رواية ندوب الهوى الفصل السابع والعشرون 27 بقلم ندا حسن
رواية ندوب الهوى الجزء السابع والعشرون
رواية ندوب الهوى البارت السابع والعشرون
رواية ندوب الهوى الحلقة السابعة والعشرون
“عاد فصل السعادة”
عادت “هدير” مع “سمير” مرة أخرى إلى الحارة بعد أن التقوا بـ “جاد”، تود فقط لو يعود معها إلى المنزل! طلب صغير للغاية لن يكلف فعله، تريده فقط، ولكن للقدر رأي آخر، رأي يقتلها كل ثانية وأخرى تمر عليها بدونه، وليس هناك أي مؤشرات تدل على خروجه الآن إذًا ما الذي سيحدث؟ وإلى متى سيكون في هذه الورطة مُتهم بشيء بشع كهذا وهو نقي لا يفعله أبدًا، بريء والجميع متأكد من ذلك.. ما الحل؟..
تذهب إلى “كاميليا”!؟ تطلب منها السماح وكما فعلت ذلك تعفو عنه وتعود عما برأسها؟ ولكن كيف لقد تم القبض عليه وبحوزته هذه الأشياء ما الذي تفعله هي إذًا، من المستحيل أن تعترف عن نفسها بأنها من فعلت ذلك؟..
لقد توقعت أن يكون “مسعد” من فعلها لينتقم لنفسه بعد الذي فعله به “جاد” كثيرًا من المرات وأمام الجميع، لم يخطر على خلدها أن هذه الحية هي من فعلت ذلك..
يجب أن يكون هناك حل، “جاد” بريء مُتهم بشيء لم يفعله، مؤكد سيكون الله معه وسيخرج عن قريب، هذا اختبار كما قال لها وعليهم التحلي بالصبر والدعاء المستمر.. عليهم التقرب من الله، وأن يكون هناك يقين وإيمان بأن كل شيء سيكون على ما يرام مادام الله معه وبجواره.. مادام هو لم يفعل إلا الخير لن يعطيه الله سوى أكثر من الخير خيرًا..
دلفت “هدير” منزل والده بعد أن صعدت إليه لتكون بالقرب من والدته وجعلها تطمئن على ولدها فهي منذ الذي حدث وإلى الآن وبعد الآن تشعر بالحزن والقهر الشديد على ولدها ولوعة الفراق والخوف تدب داخل قلبها بشدة..
دلفت إليها بعد أن فتحت الباب لها، فابتسمت “هدير” أمامها بعذوبة ووجه بشوش كما قال لها زوجها لتجعلها تطمئن دون خوف بعد الآن، أقتربت منها والدته “فهيمة” بلهفة بعد أن رأت تلك الابتسامة على وجهها تهتف بحماس:
-ايه جاد هيخرج؟
أقتربت منها وأغلقت الباب ثم دلفت معها إلى الداخل تقول بنفس الابتسامة والهدوء:
-قولي يارب
جلست على الأريكة مقابلة لها وحددت نظرات عينيها على وجهها قائلة بهدوء:
-بقول والله يا هدير.. بقول يا بنتي
ثم مرة أخرى تكمل حديثها بقوة تنتظر منها كلمات تجعلها تشعر بالفرح وتخرج من ذلك الحزن تنتظر عودة ولدها إليها مرة أخرى:
-قوليلي أنتِ بقى.. هيخرج؟
بادلتها زوجة ابنها النظرات في البداية بهدوء وخجل وهي لا تود أن تكسر بخاطرها، تحدثت بجدية ثم وضعت كف يدها أمام مقدمة صدرها تهتف بإيمان:
-جاد بريء يا ماما فهيمة وأنا عندي إيمان ويقين إنه هيخرج في أسرع وقت
تسائلت بيأس ونظرة أمل خائبة بعد حديثها وقد فهمت أن الوضع بقي كما هو عليه:
-يعني مفيش أخبار تانية
انتقلت لتجلس جوارها ثم أخذت كف يدها بين يداها الاثنين تقول بهدوء وهناك أمل يعبث داخلها منذ أن رأته ووقعت عينيها عليه:
-لأ يا ماما فهيمة بس جاد قالي اطمنك وأنا والله مطمنة وحاسه إنه هيخرج متقلقيش.. ربنا مش هيسيبه لوحده أبدًا
حركت رأسها من الأعلى إلى الأسفل متحدثة:
-ونعم بالله يا بنتي
رفعت نظراتها مرة أخرى تتسائل بلهفة وقلق زائد وقلبها يدق لأجل فرحة عمرها الغائب عنها:
-طب هو عامل ايه؟ كويس كده وحلو
ابتسمت لها زوجته مُجيبة إياها:
-كويس وزي الفل ومش ناقصة حاجه غير شوفتك
أدمعت عيناها بقوة وهي تنظر إلى الأرضية تبتعد عنها بنظرها تهتف بقلة حيلة وحزن طاغي:
-يا قلب أمك يا ضنايا
قضبت “هدير” جبينها ونظرت إليها بحزن هي الأخرى وقلبها يدق عنفًا وقد كان ارتاح قليلًا ولكن حديث والدته لا يود ذلك، أقتربت منها أكثر قائلة باستنكار:
-في ايه بس هو أنا بقولك كده علشان تعيطي
رفعت نظرها إلى سقف الغرفة تهتف باستهجان وضيق:
-كان مستخبلنا فين بس ده كله يارب
اردفت “هدير” قائلة بحنان وترجي لكي تصمت عن ما تقوله وتتفائل خير بعودته:
-خلاص بالله عليكي يا ماما فهيمة أنا جاية من عنده فرحانه ومتفائلة.. بإذن الله هيخرج
مرة أخرى بقلب أم يحترق خوفًا ولهفتًا على فرحة عمرها وولدها الوحيد دعت قائلة:
-يارب.. يارب يخرج وأشوفه قدام عنيا النهاردة قبل بكرة ويرجع بيته وسط أهله ويفرحه بشبابه قادر يا كريم يارب
آمنت على حديثها داعية الله داخلها مثلها بالضبط ثم قالت بيقين وأمل وهي تنظر إليها لتجعلها تطمئن وتبعد ذلك الحزن عنها:
-آمين يارب، هيرجع… هيرجع إن شاء الله
أكملت بابتسامة ومرح حاولت تصنعه فقط إكرامًا لزوجها وحبيبها وكي تمنع الحزن عن قلب والدته حبيبته:
-ولحد ما يرجع بقى أنا هقعد معاكم هنا
تسائلت باستغراب ودهشة فهي قد طلبت منها ذلك كثيرًا ولم توافق:
-بصحيح؟
أومأت برأسها مؤكدة عدة مرات مُبتسمة:
-آه والله أنا استأذنت جاد وهو وافق وقالي إنه كان عايز كده كمان
تسائلت والدته “فهيمة” هذه المرة تضيق عينيها بعد أن قالت أن”جاد” أراد ذلك:
-هو عرف باللي عمله مسعد؟
أسرعت “هدير” تُجيبها بالنفي مؤكدة على عدم معرفته وأنه لا يجب أن يعرف من الأساس:
-لأ.. لأ مايعرفش حاجه ومش هقوله أي حاجه
أومأت والدته مؤكدة حديثها هي الأخرى قائلة بحزن:
-عندك حق كفاية اللي هو فيه
نظرت “هدير” بعينيها في الأنحاء المتاحة لها في جلستها وتسائلت بجدية عن والده:
-اومال فين الحج
أجابتها وهي تعتدل في جلستها محركة يدها وهي تتحدث:
-نزل يشوف المحلات مع الحج عطوة حالهم وقف وسمير بيجري من هنا لهنا علشان جاد
أكملت وهي ترفع يدها الاثنين أمام وجهها تهتف بحرقة كبيرة داخلها:
-منه لله اللي كان السبب في وقف حالنا، الورشة اتقفلت وضنايا اتحبس.. إلهي يوقف حالك يا اللي كنت السبب في الخراب ده
ربتت “هدير” على فخذها مُتمتمة:
-إن شاء الله خير.. بإذن الله
حركت والدته جسدها وهي تهم بالوقوف:
-أنا هقوم أصلي يابنتي وادعي لجاد ربنا ياخد بايده
تعلقت “هدير” بحديثها تؤكد عليها ذلك فدعوة الأم معروف أثرها في الحياة والممات:
-آه ادعيله يا ماما فهيمة ادعيله ربنا يفك كربه..
أكدت حديثها بوجه باهت وقلب مفتور ولسان ليس عليه سوى الدعاء لابنها:
-بدعيله من غير حاجه يا بنتي
وقفت “هدير” هي الأخرى بعد أن رأتها تقف أمامها تتجه إلى المرحاض لكي تقوم بالوضوء والصلاة وقالت بجدية:
-أنا هروح الشقة أجيب لبس ليا وهاجي أقعد في اوضة جاد
غرفة حبيبها وروحها وكل ما تملك، لقد كان ينام بها عندما مرض والده، ليس من فترة بعيدة مؤكد رائحته داخلها تعم الأرجاء وحتى لو لأ ستأتي بقميص له وعطره ليبقوا معها إلى حين عودته
أردفت والدته بحب وهي تبتسم لها ابتسامة مصطنعة بالكامل وهي تعرف ذلك ولكن هذا تحسن جيد:
-ماشي يا حبيبتي براحتك
ابتعدت “هدير” ذاهبة إلى باب الشقة وحقيبتها معها تتقدم منه لتذهب إلى شقتها:
-عن اذنك
ستأتي بما تريد منها ولتأتي بما تريده ويخصه هو ثم تعود إلى هنا تجلس مع والديه حتى لا يشعرون بغيابه عنهم، لتكون مكانه إلى حين عودته، مؤكد لن تكون مثله ولكن فقط لتخفف عنهم كما طلب منها وطلبه سيف على رقبتها ستنفذ ما أراد ومهما كان هو..
❈-❈-❈
مرة أخرى يعود “سمير” مع محامي جاد إلى النيابة العامة والفرحة داخل قلبه تدق طبولها بقوة كبيرة وعنف شديد ولا يرى أحد أمامه بعد رؤيته لشريط الكاميرا الموضوعة على ورشة “جاد”من الخارج..
والذي أتوا به منذ الصباح وأظهر دلوف “عبده” وهو يقوم بفتح الورشة قبل “جاد” ثم بعدها أتى إليه “جاد” ساعة وأخرى ولم يأتي أحد من العاملين معهم فخرجوا هم الاثنين من الورشة معًا، غابوا عنها ما يقارب الربع ساعة والورشة لم يدلفها أحد إلى حين!!..
إلى حين ظهور مسعد والذي كان واضح للغاية من حسن حظ “جاد” وهو يقف أمام بابها يتلفت يمين ويسار ناظرًا إلى الأعلى والأسفل خائفًا أن يراه أحد ونظر إلى الكاميرا بوضوح دون دراية أن هناك كاميرا مخفية من الأساس وقد استغل وجودهم داخل المقهى الشعبي بعد أن تأكد من ذلك بنفسه وتأكد أن ليس هناك أحد بها ثم وهو يقف على الباب من الداخل بعد أن تقدم ومازالت الكاميرا تستطيع أن تأتي به قام بالقاء ذلك الكيس الأبيض الذي وجدوه بين أدوات عمل “جاد” وكان به البو’درة ذلك السم المشؤوم..
ومن بعدها سار رافعًا رأسه بعد أن نفض يديه وخطى خطواته بعنجهية وغرور وذهب من أمام الكاميرا، يا له من خبيث ماكر، الشر يأتي من عنده بنظرة أو بكلمة، ألقى هذا السم في قلب “جاد” لكي يتخلص منه وينال ما أراد أخذًا حق ليس حقه ولكن عندما قرر فعلتها لم يخيل له شيطانه أن ابن عمه سيكون هنا مكانه وأن زوجته لن تستسلم له بهذه السهولة بل سيرى كل مُر على يدهم وقد حدث بعد تسليمه واتهامه بالتعدي على المنزل وسرقته في وجود الشهود من الحارة وزوجته وشقيقتها وابن عمه الذي تولى مكانه من بعده إلى حين عودته والآن ستكثف العقوبة حتى يعلم أن البيوت لها حرمة الجميع يقف عندها ومن قبلها.. عليه أن يتعلم ما لم تعلمه له الحياة في بقية سنوات عمره الذي سيقضيها داخل السجن بعد كل ما فعله..
❈-❈-❈
ذهبت إلى شقتها تأتي باغراضها التي ستحتاج إليها في جلستها مع أهله إلى حين عودته، إنها متفائلة هذه المرة عن حق تشعر أن الله لن يخذله ولن يتركه وحده بين هذه الحفرة العميقة الذي وقع بها..
سيخرج وسيعود إلى مكانه وبيته وأهله رافعًا رأسه بين الجميع، وضعت يدها على أدويتها وهي تأخذها، تذكرت أمر حملها الذي إلى الآن لا يعرفه! عليه أن يعرف في أول مقابلة له ستخبره لن تخفي الأمر عنه أكثر من ذلك، وكيف هي نسيت هذا الأمر من الأساس وكيف نسيت إخباره اليوم على الأقل كان هذا سيكون الأمل له فوق أمله في الخروج..
لقد نسيت من الأساس أمر حملها وكل ما تذكرته هو “جاد” فقط، ذكرتها شقيقتها سائلة إياها لما لم تخبره وتخبر الجميع ولكنها اعترضت في ذلك اليوم قبل القبض على “جاد” مستمرة في تعذيبه ولم تكن تعلم ما الذي فعله مع “كاميليا”..
لقد أصرت عليه أن يقص عليها كل ما حدث بينهم وما قالته وما أجاب به وفعل ذلك وشعرت بكم كبير من الخجل من نفسها لما ظنته أن هناك ما يخفيه عنها، تثق به ولا تثق بأحد غيره وتعلم أنه من المستحيل أن يؤذيها ولكن غيرتها وكذبه وتلك المرأة احتلوا عقلها وجعلوها تفعل شيء مثل هذا، تحرمه من معرفة أنه سيكون والد لطفل..
كل ذلك في لحظاته كان صعب للغاية عليها ولا تستطيع تقبله وكرد فعل منها أخفت ذلك عنه لتعلم ما الذي سيفعله وما الذي يريده ولكنه أخجلها عندما علمت أنه قابلها فقط لحذف كل شيء حتى قبل أن يكون موجود، الجمت الصدمة لسانها وجعلتها تتناسى أخباره وهي هناك معه ولكن هي ليست حزينة بل تشعر بالأمل وستقول له وهو هنا في بيته ومنزله وسيكون هذا عن قريب ليشعره بالفرحة الأكثر من كل شيء، عهد تأخذه على نفسها الآن أنها لن تزعجه مهما حدث وستكون نعمة الزوجة الصالحة له، كل ما مر عليهم اكتشفت أنه حدث بسبب عدم الحديث والمواجهة، لقد كان “جاد” كتوم في كثير من الأوقات على عكسها ولكنها أيضًا أحيانًا كانت تفعل ذلك ومن اليوم فلتعتبر أنه قد مُحيا وهناك بداية جديدة لهم سويًا..
دق جرس الباب فوقفت على قدميها متجهة لتفتحه وعندما فتحته ظهر من خلفه “جمال” شقيقها ينظر إليها بلهفة وقلق مرتسم على ملامحه ثم دلف خطوة وتحدث:
-هدير صحيح جاد اتقبض عليه؟
لقد كان في الإسكندرية في نفس اليوم الذي تم القبض به على “جاد” أخبرها قبل رحيله أنه ذاهب بسبب نقله لفرع المطعم الآخر هناك والذي يعمل به، أشارت إليه بالدخول وتحدثت وهي تغلق الباب:
-أيوه يا جمال اتقبض عليه بتهمة التجارة في الزفته البود’رة
رفعت نظرها عليه وهي تجلس على الأريكة مقابلة إياه تسائلة باستغراب بعد أن استوعبت أنه لم يكن هنا:
-أنتَ رجعت ليه وعرفت منين
اعتدل في جلسته وتحدث بجدية رجل عاقل قائلًا:
-أنا لسه عارف النهاردة الصبح من أمي وأنا بكلمها مكنتش كلمتها من ساعة ما وصلت علشان تلفوني باظ وعلى ما غيرته ولما عرفت جيت جري
نظرت إلى الأرضية بحزن مُردفة:
-سبت شغلك وجيت ليه بس وأنتَ يعني هتعمل ايه يا جمال
وضع عينيه عليها بعمق ودقة قائلًا بنبرة واثقة ثابتة:
-لأ هعمل وهعمل كتير يا هدير وجاد هيخرج
رفعت نظرها إليه بعد أن استمعت نبرته الغريبة عليها والواثقة بخروج “جاد” وبأنه سيقوم بعمل شيء، تسائلت بجدية مثبتة عينيها عليه كالغريق الذي يريد النجاة بأي شيء أمامه:
-هتعمل ايه يعني
وقف على قدميه بعد سؤالها وتقدم ليجلس جوارها ناظرًا إليها بقوة يهتف بشيء لم تتوقعه أبدًا:
-أنا شوفت مسعد وهو داخل ورشة جاد قبل ما أمشي وكان معاه كيس وخرج من غيره ومكنش فيه حد في الورشة لأني وأنا ماشي عديت على جاد وعبده وهما في القهوة..
اتسعت عينيها بقوة وهي تعتدل بجسدها لتنظر إليه أكثر بوضوح تستمع لما يقوله بقوة وتفهمه عن حق، كيف “مسعد”؟ وماذا عن “كاميليا” تحدثت بجدية وقوة:
-بتقول ايه؟ قول تاني وبالتفصيل
أشار بيده وهو يروي لها ما حدث في ذلك اليوم عندما كان ذاهب إلى الإسكندرية، نظر إليها أكثر وبدقة تحدث:
-كنت خارج من البيت ويدوب مشيت كم خطوة ببص ورايا لقيت مسعد داخل ورشة جاد ومعاه كيس في أيده، استغربت أنه داخل كده عند جاد من غير حساب بس بعدها على طول مافيش دقيقة عدت وخرج فاضي كملت طريقي وأنا ماشي لقيت جاد وعبده في القهوة ورميت عليهم السلام وقولت يمكن حمادة وطارق هناك وهما اللي قابلوا مسعد بس مجاش في دماغي أي حاجه من اللي حصلت
دون تفكير أو ذهول منها أن “مسعد” من فعل ذلك، دون لحظة واحدة تفكر في شقيقها أو أي أحد آخر، ودون لحظة صدمة وقفت تصرخ بهمجية قائلة وهي تبحث عن حقيبتها:
-تلفوني، تلفوني فين… الشنطة فين
وقف هو الآخر وهو يراها تصيح هكذا تركض إلى الغرفة بالداخل ثم خرجت وبيدها الهاتف تلهث بعنف والابتسامة تظهر على شفتيها مرة وتختفي الأخرى، سألها باستغراب:
-طب بتعملي ايه
وضعت الهاتف على أذنها بعد العبث به بيدين ترتجف بشدة وقالت بسعادة ولهفة وقلق وحب ومشاعر لا تدري ما هي ولما توجد الآن:
-بكلم سمير.. سمير لازم يعرف علشان يقول للمحامي ويروحوا النيابة
أجاب عليها من الطرف الآخر معتقدًا أنها علمت بما حدث ولكنها لم تعطيه الفرصة للتحدث قائلة بلهفة وتخبط:
-سمير جمال أخويا رجع.. بيقول إنه شاف مسعد داخل الورشة يوم جاد ما اتقبض عليه وكان معاه كيس.. هو أكيد نفس الكيس اللي فيه البو’درة وأكيد هو اللي عملها
ابتسم الآخر من على الناحية الأخرى بسعادة غامرة وهو يُجيبها بلهفة مثلها وحماس لما هو آتي:
-وأنا معايا شريط كامل لمسعد وهو بيحط البو’ردة جوا الورشة.. الكاميرا جابته يا هدير وإحنا في النيابة دلوقتي
دمعت عينيها بشدة، وضعت يدها الأخرى على موضع قلبها الذي ازدادت ضرباته عنفًا وفرحةً تكاد أن تقتلها، وتسائلت بلهفة وشفتين ترتعش:
-بالله عليك بجد؟
-والله العظيم بجد
مرة أخرى تسائلت بعد أن بللت شفتيها بلسانها وقالت بلهفة وحنين:
-يعني جاد هيخرج؟
أردف من الناحية الأخرى بسعادة يود أن يجعلها تطمئن وترتاح إلى الآن فقد تعبت كثيرًا:
-كلها شوية إجراءات لو طولت آخرها بكرة وهيبقى عندك
صمتت ولم تتحدث فقط ذرفت عينيها الدموع بكثرة شاعرة بالسعادة المطلقة فقال “سمير” من الناحية الأخرى:
-المهم ابعتيلنا جمال دلوقتي على النيابة
مسحت دموعها بكف يدها قائلة بحماس:
-عنيا
أغلقت الهاتف ونظرت إلى شقيقها مبتسمة بسعادة وفرحة عارمة وكأنها الآن بين السحاب ثم هتفت مسرعة وهي تقترب منه:
-سمير في النيابة ومعاه تسجيلات الكاميرا ومسعد فيها وهو بيحط الحاجه
ابتسم بعمق حتى ظهرت أسنانه بقوة يهتف بالشكر لله:
-الحمدلله
-يلا روح بسرعة على النيابة سمير هيحتاجك
اختفى من أمامها ووصل إلى باب الشقة ناطقًا وهو عند عتبته:
-فوريرة
أغلق الباب خلفه بقوة فوقفت هي في منتصف الصالة تبتسم بسعادة واضعة يدها على قلبها والأخرى على بطنها مرحبة بمولودها الذي سيعرف والده بأمره عن قريب بعد أن يستقبلوه بفرحة..
على حين غرة أطلقت من بين شفتيها الزغاريد خلف بعضها بصوتٍ عالٍ ونفس طويل وسارت إلى الشرفة وفمها لم يصمت عن اطلاقهم، فتحتها ووقفت في الشرفة تكمل ما بدأته بفرحة كبيرة وكل من مر ينظر إليها باستغراب وخرجت والدته مقابلة لها تنظر إليها من شرفتها وفوقها زوجة عمه وهي مستمرة..
تسائلت والدته ووجهها يبتسم متوقعة ما الذي ستقوله عن خروج ابنها:
-في ايه يا هدير، جاد خرج؟
نظرت إليها وبصوتٍ عالٍ وابتسامة مشرقة زفت إليها الخبر قائلة:
-النهاردة.. بكرة بالكتير وهيكون هنا… جاد بريء واثبتوا براءته خلاص
على الناحية الأخرى وفور الاستماع إلى هذه الكلمات بدأت والدته بإطلاق الزغاريد مثلها ومن الأعلى زوجة عمه ووالدتها في الأسفل بعد الاستماع إلى حديثها..
فرحة عارمة اجتاحت القلوب بعد معرفة خبر خروج “جاد” الرجل التقي الصالح، انهالت عليهم المباركات من الجميع في الأسفل وفي شرفات المنازل وكم كان “جاد” محبوب منهم..
أغلقت “هدير” الشرفة وأخذت عباءة بيتيه فقط لها وخرجت ذاهبة إلى منزل والدته لتقوم هي بالاتصال بوالده وتبليغه بما حدث ليذهب الحزن منه وليبتعد عنهم فهذا يكفي وبعدها تصلي ركعتين شكر إلى الله على نعمة الكثيرة هذه..
متناسبة أمر التفكير في مسعد وكيف “كاميليا” هي من بلغت عنه؟!
❈-❈-❈
“في المساء”
ذهبت الشمس وعم الظلام على الأرض ومن عليها، ينير القمر محاولًا محو تلك الظلمة المتوحشة ولكن لا يستطيع فعلها وحده والبشر هنا يخفون ما كان أعظم داخل قلوبهم السوداء الذي تتماشى مع ظلمة السماء..
بصيص نور يحاول الدلوف إلى تلك القلوب كالنجوم في السماء ولكن حرارة القلوب ونارها المتشابهة مع الجحيم تمنع ذلك النور..
يظنون أنهم إلى الأبد سيعيشون بذلك السواد، من عاد عنه قد فلح ومن أصر عليه قد وقع في فخ من أعماله.. الله مُطلع ويرى كل شيء وإن غفا المحسنون عما يحدث لهم فالله سيعود بحقوقهم..
ومهما كان خطأك في الحياة فهي لها آخر ونهاية والآن قد حانت نهاية شر قد وُلد من داخل قلب أعمى بالحقد لا يعرف الحلال بصير بالحرام الممنوع وكما هو الممنوع مرغوب..
ولكن إلى اليوم لم تستطع الحصول عليه ولن تستطيع مهما حدث فمن تربى على ذكر الله لن يخرج عن طريقه أبدًا لن يترك طريق ينيره ضوء القمر كهدية من الله ليسير في طريق عتمة حالكة متعبة للأنظار..
وهو كان ذلك النقي الذي لم يقع بشرها، لقد خُدع وأخطأ ولكن حمدًالله على ما توصل إليه قبل فوات الأوان، عودته تعني له كل شيء..
في ظلمة الليل الذي تحدث عنها الجميع خرجت من سيارتها أمام إحدى العمارات السكنية الراقية، ومن الناحية الأخرى مكان مقعد السائق وعجلة القيادة خرج رجل آخر غير زوجها، فارع الطول وجسده رياضي ضخم، أغلق باب السيارة سريعًا وتوجه إليها بخطى واسعة عندما وجدها تستند على الباب بيدها الاثنين غير قادرة على غلقه وتترنح بقوة كأنها ستقع على الأرضية..
أمسك بها واضعًا يده حول خصرها والأخرى أغلق بها الباب ثم بهدوء سار معها إلى مدخل العمارة وهي تتبسم بطريقة غريبة وترقص بيدها عاليًا على أنغام صوتها البشع وكأنها، ثملة!!..
ثملة وتسير مع رجل غير زوجها، تدلف مكان ليس لها وسيغلق عليهم في مكان واحد وكم من الذنوب والمعاصي قد حملت في تلك الدقائق المعدودة..
من بعيد في نفس تلك الظلمة كان زوجها عادل يجلس في سيارته يتابع خطواتها معه إلى الداخل ثم نظر إلى السيارة بهدوء غريب وببطء شديد بدأت الابتسامة تظهر على وجهه!..
لما يبتسم! لأجل صعود زوجته مكان مغلق مع رجل آخر وهي ترتدي ملابس فاضحة وفي غير وعيها..
ابتسامته صفراء وكأن خلفها مكائد ومصائب يرتبها لها ولكن مهما كان ما حدث بينهم ومهما كانت إمرأة سيئة لا يجوز أن يفعل ذلك، لا يجوز أن يتخلى عن رجولته بهذه الطريقة المهينة تاركًا زوجته مع غيره في هذا الوقت وهذه الأثناء، بتلك الحالة الغريبة! ربما يكن معتاد منها على هذه الثمالة ولكن ليس هذا الوقت المناسب لتصفية الحسابات وليست هذه الطريقة أبدًا فهذه طريقة دنيئة لا تخرج من رجل يحمل صفات الرجولة الحقيقية أبدًا..
وبتلك النظرات والحركات التي يقوم بها مع هذه الابتسامة قد ظهر أنه هو من فعلها وهو من أراد أن يجعلها تقع في شر أعمالها بفضيحة كبرى أمام المتجمع بأكمله وليكن هو في موضع الضحية وبهكذا قد يكون نال منها بأبشع الطرق وأخذ حق مظلوم لا يدري بما خطط له..
❈-❈-❈
تم الإفراج عن “جاد الله رشوان أبو الدهب” ما لم يكن مطلوب على ذمة قضايا أخرى، كلمات بسيطة أدمعت لها الأعين، ورقصت لها القلوب الهشة من شدة فرحتها، وأصلبت الضعيف المنكسر بعودة حاميه..
كان معهم محامي ليس بهين التعامل معه، بذلك الدليل وكلمات “جمال” الشاهد على ما حدث من “مسعد” واعترافات كل من يعمل بالورشة وبعض الأشخاص من الحارة الذين تحدثوا عن الاسطى “جاد” بكل احترام وود..
ذكره الجميع بكم هو رجل يعرف الله، لا يريد سوى حلاله، أخلاقه عاليه، ولسانه طيب وليس من طبعه أن يفعل شيء كهذا بل كان دائمًا يحارب صاحب الأساس في هذا العمل وتحت أعين الجميع..
وبكلمات المحامي وخبرته في تلك الأمور وإثبات براءة “جاد” قد تم الإفراج عنه واحتجاز “مسعد” المحتجز من الأساس في قضية التهجم على البيت وسرقته..
بعض الإجراءات فقط التي سيقوم بعملها ثم يفرج عنه ويعود إلى حارته وموطنه الأصلي ويجلس داخل بيته مع أهله وزوجته رافعًا رأسه أمام الجميع قائلًا أنه مازال نقي..
حمد “جاد” الله كثيرًا ولم يكن السبب الأكبر أنه خرج! بل كان السبب في سعادته الكبيرة هو وقوعه في هذه الورطة التي أخذت “مسعد” بها، لو لم يكن حدث ذلك لكان “مسعد” حي يرزق في الخارج يخرب حياته ويلقي كلمات ليست لها داعي ولا تفعل معه أي شيء سوى أنها تعكر صفو مزاجه فقد كان هذا تدبير آخر من الله لينعم به عليه مع هذه النعم الكثيرة التي في حياته والتي أيضًا يعجز عن وصفها وشكر الله عليها ولكن هناك ما يعكر صفوه ويريد تفسير له، كيف “مسعد” من وضعها و “كاميليا” من قامت بالتبليغ عنه!..
الجميع يطير سعادة وفرحة وأمل بعدما علموا بهذا الخبر، انتقلت “هدير” إلى منزل والد زوجها وأتت شقيقتها هي الأخرى وزوجة عمه يجلسون مع والدته في انتظاره بعد أن بلغهم “سمير” أنه تم الإفراج عنه، قامت “هدير” بملئ الشارع من أوله إلى آخره بالزغاريد والفرحة على وجهها تنطق، لم تعد الكلمات تعبر عن أي شيء داخلها، جسدها يحكي ونظرتها تسرد وحركاتها تقول ما لم تقوله من قبل، أكل هذا التأثير منك يا “جاد الله”؟!.
زوجها وحبيبها، والدها وشقيقها، كل ما يلزمها بالحياة هو، ستحاول أن تفعل له كل ما أراد ولن ترد له طلب ولن تزعجه مهما حدث فقد أظهر لها بعدما قص عليها ما حدث منه ردًا على “كاميليا” كم هي بشعة في التفكير به..
ستكون كل ما أراد وستمحي كل ما مضى هذه المرة، حقًا هذه آخر مرة ستزعجه بها وستجعل حياتهم القادمة أفضل بكثير مما قد مر عليهم..
أما من كانت سعادته لا تضاهي شيء حقًا هي والدته، ولدها الوحيد وكبيرها وحبيبها، فرحة عمرها وكل ما انجبته من الدنيا كاد أن يسرق منها تحت أنظار الجميع في سكوت تام وليس هناك أي شيء تفعله لتعود به إلى أحضانها.. الآن حمدًا لله كثيرًا وأبدا..
حمد كثير على هذه الدموع الخارجة من الأعين وتلك الدقات العنيفة من القلب الخارجة بصوت عالي فرحة لأجل عودته حبيب عمرها وفلذة كبدها، لأجل عودته ليفتح ورشته ويفعل صوت للشارع والحارة ولكل مكان بهذه البلد بوجوده
لن نكون قادرين على سرد كم من شخص فرح وكيف كانت فرحته ولكن قادرين على قول أن الجميع طارت رؤوسهم في السماء مع الطيور ثم سحبت قلوبهم في البحار غير قادرين عن التعبير كيف تكون هذه الفرحة العارمة وكيف تصف..
❈-❈-❈
بعد نصف ساعة فقط من صعود زوجته إلى ذلك البيت بتلك العمارة قد حضرت عربات الشرطة للقبض عليها متلبسة في قضية شرف فعلها هو ولكن برضاء تام منها!..
كان كل شيء من تخطيطه، قام بكل شيء بدقة عالية وحرافية ممتازة كي لا يكون هناك أي ثقب يقع به وتخرج منه زوجته المصون.. كما قالت عنه طموح ويعمل بكثرة ليكون الأفضل وقد كان، عقله يعمل باستمرار ليخرج بحلول غير متوقعة وقد تركها تفعل ما يحلو لها إلى اليوم لتكن الضربة القاضية..
وقف في الأسفل رافضًا الصعود معهم متصنعًا الألم وكم أن رجولته مُهانه مطعون بها بسبب فعلة زوجته الدنيئة، علامات الانكسار مرتسمة على وجهه بوضوح شديد وكأنها حقيقية للغاية ولن تشكك بكونها مشاعر مزيفة..
وكم كان بارع في فعل ذلك وأصبح صوته ضعيف للغاية غير قادر على المواجهة..
الآن المواجهة الأصعب!، حضر قدر كبير من الصحافة المعروفة بالكاميرا يترقبون هبوط المذيعة الشهيرة “كاميليا عبد السلام” من منزل رجل آخر غير زوجها في قضية شرف.. ليكون حديث الموسم
بعد أن رآهم يتقدمون إلى أمام البنية دلف سيارته وبقى داخلها كي لا يزعجه أحد وهو لا يود التصريح بأي شيء الآن، تفكير شيطاني مميت استعمله بعد أن نفذ كل صبره منه تجاهها..
أخذ عقله في تذكر الأيام السنوات التي مضت عليه معها في عذاب مستمر وكأنه عقاب مميت من الله، إمرأة غبية كريهة لا تفكر إلا بنفسها والجميع في سلة القمامة..
لا يهمها إلا المظهر العام والشكل الخارجي، تريد أن تنظر إلى أي ذكر يسير أمامها وحتى لو كانت جواره، لا يهمها كونه زوجها وهي إمرأة متزوجة في عصمته، لا يهمها أي من كل ذلك فقط يهمها ما تريد ومهما كان ما هو، يتنافى مع الإسلام لا يهم يتنافى مع العادات لا يهم المهم أنه يرضيها ويجعلها تشعر بالراحة والسعادة كالذي تفعله في الأعلى بالضبط..
إهانته منها كانت من أشد العقوبات، أن يكون رجل حاضر كامل ويقف أمامها لتقول كم كان فقير لا يساوي أي شيء وهي من فعلت له كل ما هو به الآن، أن تقول له أنه ليس له أهل ولا أحد يعرف له هوية من أبشع الأشياء الذي حصل عليها..
هو من الأساس لم يحصل على شيء بشع إلا منها وحدها، الآن عليها أن تجني كل ما فعلته به، تعب كثيرًا إلى أن أخذ هذه الخطوة وأخذ في التخطيط ليفعلها ثم التنفيذ، كم ستبكي الآن! يوم! اثنين! عام! اثنين! ستبكي إلى المُنتهى فهذه فضيحة الموسم والتي سيتحدث عنها الجميع قريب وغريب وإن بقيٰ لها أحد التعامل معه فهكذا سيكون الله يحبها..
ابتسم بسخرية فمن الأساس لا أحد يطيقها بعنجهيتها وغرورها المعروف..
ضجة عالية جذبت عقله المنشغل لينظر من خلال زجاج السيارة ويرى عناصر الشرطة تهبط بها من أعلى درج العمارة الخارجي ملتفة في شرشف فراش كبير ومعها ذلك الرجل كمثلها بالضبط، يا له من شعور غريب، شعور بالانتشاء واللذة، يراها تبكي ووجهها ملطخ بكُحل الأعين أثر البكاء، عينيها بالأرضية وتتمسك بذلك الشرشف بكل قوتها وعدسات الكاميرا جميعها تصور بوضوح!..
لم ولن يقدر أحد ذلك الموقف كي يبتعد بل الجميع يتنافس للحصول عليه أولًا ليرتفع محلقًا في سماء الإبداع والتميز بعد حصوله على صورة ومعلومة كهذه لـ “كاميليا عبد السلام”
الجميع الآن يشكر الشخص الذي أعطى لهم الإخبارية بأن ذلك يحدث الآن ولم يكن سواه الذي تخلى عن النخوة بداخله وترك رجولته جانبًا لكي يأخذ حقه بأبشع الطرق منها راددًا حقوق ناس أخرى غيره..
صعدت في عربة الشرطة منكسرة عينيها لم ترتفع ولو لحظة واحدة ثم ذهبت من أمامه في لمح البصر والصحافة من خلفها..
عليه الآن أن يفكر في زوجته الأخرى حبيبته وأم أولاده القادمين..
فقد انتهت حكاية كاميليا معه هنا ومع الجميع بعد أن أخذت العقاب الأكبر في التاريخ، أخذ الله حق “جاد” وزوجته دون أدنى اهتمام ولا مجهود منه والله يرد الحقوق إلى أصحابها..
❈-❈-❈
“اليوم التالي”
أخذت الإجراءات في الأمس وقت طويل فتم تأجيل خروج “جاد” إلى اليوم، وقد عاد “سمير” بالأمس فرحًا مُبتسمًا بسعادة ليجعل الجميع يطمئن بعد تأجيل خروجه، كان محقًا ليفعل ذلك بحديث ونظرات وحركات فرحة فقد شعروا بالاحباط مرة أخرى ولكنه قال للجميع بجدية أنه سيخرج اليوم بالتأكيد..
نامت “هدير” ليلة أمس في منزل والده داخل غرفته ومكانه بعد أن أغلقت شقتها جيدًا وتوجهت إليهم، من الصباح الباكر استيقظت هي ووالدته ليقوموا بطبخ كل المأكولات التي يحبها تعويضًا عن اليومين الذي قضاهم خارج منزله وموطنه الأصلي، مستعدين لاستقباله على أكمل وجه والفرحة لا تستطيع أن تصف كيف تكون داخل قلوبهم..
دق باب المنزل وهما في المطبخ، خرجت “هدير” إلى الصالة أخذه حجابها من على الكنبة ولفته على رأسها بأحكام ثم توجهت إلى الباب تفتحه بهدوء ناظرة إلى الأرضية وببطء ترفع عينيها لترى من الطارق!..
وعلى حين غرة كانت عينيها تتعمق داخل عينيه الرمادية الساحرة السالبة عقلها وقلبها وكل عرق نابض بها، ارتسمت الابتسامة على وجهها باتساع وأدمعت عينيها بقوة تاركة الباب الذي كانت تتمسك به متقدمة منه بقوة ملقيه نفسها داخل أحضانه متشبثة به بقوة شديدة..
دفنت وجهها جوار عنقه تضغط على أحتضانه قائلة بصوت خافت حاني يحثه على عدم تركها إلى الأبد:
-وحشتني يا حبيبي
تعمق هو الآخر باحتضانها ضاغطًا على خصرها وذراعيه ملتفه عليه مُجيبًا هو الآخر بصوتٍ رخيم:
-وحشتيني أكتر يا وَحش
عادت للخلف بهدوء وعينيها متعلقة على كل انش بوجهه تحفره داخلها أكثر وأكثر، بادلها تلك النظرات العاشقة المشتاقة إلى أرواح ابتعدت عن موضعها المعروف لتترك داخلهم ألم الفراق المُعذب للقلوب..
أردفت بنبرة لينة مريحة خافتة وهي تضع وجهه بين كفي يدها كطفل صغير تحدثه والدته:
-الدنيا دي مالهاش أي لازمه من غيرك يا جاد
وضع كف يده فوق يدها الموضوعة على وجهه وابتسم بهدوء وما كاد ألا يُجيب عليها ولكنه استمع إلى صوت حمحمة “سمير” من خلفهم بصوت رجولي واضح وقد تناسى وجوده من الأساس، إنه هنا معه منذ لحظة وصوله، أبعد يده وابتسم بسخرية قائلًا وهو يستدير إليه:
-خلاص عرفنا إنك هنا
ابتسمت هي الأخرى لعودة تلك المناوشات التي كانت تحدث بينهم بين الضحك والمرح وابتعدت عن الباب دالفه للداخل راكضًا وهي تصيح بصوتٍ عالٍ:
-جاد رجع يا ماما فهيمة.. جاد رجع
وقفت أمام باب المطبخ تنظر إليها بابتسامة عريضة والدمع داخل عينيها فرحًا، تركت والدته سريعًا ما كان بيدها وتقدمت للخارج تتخطاها قائلة بقوة وعدم تصديق:
-ابني.. ضنايا رجع
خرجت هي الأخرى ركضًا لتراه يتقدم إلى الداخل هو وابن عمه، بكامل قوتها أطلقت الزغاريد خلف بعضها بصوتٍ عالٍ ثم ركضت ناحيته بقوة ملقيه نفسها داخل أحضانه وقلبها يرتعش بقوة وكامل جسدها من خلفه قائلة ببكاء وحنان والدة افتقدت ولدها:
-يا حبيب عمري… يا فرحة عمري يا جاد
قبل أعلى رأسها وهي يحتضنها قائلًا بعتاب:
-طب بتعيطي ليه دلوقتي
أجابته ضاحكة والدمع يخرج من عينيها بغزارة قائلة ومازالت تتشبث به:
-دي دموع الفرح يا واد
ضحك بقوة رافعًا رأسه للأعلى، مازالت تنعته بطفل:
-مش هتبطلي واد دي بقى
عادت للخلف تضربه بخفه على ذراعه مُبتسمة بسعادة لا يوجد بعدها سعادة إلا واحدة فقط:
-هتفضل واد طول عمرك يا واد
ضيقت ما بين حاجبيها بحنان بالغ قائلة بهدوء وفرح:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبي نورت بيتك
مرة أخرى قبل أعلى رأسها مُبتسمًا وهو يعلم ما الذي بداخل الجميع ناحيته وأولهم والدته:
-الله يسلمك يا أم جاد
أبعدت نظرها إلى “سمير” قائلة بسعادة وحماس كبير:
-يلا يا سمير روح هات مراتك على ما أكلم عمك رشوان يجيب أبوك ويجي الغدا عندنا النهاردة على حس جاد
هتف “سمير” مُجيبًا باقتراح أخر لكي ينعم هذا الرجل ببعض الراحة بعد هذه الرحلة الشاقة:
-يا مرات عمي ادي لـ جاد فرصة يريح شوية الأول
استدار ينظر إلى سمير قائلًا بنبرة أصبحت مُرهقة بعد وصوله إلى هذه النقطة:
-لأ أنا هروح بس أخد دش كده اظبط بيه نفسي وأغير هدومي وهاجي على طول على ما الحج يوصل
ربتت على كتفه بيدها بحنان:
-طيب يا حبيبي يلا روح وارتاح شوية لسه بدري على الغدا
استدارت تنظر إلى زوجته قائلة:
-يلا يا هدير معاه وهنادي على أم سمير تنزل معايا
تقدمت منهم ووقفت قبالته مُجيبة بلهفة حقًا تريد أن تكون معه وحدها:
-ماشي يا ماما فهيمة
هتفت والدته مرة أخرى بحنان وحب بالغ وهي تقترب منه تعانقه مرة أخرى تستنشق عبير رجولته وحضوره:
-يلا يا حبيبي.. حمدالله على سلامتك يا قلب أمك انشالله آخر مرة تخرج فيها من بيتك ومكانك
بادلها العناق بقوة مربتًا على ظهرها بابتسامة كبيرة ناظرًا إلى زوجته غامزًا لها بعينيه:
-إن شاء الله يا أم جاد
خرج “جاد” من المنزل ومعه زوجته بعد أن هندمت ملابسها لتلائم الخروج للبيت الآخر والظهور في الشارع، بينما صعد “سمير” إلى منزل والدته في الأعلى..
دلفت إلى شقتها وأنارت الأضواء بهدوء وهو يدلف من خلفها بهدوء شاعرًا أن روحه قد عادت بعودته إلى مملكته ومكانه الوحيد الذي شهد على كم السعادة الخالصة التي شعر بها مع حبيبة عمره..
أغلق هو الباب وتقدم ينظر إليها بعد أن وقفت هي الأخرى تنتظر تقدمه منها، ناظرة إليه بعينيها العسلية متعلقة بكل حركة تصدر منه، تشبع عينيها بالنظر إليه ورؤيته البهيئة..
تقدم بهدوء وعينيه الرمادية متعلقة بها بقوة وعمق، وقف أمامها لا يفصل بينهم شيء يوزع نظرة على كامل وجهها، عينيها العسلية، نمشها الرائع الخلاب، شفتيها التي احتوته كثيرًا..
إنه يفتقدها منذ أيام كثيرة مرت عليهم وهم مبتعدين عن بعضهم بقوة، حمدًا لله أنها تناست حزنها الذي لا يعلم سببه وابتسمت له وللحياة مرة أخرى..
وضع وجهها بين كفيه برقة يقترب منها بوجهه مشتاقًا للمسة منها، أقترب من شفتيها بخاصته مقبلًا إياها بعمق وحنان لين وهدوء معتاد منه..
عاد للخلف بعد قبلته التي أخذت وقت طويل وأخفض يده الاثنين إلى خصرها مقتربًا منها قاطعًا المسافة نهائيًا..
وضعت يدها اليمنى على وجنته بحنان خالص ناظرة إليه بحب ليس معهود على أي حد غيرهم تهتف بنبرة خافتة لينة رقيقة:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبي
ابتسم إليها وأقترب مرة أخرى طابعًا أعلى جبينها قبلة حنونة بريئة قائلًا بحماس ومرح:
-الله يسلمك يا وَحش… بس ايه الحلاوة والطعامه دي… دا فرق سرعات عن آخر مرة خرجت فيها من هنا
رفعت يدها هي الأخرى ووضعتها على ذراعيه قائلة بهدوء وجدية تامة بعد أن فهمت كل ما حدث وقررت أنها لن تُعيده مرة أخرى:
-أكيد يا جاد.. أنا عرفت كل حاجه ولازم بقى ننسى اللي حصل ونبدأ صفحة جديدة
غمزها بعينيه الرمادية ضاحكًا:
-اعتبريه حصل
أبعدت يدها عنه محاولة العودة للخلف وهو محاوطها بذراعيه تهتف مقترحة:
-طيب خد دش وهطلعلك هدوم علشان عايزة أتكلم معاك وأقولك حاجه مهمة
ضيق ما بين حاجبيه متسائلًا باستغراب وعينيه عليها بدقة:
-حاجة ايه
أشارت برأسها مؤكدة أنها ستتحدث عندما يخرج فقط وحركت شفتيها مُجيبة:
-يلا بس أما تخرج هقولك
أومأ إليها برأسه ثم تقدم إلى الداخل متوجهًا إلى المرحاض فهو في حاجه شديدة لأن يأخذ قسطًا من الراحة أسفل المياة ليريح جسده عما تعرض إليه في اليومين الماضيين..
خرج من المرحاض بعد أن ارتدا ملابسه الداخلية التي قامت بإعطاءه إياهم، كان يضع المنشفة على رأسه يحركها بقوة بيده لكي تجف خصلات رأسه سريعًا..
دلف إلى الغرفة ليراها تقف أمام المرآة بعد أن بدلت ملابسها هي الأخرى إلى غيرها بيتيه مكونه من قميص طويل لونه أحمر ناري يصل إلى بعد منتصف قدميها من الأسفل مفتوح من الجانبين، ومن الأعلى يحمل رسومات وردية زائدة على كتفيه ومقدمه صدره..
وقف أمامها يبتسم مانعًا نفسه عن الخطر الذي يفكر به فهناك أشخاص بانتظاره، تحركت تفاحة آدم على أثر ابتلاع ما وقف بجوفه بعد رؤيتها، مد يده إلى البنطال يأخذه من على الفراش يرتديه:
-ها ايه بقى الحاجه المهمة
نظرت إليه بعمق داخل عينيه وناداته بإسمه برقة ونظرتها مطولة عليه:
-جاد!
استغربها وهو يراها تنظر إليه بعمق تناديه هكذا، تقدم من الفراش جالسًا عليه وأجاب محركًا شفتيه ببرود أخذًا المنشفة مرة أخرى يجفف خصلاته بعد أن ارتدى البنطال:
-نعم
-أنا حامل
ابتعدت يده عن المنشفة التي وقعت على الأرضية جوار قدمه وعينيه ثبتت عليها متسعة بصدمة كبيرة بعد أن قالت كلمتين لم يكونوا في الحسبان أبدًا..
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ندوب الهوى)