رواية أغصان الزيتون الفصل الرابع والسبعون 74 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء الرابع والسبعون
رواية أغصان الزيتون البارت الرابع والسبعون
رواية أغصان الزيتون الحلقة الرابعة والسبعون
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الرابع والسبعون:-
الجُـزء الثـاني.
“وإن كسبت عداء من كان صديق، كأنك وقعّت طوعًا على استمارة الإنتحار السريع.”
_____________________________________
تركه “حمزة” وحيدًا بعد تلك الحالة المباغتة التي أصابته، فـ خرج “صلاح” بعد دقائق، بعدما انغلقت المقبرة وانتهى الأمر كليًا، مستندًا على الجدار وقد فقد كثيرًا من قوته، حتى استشعر اهتزاز هاتفه في جيبه، فـ أخرجه ونظر لأسم المتصل، ثم مسح على وجهه ليجيب بصوت حافظ على ثباته :
– أيوة يا دكتور.. فاقت؟؟ طيب أنا جاي في الطريق.
ساقته قدميه نحو سيارتهِ واستقلها لكي يلحق بها، بعدما اضطر وولده مجبرين على تركها بين أيادي الأطباء، لضرورة استلام جثمان “يسرا” من أجل دفنها بعد انتهاء كافة التصاريح. حينها كان “راغب” مراقبًا جيدًا للموقف من مسافة معقولة لا تسمح لأحد لرؤيته أو كشفهِ، حتى تأكد أن المجال قد انفتح له لزيارتها الزيارة الأولى. خطى “راغب” مسرعًا نحو المدفن ودخله، ليرى التربي وقد أنهى عمله وأغلق المقبرة، وما بقى بعض الأشياء البسيطة، دنى منها وكأنه أحس بروحها تحيطه، فـ اقشعر بدنهِ وهو ينظر للموضع الذي نزلت فيه، وترقرقت دموعهِ بصمت وهو يتخيل وجهها المبتسم الرقيق، وصوتها يرنّ في آذانهِ كأنها بالجوار. جلس بالقرب منها مُتحليًا بالصمت التام، مكتفيًا بوجوده قريبًا منها، وإن كانت قد ماتت، فقط عيناه تُذرف الدموع بلا حساب، وهذه كانت اللغة الوحيدة التي عبر بها.
**************************************
دخل لغرفته ركضًا، وكأنه يفرّ هاربًا من شبح مخيف يطارده، هكذا كان الهاجس الذي ترسخ في ذهنهِ وجعله يهرب من المقبرة قبل أن تهاجمه بعتابها لأنه تركها لمصيرٍ مأساوي گهذا. أدثر بالغطاء وحتى وجهه لم يظهر من أسفله، متكومًا على نفسه، في أكثر لحظاتهِ ضعفًا وانكسارًا.
ترددت “سُلاف” حول التدخل فيما يعنيه من عدم التدخل، حتى إنها وقفت بضع لحظات أمام بابهِ تعاني من ذلك التردد المُشتت، وفي النهاية تذكرت إنه “حمزة”، ذلك الرجل الذي اتخذته عدوًا وأقسمت أن تقتص منه، وأن ما تعيشه ليس سوى تضارب في مشاعرها نتيجة شعورها بالشفقة عليه، وشعورها بالذنب تجاه موت “يسرا” أيضًا. انسحبت “سُلاف” من أمام بابه ودخلت لغرفتها، أغلقت على نفسها وهي تخرج هاتفها من حقيبتها الصغيرة وأجابت بخفوت لازم نبرة صوتها :
– ألو، خلاص كده راغب خرج؟.. ممتاز، حاول تبعده عن حمزة خالص يا عِبيد، راغب مش في وعيه والنتيجة مش هتكون في صالحنا، إحنا خلاص كنا قربنا أوي من اللي احنا عايزينه، مش عايزين نضيع كل اللي عملناه.
***************************************
مرّ ساعتين وهو بنفس وضعيته، لم يتزحزح من مكانه ولم يغادر المدفن، بل أحضر قُراء القُرآن للقراءة والإكثار من الدعاء لها في أولى لياليها الموُحشة بالقبر، وأخيرًا قرر المغادرة على أمل أن يأتي لزيارتها مجددًا. خرج “راغب” من المدفن ونظر لهذا الخواء من حوله، فكان “عِبيد” بجواره وهو يهتف بصوتٍ تغلف بنبرة المرارة :
– الدنيا متستاهلش يا عِبيد، مش كده ؟.
لم يخالف “عِبيد” رأيه، بل أيّده :
– صح.. كلنا مكانا معروف في النهاية.
أومأ “راغب” برأسه موافقًا على رأيه، ثم نظر إليه وهو يسأله :
– عملت اللي طلبته منك؟؟.
– حصل.
ذمّ “راغب” على شفتيه بحنق، ثم نظر للفراغ وهو يردف :
– أنا عمري ما فكرت إني هعادي حمزة.. حتى لما كنت جمبه مقدمتش أي حاجه تأذيه، بالعكس.. ياما قولت إننا مناخدوش بذنب الـ ××× أبوه، بس هو معملش كده.
التفت ينظر لـ “عِبيد” وهو يتابع بصوتٍ حاقد مغلول :
– صحيح أنا كنت جمبه طول السنين دي لهدف معين، بس عمري ما نويت آذيته، عشان كده لما أردله اللي عمله عمري ما هكون ندمان.. هو اللي هيندم ألف مرة، من اللحظة دي اللي بيني وبين حمزة بقى عداء شخصي.. ولما نشوف مين فينا هيقدر على التاني.
**************************************
نظراتهِ كلها أسف، ما بين القهر والحزن الشديدين، وهو يرى امرأة مثيلتها على تلك الحالة المزرية، وقد انهارت بإستسلامٍ دون أن تنجرف خلف تيار الصمود والتحمل. أسبل “صلاح” جفونهِ وهو يسأل بذلك الصوت المنكسر :
– والحل يا دكتور؟؟
ابتعد الطبيب عن فراشها قليلًا واجتذبه معه، بينما عيناها كانت محدقة في السقفية دون أدنى رد فعل، ثم أردف بخفوت :
– النوع ده من أنواع الشلل اللي بتصيب الوجه وتعجز عن الكلام بنتعامل معاها مبدأيًا بجلسات العلاج الطبيعي مع العلاج، صحيح إن النتيجة بتكون بطيئة إلى حدٍ ما، لكن مفيش في إيدنا غير كده، والأمل إنها تستجيب للعلاج وتتخلص من الصدمة اللي مأثرة عليها.. عن أذنك
التفتت عيناه تنظر نحوها، كانت ضعيفة مكسورة، بعدما أصيبت بشللٍ أعجزها عن النطق والكلام، أخفض نظراته عنها وهو يهمس :
– أنا مبقتش ملاحق، إيه اللي بيحصلنا ده!!.
ودنى من فراشها، جلس جوارها وحاول اجتذاب انتباهها لتنظر إليه على الأقل :
– أسما؟؟.. انتي أقوى من كده، إيه اللي جرالك؟.
لم تصدر منها أي ردة فعل، فـ تنهد “صلاح” وهو يبعد عيناه عنها غير متحملًا رؤيتها هكذا :
– عارف اللي حصل مش سهل، وانا لحد دلوقتي مش قادر استوعبه، بس هعمل إيه إذا كان ده واقع وحقيقة!. بنتي اتاخدت مني غدر ومعرفش مين الـو×× اللي عمل كده، بس وديني ما هسيبه مهما كان هو مين.
ربت على كفها منتظرًا منها أي حركة، أي تفاعل، أي رد؛لكن دون جدوى، فـ صارحها بأسفٍ :
– النهارده هاخد عزا بنتي بدل هي ما تحضر عزايا، ومن بكرة مش هدوق النوم غير لما أعرف مين وراها يا أسما أوعدك.. أوعدك وأوعد يسرا إني هريحها في قبرها وأجيبلها حقها.
أطبقت “أسما” جفنيها، فـ انسابت خيوط الدموع من بينهم وهي عاجزة حتى عن الصراخ أو أن تجهش بالبكاء، فـ احتفظ “صلاح” بما بقى من كلمات بداخله، بعدما فهم إنها لا ترغب في سماع شئ منه، لا ترغب بتصديق إنها تسمع هذه الكلمات عن ابنتها الوحيدة، التي اتُخذت غدرًا في ريعان شبابها، وباتت سيرة ستُذكر فقط حينما تُفتقد.
***************************************
كان گالآلة، يتحرك دون روحٍ ترافقه، تخلص من نوبة الذعر التي خالجت نفسهِ من أجل أن يتجهز لمراسم استقبال العزاء في شقيقته الوحيدة، بعدما أصرّ “صلاح” على القيام بعزاء فخم يليق بالعائلة وبكل من سيحضر لتقديم واجب العزاء، بعدما انتشر الخبر في كل مكان وبات عليهم الإعتراف بهذه الحادثة المرعبة أمام الجميع. ارتدى “حمزة” ثيابه السوداء القاتمة، ووضع ساعة اليد السوداء المعدنية، ثم سحب هاتفه ومفاتيحه وهمّ بالخروج من الغرفة. ترجل على الدرج بخطى واثقة حتى وصل لباحة المنزل فرآها ما زالت مرتدية ثيابها السوداء، فـ وقف قبالتها ليأمرها بجدية وحزم :
– يلا عشان هتيجي معايا.
قطبت “سُلاف” جبينها بإستغراب وهي تقف عن جلستها و :
– آجي معاك فين؟ أنا آ….
لم يسمح لها بالإعتراض، وقد أظهر إصرارًا شديدًا :
– مش عايز أسمع حاجه، أنا قولت هتحضري العزا يعني هتحضري.
لم يروق لها تشدده في حضورها العزاء، وحاولت أن تبرر موقف الرفض خاصتها:
– زين زمانه عايز ينام و….
– خليه مع الـ nanny بتاعته.. أنجزي هتيجي بهدومك ولا تغيريها؟
خطت بتأني وهي تجيبه على مضض :
– هغير هدومي وأنزل.
– مستنيكي برا.
قالها وهو يسير بإتجاه الباب، فـ تتبعت “سُلاف” أثره حتى خرج، ولم تفهم تحديدًا سبب تمسكه بحضورها؛ لكنها قررت ألا ترفض، هي أيضًا كانت تحبها ولا تريد أن تمرر عزائها دون الحضور.
وقف “حمزة” بالخارج وهو ينظر من حوله، أحس برغبة عارمة في ترك ذلك المنزل الذي يحمل بين جميع أركانه ذكريات لن يتحمل تذكرها ورؤيتها كل يوم، ومشاهد لن تذهب من أمام عينيه، مهما أظهر إنه لا يبالي، ستبقى تلك الغُصة محفورة هناك، في مكانٍ ما في قلبه، ولن يزول أثرها مهما حدث. نظر “حمزة” لشاشة هاتفه ليجد رقم مجهول يحاول الإتصال به، فـ أجاب عليه :
– ألو.. أيوة مين معايا؟
– مع حضرتك معمل مستشفى (…).. حبينا نبلغ سيادتك إن نتيجة تحليل الحمض النووي خرجت وتقدر تيجي تستلمها وقت ما تحب.
تحفزت حواسه وهو يسألها بلطفٍ :
– أنا برا القاهرة اليومين دول، ممكن تفتحي التحليل وابعتي صورة منه لو سمحتي؟.
– للأسف ممنوع يا…..
قاطعها متوسلًا :
– من فضلك، الموضوع ده حياة أو موت، وأنا مش هقدر آجي حاليًا، أنا صاحب التحليل وبسمحلك تفتحيه وابعتي منه نسخة مصورة ليا.
صممت للحظات فأعاد “حمزة” طلبه :
– من فضلك.
– حاضر يافندم.
– شكرًا.
أغلق “حمزة” المكالمة وفتح بيانات الهاتف لإستقبال رسالتها، انتظر دقيقتين على أحرّ من الجمر، حتى أتته رسالة مصورة للتحليل، فـ تفحصها بتركيز شديد متقلص الملامح مشدود الوجه، وإذ به يرتخي فجأة، وتزول عنه بعض تعابير القلق، وهو يقرأ إيجابية التحليل وحقيقة انتساب الطفل له. تنفس “حمزة” الصعداء، وأغلق هاتفه من أجل يتركه في جيبه، ليشعر بها تأتي من خلفه قائلة :
– أنا خلصت.
استبقها “حمزة” نحو سيارته، فتح لها الباب الأمامي كي تستقل مقعد القيادة، فـ رمقته بتعجبٍ وهي تسأل متوجسة :
– أنا اللي هسوق ؟؟
– آه.
فلم ترضخ للأمر برمته، وتركت أثر عنادها يتحكم قليلًا:
– يبقى نركب عربيتي، أنا مش بسوق عربيات حد.
وابتعدت عنه من أجل تأتي بسيارتها، معتقدة أنه سيُصعب الأمر أكثر وأكثر؛ لكنه لم يفعل، بل مشى في أعقابها حتى بلغت سيارتها في الممر الآخر، وما أن فتحتها كان يستقر هو بداخلها جوار مقعد القيادة، كي تقتاد هي سيارتها نحو دار المناسبات الشهيرة والمُقام فيها العزاء.
****************************************
الكثير من الحضور والشخصيات العامة، حضرت من أجل تقديم واجب العزاء في الفقيدة، وللحفاظ على العلاقات التي تجمع بين كيان “القُرشي” للمحاماة وبين الكثير من الرموز السيادية المختلفة في الدولة بجانب العديد من المهتمين بنشر أي معلومات عن الخبر الذي هزّ صفحات الحوادث. وقف “حمزة” جوار والده يستقبلان الحضور في مشهد مهيب، وصوت الشيخ القارئ للقُرآن يصدح في كل مكان بعد تركيب العديد من مُكبرات الصوت ذات الجودة العالية. كان صلبًا مستقيمًا، گالجبل لا يهزّه ريح، ينظر لعيون الوافدين بنظراتٍ غير مكترثة، حتى لم يستطع التركيز في هوية الحاضرين، فقط صافح الجميع ليمروا من أمامه، وحتى كلمات المواساة لم يسمعها. حتى تفاجأ بكفهِ الغليظ يطبق على أصابعه بحزمٍ، فرفع بصره إليه يرمقه بحقد شديد، ليراه في حُلتهِ السوداء، حليق الذقن مُرتب الشعر، وبصوتهِ الأجش هتف :
– البقاء لله يا حمزة.
سحب “حمزة” يده من بين أصابعه وهتف بـ :
– إيه اللي جابك هنا ياراغب؟؟.
– بعمل الواجب يا صاحبي.
سحبه “حمزة” بعيدًا عن سرادق العزاء قبل أن يثير البلبلة حول توترهم الملحوظ، وزجره بنظراتٍ حامية وهو يهتف :
– متقوليش الكلمة دي تاني، مبقاش في بينا صحوبية ولا زفت.. وأمشي من هنا مش عايز أشوف وشك قدامي.
هز “راغب” رأسه رافضًا، وأردف قائلًا :
– لأ، اللي راحت دي أنا كان ليا فيها زيك تمام.
غلت الدماء في عروقهِ، واحتقنت عيناه بإحمرارٍ غاضب وهو يسمع بآذانهِ ذلك الكلام المستفز الرخيص :
– هندمك على اللحظة اللي خنتني فيها يا راغب، وهتدفع تمنها غالي، خلي بالك من كلامك وإلا هتعجل بالحساب اللي بينا.
لم يكترث “راغب” بتهديده العابث، وقد أحرق السفن منذ وقت طويل، ورمى طوبة العلاقة الزائفة التي كانت بينهما :
– ميهمنيش، يمكن لو كانت هي عايشة كان الوضع اختلف بينا، يسرا كانت الفرامل اللي بينا وانت صفيت الفرامل دي.
لم يتحمل أكثر من ذلك، ولم يشعر بنفسه إلا وهو قابضًا على ياقته ويهدر فيه بصياحٍ :
– متجيبش سـيـرتـها علـى لـسانـك الن×× ده.
لحق “صلاح” بهما، ووقف حائلًا بينهما وهو يدفع كلاهما بعيدًا عن الآخر وجأر بـ :
– بـس كـفايـة!! انتـوا اتـجننتـوا!.
ثم نظر لولده متابعًا :
– إيه مشكلتك مع راغب يا حمزة فهمني؟.
أصرف “حمزة” نظراته عنهم وعيناه تتجول بين الحاضرين، وقد بدأت الهمسات تنتشر بينهم :
– مفيش يا بابا، مفيش حاجه.
فلم يدسّ “راغب” الأمر أكثر من ذلك، وتدخل نافيًا ذلك الإنكار :
– لأ في، في حاجات كتير لازم الكل يعرفها.
لكزه “حمزة” في كتفه وهو يدنو منه خطوة محذرة :
– ما قولت خلاص مفيش زفت حاجه.
صوت صافرة سيارة الشرطة لفتت انتباه الجميع، خاصة مع نزول ضابط الشرطة ولحاق المجندين به في مشهد رسمي جاد للغاية، جعل “صلاح” ينتصب واقفًا وينظر نحوهم مشدوهًا :
– هو في إيه بالظبط!!
دنى منهم ضابط الشرطة وهو يسأل في جدية حازمة :
– فين حمزة صلاح القرشي؟.
فأجاب “حمزة” وهو يخطو خطوة للأمام :
– أنا، خير.
– أنا معايا أمر بالقبض عليك.
حدق “صلاح” في ضابط الشرطة وهو يسأل بقلق :
– ليه يا فندم، إيه الحكاية قولي؟.
فكان الجواب صادمًا غير متوقع، أوقف حتى صوت عقارب الساعة :
– الأستاذ حمزة متهم بقتل أخته يسرا صلاح القُرشي.
**************************************
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)