رواية ندوب الهوى الفصل التاسع عشر 19 بقلم ندا حسن
رواية ندوب الهوى الجزء التاسع عشر
رواية ندوب الهوى البارت التاسع عشر
رواية ندوب الهوى الحلقة التاسعة عشر
“مازال يريد الفراق
وقلبي لا يتحمل”
وضعها “جاد” على الفراش الصغير في غرفة نوم الأطفال بشقته، وقفت “هدير” جواره تنظر إلى ما يفعله بصمت منتظرة أن ينتهي ويُجيب على سؤالها المعلق في الهواء إلى الآن دون إجابة واضحة منه؟..
مَن تلك التي أتى بها إلى منزلها في مثل هذا الوقت غائبة عن الوعي ولا تدري ما الذي يحدث حولها، ربما تدري من قبل اغمائها!، غير محجبة ولا يبدوا عليها الاحتشام من الأساس بهذه الملابس التي تفصل جسدها بشدة..
نظرت إلى وجهها عن قرب عندما خرج من الغرفة وتركها، دققت النظر بها تتأكد إن كانت هي حقًا التي أتت على خلدها!، إنها “كامليا عبد السلام” المذيعة الشهيرة!.. ما الذي تفعله في بيتها! ستُجن!
رأته يدلف إلى الغرفة مرة أخرى وبيده زجاجة عطر تخصها أتى بها من غرفة نومهم، أقترب من تلك النائمة على الفراش ثم قام برش قليلًا في الغطاء مقربة من أنفها ليجعلها تستفيق، محاولة ثم أخرى وأخرى حركت رأسها بضيق وأغمضت عينيها أكثر فاطمئن قلبه وتركها كما هي تنام في هدوء..
خرج من الغرفة وهي خلفه أنتظر أمامه لكي تخرج فأغلق الباب وتقدم إلى غرفة النوم الخاصة بهم دون التفوه بحرف ولم ينظر لها أيضًا، لم يعيرها أدنى انتباه، شاعرًا أن عليه أخذ موقف حاسم معها لتتعلم من ذلك الخطأ الذي قامت به بحقه وبحق نفسها، دلفت خلفه وسألته مرة أخرى وهي تغلق الباب بجدية وخفوت:
-بقولك مين دي يا جاد
تقدم من خزانة الملابس ووقف أمامها بعد أن فتحها وأخرج ملابس بيتية له منها دون أن ينتظر منها فعل ذلك، استدار ووضعهم على الفراش وأجابها دون النظر إليها بجفاء:
-كانت على الطريق بتتخانق مع حد وبعدين واغمى عليها اضطريت اجبها هنا
رأته يزيل قميصه عنه ووقف أمامها عاري الصدر بعد أن زال قميصه الداخلي أيضًا وبدأ في ارتداء الملابس الأخرى، فقالت وهي تقترب منه بهدوء:
-طب ومكلمتش حد من أهلها ليه
انتهى من ارتداء الملابس فأخذ ما ازالهم عنه وألقاهم على المقعد، ثم تقدم للخروج من الغرفة قائلًا بنبرة خشنة باردة:
-مجاش في بالي..
يتحدث بخشونة وبطء وكأنه رغم عنه! لما كأنه فهو حقًا هكذا، نظرت إليه بحزن طاغي على جميع خلاياها فكل ما حدث لم تكن تريده أن يحدث مثله تمامًا وأكثر ولم يكن لها يد به، كم مرة ستقول هذا الحديث حتى يفهم؟..
كل شيء حدث عن طريق الخطأ، ومع ذلك لقد أخطأت وهي معترفة بذلك ولكنه لا يعطي إليها فرصة لتصليح ذلك الخطأ أو حتى الاستماع إليها والتقرب منها وفوق كل هذا رفع يده عليها وقارب على ضربها من المفترض أن تكون هي المنزعجة!..
لن تبالغ هو من ينزعج لأنها من أخطأت ولو هناك أحد غيره وُضع في مكانه لفعل أكثر من ذلك ولكنها تطمع في المغفرة منه وإن يعود كما كان..
خرجت خلفه ووجدته يتقدم من المرحاض، فقالت بحنان أم تنازعت هي وولدها ولكن لا يهون عليها:
-هحضرلك تاكل.. هعملك حاجه خفيفة أنتَ أكيد جعان
بخشونة وجفاء أجابها وهو يغلق الباب بوجهها غير مبالي بأي شيء:
-مش عايز
أغمضت عينيها بقوة تعتصرهما بضعف شديد وهي لا تستطيع تحديد موقفها، هل تبتعد عنه وتتركه حتى يعلم أنه من أخطأ في حقها عندما تطاول عليها بصوته العالي ويده وتعامل معها بخشونة لم تعتادها من حبيب قلبها وسندها في الدنيا، أم تعترف أنها من أخطأ أولًا وبعد ذلك ترتب كل ما فعله لأنه كان رد فعل لفعلها القبيح!..
ذهبت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب خلفها ثم تقدمت من الخزانة وأخرجت منها قميص يصل طوله إلى قبل ركبتيها بقليل، حمالاته رفيعة للغاية وبه فتحت صدر واسعة..
وضعته على الفراش ثم أزالت عنها إسدال الصلاة التي كانت تقف به في الشرفة، وبدأت في تعديل ملابسها وارتداء ذلك القميص، ثم ذهبت لتمشيط خصلاتها أمام المرآة..
لم تفعل هذا لاغراءه وجعله يتناسى ما حدث فهي من الأساس لم تنساه ولم تتخطاه ولن يحدث هذا بسهولة مهما فعلت ولكن كل شيء داخلها تخفيه لكي تتمكن من التعايش معه وإخراجه سريعًا من هذا الحزن والفراق الذي من مظهره قد فهمت أنه عزم نيته عليه، والأهم من كل هذا أنها في صلاة قيام الليل شعرت بالراحة الكبيرة.. أكبر راحة قد تشعر بها في حياتها وفي يوم ملئ بالمصائب كهذا اليوم..
دائمًا هي هكذا تحل عليها المصيبة فتتوجه إلى سجادة الصلاة وتقضي عليها بعض الوقت بخشوع وتُحدث الله وكأنه معها وأمامها، تقرأ بعض الآيات التي تطمئن قلبها فترتاح وتنسى كل ما حدث وكأنه لم يحدث..
رؤية الجميع لها هكذا بشعة للغاية، أنها لم تكن بملابس فاضحة أو أي شيء آخر ولا يظهر منها سوى خصلاتها ولكنها لأنها محجبة وتخاف الله أكثر من أي شيء بحياتها وتود أن تكون مؤمنة بحق ليست كلمات فقط، انزعجت كثيرًا وانتابها الحزن الطاغي ولكن يداوي الله كل هذه الجروح برحمة ومغفرة منه..
والآن هي تود أن تظهر زوجته التي يعرفها لكي تجعله يلين أكثر وفي محاولة بائسة بأن يفعل كما فعلت ويحاول أن يتخطى ذلك معها، لن تتركه هكذا.. لن تتركه يقدم لها كل الدعم والحب، المودة والحنان والعطف وفي النهاية تفعل أخطاء غبية مثلها وتتركه حزين هكذا بسببها..
وأيضًا مهما حدث هي لا تستطيع البعد عنه، حتى عندما كانت في فترة ما مُشتتة لم تبتعد عنه، ولكنه الآن تقريبًا مقرر ما الذي سيفعله معها وهذا واضح بشدة..
دلف إلى الغرفة ونظر إليها وهي تقف أمام المرآة، بدلت ذلك الإسدال وارتدت قميص مغري بالنسبة إليه، يظهر مفاتنها المحلله له، لحظة!.. لقد ظهر منهم في الصور أيضًا..
أغمض عينيه بقوة محاولًا أن ينسى ما حدث، توجه إلى الفراش صعد عليه ثم تمدد نائمًا على ظهره ينظر إلى السقف ويديه أسفل رأسه، فاقتربت منه في لحظتها وصعدت تجلس جواره بهدوء وخجل شديد..
تحدثت بصوتٍ خافت هادئ والخجل جعل وجهها أحمر مثل حبة الطماطم وهي تقول له:
-أنا آسفة
لم يُجيبها ولم ينظر إليها من الأساس بل تركها تفعل ما يحلو لها، غير قادر على الحديث معها أو النظر بوجهها لما حدث بسببها، لقد احرقته النيران وكأنها كلما تخمد ألقى عليها البنزين لتشتغل أكثر..
وضعت يدها على صدره وهي تقول بصدق ونبرة صوتها حزينة للغاية:
-والله العظيم والله العظيم لو كنت أعرف أنها هتوديه عنده ما كنت اديتهولها
مرة أخرى لم ينظر إليها ولا يُجيب على حديثها وداخله يعلم ما الذي سيفعله وهذا ما تستحقه حتى تحافظ بعد ذلك على كل شيء يخصها وتضعه داخل عينيها لتخفيه عن الجميع حتى هو:
-والله يا جاد هو لما وقف مريم كانت نازله فقولتلها تاخده معاها مش أكتر من كده وكان في بالي أنتَ تروح تجيبه كمان
استدار ينام على جانبه يعطي إليها ظهره العريض الصلب، علمت أن المهمة ستكون صعبة للغاية معه، وضعت يدها على ظهره بدلال وأقتربت منه تميل عليه قائلة بخفوت ونبرة تعلم أثرها عليه:
-جاد!.. علشان خاطري بلاش كده
تنفست بعمق ومرة أخرى تحاول معه، طبعت قبلة سريعة على وجنته التي تميل عليها وقالت بدلال وكأنه سيفعل ما تريد الآن:
-أهون عليك طيب!… أنا عارفه إني غلطانة بس والله مكنش قصدي وأنا أهو معترفة بغلطي
عادت إلى الخلف في جلستها عندما وجدته لا يُجيب ولا يشعرها بأنه يستمع إلى حديثها من الأساس، زفرت بضيق وهي تقول بدهشة لأنه لا يشعر بوجودها جواره:
-طيب رد عليا حتى!
شعرت بالغيظ عندما وجدته لم يحرك ساكنًا، جذبته من ذراعه إليها بقوة لينام مرة أخرى على ظهره وأمسكت فكه بيدها قائلة باستنكار وحزن:
-للدرجة دي مش طايقني.. مش قادر تبص في وشي!..
بكل برود وجمود عنده أخرج كلماته من فمه وهو ينظر إلى تلك العسلية التي تسحره قائلًا بجفاء رافعًا يده ليبعد يدها عنه:
-اطفي النور إحنا بقينا الصبح وأنا عايز ارتاح شوية
نطقت اسمه بضعف وقلة حيلة وكأنها الآن تُكسر من بعده عنها وارادت التحدث:
-جاد….
لم يجعلها تكمل بتلك الطريقة التي لو كانت استمرت أكثر لترك حزنه وغضبه وكل شيء على جانب وحده ثم أخذها هي بين أحضانه الدافئة يشعرها بكم الحب الذي يكنه إليها.. نظر إليها بجمود أكثر هاتفًا بحدة:
-لو تحبي أنام بره مفيش مشكلة
أبتعدت للخلف وتركته يعود كما كان ينام على جانبه ورأسه به صداع يكاد أن يجعله يأتي نصفين من كثرة التفكير، أغمض عينيه وهو لا يود أن يفكر بأي شيء آخر اليوم، سيترك كل شيء لغدًا ومن عند الله تأتي الحلول..
أغلقت نور الغرفة وتوجهت مرة أخرى لتنام على الفراش في مكانها ولكن ليس في أحضانه كالعادة!، بل في فراغ لم تشعر به سابقًا كما الآن، تعترف أن الأخطاء الكبيرة تضيع كل شيء وهي خطأها كان كبير ولكن ليس عن عمد…
❈-❈-❈
“اليوم التالي”
استفاق قبلها في الصباح، نظر إليها مطولًا يشاهد براءتها وجمالها الرقيق الذي يسلب عقله منه كما الأمس هكذا، ولكنه ضغط على نفسه وأبعد شيطان عقله عنه فلم يكن يريد التقرب منها أبدًا ومع ذلك لا تهون عليه نظرة عينيها الحزينة وضعفها أمامه..
لن تدوم ولكن على الأقل الآن، بدل ملابسه عندما استيقظ في ميعاده مثلما كل يوم وهبط إلى الأسفل ليرى عمله، كانت تستيقظ معه ولكنهم خلدوا للنوم في الصباح وليس الأمس ليلًا، وذلك جعلها تستغرق في النوم..
عندما استيقظت لم تجده جوارها ووجدت أن الساعة تخطت العاشرة صباحًا، فعلمت أنه الآن في الورشة، استفاقت وبدلت ملابسها لأخرى مريحة بيتية وأيضًا لأن هناك من معها في المنزل..
بعد أن دلفت المرحاض وبدلت ملابسها، ذهبت إلى غرفة نوم الأطفال الصغيرة لترى تلك السيدة التي أتى بها ليلة الأمس، وجدتها كما تركوها فاقتربت إلى الداخل لترى أن كانت نائمة أم حدث لها شيء..
أقتربت منها فوجدتها نائمة وصوت أنفاسها مسموع، تنهدت براحة ثم خرجت من الغرفة..
دلفت إلى المطبخ لتحضر طعام الإفطار لها عندما تستيقظ وكأنها على علم أنها ستستيقظ الآن..
كانت هي في الداخل نائمة على ظهرها بعد أن تقلبت في الفراش بانزعاج، فتحت عينيها ببطء شديد شاعرة أنها في مكان غير مألوف لها، نظرت إلى سقف الغرفة وقد كان حقًا مكان لا تعرفه..
جلست على الفراش بفزع وهي توزع نظرها بغرفة الأطفال الصغيرة للغاية بالنسبة إليها، ثم تدريجيًا بدأت تتذكر ما حدث في الأمس مع زوجها الحقير الذي تريد الطلاق منه..
وتذكرت أيضًا ذلك الشاب الرائع، صاحب العينين الرمادية، والجسد القوي، خصلاته المتخالطة ونظرته الرائعة..
لم تأخذ منه الكثير ولكنها تتذكر ملامحه الذي فتنتها!.. تنهدت وهي تتذكر كم كان وسيم يناسبها..
وقفت على قدميها ثم ذهبت للخارج بهدوء وهي تفكر هل هذا منزله وهو من أحضرها إلى هنا؟..
كانت “هدير” عند باب الشقة تجمع الغبار الذي نظفته من الشقة، بعد أن انتهت استدارت واقفة على قدميها لتذهب إلى الداخل ولكنها صرخت بفزع وخوف عندما رأتها تقف أمامها هكذا..
نظرت إليها بقوة ثم تداركت الأمر وتقدمت منها قائلة بابتسامة وجدية:
-معلش اتخضيت أصلي متعودة إني لوحدي على طول
ابتسمت الأخرى بوجهها بهدوء، فاستمعت إليها تكمل بود وهدوء:
-حمدالله على سلامتك… أنا هدير
تقدمت الأخرى منها أكثر وهي تقول بجدية ثم متسائلة باستغراب وهو توزع بصرها في المكان:
-الله يسلمك بس هو مين جابني هنا
-جاد اللي جابك.. قال إنك تقريبًا كنتي بتتخانقي مع حد وبعدين اغمى عليكي فجابك هنا
تسائلت مرة أخرى باستغراب:
-وعربيتي فين؟
أجابتها “هدير” قائلة:
-تحت متخافيش
نظرت إلى جانبها فوجدت على الحائط صورة له! إنه نفس الشخص الذي أغلقت عينيها عليه وعلى جماله الأخاذ ورجولته الظاهرة، أشارت إلى الصورة قائلة باستفهام وتساؤل:
-ده؟
أومات إليها “هدير” مع ابتسامة هادئة وهي تتقدم من المطبخ قائلة:
-أنا محضرة الفطار هوديه اوضه السفرة على ما تغسلي وشك
لم تلقي بالًا على ما تقول بل سألتها بجدية شديدة في الحديث وشعرت “هدير” بشيء ما غريب بعد هذه النظرة:
-يبقى أخوكي؟..
وقفت “هدير” في منتصف الصالة ثم استدارت لها قائلة بتهكم ثم جدية واضحة بعد ريبتها من سؤال هذه المرأة:
-أخويا!.. جاد يبقى جوزي
ذهبت الابتسامة التي ودت تصنعها وبقيت الجدية المطلقة على ملامحها واستشعرت “هدير” انزعاجها بعد الاستماع إلى حقيقة العلاقة بينهم..
حمحمت بجدية بعد أن رأت نظرات زوجته إليها بريبة هكذا وشك ظاهر عليها فقالت وهي تتهرب منها:
-أنا مش هينفع أفطر معلش.. جوزي زمانه قلقان عليا لازم أمشي بس محتاجه أدخل الحمام وأعرف جوزك فين علشان أشكره وكمان أخد عربيتي
أشارت لها “هدير” بيدها على طريق الحمام وقالت بجمود:
-الحمام من هنا… جاد تحت في الورشة اللي تحت البيت والعربية تحت بردو
أومات إليها الأخرى ثم تقدمت من المرحاض وهي تنظر إلى الأرضية بعد شعورها بأن الأخرى فهمت أنها تتساءل عن زوجها مرة واثنان، وكأنها شعرت أن هذه المرأة ليست صافية وتريد فعل شيء من الآن..
قلبها شعر بهذا ولم ترتاح إليها بالمرة، بل بغضتها وحمدت الله أنها ستذهب..
❈-❈-❈
انتهت “كامليا” وهبطت إلى الأسفل تخرج من المنزل لرؤية الوسيم الذي خطف عينيها وأخذها من مكانها سوى برؤيته هو أو رؤية صورة الجميلة..
سارت بنفور أمام الجميع وهي تنظر إلى الحارة الشعبية التي يسكن بها، وزعت نظرها على كل ركن بها، حوائط وأرضية، ومنازل..
متحدثة داخلها بأنه كيف يعيش هنا!.. أنه بجسده ومظهره الرياضي الوسيم يستطيع أن يكون مالك من ملوك السينما، لو أراد تفعل له وتجعله من أفضل الرجال بها..
كرمشت وجهها بنفور واضح وهي تسير بخطوات غير ثابتة بسبب كعب حذائها العالي على الأرضية الغير مستوية، نظرت إلى البعيد قليلًا لتجد سيارتها مصفوفة أمام منزل آخر في مكان أوسع من هنا..
وقفت أمام الورشة تنظر إلى الداخل وهي تميل بجسدها منتظرة أن تقع عينيها عليه، ولكنه تقريبًا ليس هنا، تقدمت إلى الداخل أكثر فتقدم منها “طارق” قائلًا بجدية وهو ينظر إلى هيئتها الغريبة عن الحارة:
-نعم حضرتك عايزة مين
أردفت مُجيبة إياه بجدية وهي تنظر إليه بتقزز بسبب ملابسه المتسخه من العمل في الزيوت وقطع غيار السيارات وغيرها:
-عايزة جاد
نظر إليها باستغراب وأردف بسخرية يلوي شفتيه:
-جاد مرة واحدة!.. مفيش الاسطى حتى
أحتدت نظرتها عليه وهي تراه يسخر من كلمتها ثم وجدته يردف بجدية:
-الاسطى جاد راح مشوار وجاي مسافة السكة لو محتاجه ضروري تقدري تستنيه
نظرت إلى الورشة وما بها، لقد كان بها سيارة يعمل عليها “شاب” آخر وبكل ركن شيء لا تعرف ما هو وقطع حديد كثيرة ولكنها مع ذلك تبدو نظيفة:
-استناه فين؟.
أشار إلى الخارج بيده وهو يتقدم منها قائلًا:
-اتفضلي على الكرسي هنا زمانه جاي
خرجت خلفه ثم جلست على المقعد أمام الورشة، نظرت على جانبيها وكم كان المكان بالنسبة إليها رديء للغاية، أصوات عالية من الجميع، غير هذا الذي يهتف ببيع الطماطم والبذنجان، وهناك آخر يسير بعربية آيس كريم والأطفال تركض خلفه، وعلى الطرف الآخر مقهى شعبي ولكنه لا يُسر العين أبدًا.. غير هذا المنزل المقابل لهم يا له من قديم ورديء..
كيف يعيشون هنا ويتحملون كل هذه الضجة، من الأساس كيف يتحمل هو!.. وهذه زوجته من أين وجدها!.. أنه أفضل منها بكثير بمظهره الحسن ورؤيته البهية..
لن تنكر أنها أيضًا تتمتع بقدر من الجمال، عينيها لونها جميل مع أنه لا يظهر، ووجهها به نمش خفيف لا تحبه ولكنه يليق بها، حتى أنفها وفمها صغيران للغاية ووجهها أبيض مستدير وملامحه هادئة غير خصلاتها السوداء هذه، تبدو طويلة من عكصتها، ولكن مؤكد هي أفضل منها بكثير!.. وأيضًا لو وقفت جواره تليق به أكثر منها.. حتى أن اسمها ليس جميل أبدًا بل قديم وبشع، وهو اسمه رائع مثلها تمامًا.. “جاد وكاميليا”، يا الله تليق عليه كثيرًا..
استمعت إلى صوت نسائي كبير يأتي من الأعلى بمرح ومزاح:
-ايه يابت الحلاوة دي.. بقى مخبية كل الجمال ده علينا ولما يطلع يطلع للحارة كلها
استمعت إلى صوت هذه المرة يأتي من فوقها وكانت هذه البغيضة زوجته صاحبة الاسم البشع الذي لا يليق به:
-والله يا ماما فهمية ما كنت أعرف إن كل ده هيحصل.. أنا مكسوفة أوي من الناس اللي في الحارة
تغيرت ملامح والدة “جاد” وانتقلت إلى الجدية التامة وهي تنظر إليها بقوة قائلة:
-مكسوفة من ايه اللي حصل أنتِ مالكيش فيه يا حبيبتي دا الكلب اللي ما يتسمى ده هو اللي يتجازى بس أقولك أهو جاد يبقى ابني وأخاف عليه بس المرة دي مسعد بقى كان عايز اللي يقتله ويخلصنا منه
أجابتها “هدير” بلهفة وخوف وصوتها قلق للغاية من حديثها الذي تفوهت به:
-لأ والنبي يا ماما فهمية اوعي تقولي كده قدام جاد دا سمير لحقه على آخر لحظة كان زمانه دلوقتي في القسم
اتكأت “فهيمة” بيدها على سور شرفة الشقة الخاصة بها والتي تقابل شقة “جاد” وهتفت بجدية قائلة محاولة أن تجعلها تطمئن:
-متخافيش.. بعد اللي عمله جاد فيه مش هيستجرأ يبصلك تاني
أبصرتها بجدية وهي تتمنى داخلها أن يكن كذلك حقًا:
-يارب يا ماما فهيمة
مرة أخرى أردفت والدته بحماس كبير وابتسامة على وجهها:
-بقولك ايه ما تجبيه وتيجوا تتعشوا عندنا النهاردة
تنهدت بقوة وأخرجت نفس عميق أمامها وهي تخفض وجهها إلى الأسفل بخجل ثم رفعته مرة أخرى وقالت بخفوت:
-خليها مرة تانية
تفهمت والدته سبب رفضها ونظرتها الحزينة هذه فابتسمت بحبٍ إليها وقالت بحنان صادق:
-إن شاء الله كله هيبقى كويس يا حبيبتي ولو الواد ده زعلك قوليلي بس وأنا هتصرف معاه
ابتسمت “هدير” بسعادة غامرة وهي تنظر إليها قائلة بحب وود:
-ربنا يخليكي لينا يارب
كل هذا وأكثر تحت مسامع “كامليا” التي كانت تجلس أمام باب الورشة، أبصرت والدة “جاد” والمنزل مرة أخرى، أهذا منزله؟.. وهذا أيضًا والورشة؟. لو كذلك فهو يملك بعض الأشياء ليس كزوجها الحقير الذي كان لا يملك جنيهًا واحدًا، ولكن مهلًا ما الذي كانوا يتحدثون عنه وشاهدوه أهل الحارة بأكملها ومن هذا الذي كاد “جاد” أن يقتله..
ما فهته من الحديث أن هناك شيء رآه الجميع يخصها ومن فعلها شخص ربما يحبها أو يطاردها لا تدري!..
نظرت بطرف عينيها إلى نهاية الشارع وهي تفكر ولكن وقف التفكير ووقف العقل والقلب وكل خلية وعضو ينبض بداخلها..
إنه يأتي من نهاية الشارع على دراجة نارية، خصلاته للخلف تتطاير، عينيه الرمادية حادة وجادة ثابتة على الطريق، وجهه مثير لعينيها بسبب وسامته التي تراها لا يوجد مثلها..
يجلس بجسده الرياضي على الدراجة كأنه يجلس على أريكة بكل أريحية وبرود، يرتدي قميص أبيض اللون قطني بنصف كم يظهر عضلات يده وعروقه الظاهرة بها دائمًا..
أغمضت عينيها بقوة وقررت ما الذي ستفعله بعد الآن وبعد رؤيته هذه، لن تصمد أكثر من ذلك أمامه، وقف أمامها بالدراجة ثم هبط من عليها وثبتها جواره ووقف هو أمامها بعد أن تركت المقعد ووقفت هي الأخرى قبالته..
ابتسم “جاد” بهدوء وهو ينظر إليها قائلًا بود وهدوء لين:
-حمدالله على سلامتك
ابتسمت بوجهه ببلاهة وهي تراه يبتسم متحدثًا إليها، قالت بخفوت وصوت ناعم لين:
-الله يسلمك… بجد شكرًا على اللي عملته معايا
وضع يده الاثنين جواره وأردف بجدية:
-لأ شكر على ايه لو حد تاني مكاني كان عمل كده وأكتر.. بس أنتِ خلي بالك من نفسك
ابتسمت بخفة وقالت:
-لأ لو حد تاني مكنش عمل كده خلينا متفقين.. بجد شكرًا
-العفو
حمحمت بخفوت ناظرة إلى الأرضية بخجل ربما تصنعطه، نظرت إليه مرة أخرى قائلة:
-اللي كان معايا ده يبقى جوزي مش حد تاني
استغرب بشدة الذي تفوهت به، كيف زوجها وتركها وحدها هكذا في مكان بعيد طريقة مقطوع عن البشر، تسائل باستنكار:
-جوزك؟.. جوزك إزاي وسابك كده
اصطنعت الحزن وعبثت ملامح وجهها وهي تقول مُكملة بخجل:
-لأ دي حكاية طويلة.. تحتاج قعدة
بينما في الأعلى كانت زوجته مازالت واقفة كما هي، ولم تكن ترى “كاميليا” بالأسفل أثناء حديثها مع والدته بل اعتقدت أنها ذهبت منذ أن هبطت للأسفل ولكن من الواضح أنها لم تذهب بل انتظرت عودته وهو الآن يقف معها ويتحدث بكل راحة…
أطالت النظر إليهم وهو أطال الحديث معها وإلى الآن لم ترحل أكل هذا تشكره!.. قلبها لا يكن الراحة إليها أبدًا ولا تدري حتى لماذا!. لماذا تشعر بأن هذه المرأة سيئة للغاية هكذا؟.
❈-❈-❈
الساعة تخطت الحادية عشر مساءً وهو لم يصعد، بل أغلق الورشة من بعد صلاة العشاء بوقت قصير كالعادة، لم يفطر معها بل خرج دون رؤيتها في الصباح، ولم يصعد لتناول الغداء والآن الورشة مغلقة وهو لم يأتي، أهو يسعد عندما تشعر بالقلق عليه أم ماذا؟..
حاولت أن تحادثه ولكنه لا يُجيب عليها، هل سيظل هكذا طوال الوقت أم ماذا..
هي لقد تخطت الأمر في وقت قصير للغاية، نعم لن تكذب لم تتخطاه كليًا بعد بل وتشعر بالخجل الشديد من أهل الحارة ولكن تصبر نفسها بأن المجرم الحقيقي عرفه الجميع وأظهر لهم “جاد” أنها ليس لها يد فيما حدث..
ماذا عنه أيضًا، لا تفهم كيف يستطيع أن يكون شخصيته بهذه الطريقة، هادئ طوال الوقت ولكن عندما يغضب وكأن الأسد ملك الغابة حل عليهم بغضبه، وعندما ينزعج منها يأخذ جانب له وحده بعيد عنها ويتركها تتأكل بما داخلها وخارجها..
ماذا تفعل لقد كان خطأ واعترفت به، ستحاول مادام هي المخطئ هنا ولكن عليه أن يكون لين أكثر من هكذا..
زفرت بضيق وهي تقلب بين القنوات على الشاشة وعقلها من الأساس ليس على ما تبصره، بل كان مع ذلك الغبي الذي ارهقها معه..
تذكرت حديثه مع هذه المرأة الغريبة عنهم، لم تكن تعرفها إلا سوى بالتلفاز وحتى أنها لا تشاهدها ولكن على الأقل تعرفت عليها عندما رأتها.. لم تفهم لماذا وقفت تتحدث معه كل هذا الوقت، لقد بقيت معه أكثر من نصف ساعة وفي النهاية أوصلها إلى السيارة ثم أخذتها ورحلت..
مرة أخرى تنهدت بقوة في نفس عميق تخرجه من داخلها وهي تنظر إلى الباب وكأنه يفتحه الآن.. وقد كان حقّا!..
فُتح الباب وظهر من خلفه وهو يدلف إلى الداخل واستدار ليغلقه بهدوء، وقفت على قدميها سريعًا تعدل ملابسها المكونة من بنطال بيتي أبيض اللون يعلوه قميص قطني لونه أسود..
تقدمت منه بهدوء وهي تعود بخصلات شعرها للخلف سائلة إياه بجدية ولين في نفس الوقت عندما وقفت خلفه:
-اتاخرت كده ليه يا جاد؟..
استدار ينظر إليها لتجد هناك كدمة أسفل عينه اليمنى، شهقت بفزع وهي تنظر إليه بقوة وأبصرت عينيها ملابسه وقميصه الأبيض الذي اختفى لونه بفعل الأتربة المتواجدة عليه وكأنه كان يصارع على أرضية رملية..
وضعت يدها على وجنته اليمنى تمرر إصبعها أسفل عينه بلين وحنان وهي تقول بلهفة وقلق:
-ايه اللي حصل؟.. مين عمل فيك كده
نظر إلى لهفتها وخوفها الظاهر عليه، عينيها التي تتسائل قبل شفتيها، ولكن كل ذلك لا يرده الآن عما يريد، ترك المفاتيح ثم أبعد يدها عنه عندما وضع يده فوق كفها وتقدم إلى الداخل ذاهبًا إلى غرفة النوم وتركها وحدها دون إجابة منه..
نظرت إلى ظهره المتسخ وبقعة دماء كبيرة على جانبه من الخلف، لم تراها إلا الآن، وقع قلبها بين قدميها وفتحت عينيها بقوة وهي تنظر إليه وهو ذاهب من أمامها، دلفت خلفه سريعًا إلى الغرفة فوجدته يتجه إلى الخزانة..
تقدمت ووقفت جواره تجذبه إليها من جانبه بقوة وهي تسأله بإصرار مرة أخرى:
-ايه اللي حصل يا جاد بقولك
وضعت يدها على جانبه من الخلف وهي تقترب منه لتفعل ذلك وقالت بخوف ولهفة أحرقت قلبها مع صمته:
-وايه الدم ده؟..
كرمشت ملامح وجهه وضغط على أسنانه عندما وضعت يدها على جرحه وشعر بالألم ولكنه لم يصدر صوتًا ولم يشعرها بذلك، لقد كان مجروح هنا بالضبط بفعل مدية، ولكن جرح سطحي بسيط، جذبت يدها بفزع عندما شعرت بالدماء والقميص مشقوق كأنه وضعت يدها على جسده مباشرة وكان مجروح؟..
نظرت إلى يدها الملطخة بالدماء ثم إليه وصرخت به بقوة وخوف:
-جاد.. أنت بتنزف
بكل برود تحدث وهو يستدير مرة أخرى يأخذ ملابسه من الخزانة:
-ده جرح بسيط متقلقيش
-مين عمل فيك كده
أمسك الملابس بيده واستدار ينظر إليها بقوة وصاح قائلًا بصوتٍ عالٍ قليلًا:
-هيكون مين يعني؟.. بلطجية كانوا عايزين يقلبوني
سار مبتعدًا عنها مرة أخرى وقبل أن يذهب إلى الخارج أخرج محفظته وهاتفه وألقاهم على الفراش بإهمال وذهب إلى المرحاض فخرجت خلفه سريعًا تهتف:
-طب أنتَ كويس؟.. الجرح ده محتاج خياطه
سار مكملًا طريقة إلى المرحاض وهتف بنبرة رجولية جادة خشنة:
-قولتلك متقلقيش وبعدين ده جرح سطحي محتاج تعقيم بس
دلف إلى المرحاض وأغلق الباب خلفه وتركها في الخارج تنظر على الباب المغلق هذا بذهول، أسفل عينه كدمة كبيرة، ملابسه بالكامل وهيئته تدل على أنه كان يصارع أحدهم، وهناك جرح أيضًا في جسده بفعل سكين أو مدية، تُرى ما الذي حدث معه ولا يود أن يقوله إليها؟..
مؤكد حدث شيء آخر غير الذي يهتف به هو، ربما يكون “مسعد” من فعل به هكذا! ولكن “مسعد” لا يستطيع أن يقف أمام “جاد” وبالأخص بعدما ابرحه ضربًا بالأمس وجعله لا يستطيع أن يقف على قدميه..
استمعت إلى صوت هاتفه في الداخل فنظرت إلى الباب المغلق ثم استدارت وتركته ذاهبة لترى من الذي يهاتفه الآن، ولجت إلى الغرفة ووقفت أمام الفراش ثم أخذت الهاتف بيدها تنظر إلى المتصل والذي صدمها وبشدة!..
“كاميليا عبد السلام” سريعًا هكذا تبادلا أرقام الهواتف؟.. وكيف لها أن تهاتفه الآن في منتصف الليل!.. ما الذي يحدث من خلف ظهرها هذه المرة، وما الذي تريده منه هذه المرأة في مثل هذا الوقت؟.. ألم يكفيها نصف ساعة في وسط النهار تقف معه أمام الجميع بحجة شكره على ما فعله لأجلها!.. ستُجن، تُكاد أن تفقد عقلها هذه المرة حقًا!.
بينما هو وقف في الداخل بعد أن خلع ملابسه أسفل صنبور المياة الباردة، خرجت المياة من الصنبور على رأسه وخصلاته مرورًا بعنقه وصدره العاري، وقف مغمضًا عينيه بقوة حابسًا أنفاسه وهو يتذكر ما حدث معه..
كانوا اثنين فقط ولم يتبعوا أحد غيره ويعلم أنهم من أتوا بأمر منه هو الوحيد الذي يفعلها، لم يستطيع أن يجعلهم يعترفوا بإسمه ولكن جعلهم يبللون أنفسهم وهو يقوم بالدفاع عن نفسه مبرحًا كل منهم بالضرب الموجع المكسر للعظام..
لن يُجيب الآن على هذه الضربة التي لم تناله من الأساس ولكن لن ينساها، ستكون ذكرى معه إلى حين أن يقرر ردها إليه..
وضع يده على جانبه في الخلف ليرى إن كان هناك دماء مازالت تخرج أو لأ وكانت قد توقفت عن الخروج لأنه جرح سطحي لم يستطع ذلك الغبي النيل منه أو حتى الإقتراب له.. بعث له باغبياء يخافون من الهواء الذاهب خلفهم..
مسح على وجهه وأرجع خصلات شعره للخلف بيده بقوة لتتساقط منها المياة بغزارة، فتح عينيه وهو يفكر بزوجته، الرقيقة حسنة الوجه والصوت وكل ما بها، واللهِ بعده عنها يقتله ولكنه أيضًا لا يستطيع الإقتراب فما حدث جرح قلبه ورجولته بقوة وشدة غريبة وكأنه يود اقتلاع عين كل من رأتها وإلى الآن هي المتسبب الوحيد في ذلك..
❈-❈-❈
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ندوب الهوى)