيح به :-
” إنظر .. سأفقد ما تبقى من صبر لدي حقا .. أنت لا تمتلك ولو القليل من الضمير .. كم إنك شخص جاحد عديم الرحمة .. شقيقتي كانت ستفارق الحياة ولولا رحمة الله عليها ما كانت لتعيش …”
نهض صلاح مرددا ببرود :-
” وها قد عاشت .. الحمد لله على سلامتها .. ولكن هذا لا يعني أن أبقى حبيسا جوارها …”
قاطعته وهي تكاد تضربه بأول شيء تراه أمامها :-
” هذه مسؤوليتك .. الأمر يتعلق بسمعتك أيضا وسمعة طفليك ..”
تقدم نحوها يردد بأعصاب على وشك الإنفلات :-
” سأقولها مجددا .. هذان الطفلان مفروضان علي من قبل شقيقتك …”
هتفت هايدي بتحدي :-
” إسمعني يا صلاح .. إياك أن تفكر في ليّ ذراعي … قسما بربي إذا لم تتوقف عن حماقاتك وتحترم نفسك وتلتزم بما قرره شقيقك فسيكون لدي تصرف مختلف معك … ”
أكملت وهي ترفع إصبعها في وجهه بتهديد :-
” الى هنا ويكفي .. هذه المرة سأقف بنفسي في وجهك … ولن أتوانى عن تأديبك بالشكل الذي يناسبك .. لن يستطيع أحدهم منعي من ذلك ولن أضع إعتبار لأي شخص حتى الطفلين … والله سأجرك الى المحاكم وأجعلك عبرة لكل شاب دنيء عديم الأخلاق …”
” إفعلي ما تشائين .. إذا كنتِ تعتقدين إنني سأخاف تهديداتك فأنت مخطئة .. والدليل إنني سأخرج من هنا حالا … ولن أبالي بأي كلام سمعته منك وسأنتظر منك ما ستفعلينه معي ..”
كانت يتحدث بتهكم ولا مبالاة ليصيح شريف به :-
” لا تجن يا صلاح ..”
لكن صلاح غير مباليا بالفعل وهو يرفع كفيه أمام شقيقه مرددا :-
” أنا ذاهب يا شقيقي العزيز .. جميع مخططاتك تركتها لك .. نانسي والطفلان كذلك .. تولى أنت مسؤوليتهما إذا أردت أما أنا فلا علاقة لي بكل هذا الهراء .. وليريني كلاكما ما يمكنه فعله وكيف يمكنكما إجباري على ما لا أريده …”
ثم تحرك خارج وهو يرمق كلاهما بنظرات مستهينة لينظر شريف له بخيبة قبل أن يتوجه بأنظاره نحو هايدي لترمقه بنظرات متعالية تخفي خلفها شيئا ما لا يدركه سواها وهي تخبر نفسها بتحدي :-
” سنرى يا صلاح … أنت من بدأت وعليك أن تتحمل ما سيصيبك بسببي .. أنت لم تعرفني جيدا بعد ولكن ستعرفني قريبا .. قريبا جدا يا صلاح ..”
……………………………………………………
أوقف سيف سيارته داخل قصر عائلته ليشير الى جيلان أن تهبط ..
هبطت جيلان من سيارته بآلية لتتفاجئ بهول ضخامة القصر حولها والذي ذكرها لا إراديا بقصر عائلتها فنطقت بلا وعي :-
” هذا منزلك أقصد قصرك ..؟!”
رد بجدية :-
” نعم ، إنه قصر عائلتي ..”
نطقت بعدم إستيعاب :-
” أنت ثري جدا ..”
هتف بدهشة :-
” عفوا …!!”
تمتمت معتذرة :-
” آسفة … لقد تذكرت شيئا عندما رأيت قصر عائلتك …”
هز رأسه بتفهم ثم قال بجدية :-
” سندخل الى القصر .. لا يوجد سوى والدي ووالدتي غالبا في هذا الوقت … سأتحدث معهما بشأنك ..”
أكمل بتنبيه :-
” تجاهلي أي كلام ستسمعينه من والدتي في بادى الأمر … حسنا ..؟!”
نظرت له بقلق ليمنحها نظرة مطمأنة فهزت رأسها بصمت وأخذت تتبعه عندما فتحت الخادمة لهما الباب في دهشة من قدوم الإبن الأصغر في هذا الوقت على غير العادة ليحييها سيف بلهجة إنكليزية طليقة قبل أن يشير الى جيلان أن تدخل فترمقها الخادمة بنظرات متفحصة للحظات قبل أن تنتبه على سؤال سيف عن والديه فتجيبه عن مكان وجودهما وسط عدم إدراك جيلان لما يدور حولها فهي ما زالت لم تستيقظ بعد من صدمتها بكل ما يحدث معها …
أشار سيف الى جيلان :-
” إذهبي مع إيما الى الداخل وإنتظريني هناك ..”
هزت رأسها بطاعة وهي تتحرك مع الخادمة التي حدثتها بكلمات إنجليزية لم تفهم نصفها بسبب عدم تركيزها بينما تحرك سيف حيث تجلس والدته مع والده يرتشفان الشاي الأخضر في هذا الوقت من المساء في الشرفة الخارجية لصالة الجلوس المطلة على الحديقة الخارجية …
” مساء الخير ..”
قالها وهو يتقدم نحوهما لتضع شريفة كوب الشاي خاصتها على الطاولة وهي تردد بتعجب :-
” سيف … مالذي أتى بك في هذا الوقت ..؟! هل حدث شيء ما ..؟! تحدث ..”
قال سيف محاولا تهدئتا :-
” اهدئي يا شريفة هانم .. أتيتت لرؤيتكما لأجل شيء ما لكنه غير مقلق .. اطمئني …”
تنفست شريفة الصعداء بينما ابتسم كمال والده وهو يشير الى الكرسي جانبه :-
” تعال وإجلس جانبي يا ولد فأنا إشتقت إليك ..”
ابتسم سيف برزانة وهو يسحب كرسي له ويجلس عليه مرددا :-
” لقد كنت هنا منذ أربعة أيام … هل إشتقت إلي في هذه الفترة القصيرة يا بابا ..؟!”
ابتسم والده له بحنو بينما قالت شريفة بحزم :-
” تتحدث وكأنها أربعة ساعات يا سيف ..”
منحها سيف إبتسامةخفيفة سرعان ما إختفت وهو يردد :-
” دعوني أدخل في الموضوع …”
أضاف وهو يتأمل نظرات الإهتمام في عيني والده والحذر في عيني والدته :-
” هناك فتاة … مسكينة وجدتها بالصدفة …”
رفعت شريفة حاجبها تردد بعدم فهم :-
” عفوا .. ماذا تقول أنت ..؟!”
قال سيف بجدية :-
” فقط إسمعيني أولا .. الفتاة مسكينة وقاصر .. لا مأوى لديها .. تحتاج الى مساعدة .. الى مكان تبقى فيه … لقد أتيت بها الى هنا لإنه ..”
سرعان ما توقف وهو يسمع شهقة والدته التي تبعتها بإنتفاضة من مكانها تهدر به :-
” هل جننت يا سيف …؟! أين أتيت بها ..؟! ”
أشارت الى زوجها تضيف :-
” هل سمعت ما يقوله ولدك يا كمال ..؟! فتاة قاصر هنا في قصري .. فتاة الله وحده يعلم مالذي أودى بها الى هذه الحال ..؟!”
نهض سيف من مكانه يقول :-
” يا ماما … الفتاة مسكينة .. لقد وجدتها بالصدفة وانا من أصريت على عدم تركها لوحدها … ولإنه لا يمكنني أخذها الى شقتي كوني عازب فلم يكن لدي حل سوى أن آتي بها الى هنا …”
قال كمال بجدية :-
” اهدئي يا شريفة ودعينا نفهم اولا وضع الفتاة ..”
قال سيف بتروي :-
” يا ماما الفتاة صغيرة وبريئة … لم أكن أستطع أن أتركها في الشارع ..
سألته والدته بحنق :-
” وأين عائلتها ..؟!”
رد سيف بجدية :-
” هذا ما سأعرفه منها لكن عندما تستعد هي للحديث ..”
أضاف بتردد :-
” هي متعبة للغاية وتحتاج الى الراحة خاصة إنها حامل ..”
صاحت شريفة بصوت مرتفع :-
” ماذا ..؟! وحامل أيضا ..؟!”
ثم تقدمت نحوه تسأله بملامح متشنجة :-
” سيف يا ولد .. أنت لن تعبث في هذا السن بالتأكيدد..”
قاطعها كمال بحنق :-
” ما هذا الكلام يا شريفة ..؟! ابنك ليس من هذا النوع وأنت تعرفين ذلك جيدا …”
أضاف ينظر الى ولده :-
” بني سيف … من تلك الفتاة ..؟! وما حكايتها بالضبط ..؟!”
رد سيف بصدق :-
” يا بابا .. كل ما أعلمه إنها فتاة إسمها جيلان … في السابعة عشر من عمرها .. متزوجة وتحمل طفلا وعلى ما يبدو إنها هاربة من زوجها …”
جحظت عينا شريفة وهي تقول بحزم :-
” هذه الفتاة لا يمكن أن تبقى لحظة واحدة هنا .. ستغادر القصر حالا .. هل سمعت يا سيف ..؟!”
قال سيف برجاء :-
” ماما من فضلك .. الفتاة صغيرة ومسكينة … بالله عليك تفهمي الموقف ..”
لكن شريفة كانت مصرة وهي تضيف بإصرار :-
” هذا جنون يا سيف .. فتاة لا نعرف عنها شيئا هنا في القصر والأسوء إنها هاربة من زوجها وتحمل طفلا أيضا ..”
قال كمال بجدية :-
” خذ الفتاة الى جناح الضيوف يا سيف …”
ابتسم سيف لوالده عندما صاحت شريفة في زوجة :-
” مالذي تقوله يا كمال ..؟! انا لا أقبل بهذا ..”
قال كمال بدوره بصلابة :-
” وأنا لن أسمح لنفسي أن أترك فتاة صغيرة وحيدة في الخارج في هذا الوقت من الليل .. ستبيت هنا الليلة وصباحا سنتحدث معها ونفهم منها ما يحدث ..”
قالت شريفة برفض :-
” من فضلك يا كمال ..”
لكن كمال بدا أكثر صرامة وهو يردد:-
” قلت كلمتي وإنتهى يا شريفة … هل كلمتي باتت غير مسموعة في قصري ..؟!”
منحته شريفة نظرات نارية وهي تتحرك خارج المكان تتمتم بينها وبين نفسها ببعض الكلمات الحانقة بينما أشار سيف لوالده يشكره قبل أن يذهب الى جيلان التي كانت تجلس في احدى الغرف الجانبية وإيما تقف جانبها عندما أخبرها وهو يتقدم نحوها :-
” هيا يا جيلان .. سآخذك الى جناح الضيوف لترتاحي ….”
أكمل يحدث إيما يطلب منها أن تجهز الطعام لجيلان التي سارت أمامه حيث الطابق الثاني لتدخل الى جناح ضخم ذو تصميم وأثاث شديدين الفخامة والرقي فتسمع سيف يخبرها :-
” إرتاحي قليلا حتى تأتي إيما بالطعام لك …”
أكمل بجدية :-
” سأطلب من إحدى الخادمات أن تجلب لك بيجامة ترتديها بدلا من ملابسك هذه ..”
قالت جيلان بحرج :-
” لا داعي أن تتعب نفسك ..”
قال بصدق :-
” لا يوجد تعب ..”
أكمل بعدها :-
” شقيقتي الكبرى تأتي هنا وتبيت بين الحين والأخرى لذا فهي لديها ملابس دائمية هنا .. صحيح حجم الملابس سيكون كبيرا عليك نوعا ما لكن لا بأس ..”
هتفت جيلان بتردد :-
” ربما سترفض أن أرتدي ملابسها ..”
قال سيف مبتسما بتحفظ:-
” علياء لا تبالي بأشياء كهذه على الإطلاق ..”
أضاف وهو يتجه نحو للخارح :-
” سأتركك الآن وستأتي إيما بعد قليل ومعها الطعام والملابس …”
ثم تحرك خارج لتبقى جيلان لوحدها في الجناح الفخم تتأمله بصمت وقد ذكرها المكان لا إراديا بقصر عائلتها بسبب ضخامته ورقي تصميمه …
إستدارت الى الخلف تتأمل إنعكاس صورتها بالمرآة للحظات عندما انتبهت أخيرا الى ذلك البروز الضئيل في بطنها ليرتجف جسدها كليا دون إرادة منها …
لحظات وركضت حيث الحمام لتقف أمام المغسلة تغسل وجهها عدة مرات بالماء والصابون قبل أن تغادر الحمام بعدما جففت وجهها لتجد إيما أمامها تبتسم لها وقد وضعت لها صينية الطعام على الطاولة بينما هناك بيجامة أنيقة موضوعة على السرير ..
سألتها إيما إذا ما كانت تريد شيئا ما فهزت جيلان رأسها بنفي لتغادر إيما المكان فتبقى جيلان لوحدها عندما عادت رغما عنها تتأمل بروز بطنها بالمرآة …
مدت كف يدها المرتجفة فوق بطنها لتشعر بنبضات قلبها ترتفع بذعر …
هناك داخل بطنها يوجد طفل ..
تذكرت هذا فشعرت بالنفور يسيطر عليها …
نفور يصحبه خوف شديد ..،
خوف من مجهول ينتظرها بوجود هذا الطفل ..
مجهول لا تريد أن تعيشه ..
هي لا تريد هذا الطفل .. لا تريده ..
تحركت بخيبة نحو الكرسي المجاور للطاولة وجلست عليه تفكر إنه لا أمل لها بالخلاص من هذا الوضع ..
هذا الوضع الذي تمقته ..
ملأت الدموع عينيها عندما سقطت نظراتها لا إراديا فوق تلك السكين الموضوعة جانب الشوكة والملعقة بترتيب ….
إرتجفت ملامح وجهها وهي تنظر الى السكينة بتردد وبدأ عقلها يصور لها ما ينتظرها ..
ستجعل السكين تدخل في بطنها فيموت الطفل وتنتهي منه ..
هكذا صور لها عقلها ما سيحدث …
فكرت إنها ستتألم .. ستتألم كثيرا لكن لا بأس ..
سيذهب الألم بعد فترة … بعدما يتم مداواتها …
مهما بلغ مقدار الألم فلن يوازي ألم إنجابها لطفل لا تريده في هذا العمر ..
فجأة شعرت بأن حل المشكلة أصبح بسيطا ..
سارعت تحمل السكينة …
ورغما عنها إرتشعت أنامل ما إن لامست سطح السكينة الباردة لكنها ضغطت على نفسها وهي تتقدم بالسكينة نحو بطنها حتى لامس سطح السكينة المدبب قماش قميصها الرقيق فشعرت به ..
أغمضت عينيها بتأهب تكتم دموعا على وشك التساقط بينما عزمت أمرها على إختراق بطنها بالسكين ولكن قبل أن تفعل ما أرادته سمعت صوت طرقات على الباب فسقطت السكين من يدها بعدما أجفلها الصوت لتسارع برفعها ووضعها بعشوائية على الطاولة قبل أن تسمح للطارق بالدخول فوجدت سيف يدلف وهو يسألها بإهتمام :-
” هل كل شيء بخير ..؟!”
هزت رأسها بصمت وهي تكتم دموعها عندما أشار نحو الطعام :-
“إذا تناولي طعامك …”
أطاعته وهي تجلس على الكرسي مجددا ..
أخذت تتأمل الطعام بصمت قطعه وهو يسألها :-
” إذا ، ألن تتحدثي …؟!”
رفعت عينيها نحوه فظهر الخوف والتردد واضحا فيهما ليضيف بجدية :-
” تحدثي يا جيلان .. ربما يمكنني مساعدتك ..”
هزت رأسها نفيا وهي ترد على الفور :-
” لا أحد يمكنه مساعدتي .. ”
زفر أنفاسه ببطأ قبل أن يتسائل مجددا :-
” هل هربت من زوجك يا جيلان ..؟!”
ظهر الفزع على ملامحها ما إن نطق كلمة ” زوجك ” فحاول تهدئتها وهو يخبرها :-
” أنا يمكنني مساعدتك يا جيلان .. انا ضابط في الشرطة .. يمكنني مساعدتك بل وإنقاذك ممن تسببوا بالأذى لك …”
أضاف وعينيه تنحدران نحو بطنها :-
” والد الطفل هو زوجك ، أليس كذلك ..؟!”
إسترسل :-
” كم عمرك يا جيلان ..؟!”
نطقت بتردد :-
” سبعة عشر عاما ..”
تغضن جبينه برفض رغم إدراكه مسبقا إنها ما زالت قاصرا :-
” هذه جريمة .. كيف يزوجونك في عمر كهذا ..؟! كيف قبل والدك بهذا ..؟!”
هتفت بسرعة :-
” والدي متوفيا …”
ثم قضمت شفتيها بسرعة ليرفع حاجبه يسألها محاولا معرفة المزيد من المعلومات منها :-
” إذا من زوجك منه ..؟! هل والدتك …؟!”
رددت بأسى :-
” والدتي متوفية أيضا ..”
نظر لها بشفقة قبل أن ينهض من مكانه ويتجه يجلس جانبها لتبتعد لا إراديا فيقبض على كفها برفق يخبرها :-
” لا تخافي يا جيلان .. صدقيني انا لن أؤذيك أبدا … على العكس فأنا أريد مساعدتك ..”
أكمل وهو ينظر الى عينيها بإصرار :-
” تحدثي ياجيلان .. أخبريني مالذي حدث معك وجعلك تهريين .. أخبريني عن زوجك وكيف تزوجت به .. تحدثي وأعدك إنني سأساعدك …”
نطقت وهي تلعق شفتيها بتوتر :-
” سأتحدث لكن بشرط ..”
نظر لها بترقب لتضيف بتردد :-
” عدني ألا تعيدني إليهم مهما حدث … ”
صمت للحظات ثم قال :-
” أعدك …”
نطقت بعد لحظات :-
” قصتي طويلة .. لكن ما يجب أن تعرفه إنني ..”
توقفت للحظة بتردد لحظي سرعان ما أزاحته وهي تقرر التحدث ..
إخباره بما حدث .. لم يعد هناك مجال للإخفاء .. لم يعد هناك ما تخشى منه وما ستخسره … مالذي سيحدث أسوء بعد ..؟!
“انا تعرضت للإغتصاب ولهذا زوجوني الى ابن عمي رغم رفضي لذلك..”
جمدت ملامح سيف وهو يومأ برأسه كي تكمل فأضافت وهي تعض شفتيها :-
” ثم حدث بيننا شيء وحملت منه … لقد علمت بحملي متأخرا لإنهم أخفوا عني الأمر خاصة إن إبن عمي طلقني منذ مدة .. ”
أضافت بعدها :-
” انا لا أريد هذا الطفل ولا أريد عائلتي لإنهم خدعوني وإستغلوني كلا بطريقته .. لذا هربت منهم ولن أعود إليهم مهما حدث … ”
كانت تتحدث بجدية واضحة على ملامحها ..
جدية لا تقبل مزاجا …
تأملها بصمت مفكرا في حل لهذه المعضلة فالفتاة تبدو صادقة في حديثها والأهم إنها تبدو مصرة على قرارها في عدم العودة الى عائلتها فما الحل ..؟!
…………………………………..
كانت تقف في المطبخ تعد طعاما شهيا ….
تبتسم بسعادة باتت تعيشها منذ اللحظة التي تلا على مسامعها ذلك الإعتراف …
إعتراف تمنته لشهور طويلة ونالته أخيرا …
إعتراف نالته من الرجل الذي أحبته .. صاحب الخفقة الأولى … أول حب في حياتها والأخير..
كل شيء تغير بعد ذلك الاعتراف ..
هي تغيرت وكذلك هو .. وكأن هناك حاجز ما بينهما تم تجاوزه … وكأن هناك شفرة ما تخصهما واحدة باتت معروفة لكليهما ..
هي أصبحت منطلقة .. سعيدة وكأنها تلمس النجوم بين كفيها …
وهو أيضا تغير .. لقد بدا مرتاحا أكثر من أي وقت .. بدا وكأنه تحرر من شيء ما كان يثقل كاهله …
سمعت صوت الباب يفتح فتركت ما في يدها وركضت بفرحة نحوه ليتلقاها بين أحضانه يعانقها بلهفة مماثلة وهو يحملها بقامتها ذات الطول المتوسط فتضحك وهي تهمس له بشوق لم تعد تتردد وهي تصرح به :-
” إشتقت لك …”
شدد من عناقها وهو يهمس لها بتلك الكلمة التي بات يستخدمها لمناداتها بدلا من إسمها منفردا :-
” حياتي …”
باتت حياته …
هكذا أخبرها وهو يؤكد إن ياء الملكية تلك لن تفارق إسمها بعد الآن ….
يريد أن يثبت ملكيته لها بهذه الطريقة وهو لا يدري إنه إمتلكها منذ أول نظرة ألقتها على صورته …
إمتلك كل إنش فيها دون رحمة …
أبعد وجهه قليلا عنها يقبل طرف أنفها ثم شفتيها لتبادله قبلته بحب قبل أن تتذكر أمر الطعام فصاحت بتذكر :-
” الطعام يا نديم …”
ثم تحررت من بين ذراعيه وركضت بسرعة نحو المطبخ حيث سارعت تقلب الطعام يتبعها هو مرددا بتسلية :-
” هل أطلب طعام من الخارج بدلا من تناول طعام محروق …؟!”
رمقته بنظرات محذرة ليكتم إبتسامته بصعوبة فتخبره بحزم :-
” ساعدني في تجهيز المائدة…”
قال مبتسما بخفة :-
” أمرا وطاعة يا حياتي …”
كتمت إبتسامتها وهي تبدأ بصب الطعام وهو يساعدها كما طلبت بتجهيز المائدة عندما جلسا يتناولان الطعام وهما يتبادلان الأحاديث العامة حيث تثرثرهي له عن يومها في الجامعة فيستمع هو لها بإهتمام وتستمع هي كذلك …
انتهيا من تناول الطعام فجلس هو في صالة الجلوس بعدما ساعدها في تنظيف المائدة تاركا إياها تعد الشاي لهما ..
تقدمت له بعد قليل وهي تحمل كوبي الشاي في يدها ليلتقط خاصته منها ويشكرها قبل أن تجلس هي جانبه فيحيط كتفيها بذراعيه ويتناول كلاهما الشاي بصمت ..
كان جوا عائليا محببا لحياة ورغم إنها عاشت هذه الأجواء مسبقا لكن هذه اليومين شعورها مختلف ..
فهذه الزيجة توجت بالحب المشترك بينهما إضافة الى طفلهما القادم …
نعم هي حامل .. لقد علمت ذلك في نفس اليوم الذي نالت فيها إعتراف بالحب منه وكأن ذلك الطفل الذي تكون داخلها كان تميمة حظها ….
ارتشفت من الشاي خاصتها عندما سمعته يهمس لها :-
” إشتقت لك …”
ضحكت برقة وقد باتت تفهم ما يريده عندما ينطق هذه الكلمتين بتلك النبرة الخاصة .. نبرة مختلفة مليئة بالشوق الذي لا ينضب ..
وضعت الشاي على الطاولة ليجذبها نحوه يقبلها بشغف بادلته إياه حينما حملها بين ذراعيه يتجه بها نحو غرفتهما يمنحها العشق والشغف ..
بعد مدة من الزمن كانت تتوسد صدره لتسمعه يهمس وهو يعبث بخصلاتها القصيرة:-
” ما رأيك أن نخرج ..؟!”
رفعت وجهها تخبره بدهشة :-
” الساعة تعدت الثانية عشر صباحا يا نديم …”
رد بعدم اهتمام :-
” وأين المشكلة …؟!”
أكمل وهو يغمز لها :-
” نتجول في الخارج قليلا …”
ابتسمت برقة وهي تهز رأسها موافقة قبل أن ينهضان بحماس لتأخذ حماما سريعا يتبعها هو ثم يرتديان ملابسهما ويخرجان …
………………………………………………………..
كانت تجلس بجانبه في سيارته الجديدة تنظر إليه بنظرات خلسة قبل أن تتجه بأنظارها مجددا بإتجاه النافذة تتطلع الى الشوارع الشبه مظلمة والهادئة نوعا ما في هذا الوقت من المساء حيث تجاوزت الساعة الواحدة صباحا ورغم هذا خرجا سويا كما أراد هو ..!!
وجدته يصف سيارته أمام أحد المقاهي الراقية عندما إستدار نحوها يسألها بإهتمام :-
” هل نهبط من السيارة ..؟!”
هزت رأسها موافقة عندما هبط كلاهما من السيارة فوجدت يده تعانق كف يدها بتملك باتت تشعر به في كافة تصرفاته الأخيرة عندما سارت جانبه حيث دخلا الى المقهى وإختارا إحدى الطاولات التي تقع بعيدا قليلا بجانب نافذة واسعة تطل على الحديقة الخارجية والتي تضيئها إنارة خافتة تمنح المكان في الخارج جوا حميميا مميزا …
” هل أعجبك المكان ..؟!”
سألها مهتما عندما اومأت برأسها وهي تجيب بصدق :-
” إنه رائع ..!!”
إبتسم بهدوء عندما أشار الى النادل الذي تقدم نحوهما يسألهما :-
” ماذا تحبان أن تتناولان …؟!”
نظر إليها بتساؤل لتجيب بجدية :-
” شراب الحليب بالشوكولاتة من فضلك ..”
قال نديم بدوره :-
” وأنا أريد قهوة معتدلة الحلاوة ..”
ثم سألها مجددا :-
” ماذا تريدين أن تتناولي الى جانب المشروب ..؟!”
ردت بهدوء :-
” لا شيء .. لا أشعر بالجوع …”
” هذا فقط ..!!”
قالها نديم الى النادل الذي إبتسم بلباقة وهو يغادر عندما هتف منتبها:-
” أصبحت لا تتناولين القهوة أبدا كعادتك …!!”
إبتسمت مرددة بحذر :-
” أحاول التقليل منها فهي ليست صحية …”
” معك حق ..”
حل الصمت المطبق بينهما … جاء النادل ووضع المشروبات أمام كليهما وكلاهما يلتزمان الصمت حتى بدئا بتناول المشروبات …
رددت حياة وهي تضع كوبها فوق الطاولة مجددا :-
” سأقول شيئا ولكن لا تتضايق مني ..”
قال بصدق :-
” انا لا يمكن أن أتضايق منك يا حياة وحتى إن فعلت فإنني لا أتضايق منك سوى قليلا ثم سرعان ما يتبخر ضيقي فورا ببساطة مغيظة …!!”
مطت شفتيها تردد :-
” مغيظة …”
ابتسم مرردا بجدية :-
” نعم مغيظة .. عندما لا أستطيع مخاصمتك ليوم واحد حتى بينما أنتِ تخاصمينني لأيام بكل برود فهذا يجعل الأمر مغيظا بالنسبة لي ..”
قالت بسرعة تدافع عن نفسها :-
” انا لم أخاصمك لعدة أيام إلا مرة أو مرتين …”
هز كتفيه مرددا ببساطة :-
” لإنني أسارع لمصالحتك في كل مرة نتخاصم فيها أما أنتِ ..”
توقف للحظة ثم قال بنظرة خرجت مؤنبة رغما عنه :-
” لا تحاولين مصالحتي أبدا ولا تهتمين أبدا عندما نتخاصم ..”
قالت بسرعة :-
” يتهيأ لك .. انا طوال فترة خصامنا أحترق غضبا وحزنا … ربما لا أظهر هذا لك متعمدة لكنني أصبح أتعس شخص على وجه الأرض عندما نتخاصم …”
ابتسم يسألها بمشاكسة :-
” حقا ..؟!”
منحته إبتسامة واسعة أبرزت غمازتيها عندما حملت كوبها ترتشف مشروبها الدافئ بتلذذ …
سمعته يسألها :
” ماذا كنت ستقولين منذ قليل ..؟!”
” نعم تذكرت ..”
أضافت :-
” لقد قابلت ليلى ..”
نظر لها بإنصات لتضيف بحذر :-
” إنها لطيفة جدا …”
هز رأسه مرددا بحذر :-
” نعم .. هي كذلك بالفعل ..”
ابتسمت له وهي تقول :-
” لماذا تغيرت ملامح وجهك … ؟! ”
تنهد وهو يقول :-
” أخشى قول شيء قد تفسرينه بشكل خاطئ …”
أضاف بجدية :-
” ولكن لدي فضول لأعرف كيف ومتى إلتقيتما …؟!”
ردت بجدية :-
” إلتقينا وتحدثنا قليلا .. كان حديثا عاديا ..”
أرادت أن تخبره عما فعلته ليلى وإنها كانت سببا لكشف نوايا عمار لكنها ترددت فهي لا تدرك إذا ما كانت ليلى تتقبل معرفة نديم بالأمر أم لا …!!
إسترسلت تبتسم له بخفة :-
” انا لن أنزعج عندما تتحدث عن ليلى يا نديم …”
أكملت تحجم غيرتها بقوة :-
” مهما حدث تبقى هي ابنة خالتك وخطيبتك سابقا وبينكما عشرة طويلة … هذا غير ما فعلته معك والذي لا يقدر بثمن ..”
عاد التجهم يغزوه عندما تطرقت الى هذه النقطة فإبتسم مجددا وهو يوافقها حديثها بصمت …
أكمل ثرثرته معها حتى مرت أكثر من ساعة على جلوسهما فقررا مغادرة المكان والتوجه الى البحر حيث جلسا على إحدى المصطبات أمامه كما إعتادا أن يفعلا ..
كل شيء كان مثاليا فشعرت إنه الوقت المناسب لتخبره عن حملها …
ورغم إنها كانت تنوي تجهيز مفاجأة خاصة لإخباره لكن فجأة وجدت داخلها رغبة قوية تلح عليها أن تخبره الآن بهذا الخبر المميز لكليهما بل يكاد يكون أسعد خبر سمعته طوال حياتها …
” بم تفكرين ..؟!”
أفاقت من أفكارها على سؤاله فردت بإبتسامة خافتة :-
” لا شيء … ”
” لا تكذبي .. أعلم إنك تفكرين بشيء ما .. شيء مهم أيضا …”
رفعت حاجبها تردد بعدم تصديق :-
” في الفترة الأخيرة أصبحت أشعر إنك تقرأ مشاعري و …”
قاطعها وهو يركز نظراته عليها :
” أنا لا أقرأ مشاعرك يا حياة .. انا فقط أشعر بك وأفهم عليكِ من نظرة أو تقطيبة بسيطة … ”
نظرت له بدهشة ليضيف وهو يجذب كف يدها يقبض عليه بكفه :-
” ألم تدركِ بعد إنني أصبحت أحفظك كخطوط يدي فأشعر بك عندما تحزنين أو تقلقين ..؟! أفهمك من لمعة عينيك عندما تفرحين ومن إختفاء بريقهما المتوهج عندما تحزنين ومن تقطيبتك الواضحة عندما تحتارين …”
شعرت بمشاعرها تتوهج كليا ومعدتها تتقلص داخلها رغما عنها فترمي بجسدها داخل أحضانه بعشق يتملكها دون رحمة ليحاوط جسدها بذراعيه مقربا وجهه من شعرها يتنفس عطرها الدافئ بينما تغمض عينيها بإستسلام وكفي يديها يمتدان نحو بطنها حيث تمكث تلك القطعة الصغيرة التي تخصه داخل رحمها فتشعر برغبة شديدة أن تخبره في هذه اللحظة تحديدا بوجود طفله القادم هنا ..!!
همس لها بصدق من بين أعماقه :-
” أحبك يا حياة …”
إرتعشق جسدها كليا عندما تمتمت أخيرا بخفوت :-
” انا حامل ….”
شعرت بتخشب جسده الذي يحتضنها بينما سيطر الصمت عليه كليا لتهمس بتردد :-
” نديم …”
نطق أخيرا بجسد مرتجف :-
” أنت حقا حامل …؟!”
اومأت برأسها بعدما إبتعدت من بين أحضانه تخبره وهي تبتسم له برقة وحب :-
” نعم حامل …”
ثم وضعت كفها فوق بطنها تضيف بنفس الإبتسامة السعيدة :-
” أحمل طفلنا يا نديم …”
تأمل نديم بطنها ولم يستطع تفسير شعوره في تلك اللحظة …
السعادة التي شعر بها لا مثيل لها ..
سعادة لا تقدر بثمن …
في داخل رحم حياة كانت هناك قطعة منه تنمو داخله ..
قطعة تمثل حياة جديدة قادمة إليه .. حياة تخصه وحده وتنتمي إليه …
في بادئ الأمر دخلت حياة الى حياته ومنحته حياة جديدة بوجودها معه واليوم هناك حياة أخرى تنمو داخل حياته الأولى في رحمها …
حياة قادمة ينتظرها بلهفة رجل يجرب شعور كالذي ينتظره لأول مرة …
منحها نظرات أبلغ من أية كلمات فهي حياته التي أحييته بعد سنوات وداخلها توجد حياة جديدة ستشرق شمسها قريبا وتنير حياته كما أنارت شمس والدتها حياته مسبقا …
كانت ليلى ممددة فوق سريرها تتأمل السقف بشرود تام فهذه حالتها منذ عودتها من العشاء الذي جمعها بكنان والذي إنتهى بموافقتها على عرض الزواج الذي قدمه مجددا لها …
منذ عودتها وهي على هذه الحال …
أخذت حماما سريعا ثم إرتدت أحد قمصان نومها وتمددت على سريرها لتغرق في أفكارها دون توقف ..
حتى هذه اللحظة لا تعرف كيف وافقت ولم وافقت ..؟!
حتى هذه اللحظة لم تستوعب بعد ما تفوهت به …؟!
ربما عليها أن تعترف إنها في تلك اللحظة كانت تبحث عن شيء ما مبهم …
ربما تبحث عن إستقرار أو طوق نجاة ينتشلها من ذكريات الماضي التي ما زالت تحيط بها من كل إتجاه ..!!
ربما هي تأمل أن يحررها هذا الإرتباط من ذلك الماضي وتلك المشاعر المؤلمة التي باتت غير قادرة على مسايرتها وتجاهلها …!!
ربما هي تريد بداية جديدة على وعسى تنجح فيها وتنسى ذلك الماضي بكل ما فيه ..
هي تعلم جيدا إنها تستحق السعادة ..
تستحق أن تحيا وتتزوج وتستقر وتنجب أطفالا …
تستحق أن يكون لديها عائلة كبيرة وجميلة ..
زوج وأطفال وحياة لطيفة …
هي تستحق كل هذا …
لا تنكر إن موافقتها كانت صادمة حتى لها فهي وجدت نفسها بعد تفكير قصير تصرح بقبولها عرضه وما تلا ذلك كان سيء ..
فهي بعدما صرحت بموافقتها شعرت بالتخبط مجددا والقلق مما هو قادم ..
القلق شيء لا بد منه فهي تعلمت من تجاربها السابقة آلا تبني أمالا على شخص ما او تجربة معينة …
أغمضت عينيها بوهن تتسائل مجددا إذا ما كان قرارها خاطئا فيأتيها الجواب صريحا ، هي تعجلت في الموافقة ولكن لم يعد هناك مجال للتراجع …
إعتدلت في جلستها وهي تتأمل الفراغ أمامها بتفكير ..
تطرح على ذاتها سؤالا صريحا واضحا …
هل هي مستعدة للزواج مجددا..؟! والأهم هل هي مستعدة للزواج من كنان ..؟!
” كنان ..”
نطقت إسمه بخفوت بينما أخذ عقلها يراجع ما جمعها به حتى الآن ..
هو شاب ذكي وقوي وجذاب ..
معتد بنفسه جدا ..
يمتلك نزعة من التسلط والغرور واضحة ..
لبق وذو شخصية تتميز بالرقي …
ارستقراطي بالفطرة …
ثري جدا جدا …
لكن هل هذا يكفي لتكون زوجته ..؟!
أخذت تتخيل نفسها زوجة له .. تتزوج من كنان .. تعيش معه …
تتشارك حياة كاملة معه وتنجب أطفالا منه ..
شردت في تخيلاتها فوجدت نفسها ليست نافرة من الفكرة حتى لو لم تكن متحمسة جدا او سعيدة ومتلهفة لحياة قادمة معه …
أليست هذه بداية جيدة ..؟!
فهي رغم كل شيء تمتلك قبولا ناحيته ..
وهناك العديد من الزيجات تتم على مبدأ القبول …
هي لا تنفر منه وتشعر بالقبول عموما ناحيته وهو يريدها …
يريدها بشدة … يريدها كثيرا ويعدها بحياة مثالية …
لماذا لا تخوض التجربة إذا ..؟!
لماذا لا تحاول فتح صفحة جديدة معه ..؟!
ما أسوء شيء قد يحدث بعدها ..؟!
هي تتوقع أي شيء بل باتت تتوقع الأسوأ دائما ..
في النهاية هذه الزيجة هي تجربة ستخوضها وإن فشلت فلن تؤثر عليها كثيرا … هي مرت بتجربة سابقة قاسية ومرهقة ومهما بلغت صعوبة التجربة الجديدة فلن تكون بقدر صعوبة وألم التجربة السابقة …
إبتسمت بتهكم على الحال الذي وصلت إليه وإلى أي درجة بدت بائسة تماما وهي تفكر بهذه الطريقة لكن لا حل آخر لديها ..
هي يجب أن تحاول على الأقل ..
تحاول التحرر من الماضي ومشاعرها القديمة ..
تحاول بدء حياة جديدة مع رجل جديد ..
إذا بقيت على أمل أن تتشافى من جروحها ربما ستمر السنوات دون جديد ..
ستدفن نفسها في ذلك الماضي ..
أين الخطأ في محاولتها هذه ..؟!
ربما تجد ملاذها في هذه الزيجة ..
ربما تستقر حياتها كما تتمنى ..
شعرت بقليل من الراحة تستوطن قلبها وهي تفكر بهذه الطريقة ..
هي لا تمنح نفسها مبررات لقبولها هذا العرض .. إطلاقا ..
هي تقول الحقيقة ..
هي تحتاج الى بداية جديدة ونظيفة …
هي تستحق بداية جديدة وعرض الزواج هذا جاء كفرصة ستتمسك بها علها تكون بداية جديدة حقيقية لها …
نهضت من فوق سريرها و اتجهت نحو الشماعة تسحب الروب الخاص بقميص نومها فترتديه فوق القميص القصير بحمالاته الرفيعة ..
تحركت خارج الغرفة بخطوات هادئة حيث إتجهت الى غرفة والدتها التي تستقر بها لوحدها منذ فترة ..
طرقت على الباب بخفة ليأتيها صوت والدتها تسمح لها بالدخول وعلى ما يبدو كانت تنتظر مجيئها لها رغم مرور حوالي ثلاثة ساعات على عودتها الى المنزل ..
فتحت الباب ودلفت الى الغرفة لتجد والدتها تتوسط سريرها وفي يدها كتاب تقرأه عندما أشارت لها وهي تبتسم :-
” تعالي يا ليلى …”
تقدمت ليلى نحوها تخبرها :-
” أردت التحدث معك قليلا ..”
حافظت والدتها على إبتسامتها وهي تتحرك قليلا الى الجانب:-
” تعالي وإجلسي وتحدثي كما تريدين …”
ابتسمت ليلى بصفاء وهي تجلس جانب والدتها لتهمس لها :-
” انا وافقت على عرض الزواج …”
اختفت ابتسامة والدتها للحظات بسبب دهشتها مما سمعته لكنها عادت وإبتسمت مجددا وهي تسأل بنفس الدهشة :-
” حقا يا ليلى ..؟!”
هزت ليلى رأسها بصمت لتسألها والدتها مجددا :-
” هل أنت متأكدة من قرارك…؟!”
صمتت ليلى ولم تجيبها فتنهدت والدتها ثم قالت بتفهم :-
” كنت أتوقع هذا .. ”
أكملت بحذر :-
” لماذا لم تنتظري قليلا …؟! لم الإستعجال يا ليلى ..؟!”
” ماذا سأنتظر ..؟!”
سألتها ليلى بدورها ثم أكملت :-
” مالذي سيتغير بعد شهر او شهرين او حتى عامين وعامين ..؟! ”
صمتت والدتها ولم تعلق لتكمل ليلى :-
” لا شيء يتغير … السنوات تمر وانا ثابتة مكاني دون أن أخطو خطوة واحدة … لقد ضاعت سنوات كاملة من حياتي .. سنوات ضاعت هباءا وأنا تقبلت ذلك بصمت ولكنني لست مستعدة أن أسمح لسنوات أخرى من عمري أن تضيع مجددا … السنوات تمر يا ماما دون تقدم يخصني …”
قبضت فاتن على كفها تخبرها بصدق :
” حبيبتي .. أنا أكثر واحدة أريدك أن تعيشين حياتك وتنسين الماضي … أنا أكثر شخص يريدك أن تتزوجي وتستقري مع رجل يحبك ويحترمك .. ولكن هذه السرعة تقلقني … خاصة إنك تبدين غير واثقة تماما من قرارك ..”
قالت ليلى بصدق :-
” نعم أنا غير واثقة من قراري لكنني واقعيا لا أستطيع تحديدا ما أريده او ما هو الأفضل لي … من جهة أقول لنفسي إنتظري قليلا فربما الزمن يداوي جروحك وحينها تتعرفين على شخص جديد وأنت خالية من جروح الماضي ومن جهة أخرى أرى في هذه الزيجة فرصة لبدء حياة جديدة عسى ولعل من خلالها أستطيع تخطي الماضي وأحظى بحياة هادئة ومستقرة كما تمنيت دائما .. انا عاجزة عن الثبات على أحد الخيارين فكليهما يبدو لي منطقيا … انا واقفة في المنتصف ولا أعرف كيف أتصرف …؟! ”
” لكنك إخترت الخيار الثاني … رغم ترددك إخترتي الزواج مجددا … مع إنه كان بإمكانك إختيار الأول والإنتظار لفترة ما والتريث .. ”
قالتها والدتها بجدية وهي تكمل :-
” ما السبب الذي دفعك لهذا الإختيار ..؟! لماذا إخترت المضي في حياتك ودخول تجربة جديدة بسرعة …؟!”
تنهدت ليلى وهي تجيب :-
” لا أعلم .. لم أجد سببا محددا ولكن ما أعلمه إنني عندما وجدته يعرض الزواج علي مجددا بل ويصر عليه شعرت برغبة فالقبول .. شيء ما داخلي دفعني لأقول موافقة ..”
” والآن ..؟؟ بعد إعلان موافقتك .. هل تشعرين إنك إستعجلت في الموافقة .,؟!”
نظرت ليلى الى والدتها بحيرة لتقول والدتها :-
” دعكِ من هذا السؤال .. أخبريني عن كنان .. كيف ترينه ..؟!”
ظهر الإرتباك على ملامح ليلى التي أجابت بعد ثواني :-
” قوي .. ذكي … وسيم أو بالأحرى جذاب أكثر مما هو وسيم … ”
تنهدت بصمت ثم إسترسلت :-
” لا أعرف ما يجب قوله ولكنه يعتبر عريس مثالي لأي فتاة ..”
قاطعتها والدتها برفق :-
” دعكِ من صفاته العامة .. نعم هو عريس ممتاز ولكن دعينا نتحدث عن وجهة نظرك فيه او بالأحرى عن مشاعرك نحوه ..؟!”
أضافت بحذر :-
” لا أتحدث عن مشاعر الحب لإنني أعرف إنك لا تحملين هذا النوع من المشاعر نحوه حاليا على الأقل ولكن أتحدث عن شعورك عندما ترينه أو تتحدثين معه …”
همست ليلى بخفوت :-
” يوترني …”
تغضن جبين والدتها التي أنصتت لها بإهتمام :-
” يوترني كثيرا .. ربما بسبب شخصيته … هو ذو شخصية قوية وثابتة بشكل مغيظ ومتحكم أيضا .. عندما أتحدث معه أشعر بنفسي عالقة بين كلامه المنمق والحازم في نفس الوقت … ثقته بنفسه تشتتني رغم إنها تثير إعجابي … كلماته الهادئة والقوية في نفس الوقت تجعلني مترددة دائما … دائما ما يملك هو زمام الأمور ويجيد تدوير أي نقاش لصالحه .. يعرف كيف يجعلني صامتة عاجزة عن مجاراته في حديثه الهادئ الرزين …”
تأملت والدتها التي تتأملها بإهتمام وتستمع لها بإنصات لتضيف بحرج :-
” في الحقيقة أشعر بقليل من الإنجذاب نحوه … يعني ليس إنجذابا قويا لكنه يستطيع أن يسيطر علي كليا بمجرد حضوره … عندما أكون معه لا أجد الفرصة للتفكير بشيء سواه .. هو يمتلك حضور طاغي حقيقة ..”
أنهت كلماتها أخيرا لتسأل والدتها :-
” ما رأيك فيما سمعته ..؟؟”
أجابت والدتها :-
” ما سمعته جيد للغاية … يعني وجود إنجذاب منك ناحيته حتى لو قليل فهو بداية مبشرة ..”
نظقت ليلى بحرص :-
” وأنا فكرت هكذا ووجدت إنها فرصة لي … فأنا أيضا أبحث عن الإستقرار والسعادة وهو يبدو جيدا ومناسبا جدا لما أريده …”
سألت والدتها مجددا بتردد :-
” هل هناك سببا آخرا …؟! مثلا خوفك من مرور الزمن دون الإستقرار وتكوين عائلة..؟! ”
ارتجفت ملامح ليلى كليا وهي تسمع ما قالته والدتها لتجيب بملامح جامدة :-
” وهل هذا خطأ..؟! هل من الخطأ أن أفكر بهذه الطريقة ..؟!”
” نعم يا إبنتي .. ليس خطئا ولكن لم العجلة أيضا ..؟! إنظري من حديثك عن كنان يبدو مناسبا لك وهناك انجذاب عمومي منك نحوه فلماذا لا تمنحين نفسك الفرصة للتعرف عليه أكثر … تتعرفين عليه عن قرب وتتأكدين من توافقكما تماما … مالذي يجبرك على الزواج منه بهذه السرعة ..؟!”
أجابت ليلى بجدية :-
” لإنني بحاجة الى شيء ما يحرك هذا الركود الذي أعيش به .. لإنني أخاف أن أرفض طلبه فأندم فيما بعد عندما تمر السنوات وأنا باقية مكاني .. لإنني لست واثقة من قدرتي على التخطي بعد .. لإنني أريد حياة جديدة مع شخص جديد عسى أن تكون بداية جديدة لي وخطوة جيدة لحياتي القادمة .. ”
صمتت لوهلة ثم قالت بصوت مبحوح :-
” أو ربما لإنني أريد أن أصبح أما …”
تجمدت ملامح والدتها بصدمة مما تسمعه لتضيف ليلى بهدوء :-
” أريد أن يكون لدي أطفال .. أريد تكوين عائلة .. أريد الإستقرار.. أريد أطفالا يا ماما ….”
أخذت نفسا عميقا ثم أكملت :-
” أنا أستحق أن أحيا حياة مستقرة مع زوج محترم وأطفال رائعين …”
همست والدتها غير مستوعبة بعد ما سمعته على لسان إبنتها فهي لم تتوقع أن يكون هذا السبب الذي دفعها لقبول عرض الزواج :-
” بالطبع تستحقين يا صغيرتي ولكن ما زال الوقت مبكرا .. يمكنك الإنتظار قليلا ..”
ردت ليلى بنبرة قاطعة :-
” مالذي سأنتظره يا ماما …؟! سأنتظر أن أحب مجددا … هل سأعيش على أمل دخول شخص جديدا في حياتي يجعلني أقع في غرامه ..؟!”
أكملت وهي تبتسم برضا :-
” أنا لم أعد تلك الفتاة التي تبحث عن حبيب منشود … كنان رجل جيد جدا بل هو حلم لكل إمرأة .. رجل مثالي كما يرى الجميع .. هو حتى يفوقني ثراءا ومكانة اجتماعية … رجل يليق به أن يكون أبا لأطفالي … ماذا سأريد أكثر ..؟!”
تنهدت والدتها ثم عادت تبتسم مرددة :-
“أنت تعلمين إنني أثق جيدا بك وبعقليتك وصحة قرارتك …”
ثم أضافت بخفوت :-
” وبيني وبينك هناك سبب آخر يخبرني إن قرارك هذا سيكون صحيحا بإذن الله …”
عقدت ليلى حاجبيها تسأل :-
“أي سبب ..؟!”
ردت وهي تبتسم بهدوء :-
” تظرتك له … أنت تنظرين له بشكل مختلف … ”
تنهدت ثم شرحت مقصدها :-
” مثلا عندما تقدم زاهر لخظبتك رأيت الرفض واضح في عينيك وعلى ملامحك … جسدك كان ينطق بالرفض وعدم القبول .. لكن الآن لم أرَ رفضا كالذي رأيته عندما أراد زاهر خطبتك كما إنني سمعت كلاما مختلفا تماما عن الذي سمعته منك وقتها … وقتها كل جزء منك كانت ينطق بالرفض أما الآن فأجد قبولا واضحا وهذا الفرق يبدو لي مهما …”
تنحنحت ليلى بحرج لتمد فاتن كفها وتقبض به على كف ابنتها تسحبها وتضعها فوق موضع قلبها تخبرها وهي تبتسم بطمأنينة :-
” كما إنني رغم عدم رضاي عن عجلتك بالقبول لكن قلبي مطمأن .. سبحان الله قلبي مطمئن يا ليلى بشكل لا أفهمه … أنا أثق بحدسي .. انا والدتك … بإذن الله ستكون هذا التجربة لصالحك … توكلي على الله يا ابنتي ولكن إسمعي ما سأقوله …”
نظرت لها ليلى بإنصات لتهتف والدتها بصوت متحشرج :-
” صلي صلاة الإستخارة يا ليلى قبل أن تحددين موعدا لقدومه … صلي يا إبنتي كي يهديكِ الله الى الصواب و كي يطمئن قلبي وقلبك وقتها تماما يا صغيرتي …”
ابتسمت لها بهدوء وهي تهز رأسها موافقة على حديثها …
…………………………………………………
في صباح اليوم التالي ..
في قصر آل نعمان …
كانت شريفة تتناول طعام الإفطار مع زوجها في الشرفة كعادة ملازمة لهما منذ وقت طويل …
تأمل كمال ملامحها المتجهمة منذ ليلة البارحة فقال بخفة :-
” ألن تتخلي قليلا عن هذا التجهم الذي يسيطر على ملامحك منذ ليلة البارحة ..؟!”
تنهدت مرددة بحنق :-
” هل أعجبك تصرف ولدك …؟! يجلب فتاة غريبة الى هنا …”
قال كمال بجدية :-
” أليس أفضل من أن يتركها وحيدة في الخارج … ؟! تصرفه كان شهما يا شريفة .. وانا فخور بما فعله …”
تمتمت شريفة بضيق :-
” الفتاة متزوجة يا رجل وحامل أيضا .. هاربة من زوجها .. ربما تتسبب لإبنك بمشاكل هو في غنى عنها …”
قال كمال بهدوء :-
” أيا كان .. سيف رجل قوي .. لا تخافي عليه .. هو يستطيع تدبر أمره جيدا …”
قالت شريفة بعدم تصديق :-
” برودك يا كمال سيصبني بالجلطة يوما ما ..”
ثم توقفت عن حديثها وهي تشاهد إبنها الأكبر يتقدم نحوها وإبتسامة عريضة مرتسمة على شفتيه فتهتف بدهشة من قدومه في هذا الوقت :-
” كنان ..!!”
” صباح الخير …”
قالها كنان وهو ما زال محتفظا بإبتسامته ثم إنحنى معانقا والده قبل أن يتجه نحو والدته فيقبل كفها بحركة تحبها والدته للغاية قبل أن يقبلها من وجنتيها وهو يردد :-
” كيف حالكما …؟!”
ردت شريفة بخفوت :-
” بخير الحمد لله …”
سحب كنان كرسيا له وجلس عليه مرددا وهو يتأمل المكان حوله :-
” حقا إشتقت لتناول الإفطار هنا معكما …”
قال كمال بجدية :-
” أنت من إخترت الوحدة يا بك … ”
قاطعته شريفة تسأل ولدها بإهتمام جلي :-
” مالذي أتى بك في هذا الوقت المبكر يا كنان ..؟؟ هل هناك مشكلة ما ..؟!”
قال كنان مبتسما :-
” إشتقت لكما فقلت لأمر عليكما قبل ذهابي الى الشركة …”
تأمله والده بصمت بينما عقدت شريفة حاجبيها تهتف بتهكم :-
” منذ متى وأنت تشتاق لنا ..؟! في العادة لا نراك سوى مرة واحدة كل عدة أيام …”
قال كنان بملامح منشرحة :-
” بالله عليك لا تبدئي الآن .. لقد أتيت لتناول الفطور معكما فلا تجعليني أندم على مجيئي …”
أشار كمال الى زوجته :-
” أخبري الخادمة أن تجهز القهوة لكنان كما يحبها …”
هزت شريفة رأسها بصمت ثم نهضت واتجهت نحو زوجها تهمس لها :-
” سأرى ولدك الذي لم يستيقظ حتى الآن وأفهم ما ينوي أن يفعله مع تلك المصيبة التي أتى بها إلينا .. لا تخبر كنان بشيء الآن ..”
هز كمال رأسه بإذعان لتغادر شريفة المكان فيتسائل كنان بخفة :-
” ماذا يحدث يا والدي العزيز ..؟! مالذي كنتما تتهامسان به ..؟!”
قال كمال بإستخفاف:-
” لم أعهدك فضوليا يا ولد ..”
أضاف وهو يتأمل ملامحه المنشرحة :-
” والآن تحدث .. ما سبب هذه الزيارة ..؟! من الواضح إن هناك شيء ما مهم حدث معك … شيء جيد للغاية فملامحك تشيء بذلك ..”
ابتسم كنان متمتما :-
” دائما كا كنت تجيد قراءة ملامحي بسهولة …”
” وسأظل .. انت ولدي الكبير … البكري … أول فرحتي …”
أضاف يتسائل بفضول :-
” هل الأمر يتعلق بما أفكر به ..؟!”
سأله كنان بخبث :-
” ومالذي تفكر به يا بك ..؟!”
رد كمال بمكر :-
” هناك فتاة …أليس كذلك ..؟!”
تراجع كنان الى الخلف وهو يومأ برأسه مجيبا :-
” نعم ، هناك فتاة بالفعل .. لقد وجدت المرأة التي أبحث عنها منذ سنوات .. المرأة التي سأتزوجها …”
ظهرت الفرحة جليا على ملامح الأب الذي ردد بسعادة :-
” وأخيرا يا ولد .. ستفعلها وتتزوج وتجعلني أفرح بك …”
ابتسم كنان مرددا :-
” وأخيرا يا بابا ..”
ثم أطلق تنهيدة صامتة وقال :-
” لكن هناك مشكلة بسيطة …؟! ”
صما للحظة ثم أكمل :-
” طبعا ليس بالنسبة لي وإنما لماما تحديدا ..”
سأله كمال بقلق :
” ماذا هناك ..؟!”
رد كنان بجدية :-
” إنها مطلقة يا أبي …”
حل الصمت للحظات أخذ يتأمل فيها كمال ولده دون كلمة ..
نطق والده أخيرا يسأله :-
” أنت تريدها رغم كونها مطلقة ..؟! أليس كذلك ..؟!”
هز كنان رأسه مرددا بثقة :-
” بالطبع يا بابا والدليل إنني أتيت اليوم لأخبركم بالأمر كي نخطبها فورا …”
سأله والده بحذر :-
” أليس هناك القليل من التردد او الضيق بسبب تجربتها السابقة ..؟!”
تنهد كنان وقال بصدق :-
” أبدا يا بابا .. لا أعلم لماذا تعتقد إن هناك مشكلة داخلي بسبب هذا الأمر ..؟!”
رد والده بجدية :-
” بسبب شخصيتك يا كنان .. شخصيتك تبرهن على ذلك .. ربما لم يسبق لي أن سمعت وجهة نظرك في هذا الأمر لكن شخصيتك التي أعرفها تمام المعرفة تبدو حساسة في أمور كهذه …”
ابتسم كنان مرددا :-
” يؤسفني إخبارك إنك أخطأت في تقييم شخصيتي عند هذه النقطة .. انا رجل متحضر يا بابا .. صحيح انا متملك وصارم وأحب الكمال و المثالية في كل شيء وما زلت ولكن لم أنظر يوما الى المرأة الأرملة أو المطلقة على إنها شيئا منقوصا .. ربما تستغرب هذا لكنني لا أرى إن الطلاق ينتقص من المرأة شيئا ولا أهتم بمبدأ العذرية السخيف … لا يهمني أن أكون الرجل الأول في حياتي إمرأتي .. المهم أن أكون الوحيد والأخير … أنا إخترت ليلى لإني وجدت فيها المرأة التي أريدها كزوجة .. لم أنظر الى مالها او جمالها او وضعها الإجتماعي .. نظرت إلى ليلى نفسها … والشيء الوحيد الذي يهمني هو ليلى نفسها …”
ابتسم والده قائلا بفخر حقيقي :-
” أنت لا تعلم مقدار سعادتي بكلامك هذا يا كنان .. انا فخور بك جدا ..”
قال كنان بدهشة :-
” أنت موافق إذا ..”
قال كمال بجدية :-
” ولم سأرفض ..؟! انظر يا كنان … انا لا يهمني سوى شيء واحد في الفتاة التي إخترتها زوجة لك .. أخلاقها فقط .. أخلاقها ولا شيء عدا ذلك .. فقيرة أم غنية .. ؟! عزباء او مطلقة او حتى ارملة ..؟! كل هذا لا يهمني طالما أنت تريدها ما عدا الأخلاق .. إذا كان الأمر يتعلق بأخلاق الفتاة فحينها سأقف ضدك ولن أقبل بهذه الزيجة …”
إسترسل وهو يبتسم لها :-
” مبارك يا كنان .. حدد موعدا سريعا كي نذهب إليها ونخطبها …”
أضاف يتسائل بإهتمام :-
” هل لديها أطفال ..؟!”
هز كنان رأسه نفيا مرددا :-
” كلا يا بابا …”
” حسنا .. أين تعرفت عليها إذا ..؟!”
سأله والده ليرد كنان :-
” في الحقيقة جمعتني صفقة معها .. مع شركة والدها ..”
” من يكون والدها ..؟!”
رد كنان يخبره :-
” ليلى تكون إبنة أحمد سليمان .. والدها أحمد سليمان .. رجل أعمال معروف … ووالدتها من عائلة صفوان .. عائلة والدتها أيضا كبيرة ومعروفة ومحترمة …”
هز كمال رأسه مرددا :-
” نعم ، أسمع عن والدها وعائلته وكذلك عائلة والدتها لكن لم يسبق لي التعامل مع أحدهم …”
قال كنان بجدية :-
” لقد تعرفت عليها أثناء العمل ومع مرور الوقت وجدت نفسي معجبا بها ووجدت بها الزوجة التي كنت أبحث عنها ..”
” على بركة الله ..”
قالها والده مبتسما ليضيف بحذر :-
” ولكن والدتك لن يعجبها وضع الفتاة الإجتماعي ..”
تنهد كنان مرددا بضيق :-
” أعلم يا بابا …”
ليكمل بعزم :-
” ولكنها يجب أن توافق … لا حل آخر أمامها ..”
ثم نهض من مكانه مرددا :-
” سأذهب وأتحدث معها ..”
هز كمال رأسه بتفهم قبل أن يقول ممازحا :-
” إذا إحتجت مساعدة ستجدني في الخدمة …”
…………………………………………………….
تقدم كنان الى الداخل يبحث عن والدته فوجدها تهبط درجات السلم بملامح متجهمة ليشير لها مرددا :-
” يجب أن نتحدث يا ماما …”
قالت شريفة وهي تسير أمامه متجهة نحو صالة الجلوس :-
” كنت أعلم إن مجيئك هذا ليس بدافع الإشتياق كما تدعي …”
جلست على الكنبة ووضعت قدما فوق الأخرى تضيف متسائلة :-
” ماذا هناك يا كنان …؟! أنا أسمعك …”
جلس كنان قبالها يخبرها :-
” سأتزوج … وجدت الفتاة المناسبة وأريد خطبتها … ”
تهلل وجه والدته فرحا وهي تردد :-
” حقا يا كنان ..؟! وأخيرا ستفعلها .. ؟! وأخيرا ستدخل الفرحة الى هذا القصر مجددا ..؟!”
أكملت تستجوبه :-
” من هي الفتاة ..؟! إبنة أي عائلة ..؟! من يكون والدها ..؟! والدتها ..؟!”
أجاب كنان بجدية :-
” والدها أحمد سليمان … رجل اعمال معروف ووالدتها أيضا من عائلة معروفة .. ”
صمتت لوهلة تتذكر الإسم فتقول :-
” عائلة سليمان جيدة .. ”
ثم أكملت بقليل من الوجوم :-
” لا بأس بهم مع إنني كنت أفضل مصاهرة عائلة أرفع مكانة وشأنا …”
” عائلة سليمان معروفة وذات شأن مرموق …”
قاطعته ببرود :-
” هناك من أفضل منهم … ”
زفر أنفاسه مرددا :-
” نحن لسنا في سباق يا ماما …”
قالت شريفة :-
” أين الخطأ في كوني أريد مصاهرة عائلة توازي عائلتنا مكانة ..؟! هم عائلة راقية وذات مكانة جيدة ولكن ليس بقدر مكانتنا ولا مكانة الكثير من معارفنا …”
” ماما من فضلك …”
قالها بعصبية مكتومة لتزم شريفة شفتيها بعبوس مرددة رغما عنها :-
” حسنا .. كما تريد .. انا فقط أنصحك ليس إلا …”
أضافت تتسائل بفضول :-
” هل هي جميلة …؟! ”
هز رأسه بصمت لتعاود السؤال :-
“جميلة للغاية أم ..”
قاطعها :-
” سترينها بنفسك غدا …”
هتفت بدهشة :-
” سنخطبها غدا …”
اومأ برأسه مرددا :-
” نعم .. أنا أريد الزواج منها بأقرب وقت …”
” أين رأيتها ..؟! كيف تعرفت عليها ..؟!”
تنهد مجيبا :-
” هناك صفقة عمل مشتركة بيننا .. رأيتها وأعجبتني منذ أول نظرة ثم تحدثنا عدة مرات .. هكذا عرفتها ثم قررت خطبتها ..”
صمتت والدته وقد بدا عليها التفكير العميق ليضيف :-
” لكن هناك شيء يجب أن تعرفينه ..؟!”
نظرت والدته له بترقب ليكمل :-
” ليلى سبق لها الزواج …”
اتسعت عينا شريفة ليحسم حديثه بهدوء :-
” ليلى مطلقة يا ماما …”
” مطلقة ..”
همست بها والدته بعدم تصديق قبل أن تنتفض من مكانها تصيح بلا وعي :-
” لا وألف لا …”
أكملت وهي تشير إليه بعصبية نادرا ما تظهر عليها وهي المرأة الحديدية الصلبة في أصعب مواقف الحياة وأقساها :-
” انت لن تتزوج مطلقة يا كنان .. ”
إعتدل في جلسته بثقة يردد بهدوء :-
” إجلسي يا ماما من فضلك ..”
أكمل بجدية وهو يشير الى الكرسي الذي كانت تجلس عليه منذ لحظات :-
” إجلسي يا شريفة هانم ودعينا نتحدث ..”
أضاف بلهجة حازمة :-
” عليك أن تفهمي إنني لا أستشيرك بهذا الأمر .. أنا أخبرك يا ماما بقراري … ”
جلست فوق كرسيها مجددا بعصبية ليضيف بتأني :-
” أنا أريد ليلى يا ماما .. أريدها هي دونا عن غيرها .. لذا تقبلي قراري وإختياري ولا تماطلي لإنك تعرفينني جيدا وتعرفين إنني لن أتراجع عن قراري مهما حدث ..”
نطقت شريفة بأعصاب مشحونة :-
” الآن تركت جميع الفتيات حولك .. تركت أجمل وأفضل الآنسات اللواتي نعرفهن وإخترت مطلقة …”
أكملت تتسائل بحنق :-
” لماذا تفعل هذا يا كنان ..؟! لماذا تختار مطلقة …؟! هناك الكثير من الفتيات حولك .. ألم تعجبك سوى تلك المطلقة ..؟!”
نهض كنان من مكانه مرددا بأعصاب مشدودة :-
” من فضلك يا ماما … ليلى لا يعيبها شيء .. الطلاق لا يعيب أي إمرأة…. انا عندما إخترتها لم أفكر في وضعها الإجتماعي … ”
أضاف بحزم :-
” قراري لا نقاش فيه … سأتزوج ليلى … ”
قاطعته وهي تنهض تقابله :-
” لا تتعجل يا كنان .. الفتاة مطلقة … راجع نفسك … انت رجل عازب ولم يسبق لك تجربة الزواج بل لم يسبق لك إن خطبت حتى فلماذا لا تختار فتاة مثلك ..؟! راجع نفسك بالله عليك ..”
” ألم تفهمي حقا إنني إتخذت قراري بالفعل .. ؟! ماما إسمعيني .. انا أريد ليلى وسأتزوجها .. أريدها بقناعة تامة ودون أدنى ذرة من التردد …”
زفرت أنفاسها بحنق مكتوم قبل أن تسأله بعبوس فشلت أن تخفيه :-
” ولماذا تطلقت الهانم …؟!هل سألت عن السبب أم لا تهتم به كغيره …؟!”
رد ببرود :-
” كلا لم أسأل … كما قلت .. السبب لا يهمني ..”
هتفت من بين أسنانها :-
” لا تجعلني أجن يا كنان .. يجب أن تعرف سبب الإنفصال … ماذا لو كانت عاقرا مثلا ..؟!”
نطق بضيق :-
” ما هذا الكلام يا ماما ..؟!”
قالت ببرود :-
” لماذا تطلقت إذا ..؟! الطلاق له أسبابه … ”
أضافت تسأله عن قصد :-
” كم سنة إستمر زواجها ..؟!”
رد بجمود :-
” خمس سنوات او اكثر بقليل ..”
لوت فمها تردد :-
” ولم تنجب طفلا .. خمس سنوات دون طفل .. ”
أضافت وهي تنظر له ببرود :-
” هذا يعني إنها لا تنجب وإلا من غير المعقول أن تبقى على ذمة رجل لخمس سنوات دون إنجاب طفل ..”
بدا له الحوار مملا للغاية .. غير مرضيا له .. لم يحب أن يصل الى هذه النقطة .. هو واقعيا لم يفكر بالأمر .. ربما لإنه يعلم أسباب الزيجة وبالتالي لم يستغرب سبب عدم وجود طفل كنتاج عنها …
هتف بجمود منهيا الحوار :-
” غدا مساءا سنذهب لخطبتها .. إستعدي …”
ثم تحرك خارج المكان بسرعة كبيرة غير سامحا لها أن تنطق بحرف آخرى بعدما حسم قراره دون رجعة …
………………………………….
كانت تتأمل صورته بجمود ..
منذ أن رأت صورته بجانب عروسه قبل أيام وهي لم تتوقف عن تأمل الصورة بين الحين والآخر ..
تتأمل إبتسامته الرزينة ووسامته الواضحة بتلك البذلة الأنيقة التي يرتديها وعروسه تلك التي لا تعرف سوى إسمها تبتسم بسعادة …
في كل مرة تتأمل بها الصورة تشعر بنفس الألم الذي شعرت به للمرة الأولى عندما سقطت عيناها على تلك الصورة وأدركت إنه تزوج …
تزوج ببساطة ونسيها بسهولة ..
تخطاها وكأنها شيء لا يذكر ..
وكأنهما لم يحبا بعضهما لسنوات ولم يتفقا على الزواج منذ زمن …
لقد تجاوزها بهذه السهولة .. تجاوزها بأخرى دون حتى أن يمنحها حق المعرفة .. !
أليس من حقها أن تعلم بقراره .. ؟!
أليس من حقها أن يخبرها إنه قرر إنهاء كل ما يجمعهما ..؟!
لكنه لم يفعل …
لقد ابتعد لأشهر قليلة ثم فاجئها بتلك الصورة التي جمعته بعروسه ..
صورة نشرها على صفحته الشخصية ومعه عروسه مكتفيا بملصق يمثل قلب ذو لون أحمر وجانبه إسم العروس وكأنه يعلن حبه لها وليس فقط زيجته منها ..
هل أحب تلك الفتاة حقا ..؟!
متى أحبها ..؟!
لم يمر على سفره سوى أشهر قصيرة ..؟!
كيف نسيها بهذه السرعة بل وأحب أخرى …؟!
تشعر بخطأ ما ..
تريد أن تفهم لا بل تريد أن تصرخ به وتلومه وتضربه لإنه ورط قلبها في حبه ثم رحل …
هل كان الخطأ منها ..؟!
نعم هي فسخت الخطبة ولكنها كانت مجبرة وأخبرته بذلك وإن لم يكن بشكل مباشر ..
هي لم يكن بوسعها سوى فعل ذلك ..
أرادت إبعاده لفترة محددة حتى تتخلص من ذلك اللعين ثم تعيد المياه الى مجاريها بينهما …
لكن كل شيء تدمر بزواجه الذي لم يخطر على بالها في أسوء توقعاتها …
عادت تنظر الى الصورة فتشعر بإنقباضة شديدة في قلبها …
كان يجب أن تكون هي العروس وليست تلك الفتاة ..
هي من كانت ستكون زوجته ..
هي حبيبته وخطيبته …
هي بالتأكيد ليست مسؤولة عما حدث فهي كانت مجبرة ..
ولا حتى هو مسؤولا عن ذلك فهو لا يعرف شيئا ..
المسؤول هو ذلك الحقير الذي ينعم بحياة هانئة مع زوجة محبة بينما آثار أفعاله ما زالت تحطم جميع من حوله …
شعرت بالقهر والغضب يسيطران عليها في آن واحد ..
كان من المفترض أن يتزوجان في هذا الصيف بعد إنهاء دراستها …
كان كل شيء سيصبح رائعا كما أرادا ..
لقد خطط لكل تفاصيل زواجهما …وما سيليه …
تمردت دموعها عليها فهطلت وكم كرهت بكائها …
هي لا تريد أن تبكي ..
لا أحد يستحق دموعها …
لا أحد …
سمعت صوت على طرقات الباب فأغلقت هاتفها بسرعة وهي تجفف دموعها بأناملها لكنها فشلت فقفزت من فوق فراشها تركض نحو الحمام لتغسل وجهها فهي لا تحب أن يراها أحد ما وهي تبكي ..حتى والدتها وشقيقتها ..
خرجت من الحمام بعد دقيقتين وهي تجفف وجهها بالمنشفة لتجد ليلى أمامها تتأملها بهدوء قبل أن تلقي التحية :-
” صباح الخير …”
ردت مريم بخفوت :-
” صباح النور ..”
تأملت ليلى شقيقتها بصمت ..
شقيقتها التي باتت معزولة عنهم أغلب الوقت …
لا تغادر غرفتها إلا قليلا ..
صامتة أغلب الوقت ومتباعدة عن الجميع …
شعرت بالشفقة لأجلها ..
هي تتألم لكنها تحاول إخفاء ذلك ..
ترتدي قناعا صلبا تخفي به وجعها …
لم تتفاجئ بردة فعلها بعدما علمت بخبر زواج أكرم ..
لم تتفاجئ عندما عادت من سفرتها متلهفة عليها لتجد البرود لسان حالها وكأنها لم تتصل بها وتخبرها بذلك النبأ الصادم بنبرة عاجزة تملؤها الخيبة والإنكسار ..
لكن لم تجد كل هذا بل وجدت صمود مدهش ولا مبالاة مقنعة لمن لا يعرف مريم …
لكنها تعرفها وتعرف مدى إعتدادها بنفسها مثلما تعرف طبيعتها التي لا تسمح لها بإظهار ألمها أو ضعفها لأي شخص مهما بلغ مقداره …
لم تستطع أن تفعل شيئا وقتها .. التزمت الصمت والمتابعة من بعيد فمريم لن تتقبل أي حديث بعدما إختارت تجاوز الأمر وكأنه لم يكن …
رغم عدم رضاها عن إسلوب التجاهل الكاذب الذي تتبعه وكتمانها مشاعرها كليا داخلها لكنها مضطرة أن تسايرها .. لا حل آخر لديها ..
” جئت لأخبرك أن تتجهزي .. الليلة سيتقدم كنان لخطبتي …”
سيطر الجمود عليها لثواني .. ثواني ونطقت ببرود :-
” جيد ..”
ثم أضافت بملامح ساكنة :-
” مبارك لك …”
تقدمت ليلى نحوها ووقفت أمامها مباشرة لتلمس كتفها تتسائل بإهتمام :-
” أنت بخير، أليس كذلك …؟!”
ابتسمت مريم بتصنع مرددة بمرح مقنع :-
” بخير جدا … حتى إنني كنت سأخرج لتناول الغداء مع صديقتي ظهرا …”
قالت ليلى بتردد :-
” ما رأيك أن تبقي معي اليوم فأنا أحتاجك ..؟!”
عاد السكون يسيطر على ملامحها بينما شعرت بالضيق داخلها فهي كانت ستخرج بالفعل وتتحدث مع كنان وتمنعه من الإستمرار في هذه المهزلة ..
شقيقتها لا تستحق أن تمر بأزمة جديدة …
شقيقتها التي لا تعلم عما يجمع كنان بنديم ولا عما ينويه كنان لعمار والأسوء إنها لا تعلم بما جمع بينها هي وكنان وما فعلاه سويا من خطط لأجل الإيقاع بعمار …
عندما تعلم بهذا ستكون الصدمة شديدة عليها …
صدمة لن تتحملها ..
أرادت أن تعتذر وتتحجج بأي سبب مهم للخروج لكنها وجدتها تضيف بترجي :-
” من فضلك يا مريم … لا تتركيني اليوم … اليوم فقط …”
لم تستطع الرفض فهزت رأسها موافقة لتقبلها ليلى من وجنتيها وتخبرها عن بعض الأشياء التي ستذهب لفعلها بينما كانت مريم تستمع لها دون تركيز …
غادرت ليلى وعادت هي تجلس فوق سريرها تهز قدمها بعصبية واضحة ..
ذلك اللعين يعبث بحياة شقيقتها …
لكنها لن تسمح له بذلك …
هذه الزيجة لن تتم .. لن تكون مريم سليمان إن سمحت لذلك المستغل أن ينال شقيقتها ..
…………………………………………………
تقدمت نحوه بعدما إنتهت من إعداد طعام الغداء فوجدته ما زال نائما بعمق منذ عودته متأخرا ليلة البارحة حيث طلبت منها أن ينم ويرتاح بعد إنهياره المؤلم بين ذراعيها …
وهاهو منذ ليلة البارحة وحتى ظهر اليوم ما زال نائما وكأنه وجد في النوم الملاذ الذي يهرب إليه من الوضع الحالي برمته …
جلست جانبه على السرير تتأمل ملامحه الهادئة أثناء نومه فتبتسم بألم وهي تتذكر البارحة وما أصابه …
لم تتخيل أن تشهد يوما ما إنهيار عمار بهذه الصورة لكنه قد حدث وشهدت إنهياره فعليا بعد مصاب شقيقته …
لا تعلم لماذا تشعر إن ما حدث البارحة مجرد بداية وإن القادم سيكون أسوء ..
شعور داخلي يخبرها إن نهايته إقتربت ..
نهاية ظلمه وطغيانه باتت وشيكة …
شعرت بالدموع تحتقن داخل عينيها وهي تتأمله ينام بذلك السلام الذي لا يشبه حياته ولا أفعاله ..
ليته لم يفعل كل هذا … ليته لم يلوث يديه بكل تلك الآثام ..
كانت تعلم إنه سيأتي اليوم الذي سيدفع به ثمن أخطاؤه وعلى ما يبدو إن موعد حدوث ذلك بات قريبا للغاية …
تمنت لو كان بإمكانها إنقاذه … إنتشاله من كل هذا السواد الذي أحاط به نفسه .. لكنها لن تستطيع .. وهو بدوره لا يشعر بذلك ولا يعترف بمقدار سوء ما فعله …!
مدت كفها تلمس لحيته النامية قليلا تدعو ربها أن يهديه ويزيل تلك الغمامة التي تغطي عينيه ..
ترجوه أن يسامحه و يغفر له خطاياه بعدما يعيد صوابه إليه ويبعد عنه شيطانه الذي ما زال يسيطر على أفكاره وأفعاله …
تنهدت بتعب وأناملها تتحرك فوق لحيته قبل أن تهمس إسمه بخفوت …
رغما عن كل شيء كانت تعلم إنها تحبه بل تعشقه …
هي مدلهة في غرامه بلا حول ولا قوة …
مهما حاولت أن تتوقف عن حبه فلا تستطيع …
وجدته يرمش بعينيه لتضغط على عينيها تخفي الدموع المحتقنة فيهما قبل أن ترسم إبتسامة مرتعشة فوق شفتيها وهي تراه يفتح عينيه الخضراوين أمام عينيها …
” شيرين ..”
قالها بصوته المبحوح لتهمس له وهي تبتسم :-
” مساء الخير ..”
إعتدل في جلسته بتعب ليتأملها للحظات قبل أن ينطق بتذكر :-
” جيلان .. جيلان يا شيرين …”
تمتمت بترجي :-
” جيلان ستكون بخير … صدقني …”
هز رأسه نفيا وهو يردد :-
” لا أعتقد ذلك …”
أكمل بأسف ؛-
” جيلان باتت تكرهني فعلا يا شيرين ولا تريدني في حياتها ..”
هتفت بتروي تحاول بث القليل من الطمأنينة داخله :-
” لا بأس يا عمار … كل شيء سيصبح أفضل .. صدقني … هي الآن ما زالت مصدومة … لم تستوعب بعد ما حدث … هذا أمر طبيعي .. ستحتاج الى وقت طويل كي تتجاوز مصابها …”
” أنا حطمتها … دمرت حياتها ..”
قالها ببؤس لتكتفي بالصمت فهي وبكل آسف تدرك صحة قوله ولا تستطيع أن تنكر ذلك …
نظر لها وقال :-
” لقد دمرتها يا شيرين وهي لن تغفر لي هذا مهما حدث ومهما مرت السنوات ..”
قالت بسرعة :-
” ستغفر يا عمار .. انت في النهاية أخوها .. مهما حدث ستبقى كذلك ..”
هتف متهكما بمرارة :
” أخوها الذي تخلى عنها وألقاها بين أحضان ذلك النذل … أخوها الذي باعها دون ثمن بحجة إنه يريد حمايتها وحماية سمعتها وشرفها …”
” أنت أخطأت يا عمار ولكن خطئك لم يكن مقصودا بشكل كامل .. انت للأسف تسرعت بتزويجها من مهند …”
قاطعها وهو ينتفض من مكانه مرددا :-
” نعم أخطأت … أخطأت خطئا جسيما وهي وحدها من دفعت وستظل تدفع ثمن هذا الخطأ …”
أكمل وهو ينظر لها :-
” ولكنني لم أكن أفكر بشيء سوى بإيجاد حل لتلك المصيبة التي وقعت فيها .. كل تفكيري كان منحصرا في كيفية إنقاذ شرفها المهدور على يد رجل حقير لا أعرفه حتى .. ”
نهضت شيرين تخبره بجدية :-
” وهذا ما ستتفهمه جيلان فيما بعد … ستتفهم إن خطئك لم يكن مقصودا فأنت أردت حمايتها …”
أضافت بثبات :-
” ما تفعله ليس حلا يا عمار .. انت أخطأت وقد حدث ما حدث .. المهم ما هو قادم .. جيلان تحتاجك .. ما زالت تحتاجك .. حتى لو رفضتك وطردتك مرارا ستظل داخلها تحتاجك .. فأنت أقرب شخص لها …”
سألها بعدم تصديق :-
” هل تعتقدين ذلك حقا …”
هزت رأسها بصمت ليزفر أنفاسه بتعب وهو يعاود الجلوس فوق السرير لتجلس جانبه ثم تقبض على كفه وهي ترجوه :
” تماسك يا عمار .. جميعنا نحتاجك وأولنا جيلان …”
نظر إليها للحظات قبل أن يهبط بعينيه نحو بطنها فيسألها :-
” منذ متى وأنت تعرفين ..؟!”
تشكلت إبتسامة فوق ثغرها وهي تضع كفها فوق بطنها بحركة عفوية تجيبه :-
” منذ أربعة أيام فقط … ”
أضافت بسعادة جلية :-
” أنت لا يمكنك تصور حجم فرحتي عندما علمت بهذا الخبر ..”
هتف بقهر :-
” ليتني شاركتك تلك الفرحة .. لكننا كنا بعيدين تماما عن بعضنا .. بسببي كالعادة …”
قبضت على كفه تؤازره وتحاول التهوين عليه :-
” لا بأس يا حبيبي .. ما زال أمامنا الكثير من الأيام التي ستقضيها سويا .. المستقبل بأكمله أمامنا ان شاءالله ..”
سأل بتردد :-
” هل تعتقدين إن مستقبلنا سيكون جيدا ..؟؟ وهذا الطفل .. هل سيولد بجو أسري مريح ويعيش سعيدا في حياته ..؟!”
قالت بهدوء :-
” سيكون كذلك عندما نخلق نحن له هذه الحياة .. حياة أسرية هادئة وسعيدة … عندما ننسى الماضي بكل ما فيه ونفكر في مستقبلنا وما ينتظرنا .. ”
ترددت لوهلة ثم قالت :-
” عندما نسعى لتطهير أنفسنا من جميع آثامنا ونخلق بداية جديدة لنا لأجله هو ولأجلنا …”
جمدت ملامحه وهو يتسائل :-
” ماذا تعنين ..؟!”
عاد التردد يظهر ملامحه .. تردد سرعان ما أزاحته جانبا وهي تقبض على كفه تخبره بعزيمة :-
” أتحدث عن ذنوبك يا عمار .. ذنوبك التي ستظل لعنة تطاردك وتطارد كل من تحبهم ما لم تتحرر منها … ذنوبك في حق من حولك …”
تجاهلت نظرات عينيه القاتمة وهي تسترسل بثبات :-
” عندما تسعى لإصلاح أخطائك في حق جميع من حولك وأولهم أخيك … نديم يا عمار .. نعم سيكون صعبا لكن حياتك وحياة طفلك القادم وحتى جيلان تستحق التضحية …لا بأس في بعض التضحية مقابل حياة سوية هانئة مع أحب الناس لقلبك .. جيلان وطفلك القادم …”
مساءا ..
تقدمت ليلى حيث صالة الجلوس لتجد والدتها تجلس مع كل من والدها وشقيقتها ينتظرونها لتنهض فاتن من مكانها تتأملها بسعادة كبيرة وهي تردد :-
” ماشاءالله … تبدين رائعة للغاية يا ليلى .. حفظك الله يا ابنتي ووفقك …”
ابتسمت ليلى وهي تحتضن والدتها بحب بينما أخذت مريم تراقبهما بصمت تحاول أن تصطنع السعادة التي لا وجود لها ..
إبتعدت ليلى من بين أحضان والدتها لتلتقي عينيها بعيني والدها الذي نهض من مكانه يسألها بجدية مجددا :-
” هل أنت واثقة من قرارك يا ليلى ..؟!”
ابتسمت ليلى وهي تهز رأسها بصمت ليجذبها والدها ويعانقها بحب وفرحة لا تخلو من القلق على إبنته التي عانت طويلا وهو ما زال يخشى عليها بشدة فهو الآن سيمنحها مجددا لرجل لا يعرف عنه سوى أشياء عامة …
تنهد بصوت مسموع وهو يبتعد عنها يربت على جانب وجهها فيرتجف قلب ليلى بسبب تلك النظرة التي رآتها داخل عينيه ..
نظرة تحمل مزيجا من القلق والتردد …
حاولت طمأنته أو ربما طمأنت نفسها أيضا فإبتسمت له بهدوء تخبره من خلال نظراتها ألا يقلق عليها مهما حدث …
تحركت بعدها نحو المطبخ تتبعها مريم حيث تحدثت مع الخادمة عن بعض الأمور ومنحتها بعض الوصايا بينما أخذت مريم تتأملها بذلك الإهتمام والإستعداد الغريب لهذه الخطبة التي حدثت بين ليلة وضحاها فلم تفهم ما يجري وكيف بدت أختها هكذا .. مستعدة تماما وراضية كليا بهذه الخطبة ..!!
هل هي سعيدة فعلا أم تدعي السعادة …؟!
تسائلت مريم داخلها عن مدى سعادة شقيقتها بهذه الزيجة لتتجه نحو شقيقتها تجاورها وتهمس لها :-
” أنت متأكدة من قرارك .. أليس كذلك ..؟!”
نظرت لها ليلى لوهلة ثم هزت رأسها وهي تجيب :-
” نعم يا مريم .. انا متأكدة من قراري ..”
نطقت مريم :-
” ولكن ما حدث في الماضي ونديم ..”
قاطعتها ليلى بحزم :-
” حياتي لن تتوقف بسبب قصة حب فاشلة …”
أكملت بقوة وثقة :-
” حياتي سوف تستمر .. بالشكل الذي أريده ويجعلني سعيدة ومرتاحة حتى لو دون حب …”
أضافت وعيناها تلمعان ببريق مختلف هذه المرة :-
” الحب ليس أساس كل شيء ..”
همست مريم بقلق :-
” انا فقط قلقة يا ليلى … ”
قاطعت شقيقتها وهي تربت على وجهها بحنو خاص :-
” لا تقلقي يا مريم .. صدقيني لا داعي للقلق .. ما أفعله هو الصحيح .. ”
تنهدت وهي تضيف بحسم :-
” لقد نضجت بما يكفي لأدرك إن أفق الحياة الواسعة لا يمكن حصرها داخل قصة حب فاشلة … انا الآن أسير في درب جديد .. درب مختلف تماما .. أسعى لبداية جديدة وحياة جديدة .. حياة إخترتها بنفسي وسأسعى بكل جهدي لتنجح فأنا أستحق أن أحيا بسعادة وأن أحقق الحياة التي طمحت لها يوما ..!!”
” انت بالطبع تستحقين كل السعادة يا ليلى ..”
قالتها مريم بصدق ثم توقفت عن الحديث وهي تشعر بألم أكبر يجثم فوق صدرها ..
شقيقتها تبدو سعيدة بهذه الزيجة ..
يا لها من ورطة … لو فقط تمتلك الجرأة وتخبرها بحقيقة كنان .. !
إبتلعت حسرتها داخلها وهي تمنحها إبتسامة مرتعشة لتنتفض من مكانها وهي تسمع صوت جرس الفيلا يرن فتهمس لها ليلى بتوتر طبيعي :-
” لقد وصلوا يا مريم …”
ثم ما لبثت أن تحركت خارج المكان بخطوات خجول مترددة ..
…………………………………………….
بعدما دلف كنان مع عائلته الى الداخل أشارت فاتن لليلى أن تدخل ..
تقدمت ليلى الى الداخل بخجل عفوي فتأملها كنان بلهفة غريبة وجديدة عليه متأملا إياها بذلك الفستان الأنيق بلونه الرصاصي المميز وتصميمه الناعم جدا والبسيط جدا لكنه يليق بها بشكل خاطف للأنفاس …
شعرها الأشقر المسترسل كان حكاية أخرى وتلك النعومة التي تتمتع بها ملامحها تمنحها هالة من الجمال والرقة والأنوثة والبراءة في آن واحد …
لطالما سحرته بجمالها الذي يدرك جيدا إنه لم يسحره وحده بل سحر الكثير غيره …
جمالها الذي يشعره بإنها لا تنتمي الى هذا العالم وكأنها أتت من عالم الخيال البعيد لتزين واقعهم بجمالها ..!!
كان يتأملها بعينيه .. نظراته تحتضنها وهي تتقدم بخطوات مترددة فينهض هو يستقبلها غير منتبها لنظرات والدتها التي كانت مرتكزة عليه ورأت فيهما ما طمأن قلبها أكثر من الأول وجعلها تسترخي في جلستها أخيرا…
مدت ليلى كفها نحو ليلتقطه ويقبله برقة جعلت وجنتيها تتورد فهمس لها بصوت لم يسمعه سواها :-
” تبدين أجمل من أي شيء في هذا الكون .. ”
إبتسمت بحرج وشكرته بصوت خافت ليقبض على كفها وهو يتقدم بها نحو والدته لتتأمل ليلى المرأة التي تجلس أمامها بملامح هادئة لكنها تحمل من القوة والحزم ما يوازي سنوات عمر المرأة فأشار كنان لوالدته :-
” ماما يا ليلى .. شريفة هانم نصار ..”
إبتسمت لها برقة تردد :-
” أهلا شريفة هانم ..”
نهضت شريفة من مكانها بتثاقل ثم رسمت إبتسامة كاذبة فوق شفتيها وهي تصطنع الترحيب بها :-
” أهلا يا ليلى ..”
أكملت عن قصد :-
” ماشاءالله .. أنت جميلة للغاية … كنان معه حق أن يسارع لخطبتك ..”
ثم منحت نظرة خاصة لكنان تخبره إنها أدت واجبها وفعلت ما تفعله أي أم مكانها فيبتسم برضا ليشير الى والده قائلا :-
” والدي .. كمال نعمان ..”
نهض كمال يهتف بفرحة شعرت بها ليلى :-
” أهلا بك يا إبنتي .. ماشاءالله .. ما كل هذا الجمال ..؟!”
أضاف يحدث زوجته عن قصد :-
” معك حق يا شريفة ..الآن فهمنا سبب عجلة إبنك الغير مفهومة …”
أكمل وهو يخبر ليلى :-
” كنت أعلم إن ذوقه عالي وإنه حينما يقرر الزواج سيختار عروسا مميزة للغاية لكنه فاق توقعاتي فأنت ماشاءالله تبدين كشمس مشرقة تخطف الأنظار ..”
احتقنت ملامح شريفة بتجهم وهي تستمع حديث زوجها وإحتقنت ملامح ليلى كذلك خجلا ليشير كمال الى شقيقته علياء وزوجها ماجد :-
” وهذه شقيقتي علياء… وزوجها ماجد نصار والذي يكون ابن خالي في نفس الوقت ..”
رحبت بها علياء بسعادة وهي تخبرها :-
” لو تدركين مدى سعادتي اليوم .. كنت أنتظر هذا اليوم منذ سنوات .. ليبارك الله لكما بهذه الخطبة …”
ثم همست لشقيقها بينما كانت ليلى تحيي ماجد الذي كان يبارك لها الخطبة :-
” إنها جميلة للغاية .. وتبدو لطيفة أيضا وعائلتها محترمة …”
أكملت وهي تربت على ذراعه بحب :-
” مبارك لك يا كنان ..”
شكرها كنان الذي أشار بعدها الى سيف الذي نهض يستقبلها ليخبرها :-
” وهذا سيف يا ليلى .. شقيقي الوحيد .. ضابط برتبة رائد في الشرطة ..”
ابتسم سيف يرحب بها فبادلته ليلى التحية ليشاكس كنان بينما ليلى إتجهت تجلس جانب والدتها :-
” مبارك يا شقيقي .. عسى الله أن يحميك فقط من عين الوالدة ويتمم زيجتكما على خير..”
منحه كنان نظرات محذرة قبل أن يجد ماجد زوج شقيقته يكتم ضحكته وقد سمع ما قاله سيف فمنح الأخير نظرة معاتبة ليهز رأسه بإستسلام فيعاود كنان الجلوس في مكانه عندما تقدمت مريم تلقي التحية بهدوء فتلتقي عينيها للحظة بعيني كنان فتشيح عينيها بعيدا عن عينيه بسرعة عندما قام أحمد بتعريفها لهم فتبادلوا التحية ثم جلست مريم بجانب شقيقتها ووالدتها بملامح جامدة ..
بدأ كمال حديثه المعتادة في هذه المناسبة حيث تحدث عن رغبة ولده في خطبة ليلى ليسأل أحمد ليلى أمام الجميع عن رأيها كما هو المعتاد لتهز رأسها بصمت فيهتف كمال بسعادة :-
” على بركة الله .. لنقرأ الفاتحة إذا …”
قرأ الجميع الفاتحة عندما تحدث كنان أخيرا بعدما تمت قراءة الفاتحة قائلا :-
” من فضلك يا عمي ومن فضلك أنت يا ليلى .. أريد أن نحدد موعد الخطبة .. لقد فكرت أن نجعلها يوم السبت القادم ..”
نطقت ليلى بذهول :-
” السبت القادم ..؟! أي بعد خمسة أيام ..؟!”
قال كنان ببساطة :-
” نعم ، هل هناك مشكلة ..؟!”
أجابت ليلى بتردد :-
” يعني لا أعتقد إننا سنلحق أن ننهي كافة الأمور التي تخص حفل الخطبة في خمسة ايام فقط ..”
أيدتها علياء :-
” معها حق يا كنان .. فستان الخطبة وحده يحتاج الى مدة طويلة كي يتم تصميمه ..”
قال كنان بجدية :-
” هذا أمر بسيط جدا .. ستختار ليلى التصميم الذي يناسبها وأنت سأطلب من مصمم العائلة الخاص تصميمه خلال يومين …”
قالت فاتن بجدية .-
” ولكن خمسة أيام قليلة جدا يا بني … نحتاج ما لا يقل عن إسبوعين …”
نظر كنان الى أحمد يسأله :-
” ما رأيك أنت يا عمي ..؟!”
رد أحمد بجدية :-
” انا بالنسبة لي لا مانع لدي لكن النساء كما ترى يمانعن فهم يحتجن الى وقت كبير لتجهيز الملابس وترتيبات الحفل …”
قالت ليلى بتردد :-
” أساسا لا داعي أن يكون هناك حفلا ضخما .. حفلا بسيطا بوجود العائلتين والمقربين فقط ..”
هتفت شريفة ببرود :-
” كيف يعني حفل بسيط …؟! كلا بالطبع … سيكون حفلا ضخما يليق بولدي وحفل الزفاف سيكون أضخم منه بكثير … ”
ثم أشارت تسأل زوجها :-
” أليس كذلك يا كمال ..؟!”
رد كمال بهدوء :-
” ما يريده الأولاد سيحدث .. هذا قرار خاص بهما …”
منحته شريفة نظرات حانقة تجاهلها عندما هتف كنان بسرعة ينهي الحديث الذي ربما سيأخذ مسارا لا يريده :-
” سنتحدث بخصوص الحفل فيما بعد يا ليلى .. ولكن الأفضل أن نحدد موعده اليوم ..”
نظرت ليلى الى والدتها بحيرة قبل أن تنطق أخيرا :-
” ليكن بعد إسبوعين …”
هتف كنان على مضض :-
” كما تريدين ..”
أضاف بعدها بجدية :-
” إذا سمحت لي يا عمي فأنا سأجلب شيخ يعقد قراننا مبدئيا يوم الخطبة …”
توترت ملامح ليلى وتفاجئ أحمد بما قاله لكنه أجاب بتروي :-
” حسنا ، لا مشكلة .. ”
ابتسم كنان بجدية وهو يضيف :-
” نعم ، وأساسا لا فرق كبير .. بكل الأحوال الزواج سيكون بعد الخطبة بفترة قصيرة …”
نظرت فاتن إليه وقالت بجدية :-
” موعد الزفاف يخصكما … تحدثا وإتفقا على موعد مناسب .. ”
” بالطبع .. كل شيء سيكون كما تريده يا ليلى ..”
أكمل بجدية :-
” موعد الزفاف ومكان إقامتنا بعد الزفاف .. ”
سألته فاتن بجدية :-
” هل تعيش في منزل عائلتك..؟!”
قاطعتها شريفة ببرود مقصود :-
” إطمئني يا هانم .. كنان غادر منزل العائلة منذ سنوات وإستقر لوحده في قصر خاص به ..”
أضاف كنان بجدية:-
” لدي قصر خاص بي أسكن به منذ سنوات .. ولكن إذا أرادت ليلى فلتختر المكان الذي تريده لنعيش به….”
هتفت ليلى بتروي :-
” في الحقيقة كنت أفضل أن يكون مكان إقامتنا قريبا من هنا …”
سألت شريفة بتبرم :-
” لماذا ..؟! ما الفرق إذا كان المكان قريبا او بعيدا عن هنا ..؟!”
ردت ليلى بهدوء :-
” أريد البقاء قرب عائلتي ..”
لوت شريفة ثغرها وهي تردد :-
” بعد الزواج زوجك سيكون هو عائلتك … أنت ستبدئين محطة جديدة في حياتك أساسها سيكون زوجك وأولادك مستقبلا … ”
نطقت ليلى ببرود :-
” لم أكن أعلم إن الزواج يعني ترك عائلتي الأولى التي قضيت طفولتي وشبابي بأكمله معهم ..”
قالت شريفة بتجهم :-
” لم أقل هذا .. ولكن من غير المعقول أن تختاري مكان إقامتك بناء على مكان إقامة عائلتك .. ”
أضافت عن قصد :-
” إذا كنت تنوين أن تفعلي كما يفعل بعض الزوجات ويقضين أغلب وقتهن في منزل والدهن فالأفضل أن تعيشان هنا بدلا من مشقة المجيء والذهاب يوميا حيث منزل عائلتك ..”
” عفوا … مالذي تعنيه ..؟! بالطبع الأمر ليس هكذا .. كوني متعلقة بعائلتي وأريد أن أكون قربهما فهذا لا يعني إنني سأترك منزلي وأجلس قبالتهم طوال الوقت .. حضرتك يجب أن تعلمي إنني الإبنة الكبيرة هنا ومن الطبيعي أن أكون قرب عائلتي خاصة إن لدي أخين صغيرين يحتاجان الى وجودي حولهما وهذا شيء آخر يجب أن تعلمه يا كنان ..”
أنصت كنان لها لتضيف بتعمد :-
” أخوتي انا مسؤولة عنهم بشكل أو بآخر .. هذا لا يعني إنني سأترك منزلي طوال الوقت ولكنني أحتاج أن أكون قريبة منهما وأتواجد بسرعة عندهما ما أن يحتاجناني ..”
قال أحمد بتردد :-
” ليلى ابنتي .. هذا الكلام لا داعي له … أخوتك جميعنا حولهم ..”
هتفت شريفة تتسائل :-
” عفوا أنا لا أفهم .. لكن لماذا أنت مسؤولة عن أخويك ..؟! والدتك موجودة والحمد لله .. أليس من المفترض أن تعتني هي بأولادها ..؟!”
بهتت ملامح فاتن وتجمدت ملامح أحمد بينما كتم كنان إنفعاله داخله عندما نطقت ليلى بهدوء وثبات :-
” هؤلاء أخواني من زوجة أبي …”
إرتسمت الدهشة على ملامح شريفة التي تسائلت مجددا بضيق خفي :-
” لم أكن أعلم إن والديك منفصلان …”
قاطعتها ليلى بجمود :-
” والدي ليسا منفصلين … والدتي تزوج وأنجب أخي عبد الرحمن وهو ينتظر القادم من زوجته ولكنه لم ينفصل عن والدتي … ”
أضافت وهي تشير الى كنان :-
” كنان بالطبع يعرف ذلك .. نحن لا نخفي هذا الأمر عن أحد …”
هزت شريفة رأسها بتجهم عندما هتف كنان بجدية :-
” حسنا يا ليلى .. لك ما تريدين بالطبع .. أنا أتفهم مسؤولياتك وأقدرها .. سنختار فيلا قريبة من هنا .. وكما قلت قبل قليل .. أنت من ستختارين منزلنا بنفسك …”
شكرته ليلى بإبتسامة باهتة بينما قال كمال بإبتسامه يحاول تبديد الأجواء المتوترة التي سيطرت على المكان :-
” كل شيء سيكون كما تريد عروسنا الجميلة بالضبط .. هي تأمر وكنان ينفذ …”
” شكرا …”
نطقتها ليلى بخجل ليهتف كمال بجدية :-
” لا شكر يا إبنتي … بعد زواجك من ولدي ستصبحين واحدة من العائلة وفي مكانة علياء ابنتي …”
قالت علياء بصدق :-
” بالطبع يا بابا … نحن ننتظر هذا اليوم على أحر من الجمر .. وكما قال بابا .. أنت ستكونين واحدة منا بإذن الله ..”
ابتسمت لها ليلى بلطف وقد شعرت بالراحة الشديدة اتجاه والد كنان وشقيقته التي تمتلك ملامح مرحبة ودودة للغاية لكن عاد حديث والدته يؤرقها مجددا فحاولت أن تتجاهل ما حدث وتستمع لأحاديث من حولها وتشاركهم فيها ..
سارت جانبه متجهة حيث سيارته بعدما أخبرتها والدتها أن ترافقه وهو يغادر …
عائلته غادرت بدورها وهاهو سيغادر بعدما تحدث قليلا مع والدها على إنفراد بناء على طلب الأخير ..
وقفت أمامه قرب سيارته تسأله بحذر :-
” ماذا أراد بابا منك ..؟!”
رد وهو يبتسم بهدوء :-
” أوصاني عليك ….”
نظرت له بدهشة ونطقت بعفوية :-
” ما زال الوقت مبكرا على شيء كهذا … عادة ما يفعل الأبناء ذلك يوم الزفاف …”
ابتسم مرددا :-
” سيكرر وصاياه يوم الزفاف أيضا …”
تنهدت وقالت :-
” مالذي قاله بالضبط ..؟! غير الوصايا مثلا …”
قال بجدية :-
” حسنا هي لم تكن وصايا بالمعنى الحرفي … هو فقط أراد أن يطمئن عليك … يعني تحدث معي بشأن الخطبة وأمور كهذه …”
لاحظ تجهم ملامحها بعدم رضا ليضيف بتروي :-
” هو يخشى عليك قليلا ..”
التوى ثغرها مرددة بسخرية تخفي بها آلمها :-
” لا ألومه … بات يخشى عليّ كثيرا بعد تجربتي السابقة … أرى ذلك في عينيه حتى لو لم ينطقها … يخشى أن أختار الرجل الخطأ مجددا …”
أضافت بملامح مظلمة :-
” وكأنه لم ينتشِ بذلك الإختيار … ويفرح به …”
هتف يتسائل بملامح قوية :-
” أنت تعلمين إن التجربة هذه المرة ستكون مختلفة تماما أليس كذلك ..؟!”
ردت بصراحة :-
” انا لا أعلم أي شيء .. سأترك نفسي للتيار وأخوض التجربة وسأتقبل نتائجها أيا كانت .. ”
” ألا تخافين من الفشل مجددا ..؟!”
سألها بضيق خفي لترد وهي تبتسم ببساطة :-
” لن يفرق معي .. لقد وضعت الفشل قبل النجاح أمامي .. لذا أنا مستعدة لنتائج هذا الإرتباط أيا كانت ..”
دقق النظر على ملامحها بصمت فشعرت بتوتر من نظراته التي بدت تسبر أغوارها ليسألها بنبرة مقتضبة :-
” ومالذي يجعلك تفعلين هذا ..؟؟ مالذي يجبرك على القبول بالزواج من رجل لست واثقة به …؟! ”
ردت بنفس البساطة :-
” لإنني أريد الإستقرار وتكوين عائلة … أريد الإستمرار في حياتي التي لا يجب أن تتوقف .. ولإنني أدرك جيدا إن أي شخص مهما بلغت معرفتي به لا يمكنني الوثوق به كليا وإنه في هذه الحياة لا يوجد ضمانات فلم أجد فرقا يجعلني أنتظر حتى أجد رجلا يمكنني الوثوق به لإن أي رجل سيدخل حياتي قد يغدر بي في آية لحظة …”
لم يعجبه حديثها … كانت تساويه مع غيره من الرجال …
لا ينكر إن صراحتها تثير الإعجاب …
واقعيا هو لا يطيق المجاملات ويحب الصراحة دائما في جميع المواقف ولكن حديثها بهذه الطريقة أثار ضيقه …
خاصة وهي بدت جادة في كل كلمة تخرج من فمها …
بل إن ملامح وجهها ونظرات عينيها وحركة جسدها كانت تنطق بكل ما يتفوه به لسانها ..
وفي تلك اللحظة فهم شيء آخر .. شيئا مهما ..
أدرك كم هي مجروحة … فاقدة للثقة … مطعونة بخنجر الغدر ….
يعلم إن تجربتها السابقة تركت آثرا قاسيا داخلها …
الأمر لا يقتصر على نديم وحبها الضائع له فقط ..
هناك تجربة زواجها السابقة من ذلك المنحط والذي من المؤكد تركت آثارا مؤلمة للغاية داخله ..
الله وحده يعلم ما عانته من ذلك الذي تزوجها فقط كي ينتقم من أخيه ويذله وهي كانت قربانا لهذا الإنتقام ..
بالتأكيد آذاها بشدة طوال السنوات السابقة …
هذا غير زواج والدها على والدتها سرا وإنجابه لصبي من زوجته الثانية …
لم يفت عليه حديثها الساخر عن والدها الذي على ما يبدو كان مشجعا على زواجها من عمار ..
تسائل عن طبيعة علاقتها به حاليا …
هل علاقتهما جيدة ..؟!
هل تتعامل معه كالمعتاد أم إن زواجه من أخرى ترك آثرا عليها وجعل علاقتها به تختلف ..؟!
سمعها تهمس بحرج :-
” أنا أعتذر إذا ما كان كلامي غير محبب ولكنني أفضل أن أكون صريحة تماما معك …”
نطق بجمود :-
” لا عليك …”
أكمل وملامحه تتحرر قليلا من جمودها :-
” أتفهمك .. أتفهمك كثيرا يا ليلى …”
كادت أن تخبره إنه لا يفعل ولن يستطيع أن يفعل …
هو لن يفهمها إطلاقا .. لن يفهم ما مرت به بالضبط …
كم المعاناة التي مرت بها وما نتج عنها …
لكنها لم تنطقها .. فضلت الصمت والإكتفاء بإيماءة صامتة فهي لا تملك الرغبة حاليا للخوض في جدال مزعج بالنسبة لها …
سمعته يسألها :-
” هل لديك شيئا ما مساء الغد ..؟!”
ردت بجدية :-
” كلا ، لماذا تسأل ..؟!”
رد وهو يبتسم :-
” أريد دعوتك على العشاء..”
أكمل متسائلا :-
” هل لديك مانع ..؟!”
حركت رأسها نفيا وهي تجيب بخفوت :-
” كلا ، ليس هناك مانع ..”
ابتسم قبل أن يعاود سؤالها :-
” بالمناسبة ، إختاري يوما قريبا نذهب فيه لإنتقاء خاتمي الخطبة …”
” حسنا ..”
قالتها بنفس الخفوت قبل أن تضيف :-
” يمكننا الإتفاق غدا على موعد معين يناسب كلينا …”
هز رأسه مرددا بجدية :-
” إتفقنا …”
أضاف وهو ينظر نحو سيارته :-
” لأغادر الآن …”
منحته إبتسامة هادئة وهي تقول :-
” مع السلامة …”
بادلها إبتسامتها قبل أن ينحني نحوها ويطبع قبلة خفيفة فوق وجنتها لترتبك كليا فيشعر هو بإرتباكها ليبتسم بمكر خفي وهو يودعها مجددا ويغادر المكان لتبقى هي تتأمله وهو يغادر حتى تحركت بجسدها عائدة الى داخل منزلها ..
………………………………………….
دلفت ليلى الى الداخل لتجد والديها ينتظرانها في الداخل بينما قد غادرت شقيقتها الى غرفتها في الطابق العلوي …
تقدمت نحوهما لتهتف فاتن بجدية :-
” والدته لم تعجبني … تبدو متعجرفة للغاية … لا أحب هذه النوعية من الناس …”
نطقت ليلى بجدية :-
” وأنا كذلك …”
قال أحمد :-
” أنت أيضا أخطئت يا ليلى …”
تغضن جبين ليلى وهي تتسائل :-
” فيمَ أخطأت يا بابا ..؟!”
رد أحمد بهدوء :-
” ما كان عليك أن تطلبي منزلا قريبا من هنا .. ”
” لماذا ..؟! أنا أريد أن أبقى قريبة منكما دائما و …”
قاطعها أحمد بتروي :-
” لا يوجد منطق كهذا يا ليلى … أنت عندما تتزوجين سيكون لك حياتك الخاصة … من غير المعقول أن تتحدثي عن مسؤولياتك إتجاهنا أو بالأحرى إتجاه أخويك وهما لديهما أب وأم أيضا ..”
قالت ليلى بتهكم :-
” وأين هي والدتهما يا بابا ..؟! سهام سترمي الطفل الآخر ما إن تلده مقابل بقية الأموال التي ستأخذها وتعاود حياتهما كليا كما أردت …”
تجهمت ملامح أحمد فشعرت ليلى إنها تحدثت بقليل من القسوة لتقول بسرعة وخفوت :-
” انا لا أقصد ..”
قاطعها أحمد محاولا إخفاء تجهمه :-
” أنت معك حق يا ليلى.. ولكن هذا لا يعني أن تتحملي أنت المسؤولية … أنا والدهما وسأتحمل مسؤوليتهما كاملة …”
قالت ليلى بتعقل :-
” أنا لم أقل إنني سأتولى تربيتهما يا بابا كما إنني لم أرد البقاء قربكم لأجلهما فقط … الفكرة إنني الكبيرة وإعتدت منذ فترة أن أتواجد في كل ما يخص العائلة .. أنت نفسك طلبت مني هذا … وأنا أعرف جيدا إنك ما زلت تحتاجني خاصة هذه الفترة وحتى ماما ومريم … انا لا أريد ترككم تماما ولكنني في نفس الوقت لن أبقى طوال الوقت معكم … انا فقط فكرت أن أتواجد قربكم ليس إلا حتى إذا ما إحتجتموني تجدوني عندكم فورا …”
قالت والدتها أخيرا بعدما كانت تسمعها بصمت :-
” لست مضطرة لفعل ذلك .. بل لا يجب أن تفعلي أساسا ..”
سألتها ليلى بصدمة :-
” هل أنت أيضا غير موافقة على حديثي …؟!”
هزت فاتن رأسها وقالت :-
” نعم يا ليلى .. طلبك لم يعجبني والذي لم يعجبني أكثر إنك تحدثت به أمام الجميع وقلت بالحرف الواحد إنك تريد منزلا بجانب منزلنا وكأنك تتعمدين إيصال هذه الفكرة لهم …”
سألتها فاتن وهي تنظر إليها بترقب :-
” هل كنت تتعمدين قول هذا أمامهم يا ليلى ..؟!”
قالت ليلى بنفي غير مقنع :-
” بالطبع كلا …”
منحتها والدتها نظرة تدل على عدم تصديقها لتشيح ليلى وجهها بعيدا فتضيف والدتها بنفس الهدوء :-
” أيا كانت غايتك من قول هذا فعليك أن تعلمي إن تصرفك كان خاطئا …”
نظرت ليلى لها بإستنكار لتومأ فاتن برأسها وهي تسترسل :-
” نعم يا ليلى … صحيح إن والدته لم تعجبني إطلاقا بعجرفتها الواضحة ولكن واقعيا أي أم كانت سترفض ما تطلبينه أيا كانت طريقة الرفض هذه .. قليل جدا من تقبل شيئا كهذا … لا يوجد منطق يقول أن تشترط العروس البقاء قرب عائلتها خاصة إذا كان والديها بخير ولديها أخوة غيرها يعني ليست الوحيدة ووالديها في حالة تجعلهما يحتاجانها بجانبهما ..”
هتفت ليلى تدافع عن نفسها :-
” من قال إنني سأبقى جانبكما دائما ..؟؟ انا فقط أردت الإقامة قريبا منكما كي …”
” هل تصدقين ما تقولينه ..؟!”
سألتها فاتن بحزم وهي تضيف :-
” ما الفرق إذا سكنت في نفس منطقتنا او في منطقة تبعد ثلث ساعة عنا ..؟؟ لماذا تتحدثين وكأنك ستعيشين في بلد آخر ..؟!”
أضافت فاتن بثبات :-
” إذا كان حديثك هذا متعمدا كنوع من الإختبار فعليك أن تعلمي إنه لا المكان والزمان كانا مناسبين ولا حتى الطريقة …”
سيطر العبوس على ملامح لتتقدم فاتن نحوها فتربت على جانب وجهها وهي تخبرها بصدق :-
” من واجبي أن أنصحك يا ليلى وأوجهك عندما تحتاجين هذا .. لا تحزني بسبب حديثي فأنا أريد مصلحتك دائما ….”
ابتسمت ليلى دون مرح قبل أن تشير لها ولوالدها :-
” سأصعد الى غرفتي … عن إذنكما …”
ثم صعدت بالفعل الى غرفتها وفتحت الباب لتتفاجئ بمريم تجلس على سريرها بملامح حانقة …
نهضت مريم من مكانها تردد بينما ليلى تغلق الباب خلفها :-
” والدته لا تطاق .. حرباء بمعنى الكلمة …”
لم تجب ليلى وهي تتجه نحو المرآة حيث بدأت في خلع أقراطها لتضيف مريم وهي تتقدم نحوها :-
“كيف ستتحملينها …؟! حقا لا تطاق ..”
أكملت بحذر :-
” ومن الواضح إنها ليست راضية عن هذه الزيجة …”
إستدارت ليلى نحوها بعدما نزعت أقراطها الماسية لتقول بهدوء :-
” غالبا كذلك …”
سألتها مريم :-
” وماذا ستفعلين ..؟! هل ستتزوجينه دون رضا والدته ..؟!”
تجهمت ملامح ليلى وهي تقول :-
” هي أتت بنفسها اليوم … أتت لخطبتي … وهذا لا يعني إنني سأتزوج دون رضاها … ربما هي لا تريدني فعليا ولكنها أتت …”
قاطعتها مريم :-
” ومالذي يجبرك على الزواج من رجل والدته لا تريدك …؟!”
قالت ليلى بضيق :-
” هي لم تقل ذلك .. إفهميني يا مريم … لو لم تأتِ اليوم فما كنت لأقبل بهذه الزيجة لكنها أتت .. أتت برضاها أو رغما عنها ليس مهما .. ما يهم إنها أتت … كخطوة أولى لا حجة لدي لرفضه بسببها لإنها واقعيا كانت موجودة وبالتالي هي بقدومها أعلنت موافقتها على الزيجة أما ما سيحدث في الأيام القادمة وما ستفعله هو ما سيحدد القادم .. على أساس تصرفاتها القادمة سأقرر إذا ما تستمر هذه الزيجة أم تنتهي أفضل …”
ظهر عدم الرضا على وجه مريم فتجاهلت ليلى ذلك وهي تتجه نحو خزانة ملابسها تخرج قميص نوم لها عندما سمعت طرقات على باب الغرفة لتسمح للطارق بالدخول وهي تبحث عن قميص مناسب لها ..
إستدارت ليلى بعدما إنتقت أحد قمصان نومها لتجد والدتها تلج الى الداخل لتهتف بتعجب وهي تطالع مريم :-
” ماذا تفعلين هنا يا مريم ..؟!”
هتفت مريم تجيب :-
” كنت أنتظر ليلى للتحدث معها قليلا … ”
أضافت بجدية :-
” وأخبرها إن حماتها تلك تبدو صعبة للغاية ..”
قالت ليلى بحذر :-
” لم تصبح حماتي بعد … ”
هتفت مريم بحنق :-
” من الأفضل ألا تتزوجي من رجل لدية أم حرباء مثلها ..؟!”
نهرتها فاتن :-
” إنتقي ألفاظك وأنت تتحدثين عمن يكبرونك سنا بأعوام ..”
أكملت فاتن بجدية :-
” كما إنك سمعت كلام شقيقتك .. هي لم تصبح حماتها بعد وربما لن تصبح … لماذا العجلة في الحكم على ما هو قادم ..؟! ربما لن تكون هناك خطبة من الأساس …”
دعت مريم في سرها ألا تتم هذه الخطبة بينما قالت فاتن لليلى :-
” حبيبتي … لا تشغلي نفسك بكل هذا الآن … توكلي على الله وهو سيقدم لكِ كل الخير بإذنه تعالى …”
ابتسمت ليلى تردد :-
” بإذن الله .. هذا ما سأفعله أساسا …”
أكملت تسأل والدتها :-
” هل هناك شيء ما دفعك للمجيء الى غرفتي..؟!”
قالت فاتن بجدية :-
” أتيت فقط لرؤيتك والإطمئنان عليك قبل النوم وكي أخبرك ألا تشغلي بالك بأي شيء …”
” انا بخير ..”
قالتها ليلى وهي تبتسم برقة عندما سمعت صوت رنين هاتفها فإتجهت تحمله من فوق الفراش بعدما وضعته عليه لتمد مريم رأسها كي تعرف هوية المتصل عندما هتفت ليلى وهي تنظر الى والدتها :-
” إنه كنان …”
” حسنا أجيبي عليه .. ربما يريد إخبارك بشيء ما ..”
ثم أشارت الى مريم :-
” هيا يا مريم …”
سألتها مريم بعدم فهم :-
” إلى أين ..؟!”
قالت والدتها بتنبيه :-
” كنان يتصل بليلى .. لنغادر نحن …”
سألت مريم بحيرة :-
” لماذا سنغادر ..؟! غادري أنت فأنا أريد البقاء معها قليلا …”
نظرت فاتن لها بعدم تصديق قبل أن تقول :-
” لا تكوني غبية يا مريم .. مالذي ستفعلينه معها الآن ..؟! الفتاة ستتحدث مع الرجل الذي بمثابة خطيبها لذا يجب أن تغادري حالا وتتركيها على راحتها …”
إحتقنت ملامح مريم بجمود بينما كتمت ليلى ضحكتها عندما تمتمت مريم مرغمة :-
” حسنا ، سأغادر ..”
ثم خرجت من الغرفة على مضض تاركة ليلى تضحك بخفة على شقيقتها وحنقها الغير مبرر ..
………………………………………………………
كانت تجلس فوق الكنبة بملامح متألمة بعد تلك المواجهة الصعبة التي جمعتهما ..
كل شيء عاد من حيث بدأ …
لقد عادا الى نقطة الصفر مجددا …
وهي التي ظنت إنها تستطيع أن تفعل شيئا وتحرره من قيود الماضي …
تأملت أن يسمعها هذه المرة ويستوعب حديثها بعدما حدث مع جيلان ….
تأملت أن يفيق من غفلته ويفهم إنه يدمر نفسه ومن حوله بتصرفاته وبما فعله مسبقا وما زال يفعله …
تلألأت الدموع داخل عينيها الخضراوين وهي تتذكر ما حدث بعدما نطقت كلماتها …
” عندما تسعى لإصلاح أخطائك في حق جميع من حولك وأولهم أخيك … نديم يا عمار .. نعم سيكون صعبا لكن حياتك وحياة طفلك القادم وحتى جيلان تستحق التضحية …لا بأس في بعض التضحية مقابل حياة سوية هانئة مع أحب الناس لقلبك .. جيلان وطفلك القادم …”
نظراته القاتمة وجمود ملامحه الذي إستمر للحظات قليلة بعدما أنهت حديثها جعلها تتوجس منه حذرا وهي تترقب ردة فعله المتوقعة ولم يخب ظنها عندما نطق وهو ما زال محتفظا بجمود ملامحه وقتامة عينيه :-
” هل جننتِ يا شيرين …؟! هل تستوعبين ما تقولينه …؟! ”
حاولت أن تحافظ على ثباتها وهي تردد :-
” أعي جيدا ما أقوله يا عمار … ما أقوله هذا لأجلك ولأجل جميع من حولك .. لأجل جيلان و ..”
صاح بها بقوة يقاطع حديثها :-
” إصمتي … توقفي عن هذا الهراء … لا شأن لجيلان بكل هذا …”
أضاف وهو ينهض من مكانه بعصبية بعدما تخلى عن جموده :-
” توقفي عن تفكيرك الأحمق المعتاد …”
نهضت من مكانها بدورها تخبره بقوة وإصرار :-
” تفكيري ليس أحمقا يا عمار .. أنا أقول الحقيقة .. الحقيقة التي مهما حاولت إنكارها فهي موجودة لا مجال للهرب منها …”
صاح بنرفزة :-
” أي حقيقة يا هذه ..؟! عم تتحدثين أنت ..؟! لقد جننت تماما ….”
أجابت بنفس الثبات وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها بعزيمة :-
” حقيقة إن جميع ما يحدث معك هو نتاج أفعالك الخاطئة والمؤذية لغيرك .. حتى ما أصاب جيلان كان بسببك … عليك أن تعلم إن جميع ما تمر به هو عقاب من الله الذي لن يرضى بظلمك مهما حدث .. ”
أكملت وهي تتقدم نحوه وتنظر له تحدي:-
” لا تحاول إنكار ما أقوله .. إعترف إن جميع ما يحدث معك هو نتيجة ما فعلته بأخيك وغيره .. إعترف إن جيلان وما حدث معها كان جزءا من عقاب الله لك .. إنه العدل يا عمار …”
كانت عيناه تنظران لها بشكل مخيف …
بدتا كحفرتين من الجمر المشتعل …
نطق وكل جزء منه يأبي الإعتراف بحديثها أو تصديقه :-
” توقفي عن حديثك هذا يا شيرين … إذا كنت تحاولين إحياء ضميري بهذه الكلمات فلن تفلحي … ”
” أنت تعترف إن ضميرك ميت إذا ..؟!”
نطقتها بلا وعي ليصرخ بصوت جهوري جعل بدنها يرتجف ذعرا مع نظرة عينيه القاتلتين :-
” نعم .. ”
أضاف بجبروت مهيب :-
” ضميري ميت … ضميري ميت يا شيرين … هل يرضيك هذا الآن ..؟!”
صاحت بدورها وقد شعرت بكلماته تلك تنهي جميع صبرها :-
” كلا لا يرضيني ولا يرضي أحد … أنت تدمر نفسك وجميع من حولك … إرحم نفسك وإرحم من حولك … توقف عن الإنكار … ”
أضافت برجاء وعينيها ملأتهما الدموع :-
” متى سوف تستيقظ من غفلتك تلك يا عمار ..؟! جبروتك هذا لا نهاية له .. طغيانك يا عمار سينقلب عليك فالنهاية ..”
أكملت بملامح محتقنة :-
” أنت دمرت حياة أخيك وليلى وغيرهم .. دمرتهم جميعا دون ذنب وما زلت ترفض الإعتراف بذنبك في حقهم جميعا …”
” ذنبي في حقهم ..؟!”
نطقها بتهكم وهو يضيف :-
” وماذا عن ذنب صباح في حق والدتي ..؟! وعن ذنبهم في حقي ..؟! صباح ووالدي وجدتي وغيرهم ..”
إسترسل :-
” ماذا عن رحيل والدتي في منتصف شبابها بتلك الطريقة الشنيعة ..؟! ماذا عن معاناتها لسنين بسببهم ..؟! ماذا عني وأنا أتجرع مرارة فقدانها منذ طفولتي مرة بسبب والدي ومرة بسبب الموت ..؟!”
إندفع يقبض على ذراعها يهزها وهو يصرخ بها :-
” ماذا عن حقي أنا ..؟! هل أتنازل عنه ..؟! وإذا فعلت فهل سأتنازل عن حق والدتي أيضا ..؟! أنا تجبرت نعم … وظلمت نعم .. ولكن جميع ما فعلته لم يكن سوى دين .. دين واجب عليهم أن يدفعوه .. كان يجب أن أخذ حقي وحق والدتي منهم . هل فهمت .. ؟! هل فهمت يا شيرين ..؟! أجيبي ..”
كان يصيح بأعلى صوته وهو مستمر في هزها بينما دموع شيرين تتساقط فوق وجنتها بحرارة لتصيح به أخيرا :-
” توقف ..”
ثم حررت ذراعها من قبضته بعنف وهي تضيف :-
” وهل تعتقد إنك إسترجعت حقك وحق والدتك بهذه الطريقة ..؟! بالظلم والطغيان .. بتلفيق تهمة لأخيك دمرت مستقبله كاملا .. بتدمير حياة ليلى التي لا علاقة لها بجميع ما تقوله أساسا …”
أضافت وهي تبتسم بألم:-
” أنت تعتقد إنك بما فعلته نلت حقك وحق والدتك .. وماذا تعتقد أيضا ..؟!”
نطق بجمود :-
” لا يهمني جميع ما تقولينه .. المهم إنني أخذت حق والدتي ممن ظلمها أيا كانت الوسيلة .. لقد إنتقمت منهم جميعا كما وعدت والدتي … أخذت حقها الذي عجزت هي عن أخذه في حياتها .. جعلتها ترتاح في قبرها بعدما عاشت لسنوات تتعذب في دنياها …”
” يكفي يا عمار … يكفي بالله عليك ..”
صاحت به شيرين بألم باكي وهي تضيف :-
” هل تعتقد إن والدتك تشعر بالراحة الآن بعدما فعلته ..؟! هل ستشعر والدتك بالراحة وأنت أخذت حقها منهم بهذه الطريقة ..؟! هل ستشعر بالراحة وهي تعلم إنك بما فعلته أصبحت ظالما لا تختلف عنهم بشيء ..؟؟ هل ستشعر بالراحة وهي تراك على هذه الحالة المرعبة …؟! وماذا عن جيلان ..؟! هل تعتقد إن والدتك سعيدة بما فعلته وما نتج عنه ..؟! هل والدتك سعيدة بما حدث مع إبنتها التي تركتها أمانة عندك ..؟!”
صاح بها :-
” توقفي …”
صرخت بدورها :-
” بل توقف أنت ..”
أكملت بأنفاس لاهثة :-
” توقف بالله عليك .. مرة واحدة فقط إستوعب ما تفعله .. إستوعب مدى الضرر الذي ستلحقه بنفسك ومن حولك بسبب تصرفاتك التي ما زلت متمسكا بها ..”
أردفت بتوسل :-
” إذا لا يهمك نفسك وما سيصيبك ففكر بجيلان وطفلك … فكر بنا يا عمار .. لا ذنب لجيلان كي تدفع ثمن جرائمك … انا لن أسمح لك بتدميرها وتدمير طفلنا القادم .. توقف بالله عليك .. راجع نفسك وتصرفاتك .. إذا لم يكن لأجلك فليكن لأجل جيلان ولأجلي أنا وطفلك …”
هتف بقوة تسبب القهر :-
” انا أستطيع حمايتكم جميعا وحماية نفسي أيضا ..”
” أنت تتوهم .. إذا كنت تعتقد إنك ستنفذ سالما بنفسك وبنا دون أضرار بعد كل ما فعلته فأنت موهوم … أخيك لن يتركك وشأنك … لا بد إنه يسعى لنيل حقه منك …”
” ليفعل ما يشاء … لا يهمني ..”
نطقها بلا مبالاة لتصيح به بأعصاب منهارة :-
” لكنه يهمني .. يهمني أنا يا عمار .. لست مستعدة أن أخسر طفلي بسببك .. لن أقبل أن يدفع طفلي ثمن أفعالك .. وجيلان كذلك … ”
أضافت بتعب :-
” أنت ستصبح أب بعد أشهر قليلة .. إذا لم تفكر بطفلك ولا بأختك بعد كل هذا فيؤسفني أن أقول إنني لا يمكنني البقاء على هذا الوضع لإنك ..”
صمتت تبتلع ريقها وهي تضيف بحسرة :-
” لإنك ستثبت لي حينها إنك لا تملك ضميرا ولا إحساس ولا خوف من الله ومن لا يخاف ربه لا يمكنني أن أعيش معه .. من لا يخاف ربه أتوقع منه أي شيء مهما بلغت بشاعته …”
عاد الجمود يكسو ملامحه وهو يردد :-
” ومالذي يجبرك على البقاء معي إذا ..؟!”
نظرت له بوهن ليضيف وهو يردد بغضب مكتوم :-
” مالذي يجبرك على البقاء مع رجل مثلي يا شيرين …؟! ”
أضاف بسخرية :-
” شيرين المثالية .. البريئة التي تزوجت وحشا مثلي تعرف جميع أفعاله … تزوجته رغما عن أنف الجميع .. رغما عن أهلها ورفضهم لهذه الزيجة .. بل وحملت منه أيضا وفجأة تذكرت مدى قذارة أفعاله فقررت أنه وحش مؤذي معدوم الضمير ولا بد أن يعود الى وعيه …”
همست بملامح موجوعة :-
” لا بأس يا عمار .. لن ألومك على ما تقوله ولا على معايرتك لي لإنني أستحق .. أستحق سماع هذا الكلام بعدما تحديت الجميع لأجلك وأنت لا تستحق .. انا الحمقاء الغبية التي أحبتك بشدة وظنت إنها سوف تستطيع إصلاحك يوما ما وإنتشالك من ظلامك لكنني وبكل شجاعة أعترف إني فشلت .. وإنني أستحق أن أعيش ما أعيشه الآن وأسمع ما سمعته على لسانك ..”
مسحت دموعها بقوة وهي تكمل بثبات رغم الألم :-
” ولكن جميع هذا سينتهي وحالا … طلقني يا عمار .. طلقني لإنني لا يمكنني الإستمرار مع رجل مثلك …”
تطلع لها بنفس الجمود وهو يسألها :-
” هل أنت متأكدة من قرارك ..؟!”
ردت بثبات مبهر مقارنة بما يعتمل داخلها من مشاعر :-
“طلقني لإنك أبشع شخص رأيته في حياتي .. طلقني لإنني أفضل الموت حالا على الإستمرار مع رجل مثلك …”
نطق ببرود :-
” لا داعي أن تتعبي نفسك أكثر .. سأطلقك وحالا ..”
صمت لوهلة ثم قال :-
” أنت طالق …”
نطقها ثم ما لبث أن إندفع بكل قوته خارج المكان متجاهلا تلك المعزة التي شعر بها داخل قلبه …
كان عليه الإعتراف إنه خسر لأول مرة منذ أعوام ..
تذوق طعم الخسارة مجددا …
نعم هو يعترف إنه خسر حتى لو تمت هذه الخسارة بكامل إرادته ..
…………………………………………………..
تقف بجانب النافذة الضخمة تتطلع الى الخارج بصمت بينما تضع يديها فوق بطنها ذات البروز الضئيل …
كانت شاردة تماما في عالم آخر عندما سمعت صوت طرقات على باب الغرفة جعلتها تستيقظ من شرودها لتهتف بصوت عالي قليلا كي يسمعه الطارق :-
” تفضل ..”
دلف سيف الى الداخل مرددا :-
” مساء الخير ..”
” مساء النور ..”
تمتمت بها بخفوت عندما سار أمامها ثم وقف على مسافة منها يخبرها :-
” والدتي أخبرتني إنها تحدثت معك صباحا ….”
أومأت برأسها وهي تتذكر حديث والدته .. تلك المرأة التي بدت لها مخيفة بنظراتها القاسية والتي أخذت تتفحصها لثواني شعرت بها تعريها تماما ..
لهجتها وهي تلقي عليها التحية بإقتضاب ..
كانت تمتلك ملامح قاسية نوعا ما لم تنجح تجاعيد وجهها في إخفاء صلابتها …
تذكرت حديثها المقتضب وهي تخبرها بنبرة شديدة آمرة :-
” أخبرني سيف إنك ستبقين هنا لبضعة أيام وأنا إضطررت الى الموافقة .. ستبقين في القصر حتى يجد سيف حلا لوضعك هذا … طوال فترة بقائك هنا ستلتزمين بأوامري … لا خروج لك من هذا الجناح إلا للضرورة القصوى فأنا لا أريد أن يراكي أي أحد من أبنائي أو أقاربي وأصدقائي .. طعامك سيصلك الى هنا والخادمات سيجلبون لك ما تريدين … أريدك أن تلتزمي الجناح طوال فترة وجودك هنا وأتمنى ألا نتعرض لأي أزعاج بسببك …”
أنهت كلماتها وهي ترمق جيلان بنظرة صارمة جعلتها ترتجف كليا لتغادر الجناح دون أن تنتظر جوابها وكأنها تدرك جيدا إنها ستلتزم بحديثها كله بالحرف الواحد …
أجابت بخفوت :-
” نعم ، لقد أتت صباحا وتحدثت معي …”
سألها بإهتمام :-
” هل ضايقتك …؟! ماما صعبة قليلا … ”
ردت بتردد :-
” أبدا ..”
سألها مستشعرا كذبها :-
” ماذا قالت لك إذا ..؟!”
حركت أناملها تزيح من خلالها خصلة من شعرها خلف أذنها وهي تجيب بصوت متقطع قليلا :-
” طلبت مني أن ألتزم البقاء في الجناح حتى مغادرتي القصر .. هذا ما قالته …”
تنهد وهو يشير الى السرير جانبه يخبرها :-
” تعالي وإجلسي هنا يا جيلان …”
اتجهت نحوه بتردد وجلست على السرير ليجلس هو على مسافة بعيدة عنها مرددا بحذر :-
” نحن يجب أن نتحدث يا جيلان .. يجب أن نقرر ما سنفعله…”
توترت ملامحها وهي تتسائل :-
” ماذا سنفعل ..؟!”
حاولت طمأنتها مرددا :-
” لا تقلقي .. أنا لن أتراجع عن وعدي لك … لكن يجب أن تفهمي إن ما تفعلينه ليس حلا .. أنت حامل يا جيلان … ”
ترقرقت الدموع داخل عينيها وهي تتمتم ببراءة عفوية :-
” لكنني لا أريده .. لا أريد هذا الطفل .. هل يمكنك تخليصي منه ..؟!”
تنهد قائلا :-
” غير ممكن يا جيلان … ما تقولينه جريمة .. ”
هطلت دموعها فوق وجنتيها ليزفر أنفاسه مرددا :-
” توقفي عن البكاء من فضلك ..”
أضاف يحاول إقناعها:-
” أنت حامل يا جيلان .. يجب أن تتقبلي هذا الأمر وتتعاملين معه ..”
” لكنني صغيرة ..”
قالتها وهي تنظر له بعينيها الحمراوين بعدما توقفت عن البكاء لتضيف بخفوت :-
” ماذا سأفعل به ..؟! ”
إسترسلت بعفوية آلمته :-
” أنا لدي إمتحانات وزارية بعد أشهر قليلة … سأدخل الجامعة بعدها .. كيف يمكنني فعل هذا وأنا حامل وسأنحب طفلا أكون أنا أمه …”
هتف بهدوء :-
” هناك الكثيرات ممن يتزوجن في عمرك وينجبن أطفالا ورغم هذا يدرسن وينجحن ويدخلن الجامعة ….”
نطقت وهي تبرم شفتيها :-
” لكنني لا أريد أن أكون مثلهن .. لماذا لا أكون كالبقية .. ؟! ”
قال ببطأ :-
” لإن هذا قدرك يا جيلان وأنت عليك قبوله والتعايش معه ..”
نظرت له ببؤس فقال وهو يبتسم لها :-
” صدقيني يا جيلان … لا حل أمامك سوى القبول بالأمر الواقع .. لقد أراد الله حدوث هذا .. ”
تنهد مجددا وهو يضيف :-
” عليك أن تعلمي إن كل شيء له نهاية .. أي مشكلة مهما بلغ حجمها سيأتي يوم وتنتهي … عدا الموت … طالما هناك روح داخلك فأنت تستطيعين تجاوز جميع ما حدث وما سيحدث … صدقيني يا جيلان … لقد أراد الله أن تصبحي أما في عمرك هذا … تقبلي أمره ولا تعتقدي إن حياتك ستنتهي عندما تصبحين أما في سنك هذا … حياتك سوف تستمر وأنت سوف تستطيعين العيش وتحقيق أحلامك طالما تمتلكين الرغبة في ذلك أيا كانت الظروف .. كما أخبرتك لا شيء يصعب على المرء تجاوزه وحله عدا الموت …”
أخفضت وجهها نحو الأرض بسكون ليتأملها للحظات ثم يقول :-
” أتمنى أن يقنعك حديثي وصدقيني أنا أقول ما هو في مصلحتك … هذا الطفل أصبح أمر واقع في حياتك .. لذا عليك تقبل هذا والتعايش معه … والأفضل أن تخططي لمستقبلك منذ الآن بوجود هذا الطفل وتنظمي وقتك أيضا حتى تستطيعي أن تنهي دراستك بتفوق بدلا من البقاء على هذه الحال … تبكين وتتأسفين على حالك فقط …”
أنهى كلماته بإبتسامة مشجعه ثم نهض من مكانه مرددا :-
” سأتركك تفكرين في كلامي جيدا .. وتذكري إنني معك في كل الأحوال ولن أخلف وعدي لك … ولكن أرجو أن تفكري في كلامي جيدا يا جيلان ..”
تحرك مغادرا الجناح تاركا جيلان تنظر أمامها بحيرة وتشتت ..
هي تعلم إن ما يقوله للأسف صحيح …
هي باتت مقيدة بهذا الطفل الموجود داخلها ..
شائت أم أبت فهي من تحمل هذا الطفل وهي من ستنجبه ..!
هي أمه حتى لو حدث هذا رغما عنها …
ولكن ماذا تفعل ..؟! هي لا تستطيع تقبل هذا ..
كيف تتقبل وجود طفل في حياتها ..؟! حياتها التي لم تبدأ فعليا بعد ..!!
وإذا قررت تقبله فهل سوف تستطيع رعايته ..؟؟
هل سوف تستطيع النجاح في حياتها والعناية به في نفس الوقت ..؟؟
هل تستطيع هي أن تكون أما لطفل صغير ..؟!
شعرت برهبة شديدة من مجرد تخيل الفكرة ..
هي أم لطفل صغير.. طفل ستهتم به وترعاه .. طفل ستكون هي المسؤولة عنه .. ستكون أمه ..
أدمعت عيناها مجددا وهي ترى نفسها أضعف من أن تتحمل مسؤولية كهذه ..؟!
هي ما زالت صغيرة وضعيفة ..
كيف يمكنها أن تربي طفلا وتعتني به ..؟!
هل تستطيع أن تفعل هذا فعلا ..؟!
هل ستنجح في هذا ..؟!
ظلت تطرح على نفسها هذه الأسئلة مرارا دون أن تجد جوابا شافيا عليها ..!!
…………………………………………………….
كانت نانسي مستسلمة للممرضة التي تعتني بها تتناول منها أدويتها بصمت بينما تقف هايدي جانبا تتأمل شقيقتها الهادئة تماما منذ إستيقاظها من غيبوبتها القصيرة حيث تلتزم الصمت والهدوء ولا تتحدث إطلاقا بينما تكتفي بإجابات مختصرة على الأسئلة الموجهة لها …
” الحمد لله على سلامتك مجددا .. ستخرجين من هنا خلال ثلاثة أو أربعة أيام بإذن الله ..”
قالتها الممرضة وهي تبتسم لها بإشراق لتغمغم نانسي بخفوت :-
” شكرا …”
اتجهت هايدي نحو شقيقتها وهي تشكر الممرضة التي إستأذنت وخرجت لتجلس هايدي على الكرسي المجاور لسرير شقيقتها تسألها بإهتمام بالغ :-
” كيف تشعرين الآن..؟! هل هناك شيء ما يؤلمك أو يضايقك ..؟!”
إبتلعت نانسي ريقها ثم هزت رأسها نفيا وهي تجيب بنفس الخفوت :-
” كلا …”
ثم تأملت شقيقتها بنظرات رغم صمتها تحمل الكثير فسألتها هايدي بقلق :-
” هل هناك شيء ما يا نانسي ..؟! لماذا تنظرين إلي هكذا ..؟!”
أخفضت نانسي عينيها نحو الأسفل لتقبض هايدي على كفها تسألها مجددا :-
” لماذا لا تنظرين إلي ..؟! ماذا يحدث معك ..؟! تحدثي …”
صمتت هايدي للحظات قبل أن تسأل مجددا بصبر :-
” أرجوك تحدثي يا نانسي .. لا تبقي على صمتك هذا ..”
وفجأة وجدت العبرات تغزو وجنتي نانسي تدريجيا حتى رفعت نانسي كفها فوق شفتيها تحاول كتم شهقاتها عندما همست هايدي إسمها بتردد مصحوب بالألم قبل أن تقبض على كفها تؤازرها مرددة :-
” لماذا تبكين يا نانسي ..؟! ماذا حدث …”
بدأ صوت شهقاتها يظهر بعدما فقدت نانسي السيطرة على نفسها …
أخفضت كفها بعيدا عن فمها وأطلقت العنان للمزيد من دموعها التي يصاحبها صوت شهقاتها التي أخذت ترتفع تدريجيا ومعها تهبط أنفاسها وترتفع …!!
بقيت هايدي تتأملها بعينين داميتين تاركة المجال لها لتفرغ أوجاعها خلال هذه الدموع عندما همست بعد مدة محاولة التخفيف عنها :-
” حسنا ، توقفي عن البكاء … أنت ما زلت في مرحلة التشافي … لا تفعلي هذا من فضلك …”
أخذت نانسي تمسح دموعها بصمت محاولة عدم البكاء مجددا لتسألها هايدي :-
” هل تشعرين إنك أفضل الآن ..؟!”
عادت نانسي تنظر لها بنفس الوجع لتسألها هايدي مجددا بحيرة :-
” أشعر إنك تريدين قول شيء ما لكنكِ لا تجيدين فعل ذلك … ”
نطقت نانسي بتردد :-
” هايدي أنا …”
نظرت هايدي لها بترقب لتضيف نانسي بعينين عادت العبرات تملأهما ونبرة مشحونة :-
” آسفة … ”
تأملت هايدي الندم الظاهر في عيني شقيقتها التي إسترسلت :-
” آسفة حقا … ”
” علام تعتذرين يا نانسي ..؟! أنا لا أفهم حقا ..”
قالتها هايدي بحيرة لتنطق نانسي بنبرة مرتجفة ما زالت تحمل آثار بكائها :-
” آسفة على ما تسببت به لك من متاعب .. آسفة لإنني وضعتك في هذا الموقف المحرج … آسفة لإنني فعلت هذا بك … آسفة جدا …”
” نانسي ..”
قالتها هايدي محاولا إيقافها لكن نانسي إستمرت في حديثها وهي تضيف بينما تحاول السيطرة على دموعها التي عادت تريد الإنهمار مجددا:-
” ليتني مت في هذا الحادث .. كنت سأوفر عليك الكثير .. انت لا ذنب لك لتتحملي كل هذا … لا ذنب لك أن تتحملي نتائج أفعالي الطائشة ..”
شهقت باكية وهي تضيف :-
” صدقيني انا لم أفكر بشيء سوى الموت … ظننت إنني سأموت مع الطفلين ما إن ألقي نفسي أمام السيارة .. لو كنت أدرك إنني سأعيش ما كنت لأفعلها وأحملك هذه المشقة … ”
هتفت هايدي بعدم تصديق :-
” مالذي تقولينه يا نانسي ..؟! هل أنت حمقاء ..؟؟ انا كدت أموت من رعبي عليك .. أخذت أدعي الله ليلا ونهارا كي ينقذك ويعيدك إلي سالمة … انت لا تتصورين ما كنت أشعر به يوميا وأنا أراك فاقدة للوعي وحالتك خطرة … كنت أموت في اليوم ألف مرة بسبب خوفي من خسارتك ..”
إحتقنت عيناها بالدموع وهي تضيف :-
” أنت شقيقتي الوحيدة يا نانسي .. انا أتحمل أي شيء عدا خسارتك … لا يمكنني تحمل خسارتك أبدا … لم أكن أستطيع العيش بدونك يا نانسي .. والله كنت سأموت من قهري عليك …”
تساقطت عبرات نانسي من جديد لتخفض هايدي جسدها نحوها وتعانقها فتستجيب نانسي لعناقها بترحاب عندما قالت هايدي تؤنبها :-
” إياك أن تتفوهي بهذه الحماقات مجددا …”
هزت نانسي رأسها وهي ما زالت تبكي بين أحضان شقيقتها عندما إبتعدت هايدي بعد لحظات عنها تبتسم لها بدعم لتسألها نانسي بصوت مبحوح :-
” الطفلان .. سيتألمان بسببي .. هما سيدفعان ثمن أخطائي ..”
قاطعتها هايدي بسرعة وهي تضع يدها فوق فمها :-
” لا تقولي هذا يا نانسي .. لقد كتب الله لهما الحياة … من نحن لنعترض على وجودهما ..؟!”
أكملت وهي تقبض على كفها تخبرها بدعم :-
” انا معك وأعدك إن الطفلين سيولدان بخير وسيعيشان أفضل حياة ولن يتألمان أبدًا بإذن الله …”
ابتسمت نانسي من بين دموعها لتهمس لها هايدي بفرحة :-
” هل تعلمين إنهما صبي وبنت …”
ابتسمت نانسي لا إراديا مرددة :-
” حقا ..؟!”
هزت هايدي رأسها وهي تضحك بسعادة بينما تشاكسها قائلة :-
” أنا إخترت اسم الفتاة .. سأسميها هايدي وأنت لن تمانعي طبعا …”
ابتسمت نانسي مرددة :-
” وهل يجرؤ أحد على ممانعة قرارك يا هايدي ..؟!”
عادت هايدي تعانقها بحب وهي تتنهد بقليل من الراحة وقد نجحت في التخفيف من حالة أختها المزرية ..!
………………………………………………
كانت تجلس داخل أحضانه تتابع أحد الأفلام العربية القديمة بتركيز بينما هو يعبث في هاتفه يبحث عن هدية مناسبة لشقيقته فعيدميلادها يوم غد …
سأل حياة وهو يضع شاشة الهاتف أمام عينيها :-
” ما رأيك بهذه الأقراط ..؟!”
سحبت الشاشة تنظر إليها للحظات قبل أن تجيب :-
” رائعة ..”
تسائل مجددا :-
” نشتريها إذا ..؟!”
” برأيي إنها جميلة جدا وستعجبها .. خاصة إنها تشبه ذوق غالية كثيرا ..”
قالتها بجدية ليوافقها :-
” وأنا أيضا وجدتها تشبه ذوق غالية في المجوهرات …”
أضاف بعدها :-
” إذا سنذهب غدا الى المحل ونشتريها …”
” جيد ..”
قالتها وهي تبتسم ثم تعود الى داخل احضانه تتابع الفيلم مجددا ليسألها وهو يعبث في هاتفه مجددا :-
” هل ممتع الفيلم لهذه الدرجة كي تندمجي معه هكذا ..؟!”
سألتها بدورها :-
” ألا تحب الأفلام ..؟!”
أجاب بحيادية :-
” لا أحبها ولا أكرها .. ”
شرد بعدها وشعرت هي بشروده فنادت عليه لينتبه لها ..
سألته بإهتمام :-
” فيم شردت ..؟!”
رد بخفوت :-
” تذكرت أيام السجن ..”
تغضن جبينها وهي تسأله :-
” لماذا ..؟!”
كانت المرة الأولى التي يتطرق فيها للحديث عن تلك الفكرة التي كان واضحا لها كم يتجنب ذكرها عمدا وهي بدورها لم تفكر في التطرق لها أبدا ..
رد بجدية :-
” أنا لا أتوقف عن تذكرها أساسا .. أتذكرها دائما … ”
إبتعدت من بين أحضانه تعتدل في جلستها وهي تسأله بجدية :-
” لماذا تفعل بنفسك هذا يا نديم ..؟! لماذا تصر على تعذيب نفسك بهذه الذكريات ..؟!”
ابتسم مرددا بقهر خفي :-
” هذه الذكريات ستبقى جزءا لا يمكن نسيانه من حياتي .. هذه الذكريات صنعت مني شخصا جديدا … صنعت نديم الذي ترينه اليوم .. نديم الموصوم بتهمة التجارة بالممنوعات … نديم الجاني في نظر الجميع … ”
قالت بجدية :-
” يجب أن تنسى يا نديم … يجب أن تفكر في المستقبل …”
قال بهدوء :-
” النسيان مستحيل .. لكنني سأتجاوز وسأفكر في مستقبلي عندما أستعيد حقي .. ”
نظرت له بصمت ليضيف بإقرار :-
” عندما أثبت برائتي يا حياة …”
نطقت بتروي :-
” أنا معك يا حبيبي بكل الأحوال .. ولكن كيف ستفعل هذا ..؟! أشعر إنك تخطط لشيء ما من نبرة صوتك وطريقة حديثك …”
تأملها بصمت للحظات قبل أن يقول بخفوت :-
” فقط عليك أن تعلمي إن جميع ما سأفعله هو لأجلك ولأجل طفلنا القادم .. أريد أن يأتي طفلي وهو فخور بوالده الذي إستطاع إثبات برائته رغم مرور عدة سنوات .. لا أريده أن يعيش خجلا من ماضي والده الذي يعتبر مجرم سابقا في نظر القانون والمجتمع ..”
” ما هذا الكلام يا نديم ..؟! ابنك سيفتخر بك دائما وأبدا لإنك والده .. والده الذي يحبه ويرعاه دائما وأبدا …”
أخذ نفسا عميقا ثم نطق بتردد :-
” سأطلب منك شيئا ..”
نظرت له بتأهب ليضيف بحذر :-
” إذا لم أستطع إثبات برائتي أبعديه عن هنا .. لا أريده أن يبقى في هذه البلاد ويحيا معانيا بسبب سمعة والده المدنسة … ”
توقف للحظة يتأمل الخوف والرفض في عينيها ليضيف برجاء :-
” وأخبريه إنني بريء وإنني أحبه وآسف كثيرا لإنني كنت أنانيا وأنجبته رغم إدراكي لصعوبة ما سيعيشه بسبب ماضي لا ذنب له فيه ….”
” مالذي تقوله يا نديم ..؟! مالذي أفهمه من هذا الكلام ..؟! هل ما فهمته صحيح ..؟؟ أنت اتحدث وكأنك …”
توقفت الكلمة داخل حلقها ترفض الخروج ليقول وهو يحتضن وجهها بين كفيه :-
” لا تقلقي يا حياة .. بإذن الله كل شيء سيكون بخير ولكن ..”
أخذ نفسا عميقا ثم أضاف :-
” الحذر واجب والقادم مجهول .. انا فقط أريدك أن تعديني أن تفعلي ما طلبته منك …”
قبضت على كفه المحيطة بوجهها :-
” نديم نحن نريدك … انا وطفلك نريدك ولا نريد شيئا غيرك .. فليذهب كل هذا الى الجحيم .. فليذهب الناس جميعا والمجتمع .. لا يهم أي شيء عداك .. المهم أنت ولا شيء غيرك ..”
نطق بأنفاس متألمة :-
” يؤسفني أن أخبرك إن ما تقولينه ليس صحيحا .. كلانا يعرف إن الحياة في مجتمعنا هذا ستكون صعبة وإن تهمتي السابقة وسنوات سجني ستظل وصمة عار تلاحقني وتلاحق ذريتي .. الحياة ليست وردية يا حياة .. الحياة قاسية وانا لست مستعدا لأن أجعل طفلي يعاني بسببي حتى لو لم أكن مذنبا بالفعل ..”
أخذ نفسا عميقا ثم قال :-
” لذا أنا سأفعل المستحيل كي أثبت برائتي .. ليس لأجلي بل لأجله وأجلك أنت أيضا .. طفلنا يستحق التضحية بكل شيء لأجله يا حياة .. وأنا مستعد أن أضحي بكل شيء في سبيل نيل برائتي ..”
ملأت الدموع عينيها والخوف قلبها وقد شعر هو بذلك ليحتضنها موردا :-
” لا تبكي من فضلك .. توقفي عن البكاء .. إذا لم يكن لأجلي فلأجل طفلنا …”
قالت عن قصد وهي تمسح دموعها :-
” بل سأفعل لأجلك …”
أضافت بجدية وهي تلمس لحيته بأناملها :-
” لا تتركني يا نديم .. انت أصبحت كل حياتي .. بالله عليك لا تتركني .. بدونك سأعود وحيدة …”
جذبها نحو صدره يعانقها مرددا :-
” سأحاول بكل قوتي ألا أتركك يا حياتي …”
ترقرقت الدموع داخل عينيها وهي تضم نفسها أكثر داخل أحضانه بينما يشدد هو من عناقها وعقله يشرد لا إراديا مفكرا بما هو قادم ..
…………………………………………………….
في صباح اليوم التالي ..
خرجت من الحمام وهي تجفف شعرها بالمنشفة ..
لقد بقيت مستيقظة طوال الليل تفكر فيما يحدث معها تتذكر ما حدث وما زال يحدث بسبب شخص واحد …
شخص لم يكتف بتدمير حياة شقيقتها فجاء دورها لتنال هي الأخرى من أذيته ولكنه لا يعلم إنها ليست كشقيقتها بل هي ليست كالبقية …
هي مختلفة تماما عنهم جميعا ..
هي ليست مسالمة كشقيقتها او متخاذلة كإبن خالتها …
هي مريم القرية .. مريم التي لن تتنازل حتى تأخذ حقها كاملا من عمار ..
عمار الذي بسببه فقدت حبيبها وتدمرت حياتها ..
سيدفع عمار الخولي ثمن جميع أخطائه على يدها ..
على يدها هي ستكون نهايته …
رمت منشفتها على السرير بإهمال ثم أخذت تتأمل تلك الصور الموضوعة والجهاز الصغير الذي يحمل بعض تسجيلات صوتية جمعتها به وبذلك الآخر الذي يحاصر شقيقتها بكل قوته ويريد نيلها …
اتجهت نحو خزانة ملابسها حيث غيرت ملابسها سريعا ورفعت شعرها عاليا بعدما سرحته بسرعة لتغادر الفيلا مبكرا مستغلة إن الجميع ما زال نائما بعد ..
قادت سيارتها متجهة الى شركات آل نعمان وكما توقعت فهو لم يصل بعد ..
هي أتت مبكرا أكثر من اللازم ..
جلست على الجانب تنتظر قدومه بعدما طلبت من السكرتيرة أن تجلب لها القهوة ..
تأملت الشركة التي ما زالت فارغة بإستثتاء وجود الحرس وسكرتيرة كنان وقلة من الموظفين الذين يتطلب عملهم القدوم مبكرا ..
مرت اكثر من ساعة وكنان لم يصل فأخذت تتأفف بصمت وهي تتسائل عما كان سيحصل لو تأخرت في مغادرة المنزل قليلا ..!
وأخيرا وصل كنان فنهضت تستقبله ليتأملها ببرود وهو يخبرها أن تتبعه ويخبر السكرتيرة ألا تقاطع وجودها معه ..!!
فتح لها الباب لتدخل فدلفت الى المكتب يتبعها هو مرددا بعدما أغلق الباب خلفه :-
” كنت أنتظر مجيئك ..”
إستدارت نحوه تتأمله بعينين مشتعلتين ليهتف بنفس البرود المغيظ :-
” كيف حالك يا مريم ..؟!”
” إبتعد عن ليلى ..!!”
قالتها بشراسة ليبتسم مرددا ببرود مغيظ :-
” لن أفعل …”
أضاف وعيناه تنظران إليها بقوة وثقة جعلتها ترغب في تهشيم وجهه الجذاب :-
” انا وليلى سنتزوج … ”
قاطعته بحدة :-
” سأخبرها كل شيء .. ستعرف الحقيقة …”
قاطعها وهو يهز كتفيه بلا مبالاة :-
” إفعلي ما تشائين … أخبريها عن كل شيء ..”
نظرت له بغل ولعنت نفسها مرارا فلو سيطرت على لسانها ولم تخبره بأمر خطبة ليلى من زاهر ما كان ليفعل كل هذا ويقتحم حياة شقيقتها بهذه السرعة ..
هي من أيقظته من سباته بعدما قالت ما قالته ..
هي من تسببت بهذه الفوضى بسبب تسرعها المعتاد ..
همست بقوة مصطنعة :-
” ليلى لن تقبل بك إذا علمت بخطتنا ..”
قاطعها وهو يبتسم بخبث :-
” خطة ..؟! آية خطة …؟!”
اتسعت عيناها بعدم فهم ليضيف بسرعة مدعيا التذكر :-
” آه تذكرت .. تقصدين إتفاقنا انا وانتِ وخطتنا للتخلص من عمار …”
هزت رأسها بحذر ليبتسم ملأ فمه وهو يهتف :-
” آسف يا مريم ولكنني نسيت إخبارك بالأمور المستجدة .. من الآن فصاعدا أنت خارج هذه الخطة … لن تكوني جزءا من إنتقامي المنتظر … ”
صاحت بعدم تصديق :-
” ماذا تقول انت ..؟!”
أجاب بهدوء مقيت :-
” كما سمعتِ .. انت بعد الآن خارج هذه اللعبة … وعمار سأعرف جيدا كيف أنال حقي منه بدونك .. انت لستِ طرفا في هذه القضية بعد الآن …”
هتفت وهي تلوي فمها متهكمة :-
” هل تفعل ذلك لأجل ليلى ..؟! ”
رد بصدق :-
” بالطبع .. أساسا لا يوجد سبب غير هذا …”
حملقت به للحظات قبل أن تهتف به بجمود :-
” هل تعتقد إنها ستقبل بك إذا علمت بما يدور بيننا ..؟! عفوا بما كان يدور ..؟!”
” لا أعلم ..”
أجابها بهدوء ثم أضاف :-
” لكن ما أعلمه إن قلبها سيتحطم كليا إذا علمت ما كان يجري بين شقيقتها وطليقها وما كانت تخطط له شقيقتها دون علمها …”
صاحت به :-
” أنت تعلم إنني كنت مجبرة على هذا مثلما كنت مجبرة على التعامل معك …”
ردد بإستهزاء :-
” حقا مجبرة ..؟! أنت معي أو بدوني كنت تسعين للتلاعب به والنيل منه .. كلانا يعرف هذا يا مريم ..”
هدرت به بقسوة :-
” انا لا يهمني جميع ما قلته .. سأخبرها بكل شيء .. فلتعلم حقيقة الرجل الذي سترتبط به …”
همت بالتحرك ليتحدث بنفس الهدوء :-
” أخبريها يا مريم لكن كوني على ثقة إنك ستؤلميها كثيرا وهي لا تستحق .. واقعيا فالإتفاق الذي بيننا إنتهى قبل أن يبدأ … من الآن فصاعدا لا دخل لك بهذا الأمر .. ”
أضاف بصدق :-
” بعيدا عن كل شيء يجب أن تعلمي إنني جاد في علاقتي بليلى .. أنا أريدها فعلا وقولا وسوف أسعى لإسعادها وتعويضها عما فات .. صدقيني يا مريم لن تجدي أحدًا سيرعاها ويعتني بها ويسعدها مثلي …”
ضغطت مريم شفتيها بقوة وهي تستمع الى حديثه ووعوده …
تعلم إن قلب شقيقتها سيتحطم مجددا اذا ما علمت بما كانت تفعله وما جمعها مع كنان والأسوء إنها أخفت هذا عنها …
ستفقد شقيقتها ثقتها بها تماما وستتعرض للخذلان مجددا ..!!
خذلان الله وحده يعلم كيف سيكون آثره عليها هذه المرة ..
أخذت نفسا عميقا وإستدارت نحوه تتأمل ملامحه الجادة بجمود لثواني قبل أن تهمس :-
” هل تعدني أن تعتني بها حقا ولا تخذلها كما فعل الذي قبلك ..؟!”
أخذ نفسا عميقا ثم قال :-
” أعدك يا مريم .. أقسم لك إنني سأفعل …”
نطقت بقوة :-
” إذا آذيتها فستجدني أمامك .. أنت تعرفني جيدا .. وتعرف إنني مجنونة ولا أرى أمامي عندما أغضب وآلم شقيقتي أكثر شيء يغضبني يا كنان …”
ابتسم متأملًا عصبيتها وكلماتها التي جعلتها تبدو كطفلة حانقة شرسة فقال يشاكسها قليلا :-
” أعلم يا مريم هانم .. لا أحد يستطيع الصمود أمام غضبك أساسا ..”
شمخت برأسها مرددة بغرور :-
” من الجيد إنك تعلم هذا ..”
ثم منحته نظرة محذرة وهي تغادر مكتبه تاركة إياه يتابعها وهي تغادر وإبتسامة هادئة مرتسمة على شفتيه ..
………………………………………………..
خرجت الى غرفتها بعد حمام طويل مارست خلاله طقوسها المفضلة من العناية ببشرتها واستخدام مستحضرات الإستحمام التي إعتادت على إستخدامها بإستمرار ثم مارست الشيء المفضل لديها وهو الإسترخاء في البانيو لمدة طويلة بعدما ملأته بالماء الدافئ المخلوط بالصابون ذو رائحة مميزة تفضلها عادة …
وقفت أمام المرآة وهي تجفف شعرها بالمنشفة قبل أن تسحب مرطب الجسد الذي يلي الإستحمام وتبدأ بوضعه فوق جسدها …
إنتهت مما تفعله كليا وإرتدت بيجامة مريحة لتتجه نحو السرير مقررة النوم قليلا قبل سهرة المساء التي ستقضيها مع صديقتها ….
وضعت رأسها على المخدة بينما تعبث بهاتفها عندما عادت مجددا تفتح حسابه وتطالعه بتردد حائرة إذا ما تبعث له طلب صداقة أم تتجاهل الأمر ولا تفعل ذلك ..؟!
تأملت شاشة الهاتف بتفكير إمتد لحوالي ثلاثة دقائق قبل أن تحسم أمرها وتضغط على إضافة صديق وترسل له طلب الصداقة الذي ترددت به كثيرا …
لا تعلم لماذا تتصرف بحذر قليلا معه رغم كونها تدرك جيدا إن طلب الصداقة لا يعني شيئا معينا وإنه أمر طبيعي فحسابها الشخصي مليء بالأصدقاء ما بين الأقارب والمعارف وأصدقاء الجامعة والمدرسة والكثير غيرهم فهي لا تمانع من إضافة أي شخص طالما تجمعها به معرفة أيا كانت نوعها لذا فالأمر لا يبدو غريبا ..
بلى ، الأمر مختلفا هذه المرة فعادة ليست هي من ترسل طلب الصداقة بل المقابل من يفعل وهي تكتفي بقبول الطلب ..
إنها المرة الأولى التي تبادر بها لفعل شيء كهذا ..
شعرت بعدم الرضا يسيطر عليها فأرادت أن تلغي الطلب لكنها نهرت نفسها بقوة فليس من صفاتها التراجع عن شيء سبق وفعلته حتى لو كان ليس صحيحا …
سيطر العبوس عليها لا إراديا وهي تلقي هاتفها بعيدا بلا مبالاة وتجذب الغطاء فوق جسدها مقررة النوم بدلا من الإستمرار في التفكير بهذا الأمر …
إستيقظت بعد حوالي ثلاث ساعات وهي تشعر بالإنتعاش لتنهض من فوق سريرها وتتجه نحو الخزانة تبحث عن ثوبا مناسبا لها ترتديه فهي ستذهب للقاء احدى صديقاتها المقربات والتي عادت للسفر منذ يومين فقط ..
أخذت تجهز نفسها لأجل السهرة حيث إرتدت فستانا بسيطا لكنه أنيقا ثم أعدت شعرها وتركته منسدلا بحرية على جانبي وجهها …
وضعت مكياجها وعطرها وأنهت جميع المطلوب عندما حملت حقيبتها لتهم بالمغادرة لتتذكر أمر طلب الصداقة الذي أرسلته منذ ساعات فسارعت تفتح هاتفها ثم حسابها بفضول شديد لتشعر بالخيبة وهي ترى الطلب ما زال معلقا ..
مطت شفتيها بعدم رضا وهي تغلق الهاتف وتضعه داخل حقيبتها عندما تحركت خارج غرفتها وهبطت نحو الطابق السفلي لتتفاجئ بصالة الجلوس والممر الجانبي لها مظلما تماما والفيلا خالية من الجميع ولا حركة فيها ..
إبتسمت بخفة وقد فهمت المفاجئة المعدة ببساطة فاليوم عيدميلادها والأمر لا يحتاج الى ذكاء ..
دلفت الى الصالة وضغطت على زر الخاص بالضوء لتشتعل أضواء الصالة يصاحبها صوت صياح من جميع الموجودين …
ضحكت بسعادة وهي تجري مسرعة نحو صديقتها تعانقها غير مصدقة :-
” حتى أنت متفقة معهم ..”
ضمتها صديقتها مرددة :-
” بالطبع…”
أكملت وهي تبتعد قليلا عنها وتشير الى نديم :-
” لقد إتفقت مع نديم على مفاجئتك ..”
سارعت تعانق شقيقها الذي همس لها بحب :-
” كل عام وأنت بألف خير غاليتي …”
شددت من عناقه وهي تهمس له :-
” وأنت بألف خير يا حبيبي .. حفظك الله لي ..”
ثم اتجهت تعانق حياة وهي تخبرها :-
” ميلادي هذا العام أجمل بوجودك ….”
تمتمت حياة وهي تحتضنها :-
” كل عام وأنت بخير يا غالية …”
اتجهت بعدها تحيي الموجودين أولهم والدتها ثم البقية حيث حضر كلا من نادر ونرمين أبناء عمها وكذلك بعضا من صديقاتها المقربات والمعارف المقربين جدا …
عادت تتجه نحو صديقتها تخبرها بسعادة :-
” اشتقت لك كثيرا ..”
أضافت وهي تشير نحو حياة :-
” بالتأكيد تعرفت على حياة …”
ابتسمت نيفين وهي تقول :-
” لقد تعرفت عليها منذ البارحة بل كنت في شقتها هي وشقيقك نخطط للمفاجأة ..”
” فعلتم كل هذا بدوني ..”
قالتها ببؤس مصطنع ليهتف نادر بخفة :-
” ربما لإنهم يريدون مفاجئتك ..”
سألته هو وشقيقته بعفوية :-
” لماذا لم تأت أروى معكما ..؟!”
ردت نرمين :-
” لديها عمل … تعرفين طبيعة عملها ..”
ثم توقفت عن بقية حديثها عندما تفاجئت بأروى تدخل ومعها شريف فهي طلبت منه أن ترافقه الى حفل الميلاد الذي دعاها نديم إليه مسبقا ولكنها رفضت الذهاب مع أشقاؤها متعللة بأعمالها بينما السبب الحقيقي هو عدم حبها لغالية والذي تدركه شقيقتها الصغرى نرمين جيدا ولكنها تراجعت عن قرارها عندما علمت بذهاب شريف وقررت أن تحضر رغم ضيقها الشديد من إهتمامه بحضور عيدميلاد غالية ..
إستقبلتهما غالية بفرحة شديدة ورحب نديم بهما وكذلك صباح عندما أشارت نيفين بحماس :-
” هيا لنطفئ الشمع …”
ثم إتجهت غالية وخلفها الجميع نحو الطاولة الموضوع عليها كعكة العيد ميلاد وغيرها من الأشياء الخاصة بالإحتفال ..
…………………………………………..
أطفأت غالية شموع كعكتها فأخذ الجميع يصفق لها متمنين السعادة إليها عندما سارت تعانق والدتها اولا وشقيقها بعدها ثم حياة ثم عانقت نيفين وكذلك نادر بأخوية والبقية تدريجيا عندما وصلت الى شريف الذي قال لها بعينين لامعتين :-
” كل عام وانت بخير ..”
قبضت على كفه ترد تحيته وهي تجيب بإبتسامة رزينة:-
” وأنت بخير يا شريف ..”
ثم سارعت تحيي البقية غير منتبهة لعيني أروى الحارقتين خلفها ..
أخذت بعدها الهدايا وشكرتهم جميعا عندما إنسحبت بعض لحظات خارجا تعدل زينتها ثم عادت لتبدأ في إلتقاط الصور مع الجميع في هاتفها …
أثناء إلتقاطها بعض الصور وصلها إشعار بقبوله طلب الصداقة فإبتعدت عن إحدى صديقتها معتذرة وهي تفتح حسابها بسرعة تتأمل الإشعار قبل أن تغلقه بعد لحظات وتعود لإكمال ما تفعله …
مرت أكثر من نصف ساعة عندما عادت تفتح هاتفها ونشرت صورة لها مع الكعكة ملحقة بعبارة ” happy Birthday to me”
ثم نشرت الصورة وأخذت تنتظر وما هي إلا دقيقتين حتى وجدته يرسل رسالة لها مضمونة :-
” كل عام وأنت بخير ..”
ابتسمت بخفة وهي تجيب عليه :-
” وأنت بألف خير يا سيادة المقدم …”
سألها بإهتمام :-
” على ما يبدو إنك تحتفلين بميلادك مع العائلة ..”
ردت :-
” نعم مع العائلة والأصدقاء ..”
قال بمكر :-
” ومع هذا تستخدمين الفيس بوك وتجيبين على الرسائل والمباركات ..”
سبته بسرها وهي ترسل له :-
” فتحته منذ دقائق لأنشر بعضا من صوري …”
أضافت اكتب :-
” وأنت ، هل تجد وقتا لإستخدام الفيس بوك وسط عملك أم إنك مجاز اليوم ..؟!”
رد فورا :-
” عدت من عملي قبل عدة ساعات وغدا إجازة بالفعل ..”
” جيد ..”
كتبتها بإختصار لتجده يكتب :-
” أصبحت في الثامنة والعشرين إذا …”
كتبت بدورها :-
” نعم اليوم أكملت عامي الثامن والعشرين ..”
أضافت تسأله :-
” هل فاجئك عمري ..؟؟”
كتب قاصدا :-
” في الحقيقة ظننتك أكبر … ”
عادت تسبه مجددا وهي تكتب له :-
” ربما بسبب قوة شخصيتي … ”
” وما علاقة هذا بعمرك ..؟!”
ردت عن قصد :-
” عادة الناس يظننوني أكبر من عمري بسبب شخصيتي القوية القيادية .. تستطيع القول عندما يجدون نفسهم صغارا أمامي يعتقدون إنني كبيرة عليهم ..”
” ربما ..”
كتبها باقتضاب لتسأله :-
” وأنت كم عمرك ..؟!”
رد بإيجاز :-
” ٢٩ …”
كتبت :-
” غريب … ظننتك أصغر ..”
أرسل لها :-
” 🙂….”
ضحكت بخفة قبل أن تكتب :-
” يجب أن أذهب الآن .. أصدقائي ينتظرونني ..”
ثم إنتبهت الى تلك الصورة التي نشرتها لها احدى صديقاتها تجمعها بمجموعة من أصدقائها من الفتيات والشباب ايضا فإبتسمت بخبث وهي تغلق الهاتف دون إنتظار جوابه بينما انتبه هو الى الصورة التي أشارت بها صديقتها إليها فغلت الدماء داخل عروقه وهو يراها تتوسط فتاتين يقف جانبهما أربع شباب وثلاث فتيات آخريات وقد كتبت صديقتها فوق الصورة :-
” مع أصدقاء العمر ..”
تأمل الأربع شباب الوسيمين بملامح متجهمة قبل أن يغلق الهاتف مرددا من بين أسنانه :-
” شباب يا غالية .. لديك أصدقاء شباب …”
أردف بوعيد :-
” لنرى إذا ما سيبقى لديك صديق واحد بعد إرتباطنا .. سألغي أي مذكر عداي أنا وشقيقك من حياتك يا هانم .. ”
وهو كان يعني ما يقوله حقا فغيرته مخيفة وهي تستحق غيرته هذه وأكثر ..
…………………….
كانا يجلسان خارجا في الحديقة سويا مبتعدين عن الضوضاء في الداخل عندما سألها نديم :-
“غدا موعدنا عند الطبيبة .. أليس كذلك ..؟!”
أومأت برأسها وهي تجيبه :-
” نعم ، في الساعة الخامسة عصرا ..”
هز رأسه بتفهم لتقول :-
” لم أتخيل أن تكون سعيدا الى هذا الحد بخبر حملي ..!!”
ابتسم مرددا بصدق :-
” لا يمكنك أن تستوعبي مقدار سعادتي …”
ابتسمت وهي تضع رأسها فوق كتفه لتسأله بخفة :-
” تريد فتاة أم صبي …؟!”
صمت للحظات مدعيا فيها التفكير قبل أن يجيب بجدية :-
” فتاة .. أريدها فتاة …”
لاحت على شفتيه إبتسامة خفيفة وهو يضيف :-
” أحب الفتيات كثيرا …”
ثم تنحنح بحذر :-
” أتحدث عن الفتيات الصغيرات بالطبع ..”
ابتسمت برقة ثم سألته وتلك السعادة في عينيه منذ معرفته بخبر حملها تمنحها شعورا رائعا للغاية :-
” ماذا سوف تسميها ..؟!”
ابتسم وقال :-
” لماذا لا تسميها أنت ..؟!”
عقدت حاجبيها بتفكير :-
” ماذا سأسميها ..؟!”
أكملت بتأهب :-
” أسامي الفتيات جميلة عادة .. إنه أمر محير للغاية …”
قال يشاركها التفكير :-
” هل نختار إسما غريبا غير مطروقا أم ..”
قاطعته :-
” ليس مهم مدى غرابة الإسم أو ندرة وجوده .. ما يهمني معناه … ”
عقد حاجبيه مرددا :-
” معناه … !!”
ابتسم بخفة وأضاف :-
” لنختر إسما قريب معناه من إسمك ….”
قالت بسرعة :-
” دنيا … ”
هز رأسه نفيا ثم بدا التفكير العميق عليه قبل أن يهمس :-
” ملاك … رحمة …. عشق أو …”
توقف لوهلة ثم قال :-
” أو ربما ملاذ …”
نطقت بتعجب :-
” ملاذ … ”
ابتسم قائلا :-
” نعم ملاذ … إنه أكثر إسم معبر عنك بالنسبة لي … أنت الملاذ الدافئ الذي لا أكتفي منه …”
” انا محظوظة بك جدا يا نديم … أنا لم أكن أدرك إنني محظوظة بهذه الدرجة من قبل ..”
قالتها وهي تتأمله بعشق جارف ليهتف وهو يقبض على كفها :-
” بل أنا المحظوظ بك … منذ دخولك حياتي وكل شيء تغير .. لولا دخولك حياتي كنت سأبقى غارقا في ظلامي .. أنت وحدك من منحتني أملا في المستقبل وجعلتني أتوق لأحيا من جديد .. أحيا معك الى الأبد ..”
ابتسمت له بحب عندما تقدمت غالية نحويهما تردد بمرح :-
” أيها العاشقين .. هيا لتتناولا العشاء ..”
أكملت وهي تشاكس حياة بعدما وضعت كفها فوق بطنها :-
” لا أريد لحبيبة عمتها أن تشعر بالجوع من فضلكما ..”
ضحكت حياة مرددة :-
” أنت أيضا تريدينها فتاة ..”
رفعت غالية ذقنها مرددة :-
” أنا متأكدة إنها فتاة ..”
نهضت حياة من مكانها وكذلك نديم الذي وقف بين كلتيهما يعانقهما مرددا :-
” أجمل وأغلى فتاتين تقفان جواري … كم أنا محظوظ بكما …”
ضحكنا كلتاهما ليتوجه بهما نديم الى الداخل حيث نهض البقية متجهين نحو الطاولة الطعام وبدأ الجميع يتناول الطعام وسط ضحكات الجميع ومشاغبات ومرح لا ينتهي ..
فجأة تلاشت ضحكة غالية وهي تنظر الى باب الصالة وترى آخر شخص توقعت قدومه في يوم كهذا …
نظرت حياة الى البوابة لتتجمد ملامحها هي الأخرى بينما إختفت ضحكة نديم وهو يرى غريمه وأخيه في ذات الوقت يقف قباله بملامح غير طبيعية يتأمله بطريقة غريبة لم يفهمها ..
طريقة جعلت الجميع ينظروا إليه بترقب وتوجس ..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حبيسة قلبه المظلم)