رواية أغصان الزيتون الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء التاسع والتسعون
رواية أغصان الزيتون البارت التاسع والتسعون
رواية أغصان الزيتون الحلقة التاسعة والتسعون
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل التاسع والتسعون :-
الجُـزء الثـاني.
”لقد ذهبت كل الأشياء، على الأقل لا تذهبي أنتِ.“
____________________________________
وصلت سيارتهِ على بُعد أمتار من المخفر، وكأنه لم يرد رؤية مرورها من أعتابهِ. طوال الطريق لم يتفوه كلمة واحدة، وكل التضارب في مشاعرهِ يسخر من ثباتهِ الكاذب اللعين، مكافحًا رغبته في اختلاس النظر إليها، گالذي يحافظ على بقايا شُعيرات باقية من توازنهِ الذي اختل بالكامل. لم تستطع “سُلاف” السيطرة على اندفاع مشاعرها، فـ هذه اللحظة المُنتظرة منذ سنونٍ مديدة سئمت حتى من عدّها، وسرعان ما ترجلت عن السيارة لتهرع نحو المخفر بأقصى سرعة لديها، بينما كانت عيناه تراقب ذهابها أمامه، حتى لمح “شافعي” يخرج من باب المخفر، فـ ترجل هو أيضًا وسار نحوه والأخير گذلك، حتى التقيا في المنتصف ليسأله “حمزة” :
– في حاجه تاني ظهرت؟؟.
ذمّ “شافعي” على شفتيه بضيقٍ شديد وهو يجيب :
– مخبيش عليك الوضع زي الزفت ياأستاذ حمزة، ده قتل عمد ومش أي حد.. ده سفير.
تأفف “حمزة ” بنفاذ صبر وهو يشير إليه بشئ من الإحتقار كي يذهب من أمامه :
– وانا بقى كنت مستني رأيك المهني يا متر!.. أتفضل امشي من قدامي الساعة دي!!.
وعاد إدراجهِ نحو سيارتهِ نادمًا على التحدث إليه، بعدما قرر ألا يدخل ثانية وسينتظرها بالخارج.
دلفت “سُلاف” حيث الردهه المؤدية لمكتب مأمور المخفر، بعدما وصلتها الأنباء المسبقة بوجود عمّها بالداخل، فـ أسرعت بالدخول دون تضييع مزيد من الوقت، فـ تهلل وجه “مصطفى” وهو يستقبلها قائلًا :
– تعالي يا بنت الغالي، مكنش ينفع أبقى هنا من غيرك.
انحنت “سُلاف” عليه وقبّلت رأسهِ أولًا، ثم أردفت :
– ولا أنا قدرت أصبر للصبح.
جلست “سُلاف” قبالتهِ، فأصبح أمامها مباشرة وهو يقول :
– أنا هتكلم معاه الأول لوحدي، وبعدين تـ….
قاطعته “سُلاف” بتذمرٍ بعدما خالف رأي “مصطفى” توقعاتها :
– لأ يا عمي، أنا مش موافـ…..
– أسمعي يا سُلاف.. أنا عمري ما أبعدك عن حقك االي سعينا عشانه سنين، بس اسمحيلي بخمس دقايق على انفراد معاه.
تحرجت “سُلاف” من لُطفه الدائم معها، من مراعاته المستديمة لمشاعرها، فـ أحنت بصرها عنه بصمت، ونهضت كي تبرح مكانها وتغلق الباب من خلفها، في اللحظة التي رأت فيها “صلاح” بالمكانة التي يستحقها بالضبط، يسير من خلف المجند وكل وجهه مكسو بتجاعيد الحسرة المرتعبة. رآها، فـ اتسعت عيناه مذهولًا من رؤيتها، وخطى نحوها متعجلًا ليكون أقرب إليها، ثم هتف بنبرة مغلولة :
– كنت عارف إنك اللي وراها، بس وحياة آ….
كانت بنفس ذات القوة التي عرفها بها منذ اليوم الأول، وهي ترمقه بإحتقارٍ مستهزئة كلماته التي لا تليق على موقفه الضعيف :
– بس بس بس.. خلاص التناكة الكدابة دي مبقاش ليها لازمه ياأبو صلاح، انت وقعت واللي كان كان، والمرة دي هتروح وتاخد كل الشر معاك، من غير ما تلاقي ثغرة واحدة تنجدك.
فتحت له الباب متابعة :
– عمومًا مش انا اللي انت جاي تقابله.. في حد تاني أولى مني بالمقابلة.
اخترقت عينا “صلاح” من بداخل الغرفة، فلم يرى سوى ظهر مقعد متحرك يجلس عليه رجل عاجز، وكأن الشك قد نغز في صدرهِ بهوية ذلك القعيد، فـ دخل إليه والتفت يقف أمامه في ترقبٍ، لتعتلي علامات الدهشة وجهه بغتة وهو ينطق بأسمه :
– مـصـطـفى..لسه عايش وفيك الروح بعد كل السنين دي!!.
انغلق الباب عليهم، فباتت المواجهة انفرادية تمامًا، اعتلت بسمة ثغر “مصطفى”، وظهرت شماتتهِ التي لم يواريها أبدًا وهو يقول :
– والله زمان يا صلاح، ربنا أداني العمر عشان أشوفك مذلول قدامي.
هبطت عينا “صلاح” على ساقيهِ، وبتهكمٍ ساخر كان يرد بـ :
– أداك العمر وخد منك الصحة!.. تبقى إيه فايدتها!.
اتسعت ابتسامة “مصطفى” العريضة وهو يرد إليه الصاع صاعين :
– ماانت خدت الصحة وخسرت قدامها حريتك.. خسرت أسرة كاملة.. انت خسارتك مفيش حاجه تقارنها بيها يا صلاح.
برقت عينا “مصطفى” بلمعانٍ متحفز، وتابع بكلماتٍ قوية كان يُخزنها في بواطنهِ المكتومة لحين وقتها :
– سنين يا صلاح.. سنين شايفك قدامي عايش وبتتنفس، بتكبر وعيلتك بتكبر معاك، على حساب بيت أخويا اللي اتخرب وحياته اللي سرقتها.. سرقت عمره وفرحته، ملحقش حتى يشوف ذريته اللي عاش محروم منها.
وفجأة تحول لمعان عينيه لبريق حزين متألم، كأن جرحه طازجًا ومازالت الدماء تسيل منه :
– سرقت مني ابني اللي مخلفتوش، زرعتي اللي كبرت قدامي وانا بربيه وبكبره، حقدت عليه وغيرت منه وبصيت للي في إيده، حتى مراته مسلمتش منك.
وكأنه شيطان ترعرع بداخله، فـ غطى بسوادهِ كل الإنسانية التي يُخلق بها أي إنسان. لم يشعر حتى بتأنيب الضمير، بل إن عقلهِ لم يفكر سوى في خسارتهِ التي لم يتوقع أبدًا أن يخسرها :
– أخوك اللي كان عايز كل حاجه.. مكتفاش إن معاه العز والجاه والسلطة والعيلة والصحاب.. كمان خد مني الست الوحيدة اللي حبيتـ……
صاح فيه “مصطفى” غير متحملًا سماع أي كلمة تمسّ زوجة أخيه المتوفاه :
– أخـــرس.. صحيح إذا لم تستحي فـ افعل ما شئت، لسه عايز تبرر لنفسك جحودك!!.. انت قـاتل يا صلاح، ومن قتل يُقتل ولو بعد حين.
رغم ارتجافة أوصالهِ، إلا إنه زعم طمأنينته من الأوضاع، واستمرت عجرفتهِ الغير مبررة :
– مس هتنولها يا مصطفى، هخرج منها زي ما خرجت من غيرها، انت لسه متعرفش صلاح القُرشي كويس.. شكل السنين نسيتك.
ابتسامة واثقة صعدت على وجه “مصطفى” حتى استقرت، ولم تقل ثقتهِ بل تضاعفت وهو يتوعده بجزاءٍ لن يجد منه مفرّ :
– انت اللي عمرك ما عرفتني كويس.. أنا مش هنصبلك الفخ غير لو عارف إنك هتقع فيه يا صلاح، والسنين اللي فاتت تشهدلي.. اللي خلاني أزرع عيالي حواليك، وجوا بيتك، ووسط أهلك وعيلتك، يخليني عارف أنا بقول إيه كويس.. المرة دي هتصيب، أنا عمر ما نشاني (تصويب) خيب أبدًا.
دفع “مصطفى” مقعده نحو الباب وهو ينهي كلماته :
– متقلقش هجيلك تاني، بس لما القاضي يقول كلمته ويكتب فيك حكم بالإعدام واجب النفاذ.
فتح “مصطفى الباب فـ بادرت “سُلاف” بسحب مقعدهِ وعيناها تنهش من “صلاح” نهشًا، بينما الأخير يموت ذعرًا، وقد بدأ يُصدق إنه على حافة الإنهيار، على وشك السير في طريق الموت البطئ، وأن العدّ التنازلي لكلمة النهاية قد بدأ بالفعل.
************************************
خرجت به من المخفر وهي تنظر حولها بتمعنٍ، ثم تسائلت بفضول :
– راغب فين يا عمي؟.
– هتلاقيه هنا ولا هنا مع عِبيد.. المهم.
سحب يدها الممسكة بمقعدهِ كي تقف أمامه، ثم هتف بجدية :
– انتي هتروحي معايا دلوقتي يا سُلاف.. كفاية كده يا بنتي.
ربتت “سُلاف” على يدهِ وهي تطمئنه :
– متقلقش عليا يا عمي، أنا هاخد زين و…..
قاطعها “مصطفى” رافضًا تفكيرها بشأن “زين” أكثر من أي شئ آخر :
– سيبيه ياسُلاف، الأول حجتك قدامه كانت قويه.. كنتي أمه.. دلوقتي كل حاجه اتعرفت، وجودك معاه ملهوش أي داعي.
تأرقت “سُلاف” من مجرد فكرة التخلي عن الصغير، والتي لم تضعها في حسبناها يومًا :
– ياعمي حس بيا، حسوا بيا كلكم.. زين ابني أنا وانا اللي ربيته، أنا اللي………
– سُــلاف…
صوته القريب الذي تعرفه جيدًا جعلها تنقطع عن باقي حديثها، لتلتفت برأسها إليه وهو يدنو منها بعجالةٍ، وعيناه المحدقة تسلطت على ذلك العجوز، وفي الأخير هتف مذهولًا :
– انت؟؟؟؟.
ثم نظر إليها وسألها بجديةٍ حادة :
– هو ده عــمـك؟؟.
أخفضت “سُلاف” عيناها عن النظر إليه، حينما أجاب عليه “مصطفى” قائلًا :
– أيـوة أنا.. ليك كتير بتدور ورايا يابن صلاح، أديني قدامك.
تشرسّت نظرات “حمزة” إليه ليقول مستنكرًا :
– يعني عارفني كويس!.. لزومه إيه اللوع؟.
لم تُعجب “سُلاف” بنبرته ولهجته مع عمّها الذي احتل مقام أبيها منذ أن بدأت تعي الدنيا، فـ أنذرتهُ محذرة :
– اللوع ده بتاعكم انتوا يا حمزة.. ألزم حدودك وانت بتتكلم مع عمي.
تدخل “مصطفى” لفضّ الموقف قبل أن يتفاقم بينهم :
– معلش يا سُلاف، خلينا نعذره.. اللي حصل برضو مش شويه، يلا بينا يا بنتي.
احتد صوت “حمزة” أكثر، واجتذب مرفقها لتكون قريبة منه وهو يهتف بإصرارٍ مستميت :
– يلا على فين؟.. سُلاف جت معايا وهتمشي معايا.
كانت نظرات “مصطفى” أكثر حزمًا وصرامة وهو يفسر له الوضع ببساطة شديدة :
– خلاص اللي بينا وبينكم أتفض يا بن صلاح.. واللي فاضل من الحكاية دي إحنا مش عايزينه.. ولو على إبنك فـ ده حقك، خد حقك وأمشي وسيبنا في حالنا.. سُلاف عمرها ما هتكون معاك.
شدد “حمزة” أصابعه على كفها متمسكًا بإصراره للحصول عليها :
– مش بمزاجك هتبدأها وتنهيها.. وطالما دخلت معايا اللعبة من الأول تستحمل الخسارة زي ما خدت المكسب.. أنا مش هخسر لوحدي.
تغضن جبين “مصطفى” مستهجنًا :
– بتقول إيه!.
فسر له “حمزة” بعبارة موجزة :
– بقول إني خسرت أمي وأختي بس مش هخسر مراتي وابني، خد اللي انت كسبته وأبعد، عشان اللي بعد كده ألغام.
نظر “مصطفى” لإبنة أخيه صائحًا بإسمها، علّها تنهي تلك المهزلة بكلمة واحدة :
– سُــــلاف ؟!.
– ريح نفسك مفيش فايدة.. أنا مش هتنازل مهما حصل.
التفتت عيناه ترنو إليها، وضغط على يدها بقوةٍ، من شدة تشبث كفهِ بيدها ظن لوهلةٍ إنهما ملتصقان، وعيناه ترجوها بصدقٍ لأول مرة تراه :
– مـتمشيش يا سُلاف، مـتمشـيش….
**************************************
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)