رواية أغصان الزيتون الفصل الثامن والسبعون 78 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء الثامن والسبعون
رواية أغصان الزيتون البارت الثامن والسبعون
رواية أغصان الزيتون الحلقة الثامنة والسبعون
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الثامن والسبعون :-
الجُـزء الثـاني.
“قد يخسر الحُب مرة، لكن الكره يخسر ألف مرة.”
____________________________________
كانت كُل الأعين متعلقة بذلك المشهد الذي بدا مُريبًا للبعض، مبهجًا للبعض، ومرعبًا للبعض الآخر. ذلك التودد المفاجئ والتقرب الغير طبيعي بينهما فتح عينا “نضال” على وضعٍ شائك وخطير قد يتطور لما هو خارج عن سيطرتهم. گالنار في الهشيم كان شعور قلبهِ الذي يتمزعّ مع رؤية ذلك المشهد، حتى إنه فكر لعديد من المرات أن يتدخل ليحول بين اقترابهم هذا؛ لكن نظرات “عِبيد” له حذّرته تحذيرًا صادقًا من التمادي في ردة فعله ضد ما يراه، وبصعوبة شديدة للغاية كان “نضال” يتحكم في مشاعره المتوترة، إلى أن انفلت زمام الثبات المزيف منه، فـ وجد نفسه يستقل سيارته كي يطير بها بعيدًا عن هنا، رافضًا رؤية هذا الوضع كي لا يحترق أكثر، فـ تظهر رائحة الرماد المتكوّم في فؤادهِ المُلتاع وتفضح كل شئ.
فاز الكثير من المراسلين والصحفيين بإلتقاط العديد من الصور لهما أثناء المحاورة، وهما في حالٍ حميمي متقرب هكذا، حتى أنهى “حمزة” حديثه في عجالة، بعدما فهم إنه لن يستطيع السيطرة عليها أكثر من ذلك، وفي أي وقت قد تثير انتباه الجميع بتنصلها من ذراعهِ التي تطوقها، فـ رفع يداه عنها وأشار لهم كي يفسحوا الطريق أمامهم، وسحبها من يدها برفقٍ متعمد حتى بلغت سيارتها، فتح لها الباب الخلفي وأجلسها، ثم التفت وجاورها في جلستها بعدما أشار لـ “عِبيد” بتهميشٍ كي يتولى القيادة، ومازالت أعين الجميع على السيارة التي لم تغادر بعد، حتى بدأت تتحرك من المحيط بسرعة غير متوقعة من أجل الخلاص من هذه المسرحية السخيفة، فما كان من “سُلاف” إلا صمتًا غريبًا دون أي تعقيب، وما كان من “حمزة” إلا أن يُماثلها بنفس الصمت، بينما عيناه على الطريق الذي يركض من جوارهِ، محاولًا استجماع شتات عقله الذي لم يجتمع بعد، وفي قلبهِ تناثرًا گقطع زجاج صغيرة مفتتة تصيبك بالخدوش الغائرة والجروح التي لا تلتئم. التفتت رأسهِ نحوها، وأول ما نطق به كان سؤالًا متشوقًا :
– زين فين؟.
فـ تنهدت قبل أن تُجيبه على مضض :
– في البيت.
فـ أشاح بوجهه عنها وهو يردف :
– كويس.
كلمة مقتضبة لكنها أوحت بالكثير، الكثير الذي يُرعبها ويؤجج مشاعر الخوف في نفسها القلقة دائمًا بشأن هذا الأمر، ومهما حاولت تجاوزه بإصرارها وتمسكها بالصغير يعاود الخوف تهديد استقرارها من جديد، فـ يُبدد بسهولة ذلك الإطمئنان ويبدله بفزعٍ حقيقي، كلما تخيلت فكرة أن تُحرم من طفلهِ الذي تبنتهُ، وقررت أن تستحوذ عليه گحق اكتسبته لنفسها، تعويضًا عن دمارٍ أصابها بسبب آل القُرشي، دمار لن يزُل، ومهما كان الثمن الذي سيسددهُ الجميع لن يكفي.
**************************************
بصق رشفة الشاي التي كانت في فمه قبل أن يبتلعها، نتيجة تلقيه صدمة مفاجئة گالصدع البيّن في لوح زجاجي شفاف ونقي. انتفض “راغب” من مقعده مندفعًا، وضرب الطاولة بكوب الشاي حتى انسكب بعضًا منه على يده، فلم يأبه بشعور الحريق الذي أشعل جلده، فـ هناك حريقٍ آخر اشتعل ببواطنهِ. قرأ الخبر المُزين بصورتهم معًا، وقد انتشر الخبر انتشارًا واسعًا كبيرًا وكأنها عملية تشهير ممنهجة مقصودة لوصول الخبر إلى أوسع نطاق. تحرك “راغب” في محيطه گالمجنون، وهو يتصل بوالدهِ مُلحًا في الإتصال حتى أجاب، فـ ثار الأخير مندفعًا وهو يصيح بإهتياج :
– إيـــه اللي بنت أخــوك بتهببـه ده!.. في إيه اللي بيحصل من ورا ضهري يا بابا؟ مش نضال قال إن الحيوان ده أخد ٤ أيام على ذمة التحقيق، خرج إزاي ؟؟.
لحظات من الصمت يستمع فيها لوالده، ولكن الحديث لم يُخرس أبدًا ذلك الهياج العصبي بداخله بل أججّه :
– انت مش عارف حاجه يا بابا، أفتح واتفرج إيه اللي بيحصل من ورانا وإحنا نايمين!.. أنا عايز افهم دلوقتي سُلاف بتعمل إيه بالظبط!… لأ مش ههدى غير لما أفهم، ولا أقولك، أنا هفهم بطريقتي.
أغلق هاتفه وألقى به جانبًا، وبخطواتٍ تُسارع بعضها البعض كان ينتقي ثيابًا من حقييتهِ التي لم يفرغها بعد، ثم شرع في تبديل ثيابه وهو يغمغم ساخطًا :
– أما أشوف انت عايز إيه!.. محدش هيفهمك قدي يا حمزة!
***************************************
تأفف “زيدان” منزعجًا، وهو يستمع لثرثرة شقيقتهِ على الهاتف، فقاطعها بأسلوبه الفجّ صائحًا :
– مش وقت الكلام ده يا رحمة، بقولك جوزك عمل مصيبة مهببة وهيقطع عني رزق حلو أوي جايلي!.. لو تعرفي هو فين خليه يكلمني عشان اشوف حلّ للمصيبة دي!.
صمت لحظات ثم هتف بصياحٍ :
– لأ ياختي لو خسرت القرشين دول انتي مش هتصرفي على عيالي، ده انا فاتح بيتين، ولا نسيتي الفلوس اللي بتنهبيها مني كل أول شهر.
لمح “زيدان” سيارتها تقترب من مسافة ليست بعيدة، فـ عجّل بإنهاء المكالمة كي ينتبه للقاء “حمزة” :
– طب قفلي دلوقتي، سلام.
أغلق الهاتف ووضعه في جيب معطفه الأسود الجلدي، ثم خطى نحو “حمزة” وهو يهتف مهللًا :
– حمدالله على السلامة ياأبو البشوات.
ثم نظر إلى “سُلاف” بطرفه قبل أن يغمغم بخفوت :
– ده انا اتبهدلت في غيبتك ياباشا والله.
ضاقت عينا “حمزة” وهو يسأله مستفهمًا :
– بهدلة إيه ده انت كنت مختفي يازيدان!
وتحسس وجهه الذي تلقّى صفعة منها، وتابع هامسًا له :
– كنت بتفرج على فيلم جبروت إمرأة بتاع الفنانة البديعة نادية الجندي.
فهم “حمزة” إلى ماذا يرمي، فلم يُطل الحوار معه وبتر منتصفه معللًا :
– متقلقش هصرفلك بدل تهزيق لما أفوق.. بس محتاج أنام دلوقتي.
استوقفه “زيدان” قبل أن ينصرف من أمامه، واقترب من آذانه ليقول :
– عايزك في حوار كده، عليا النعمة أنا ما أعرف حاجه عن آ….
أومأ “حمزة” رأسه متفهمًا، ولم يرغب في سماع المزيد :
– عارف عارف، نتكلم بالليل بعد ما أصحى من النوم.. هستناك تعدي عليا ١٠ ونص.
تفهم “زيدان” تعبه ولم يتمادى في الإلحاح عليه لسماعهِ :
– هتلاقيني عندك على طول.
تركه “حمزة” ودخل من البوابة خلف “سُلاف” التي استبقت خطواتهِ، شاعرًا بثقل شديد يحطّ على سائر بدنهِ، وآلام متفرقة موجعة تنخر في عظامهِ ورأسه. دلف مغلقًا الباب من خلفه، فرآها تقف أمامه وعيناها گفوهة سلاح مُعمر وعلى وشك الإنفجار في وجهه، حتى إنها بالفعل صرخت في وجهه قائلة :
– إيــه اللي عملته قدام المديرية ده!.. قصدت إيه يا حمزة.. إيه الرسالة اللي حبيت تبعتها واستخدمتني فيها!؟
تنهد “حمزة” رافضًا الإنسياق خلف حوار لن يجدي نفعًا، خاصة وإنه بالفعل مستهلكًا كل طاقته :
– بعدين نتكلم، أنا تعبان جدًا دلوقتي.
لم تستمع له، وكررت سؤالها :
– خليك صريح مرة في حياتك وقول ليه عملت كده؟.
نظراتهِ الرخوة اللينة، صاحبت صوتهِ الهادئ الناعس وهو يجيب :
– كنت بشكرك، اللي عملتيه تستحقي الثناء عليه.. متخيلتش إنك هتعملي اللي عملتيه في الوقت القصير ده.
ثم صفق لها متابعًا :
– براڤو يا سُلاف.. عن أذنك.
سحب نفسه وصعد الدرج ببطء، بينما عيناها تتعقبه مستشعرة تلك الغرابة التي تغلف شخصيتهِ، ثمة أمر مريب يجري ولم تستطع ترجمتهِ بعد. رأته ينحرف عن طريق غرفته نحو غرفتها، فـ أوفضت لتصعد من خلفه ركضًا، بينما كان هو قد دخل الغرفة بالفعل باحثًا عن طفلهِ. أحس بالدفئ يغمر الغرفة، والرضيع نائمًا بعمق وسط الفراش، فأشار للمربية خاصته كي تتركهم معًا و :
– أخرجي انتي وانا هبقى معاه.
ترددت “أم علي” حول تنفيذ أمره أو المكوث مكانها، حتى دخلت “سُلاف” هرعًا وهي تهتف :
– انت إيه دخلك هنا؟.
حمل “حمزة” طفله بين أحضانه ثم نظر نحو “أم علي” وكرر :
– قولتلك روحي انتي.
هزّت “سُلاف” رأسها بالموافقة، فخرجت “أم علي” وأغلقت الباب عليهم.
ضمّه “حمزة” لصدره في مشهدٍ لأول مرة يحدث، واشتم رائحته التي تخللت أنفه وكأنها نفس رائحة “يسرا”، نفس الرائحة الناعمة التي كانت تتحلّى بها، ونعومة وجهه كأنه يلمس بشفاهه جبهتها مُقبّلًا إياها. هذه المرة الأولى التي يحمله فيها، منذ أن قطع الشك باليقين، وتأكد إنه طفله من صلبه ودمه، لأول مرة ينظر في وجهه بتمعن وتركيز، ولأول مرة يعترف به أبن حقيقي له. قبّل جبهتهِ فـ تقلصت تعابير وجه الرضيع، متأثرًا بذقنه الغير حليقة، ثم جلس به على طرف الفراش وهو يقول :
– أنا هنام مع ابني النهاردة.
كان قلبها يرتعش بتخوفٍ وقلق، وحينما استمعت عبارته انتفض قلبها انتفاضة عتيّة، مستشعرة بداية الخطر الذي يزحف مسرعًا نحوها ونحو طفلها الذي تبنتهُ، فحاولت قدر استطاعتها منع هذه العلاقة، ودنت منه كي تحمله عنه :
– زين نايم مش لازم نصحيه.
أبعد “حمزة” ذراعيه عنها، رافضًا أن تأخذه من بين أحضانه :
– هينام معايا النهاردة، أنا محتاجله.
استنكرت “سُلاف” تلك الحميمية المفاجئة، و ميله الغير مسبوق نحو طفله :
– يعني إيه محتاجله!.. الولد كده هيصحى.
لم يستمع بها “حمزة”، وأسند “زين” على ساقه لينزع عن بدنه المعطف الأسود الثقيل، ثم عاد ليحمله وهو يقول :
– متخافيش عليه ده معايا.. ياريت تسيبينا شويه وتقفلي النور.
ارتفع حاجبيها في ذهول، وهي تراه يضعه على الفراش ويمتد بجواره، ثم مسح على وجههِ بأصبعه وهو يستمع لصوتها المنزعج :
– اطلع برا يا حمزة أنا كمان محتاجة ارتاح، أنا مش فاهمة انت عايز إيه بالظبط النهاردة! ؟
رفع بصره نحوها، وتجلّى الصدق في نبرته وهو يقول :
– مش هسيب زين إلا لو جه معايا أوضتي.
ثم نظر من حوله قائلًا :
– اعتقد أوضتي هتكون برد عليه أوي مقارنة بهنا ولا إيه رأيك!.
ثم أشار لجواره وهو يدعوها للإنضمام إليهم :
– لو عايزة تيجي جمبنا تعالي بدل وقفتك دي، أنا ورايا همّ مستنيني لما أصحى ولازم أكون فايق.
أولاها ظهره ونظر بإتجاه الصبي، ثم أمسك كفهِ الصغير فضغظت أصابع “زين” الصغيرة على أصبعه. لا يدري مسمى لذلك؛ ولكنه أحس بسعادةٍ تنجرف نحو قلبه، وطمأنينة افتقد الشعور بها طوال الأيام الغابرة، وقد عاد الدفء لفؤاده البارد، وسرعان ما بدأت عيناه تستسلم لغيبوبة النوم التي اقتحمت رأسه وتسلطت عليه كليًا، بعدما عاش إرهاق نفسي وبدني شديد في الأيام الماضية، وسط مراقبة قلقة مذعورة منها، وهي تزرع المكان ذهابًا وإيابًا ونظراتها عليهم، وقد غفى “حمزة” بالفعل، وغرق في النوم الثقيل مرتاحًا مستكينًا، فـ دنت “سُلاف” بحرصٍ حذر، وبدأت تحمل “زين” من أسفل يدهِ برفق لئلا يستيقظ، ثم دثرته بالغطاء الصغير لتضمن بقاءهِ دافئًا، ثم وضعتهُ في أحضانها، وخرجت من هنا أخيرًا قبل أن يعاود “حمزة” الإستيقاظ، فتواجهه من جديد ويصبح الرضيع في منتصفهم، في رهان سيكون الخاسر فيه هو الصغير فقط.
**************************************
كان يقرأ الأخبار وفي داخلهِ سخونة شديدة، تكاد تحرقه وتحرق الوسط كله، وبين السطور كلمات مثيرة لإستفزازه الذي اهتاج بالفعل، وكذلك أوضحت الصحيفة الشهيرة على لسان المُحامِ /حمزة القُرشي إنه اهتم بإبراز دور زوجتهِ الكبير في حصوله على البراءة قائلًا بالنص “أن ذلك نتيجة طبيعية عندما تختار زوجة تكون هي جيشك الوحيد.”.. كانت عبارات كفيلة لإضرام الوسط بالنيران الحارقة، فلم يتحمل “مصطفى” صبرًا بعد كل هذا، وقذف بالهاتف نحو زجاج الشرفة وهو يصرخ دون وعي، ليسقط الزجاج متهشمًا وهو جالس بعجز على مقعده المتحرك، تهدجت أنفاسه وارتجفت أطرافهِ بعد أن تأثرت أعصابهِ من فرط العصبية، حتى دخل إليه “نضال”، فصاح “مصطفى” هادرًا :
– الولاد بيروحوا مني يا نضال، ابني جري ورا بنت القرشي وبنت أخويا هيصطادها الحيوان ابن صلاح.
كان “نضال” في حالٍ لا يرثى له في الأساس، وبالرغم من هذا حاول تجميل الموقف في عيني “مصطفى” :
– مش هيحصل يا عم مصطفى، انت عارف سُلاف بتكره حمزة قد إيه.
ضرب “مصطفى” على ذراع مقعده رافضًا ذلك الدفاع الضعيف، ثم أردف بتخوفٍ مرتعب :
– راغب قالها وانا مصدقتش.. حمزة بدأ في خطة تانية خالص، واللي معرفش ياخده منها بالكره، هياخده بالحُب…
**********************************
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)