رواية مصطفى أبوحجر الفصل الأول 1 بقلم آلاء حسن
رواية مصطفى أبوحجر البارت الأول
رواية مصطفى أبوحجر الجزء الأول
رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الأولى
تويتة زرقاء عابرة، خرج صوت تغريدها الهادئ من داخل هاتفي لافتًا نظري إليها، فقرأتها بتمعن دُون النظر إلى هوية كاتبها، وكأنها مُوجهة لي بشكل شخصي مُذكِرة ..
” نحنُ لا نُحب حين ننبهر .. نحنُ نُحب حين نطمأن “
تسمَرت أمامها لثوان مُتذكرة قِرآتها من قَبل داخل إحدى المقالات الأدبية ذات يوم حين استوقفتني لأول مرة وتخللت عقلي ببطيء لترسو داخل وجداني دون أن أشعر حينها ..
إلا أنها في الحقيقة ترسبت في قاع ذلك الجزء الغير واع من عقلي، فلم أهتم بها أو أتذكرها وأنا أنساق وراء أول انبهار صادفني، بعد أن اعتقَدت أو أردت أن اعتقد حينها كونه هو الحُب المُنتظر ، مُتجاهلة تمامًا أهميه الاطمئنان لاستمرار ذلك الحُب ..
أما قبل ذلك ..
فكُنت أُحاول جاهدة التحكم بتلابيب فلبى وإمساكه عن الخفقان من جديد أو التعلق بأحدهم بعد فشل تجربتي الأولى وحصولي على لَقب (مُطلقة) تُمسك بيدها طفلة صغيرة لا تتجاوز السبع سنوات من غمرها مُتجهة بها إلى بيت أبيها، تلك الصغيرة التي تحججت بها مِرارًا للهروب من عروض الزواج المُتكررة، إلا إني في الحقيقة بداخلي ماكُنت أخشى ولا أَفِر سوى من فشل جديد، حيثُ أردت الإفلات من فكرة إعادة البناء مرة أُخرى، إعادة تكوين أُسرة مُتهالكة داخل بيت زوجية يهزمني ووهب قلبي لإنسان رُبما سيتلذذ بالعبث بجراحي الثخينة ويستنفرها للنزيف من جديد ..
كُنتُ قد اعتدت على لقب (مُطلقة) الذى لازمني في الآونة الأخيرة وأصبح مُلاصق لتعريفي الشخصي في أي مكان تطأه قدمي، لكنى لم أستطع الاعتياد أو تجاهل نظرات النساء لي قبل الرجال؛ حين يستمعون منى إلى ذلك اللفظ أو إلى تلك الوصمة على حد تعبيرهن !
فقليلاً مِنهُن من ترنو إلي بأعينها بكثير من الإشفاق والرثاء، وكأنني قد بُترت ساقى أو إحدى ذراعيّ، بينما أُخروات يتفحصنني بلا استحياء من رأسي حتى أخمص قدمي باحثات عن النقص الجسدي والشكلي في هيئتي والذى أدى بي إلى تلك العِلة من منظورهم المحدود ..
أما من يعرفنني مِنهُن حق المعرفة وعايشن ما عانيته بل وشجعنني على اتخاذ تلك الخطوة ذات يوم، فلقد ابتعدن عنى بصورة ملحوظة مُتعمدة سواء كُن من صديقاتي المُقربات أو قريباتي الاتى تجمعني بهن صلة دم، خوفًا على أزواجِهن من تواجدي داخل حيز اجتماعاتهن، أو لربما كان ذلك بتحريض من الأزواج نفسهم لزوجاتهن حتى لا يحتذين حذوي ويتمردن على واقعهُن ..
فأولئك الأزواج أو الرجال بشكل عام لي عنهم حديث ليس بالقليل لا ينضب ولا ينته لكنى أكتف باختصار أفعالهم في قولي .. (( لقد اعتقدوا أنى لُقمة سائغة بلا أي غطاء يحميها يستطيعون تذوقها في أي وقت متى يشاؤون )) ..
لكن ولم الاختصار على أية حال !
فتلك النوعية من الذكور لا يحل لهم سوى تعرية قذارتهم المُخبأة بين طيات المُجتمع، وأنا التي حسبت ذات يوم أن نصيبي أوقعني في أكثرهم بشاعة، لكن ومع انخراطي في العمل تبين لي الوجه الآخر لكل رجل تَصّنَع الوقار والأدب ذات يوم ..
فها هم يتفحصوني بأعين ذئاب لاهثة اعتقدت للحظة أنها قد فازت بفريستها المُنتظرة، فتخللت كِلماتهم إيحاءات غير مُلائمة مُتعمدة مزجوها بعباراتهم وكأنها قد خرجت سهوًا من بين شفاههم فيتبعها على الفور قولهم من بين ابتسامتهم الخبيثة الصفراء ( لا مؤاخذة يا مدام )، تلك العبارة يُصاحبها نظرات مؤذية مُنفرة إلى معالمي وكأنه يختبر تأثير قوله على قسماتي واستنباط إذا ماكُنت على استعداد للتساهل معه أم إيقافه عند هذا الحد ؟؟
أما من توسمت به بعض الأخلاق والتدين فلقد أراد العبث تحت إطار الزواج العرفي أو بسرية تامة حتى لا يترامى الخبر إلى مسامع زوجته فتنهدم أُسرته، ومنهم من طلبني لِنفسه جَهراً مُعلناً عن هدفه الأسمى ألا وهو خِدمة فلذات كبده ومساعدته في تربيتهم بعد وفاة زوجته الأولى أو طلاقُه، وآخر أراد الاستمتاع بما تبقى من سنوات عمره برفقة شابة جميلة تُنسيه سنون كهولته البائسة وتبُث بداخله بعض النشاط ..
حقًا لم يعبأ بحالي يومًا سوى أبوي، خاصةً أبى الذى عارض كثيرًا خروجي لمجال العمل خوفًا على ابنته الوحيدة من أولئك الأوغاد ..
كان يُشفق علىّ من مُقابلة الحمقى أو التعرض لكلمات ونظرات تُخدش حيائي ورُبما تُضعِف نفسى ..
هو عَلِم إني في حقيقتي ضعيفة هشة رغم تظاهري بالقوة، أَحَس بذلك الشيء بداخلي الذى لا يرضيه إلا إظهار الصلابة والشموخ والتعفف وعزة النفس، لكنى بالنهاية أزعنت لضعفي …
فرغمًا عنى في إحدى الليالِ وفى أوج احتياجي للاحتواء والحُب من جديد قابلت انبهاري الأول والذى طالما تمنيت مثيله، وأصدقكم القول إني حينها لم أُقاوم كثيرًا، ولِما أُقاوم ذلك الأربعينى صاحب القلم السحري الذى يأسر الفتيات بكلماته قبل طلَته ومظهره الأنيق الأخاذ ؟؟
كنجوم السينما ودنجوانات العصر الكلاسيكي ظهر هو أمامي من اللاشيء ليقتحم عالم أحلامي قبل دنياي جاذبًا إياي داخل روايته كبطلة في عالمه الخيالي الآسر الذى طالما وددت أن أعيش بداخله ..
والآن بعد خوضي تلك التجربة أعرض لكم حياتي بين أسطر روايتي الأولى المُوقعة بأسمي …
” شمس محمود الرفاعي”
-١- درب من الخيال
(( الجميع بانتظاره .. ))
هذا هو ما حدث به نفسه مُذكرًا قبل أن ينشغل من جديد بما يفعله غير مُكترث إطلاقًا لذلك الرنين الرتيب المتواصل ذات النغمة المرتفعة نوعًا ما والذى صَدر من هاتف أبيض اللون مُلقى بإهمال فوق تلك المنضدة الخفيضة التي تحمل المرآة والذى ما لبث أن توقف بعد عدة ثوان، تاركًا الفرصة لذلك الصفير الهادئ المُتناغم للظهور والذى خرج من بين شفتيه المذمومتين أثناء وقوفه أمام مرآته بزهو وشموخ كإحدى ملوك العصر القديم البائد ..
لاحت نظرات الغرور والتباه بداخل عدستيه وهو يتأنق مُضيفًا اللمسات الأخيرة لمظهره، فهاهو قد ارتدى ساعته “الرولكس” السوداء ذات العقارب الزرقاء المُنمقة والتي تُشبه كثيرًا كُل تفصيلة به، ارتفعت أصابعه الطويلة ذات الأظافر النظيفة المُقلمة إلى مُقدمة رأسه يُعَدِل من وضع تلك الخُصلات الهاربة ليُعيدها سيرتها الأولى بجوار مثيلاتها السوداء المُختلطة بالشيب ..
توقف عن إصدار صفيره المُتناغم بعد انتهائه من وضع عِطره المُفضل، ليستنشقه داخل رئتيه باستمتاع قبل أن تنفرج شفتاه عن ابتسامة صغيرة واثقة أظهرت جزء من أسنانه البيضاء المصقولة بينما تلاقت عدستيه الباسمتين سوداوي اللون بانعكاسهما داخل المرآة وهو يضع قلمه الفضي المُفضل داخل الجيب العُلوى لسُترته الرمادية الأنيقة ..
وقبل أن يستدير مُغادرًا، استوقفته إحدى التجاعيد الصغيرة والتي بدأت بالظهور على جانبي عينيه بشكل واضح لم يلتفت هو إليه من قبل، بخلاف تلك التي تظهر دائمًا عند جانبي فمه فور ابتسامه؛ بل والتي يتعمد إظهارها في بعض الأوقات مثل تلك اللحظة، ازدادت ابتسامته انفراجًا بشكل مسرحي كي يتمكن من تأمل تجعيداته بشكل شامل، فالتمعت مقلتيه بتيه وغرور جَلِىّ بينما صدرت من بين شفتيه ضحكة مُغتبطة قصيرة وكأنه أُوتى كنز من كنوز الدُنيا ..
وكيف لا ! وهُم إحدى أسلحته القوية التي تجعل الفتيات يتهافتن عليه دون تفكير، على رَجُلٍ، بل على كاتب أربعيني وسيم خالط الشيب رأسه وذقنه _ في حال ما أطلقها_ بصورة واضحة بينما وجهه تحلى بخطوط رفيعة شبه محفورة زادت من وقار ورجولة ملامحه المُتناسقة، فأزداد ملاحة وجاذبية داخل أعينهن الحالمة وخُرن أمامه صِراعًا في الحال ..
غادر غُرفته بخطوات بطيئة عندما بدأ رنين هاتفه بالتصاعد مرة أُخرى فتناول سلسلة المفاتيح خاصته وقداحته المُربعة الصغيرة الذهبية وعلبة سجائره البيضاء اللامعة الأنيقة وهاتفه الذكي أسود اللون، تاركًا ورائه ذلك الذى تداعت بطاريته وأوشكت على النفاذ من تواصل رنينه دونما انقطاع ..
كان قد ارتدى معطفه الصوفي المُفضل قبل أن يستقل سيارته الحديثة ويقودها بهدوء بعد أن قام بتشغيل إحدى أصواته المُفضلة وهو فى طريقه إلى (مدينة نصر) حيثُ معرض الكتاب السنوي ليحضر أولى ندواته لهذا العام وحفل توقيع روايته الجديدة ..
خرج صفيره الناعم المُتناغم من بين شفتيه مرة اُخرى، لكن تلك المرة مُتماشيًا مع نغمات الأغنية التي استمع إليها، والتي ذكرته بحفل التوقيع الأول لروايته الأولى مُنذُ ما يقارب العشرون عامًا ..
هو يتذكر جيدًا حاله في ذلك الوقت ..
فلم يذق جِفنيه طعمًا للنوم تلك الليلة من فرط حماسه وتفكيره بل وقَلقُه أيضًا، بعد أن بدأ استعداداته لهذا التوقيع قبل شهر من موعده وكأنه يوم زِفافه، فابتاع له بذلة أنيقة وقلم مُميز بداخل علبة قطيفة حمراء لوضع إمضاءه داخل نُسخ المعجبين، ذلك الإمضاء الذى قام بتجربته آلاف المرات كلما سنحت له الفُرصة فوق الكثير من الوُريقات للتوصل إلى توقيع مُميز خاص به ..
بالرغم إنه كان من سُكان القاهرة الكُبرى وقتها إلا إنه تعامل وكأنه وافد من إحدى المُحافظات البعيدة، فبدأ استعداداته بعد آذان الفجر مُباشرةً وغادر باكرًا ليجد نفسه يقف أمام قاعة المؤتمرات قبل بدأ استقبال المعرض للجمهور بأكثر من ساعتين مروا عليه كالدهر حتى تمكن من الوقوف أخيرًا داخل جناح دار النشر المُتعاقدة معه فى ذلك الوقت، والتي خلت من أحدًا سواه هو وبعض العاملين ..
كان ذِراعه مُثبت على مقود السيارة بتململ عندما انتهت اُغنيته المُفضلة لكن رغمًا عن ذلك لم تتوقف الذكريات عن التدفق بداخل عقله، ابتسم بسخرية مُتذكرًا ذلك الإقبال الضعيف بل الذى كاد أن يكون معدومًا على روايته في اليوم الأول للمعرض، حيثُ جلس وحيدًا فى إحدى الأركان بجانب بعض النُسخ بعكس باقِ الكُتاب في جميع الأرجاء والذين جلسوا بابتسامة عريضة وسط لفيف من المعجبين المُتهافتين على إمضاء صغير منهم، بينما هو استمر بالعبث بالعلبة الحمراء التي تحتوى قلمه مُتسائلاً عن الوقت الذى سيحين له فيه فتحها واستخدام ما بداخلها ..
وبعكس ذلك الإحباط الذى تملك منه في أولى أيام المعرض حيثُ لم تُباع سوى خمس نُسخ من روايته والتي لم يهتم أصحابها بتوقيعه داخلها، لكن فجأة حدثت طفرة لم يتوقعها وذاع صيت روايته بلا أي مُبرر، وأقبل عليها المئات من القُراء حتى نفذت الطبعة الأولى عن آخرها قبل انتهاء المعرض وانهالت عليه عبارات الإطراء والمديح بل وتهافتت عليه دور النشر لإمضاء عقود روايته القادمة بعدما فشلوا في إقناع دار النشر خاصته بشراء حقوق ملكية روايته الأولى والتي وصلت الآن إلى طبعتها الخمسون بعد مرور عشرون عامًا كاملة رغم تواجد نُسختها الإلكترونية المجانية على صفحات الإنترنت ..
أما اليوم ..
فها هي الشمس كانت قد شارفت على المغيب عندما قرر هو أخيرًا النهوض من أعلى فِراشه بتكاسُل وبدأ استعداداته للذهاب إلى المعرض …
ورغمًا عنه، مع كُل حفل توقيع لرواية جديدة تصدر بإسمه سواء بداخل مصر أو بإحدى الدول العربية الشقيقة، تخبو لمعة الحماس داخل مقلتيه حتى أصبح الموضوع روتينيًا إلى حد كبير بل وكأنه عبئ ثقيل أعلى كاهله لا يُضيف إليه أي إحساس بطعم النجاح ..
خاصة بعد أن سيطر على تفكيره وأصبح همه الشاغل مُنذُ عدة سنوات هو الحصول على فرصة ذهبية لتحويل إحدى أعماله الروائية إلى عمل تلفزيوني ضخم مُبهر، إلا إنه ورغم مُحاولاته المُستمرة لم يتلق أي عروض بخصوص ذلك الشأن، لكنه رغم ذلك لم يتوان أبدًا عن الإقدام على تلك الفكرة وتحقيق حِلمه ذلك الذى سيُدخله إلى عالم الشهرة والأضواء من أوسع أبوابها .
*******************************
تجاوزت الساعة السادسة مساءًا وبدأ قرص الشمس في الاختفاء بصورة كُلية ليحل محله ذلك الظلام الدامس الذى خفف من حدة سواده وحدات الإضاءة القوية المُتناثرة في كُل مكان بداخل معرض الكتاب وخارجه، بينما الازدحام ازداد بصورة ملحوظة بعكس المُعتاد مساءاً وذلك لقُرب موعد إلقاء الندوة الخاصة به ..
وبداخل ذلك الممر الطويل الذى ترتص على جانبيه أجنحة الدور المُختلفة؛ المشهور منها والمغمور، الكبير منها والصغير، اتكأت فتاة على ذراع صديقتها بإرهاق واضح بعد أن بدأت تشعر بالاختناق من إثر الزحام المُتزايد من حولها مما دفعها للقول بإنهاك :
_ منار أنا بجد مش قادرة تعالى نروح ناكل أي حاجة برة ونقعد بعيد عن الزحمة دى ..
لكن صديقتها نظرت إلى ساعتها بقلق قبل أن تُجيبها باستنكار :
_ إنتى لسه هتقعدي ياشمس ! دي العِشا داخلة علينا ويادوب نلحق نروح ..
حاولت شمس رفع صوتها كي يصل إلى مسامع صديقتها قائلة برجاء :
_ لسة الندوة وحفله التوقيع بتاعت مصطفى أبو حجر ..
ثُم لوحت بذلك الكِتاب الذى تحمله قائلة :
_ مش همشى المرادي غير لما يمضيلي ..
أخرجت منار هاتفها من داخل حقيبتها الصغيرة قائلة بأسف :
_ مش هقدر أتأخر أكتر من كدة إنتى عارفة أحمد زمان العيال مجننينه ..
صمتت شمس لبضع لحظات قبل أن تُومأ برأسها مُتفهمة قائلة بتفكير :
_ وأنا كمان يارا زمانها مطلعة عين ماما وبابا …
جذبتها صديقتها من ذراعها مُحمسة :
_ طيب يبقى يلا بينا …
ظهرت علامات الإعياء على وجه شمس الشاحب قبل أن تقول بعناد :
_ بس أنا لازم أشوفه المرادي، إنتى عارفة أنا بقالي قد إيه مستنية الندوة دي …
وقبل أن تعترض صديقتها أضافت هي :
_ كدة كدة هطلع معاكي لبرة أقعد في أي مكان مفتوح آكل حاجة سريعة .. أكيد الفود كورت زحمة جدًا دلوقتي …
تأملتها منار مُطولًا قبل أن تقول باستغراب :
_ يابنتى إنتى شكلك مُجهدة ووشك أصفر .. هتفضلي مستنية لحد إمتي .. الساعة داخلة على ستة ونص وهو لسه مجاش ..
تنهدت شمس بضعف مُجيبة :
_ هستنى لسبعة لو مجاش همشى ..
كان الطقس بالخارج شديد البرودة كما هو المُعتاد في ذلك الوقت من السنة، وفور أن تجاوزت الفتيات باب الخروج من القاعات المُغلقة حتى لفح وجهيهما رياح باردة مُنذرة بتساقط بعض قطرات الأمطار مما دفع كلتيهما لإحكام إغلاق معطفيهما بقوة، وماهي إلا لحظات حتى ودعت منار صديقتها وترجلت بخطوات سريعة إلى إحدى سيارات الأُجرة لتستقلها دونما تفكير، مُشيرة إلى صديقتها من وراء زُجاج العربة قبل تَحرُكها …
أما شمس فتلفتت حولها يُمنة ويسارًا باحثة عن إحدى عربات الطعام السريع لتبتاع لنفسها شطيرة وكوب قهوة ساخن تستمد منهما بعض الدفيء والطاقة، اشتدت قطرات المطر أثناء انتظارها لاستلام طلبها من إحدى العربات المُغطاة من الأعلى؛ والتي اتخذتها ساترًا لها بعض الوقت من حبات المطر المُتدافعة، استغلت هي تلك اللحظات لتتدثر بإحكام واضعة قلنسوة الرأس المُتصلة بالمعطف فوق حِجابها بعد أن أغلقت جميع أزراره ونفخت بداخل كلتا كفيها بقوة كي يسترجعا نشاطهما وتشعر بأصابعها المُتجمدة من جديد، وفى النهاية تناولت شطيرتها الساخنة بإحدى يديها وبالأُخرى التقطت كوب القهوة الساخن، وانطلقت تعدو هاربة من حبات المطر المُتسارعة والتي تقافزت داخل الكوب الغير مُغطى ..
وعند أقرب مكان مُخصص للجلوس توقفت هي عند تلك الطاولة البيضاء المُثبتة أرضًا والتي توسطت “برجولة” رُخامية ظللتها من الأعلى كمظلة كبيرة تحميها من الابتلال، ما إن توقفت حتى زفرت بارتياح واضعة ما بيدها أعلى الطاولة قبل أن تُلاحظ كوب القهوة الشبه فارغ والذى توسط المنضدة مُنبهًا إلى تواجد صاحبه ..
رفعت رأسها إليه على استحياء مُتأملة هيأته الأنيقة المُلفتة والغير مألوفة لعينيها فى حياتها اليومية بينما هو بدا وكأنه لم يُلاحظها حيثُ انشغل بالعبث بهاتفه، لذا أطالت النظر إليه رغمًا عنها وكأنها فقدت السيطرة على عدستيها اللتان تمردا عليها وأخذا يُبحلقان به غير عابئتين بخجل صاحبتهما، فلأول مرة تُصادف تلك الطلة المُدهشة التي تستحوذ على الانتباه فور رؤيتها خاصة وأن صاحبها لا تشوبه شائبة تُذكر، بل كُل تفصيلة به آسرة لدرجة تصعب مُقاومتها، فخُصلات شعره مُرتَبة بعناية وكأنه قد خرج للتو من محل لتصفيف الشعر، وذقنه حليقة ناعمة يظهر على سطحها منابت الشعر بصعوبة بالغة فساهمت فى إبراز عارضي فكيه المُحددين لجانبي وجهه المُتناسقين والخاليين من أى دهون تُذكر، بينما رقبته العريضة إلى حدٍ ما فكانت تستقيم بشموخ رافعة وجهه الوسيم إلى الأعلى وكأنه جندي مُدرب بعناية يرتدى بذلته الرسمية لآداء عرضه العسكري، أما عينيه الشبه مُغلقتين فعجزت عن رؤيتهما بوضوح نظرًا لإنسدال أهدابهما السوداء الكثيفة أثناء ارتكازه بهما على هاتفه، كان يضع ساقاً فوق الأُخرى بخيلاء وسمو مُرتديًا معطف وثير يبدو من خامته الصوفية الناعمة أنه يُساوى الآلاف من الجُنيهات، كما الحال فى تلك البذلة الأنيقة التي ظهر جزء منها من فتحة معطفه ..
((هل هو رجل من رجال الأعمال المرموقين أم هو شخصية سياسية ذات مكانة أمنية عالية وسيُحاوطها الآن بعض أُناس يجتذبونها من مرفقها بقوة لتبتعد عن مُحيطه !))
أفاقت من تأملاتها عند ذلك الحد مُفكرة في الانسحاب من أمامه دونما التفوه بكلمة واحدة إلا إنه رفع رأسه إليها قبل أن تتناول ما وضعته أعلى المنضدة قائلًا بهدوء وهو يُغلق هاتفه:
_ تقدري تتفضلي أنا خلاص هقوم ..
ارتعشت الابتسامة أعلى شفتيها قائلة بخجل :
_ أنا آسفة مأخدتش بالى إن حد قاعد هِنا، أنا هشوف مكان تاني ..
في تلك اللحظة اشتدت حِدة الأمطار من حولهما مما جعله يقول بلُطف وهو يتناول سلسلة مفاتيحه وعلبة سجائره الموضوعة أمامه :
_ لو حاولتي تتحركي دلوقتي هتتغرقي ..
ثُم أضاف مُشيراً بعينيه إلى طعامها :
_ ومش لوحدك ..
ارتشف هو آخر رشفة من قهوته قبل أن يقول بجدية دون أن ينظر إليها وكأنه لا يعبئ بشخصها :
_ لحظات وهتحرك لما المطر يهدى شوية ..
خرجت كلماتها من بين شفتيها هامسة ضعيفة وهى تقول :
_ لا براحتك ..
اضطرت للجلوس على مضض أعلى الجِهة المُقابلة له وتحررت من حقيبتها الثقيلة التي عجزت عن إغلاقها بعد امتلائها بالكثير من إصدارات معرض الكتاب، واضعة إياها أعلى المنضدة خوفاً على ما بداخلها من الابتلال ..
حاولت عدم النظر إليه حتى لا تفضحها عيناها المُتلهفة لتأمل قسمات وجهه من جديد مُعلنة عدم ارتوائها من نظرة واحدة قصيرة، لكنها وبوجه مُخضب بالحَمار أرغمت عينيها على النظر إلى الأسفل وبأصابع مُرتعشة بدأت في تناول طعامها بخجل شديد بينما بداخلها يرتفع صوت عقلها مُؤنبًا لجلوسها برفقة رجل لا تعرفه ..
استرعى انتباه الجالس ذلك الكِتاب الظاهر على حافة حقيبتها ومن أسفله تكدست العديد من الكُتب الأخرى مختلفي الحجم، مما دفعه للتساؤل بغير تحفظ بينما عدستيه مُثبتتان على ذلك الكتاب :
_ ياترى جبتي كُل الكُتب اللي عوزاها من المعرض ؟
أجابته على مضض وهى لازالت مُطرقة برأسها للأسفل :
_ آه مُعظمهم ..
كان يتأمل هيأتها المُضطربة باستمتاع قبل أن يتساءل بلُطف :
_ أنا ملاحظ إنك جابية رواية مصطفى أبو حجر تقريبًا صح ..
في البداية بدت وكأنها لم تستمع إلى سؤاله بعدما انشغلت بتذوق جمال نبرات صوته مُحاولة ملئ أُذنيها بهما إلى أن ترامى إلى سمعها اسم “مصطفى أبو حجر” فرفعت رأسها إليه بحماس بعدما تغيرت ملامح وجهها قائلة بابتسامة :
_ مقدرش أفوتله رواية ..
لمعت عيناه ببريق جذاب اقترن به رفع إحدى حاجبيه بخيلاء مُتسائلًا :
_ ياترى بتعجبك كتاباته ؟
زينت ابتسامة حالمة رقيقة شفتيها وهى تُجيبه قائلة :
_ مع أول رواية قريتها ليه وأنا وقعت فى غرام سحر أسلوبه وأفكاره .. أفكاره وطريقته مش معقدة وفى نفس الوقت مش مألوفة ..
أسلوبه مُتجدد مبتحسش معاه بالملل .. وفى كل رواية بيكتبها بحس كأن شخص تانى اللي بيكتب .. بيعرف يغير من جلده تمامًا وعلى طول بيطور من كتاباته بس ….
أنعقد حاجبيه بتساؤل قائلًا :
_ بس إيه !
تنهدت هي بعُمق قبل أن تُجيبه :
_ معجبنيش اللي عمله مع هبة ..
تغيرت ملامح وجهه بلا مُبرر وتساءل بارتباك :
_ هبة مين ؟
أجابته بعفوية مُطلقة :
_ بطلة روايته الاخيرة ..
خرجت منه ضحكة قصيرة لمحتها بأطراف عينيها فخفق قلبها بقوة قبل أن يقول مُداعبًا :
_ بس ده كله خيال ..
بدت وكأنها طافت بعينيها إلى مكان بعيد فقالت بصوت رقيق حالم :
_ الخيال ده هو اللي بيخلينا نقدر نقبل الواقع ..
تساءل هو بحيرة :
_ إزاى !
سلطت نظراتها عليه من جديد مُوضحة :
_ يعنى الخيال ده هو اللي مخليني قادرة أعيش حياتي بكل مشاكلها وبيديني طاقة عشان أعافر يمكن أوصل في يوم لحاجة حلوة زى أبطال الروايات اللي بقرا عنهم ….
ثبت سوداويتيه على خاصتها قائلًا وكأنه يبعث لها برسالة خاصة بين طيات كلماته :
_ حلو إنك تكوني البطلة في حياتك ..
قالت دون تفكير بعدما غاصت بسواد عدستيه :
_ بس الأحلى إني الاقى البطل بتاع روايتي ..
تساءل بخُبث :
_ وهو لحد دلوقتي مفيش بطل صادفتيه ..
اتسعت عيناها بارتباك بعدما استوعبت ما تفوهت به للتو، فما كان منها سوى أن نظرت داخل ساعتها بتوتر قائلة :
_ أنا أتاخرت أوى لازم أمشى ..
وقبل أن تتحرك هي من مكانها استوقفها مُتسائلًا بجدية :
_ مقابلتيش مصطفى أبو حجر قبل كده ؟
علت الخيبة قسمات وجهها قائلة وهى تقوم بإدخال محتويات حقيبتها إلى الداخل بإحكام :
_ ده من سوء حظى وشكلي كمان السنادي مش مكتوبلي أشوفه .. من الصبح وأنا مستنية حفل توقيعه ولسه مجاش لحد دلوقتي ..
التمعت عيناه بمكر مُعلقًا :
_ سِمعت إنه هيبدأ ندوته كمان ربع ساعة فى قاعة “ب” ..
نظرت شمس إلى ساعة يدها بآلية قبل أن ترتدى حقيبتها بتعجل قائلة بوجه أشرق بعد أن غمرته السعادة والحماس :
_ طيب بعد إذنك يادوب ألحق أوصل قبل ما الندوة تبدأ …
حاول إيقافها قائلًا :
_ طيب أستني بس أنا …
لكن كلماته ضاعت هباءًا، فهو لم يكد يُكمل جملته حتى كانت قد ابتعدت عنه مُسرعة إلى الداخل تاركة من ورائها كوب قهوتها الباردة والذى لم تمسه وشطيرتها التي لم تتذوق منها سوى قضمه صغيرة لاتُسمن ولا تُغني من جوع ..
تعلقت نظراته بها حتى اختفت عن أنظاره بينما وُلدت أعلى شفتيه ابتسامة واثقة أسهمت فى ظهور تجعيدتي فمه بشكل جذاب قبل أن يُدير معصم يده اليُسرى إلى وجهه ليُطالع عقرب الساعة الذى شارف على السابعة إلا عشر دقائق بداخل ساعته (الرولكس) السوداء، التقط هاتفه وسلسة مفاتيحه وعلبه سجائره من جديد قبل أن يترجل إلى الداخل بخيلاء مُحتميًا بمعطفه الصوفي الذى أضفى عليه ذلك الرونق المُميز، وبخطوات هادئة ثابتة تعرف طريقها جيدًا كان يتجه إلى قاعة “ب” لبدء ندوته الخاصة وحفل توقيع روايته الصادرة بإسمه هو (مصطفى أبو حجر) ..
وقبل أن يقوم من مقامه كانت هي لاتزال واقفة وراء باب المدخل الزجاجي تُحاول أن تُلقى نظرة طويلة عليه تتأمله بها للمرة الأخيرة وكأنها تحفر ملامحه بداخلها كي تنفى إحساسها الداخلي بأن هذا اللقاء لم يكن سوى حلم جميل حان وقت الاستيقاظ منه ..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)