رواية منك وإليك اهتديت الفصل الثلاثون 30 بقلم زيزي محمد
رواية منك وإليك اهتديت الجزء الثلاثون
رواية منك وإليك اهتديت البارت الثلاثون
رواية منك وإليك اهتديت الحلقة الثلاثون
وصلت سيارة سليم أمام ورشة سيف..فعقد زيدان حاجبيه ولم يستطيع الالتزام بخيط الصمت طويلاً وذلك حينما قال باستغراب طال ملامحه وصوته في آن واحد:
-هنتكلم هنا؟
ابتعد سليم ببصره عن واقع الحارة الشعبية ثم غامت عينيه بنظرة غاضبة:
-أنا رافض اتكلم معاك اساسًا.
تسلل اليأس لنفس زيدان وهو يراقب مغادرة اخيه لسيارة ثم ولوجه لداخل الورشة..فاضطر للنزول ودخل خلفه، وجد سيف يستقبله وهو يدمدم بصوت خفيض جانب أذنيه:
-نفسي مرة يجي هنا مخنوق من أي حد غيرك.
التوى فم زيدان باستهزاء بعدما ادرك مقصده وأردف بنفس الهمس:
-حظي الاسود.
سأله سيف بقلق وهو يبعد نظراته عن سليم المتوهج بغضب ناري:
-عاكك الدنيا اوي ولا نص نص.
جذب نفس طويل قبل أن يجيب بتمرد بان فيه ضعفه:
-تقريبًا مفيش حاجة غلط الا عملتها.
زفر سيف بقوة بعد ان مسد فوق خصلات شعره مفكرًا للحظات، ومن بعدها صاح للعاملين بمغادرة الورشة وحصولهم على راحة ساعتين، ثم التفت لصديق عمره يتشابك مع نظراته لدقائق مطولة كانت كفيلة بادراك حجم الغضب المتفاقم داخله..هز رأسه واليأس يطرق ابوابه بسبب علاقة صديقه بأخيه فلم تكن يومًا علاقة اخوية هادئة بل كانت تشبه أمواج البحر الهادرة بكل ما تحمله من هواجس لكلا الاثنين..وخاصةً بعد جلوس زيدان بالقرب من سليم كالمذنب لا يقوَ على النظر إليه..بينما الأخر كان يدخن بشراهة وكأنه يريد قتل حاله.
اختار ترك المكان لهما لتصفو نفوسهما من أي أمور عكرة قد تتسبب في زلزلة علاقتهما.. فرفع صوته وهو يتجه صوب باب الورشة:
-هطلع اشوف ام مروان يا سليم، كانت طالبة حاجات مني.
أشار سليم اليه بلامبالاة فهو يعلم نوايا صديقه ولم تكن لديه القدرة على اعتراضه، فبقي على نفس صمته يدخن فقط..تختلط انفاسه الهائجة بدخان تبغه الكثيف.
مر الكثير من الوقت..الكثير جدًا وزيدان لم يتفوه بحرف واحد فقط يجلس كالطفل المذنب ينظر للدخان الكثيف بتفكير وقد ايقن أنه سبب حالة من التشوش لتفكيره فافتقد حتى أبجدية الحديث..ولوهلة دفعته نفسه إلى مد يده نحو علبة التبغ الخاصة بسليم ونوى التقاط واحدة ولكن يد سليم التي هبطت بقوة فوق كف زيدان تضربه جعلته يتراجع فورًا، فصاح سليم بشراسة معهودة منه:
-شيل ايدك انت هتدخن قدامي ولا ايه!
جف حلق زيدان حينما كسر حاجز الصمت بينهما، ولوهلة بات متخبطًا بضياع وحيرة لا يجد بداية الكلام معه، لا يجيد حسن التصرف…شعر بالخوف يتملك منه يفرض قيوده عليه خشية أن ينطق بكلمة يثور بسببها سليم، خانه صوته وخرج متلعثم مما أدهش اخيه:
-سليم أنا…أأ…
وبحركة غير متوقعة هو نفسه لم يتوقعها بل دفعته مشاعره لفعلها وكأن عقله الاهوج تنحى قليلاً وسمح لمشاعره بالتحكم فيه، وجد نفسه يضع يده فوق ساق سليم مما اثار انتباهه ولاحظ ارتجافة يده لأول مرة وللعجيب أن زيدان لم يكتفى بهذا التعبير البسيط بل فاجئه وزلزل تماسكه الواهن باعتراف ضعيف خرج من شفتيه الصلبة:
-أنا بحبك…
كانت الصدمة من حق سليم حيث نظر له باستغراب شديد رغم الغضب الكامن في عينيه، فلاحظ الضعف المهيمن على اخيه اما تمرده فقد اختفى كليًا ولم يبقى سوى الندم الممزوج بالضعف.
استسلم زيدان لِمَ يعتمل بمشاعره وواصل حديثه غير المترابط:
-أنا مش عدوك.
فقد سليم اعصابه وأردف من بين اسنانه:
-انت هتتهمني كمان ان بشوفك عدو!
-انا قلقان.
كان حديثه كله غير متناسق وكأنه يأتي بكلمة من الشرق وأخرى من الغرب..تارة يصرح بحبه بنبرة صادقة نابعة من أعماق قلبه، وتارة يبعد عنه فكرة العدو وتلقائيًا تحولت نبرته للاتهام الصريح، وأخرى يخبره عن قلقه فشعر سليم بمدى ضياعه الذي شابه ضياع طفل صغير يتيم..فلانت ملامحه قليلاً وهو ينظر لزيدان الذي رفض النظر اليه واستكمل بنبرة مشروخة من فرط وجعه:
-قلقان معرفش اصلح علاقتي بيك وترجع تبوظ زي الاول.
رفع انفه بشموخ وهو يقول باستعلاء..دافنًا وجعه هو الأخر في طيات نفسه:
-معنديش علاج لقلقك للأسف، وزي ما كنت بتفكر ازاي تهدم اللي بينا كنت فكر وقتها ازاي هتصلحه.
-ما هي دي المشكلة..
قالها زيدان بعنف وغضب مكتوم، واستكمل بصوت كان يتأرجح ما بين السخط والضعف:
-مبعرفش اصلح علاقتي بيك..يزن بيغلط وبيبقى عارف ازاي هيصالحك بيبقى من جوا مطمن…بس أنا…
ظهر الاستنكار في صوته الممزوج بالألم:
-أنا في متاهة…مبعرفش اراضيك، لما قالولي يزن صالح سليم متفاجئتش وقعدت افكر مع نفسي، طيب أنا هقدر اصالحه واراضيه والاهم ازاي…
بتر سليم حديثه وسأله بصوت متصلب:
-وعرفت ازاي؟!
قال بصوت مرير:
-لا معرفتش..انا فعلا في متاهة كبيرة ومش عارف اخرج منها.
توهجت الدنيا أمام سليم باللون الأحمر وهو يهتف بنبرة معنفة كان يقطر منها التوبيخ:
-عشان غبي، بتختار كل حاجة توجعني وتعملها وتدوس كمان ومستني مني اعديها.
اعتدل زيدان له وقد اشتد الحوار بينهما وذلك بعدما دوت الكلمات في رأسه:
-وليه أنا بالذات مبتعديش، ليه أنا بالذات بتكبر كل حاجة بعملها.
كاد ينتوى الصمت وعدم الشرح لذلك الجلف، ولكنه تراجع وهو يعتصر شموخه وعزته بمواجهة الاحمق اخيه:
-متجبش اللوم عليا، يعني انا غلطان ان كنت عايز اقف جنبك وابقى كبيرك ولا انت مش شايفني كبيرك ومستحقش!
وللمرة التي لا يعلم عددها فاجئه زيدان باقترابه منه مقبلاً رأسه وكتفه وبصوت اختلجت فيه مشاعر الاحتياج والحب الاخوي الصادق قال:
-عمري ما شوفتك غير كدا.
ضربه سليم بكتفه في غيظ مردفًا بحنق اختنق صوته بسببه:
-امال بتعمل عكس كدا ليه؟ فهمني..لو كنت شايفني كدا كنت هتخاف على زعلي.
ضحك زيدان بمرارة وأجاب:
-أنا مش بس بخاف على زعلك بس، أنا كمان بخاف منك.
رمقه سليم باستخفاف:
-مربيلك الرعب وانا مش عارف.
زفر بحرارة ثم أكمل بصوت غلب عليه شرارة الغضب لتذكره أمر خطبته من ابنة ميرفت:
-تصرفاتك معايا غير كدا يا زيدان بدليل انك روحت وحطيت ايدك في ايد عمتك اللي بتكرهني عشان تقهرني.
تعجب زيدان من تصريحه وشعر بأن ما حدث بينهما منذ قليل تبخر في الهواء، كل ما قاله لم يحرك قلب اخيه المتحجر من ناحيته وخاصةً بعد اتهامه الاخير له، فثار بغضب جامح بعدما لم يُقدر سليم مشاعره التي خرجت بشكل صريح وصادق، مما جعله يفقد اعصابه كليًا وهتف بحرقة وهو يقف ينظر لسليم بعدم تصديق:
-أنا مقدرش اعمل فيك، انت اخويا، ليه مش قادر تفهم..بتحاسبني عشان كنت خايف البنت اللي بحبها تروح مني، كان في ظروف اصعب مني ومنها اننا نستناك فاخدت قرار اتجوزها دا انا جوازي منها لسه على الورق متمش، بتحاسبني عشان ضميري حركني لما نهى انتحرت بسببي..اقهرك ليه؟، انا هستفاد ايه، أنا بقولك طول عمري بشوفك كبيري وبخاف على زعلك بس عارف ايه المشكلة؟
رفع له عينين جامدتين كالصخر وانحسر صوته داخله، فأكمل زيدان بثورة لدرجة أنه كاد ينفجر من شدة غيظه:
-ان انا غبي ومبعرفش اعبر بالكلام الحلو..مبعرفش اكل بعقلك حلاوة…مش كلنا زي يزن..في فرق بينا، اه أنا زيدان المتهور، لكن من هنا …
أشار نحو موضع قلبه بصدره بيد برزت العروق بها:
-أنا عمري ما كرهتك.
تفاقم جنونه فقام بضرب صندوق آلات صغير واطاح به أرضًا وكأنه ينفث من خلاله عن غضبه المكتوم وجراحه التي لا يعلم بها أحد، فاستكمل ولم يأبى لصوته المرتفع ونظرة الشراسة اللامعة في عيني اخيه الاكبر:
-قولي كدا لو كنت جيتلك وقولتلك سليم أنا هتجوز مليكة ومش هستناك كنت هتقول ايه؟
لم يتحدث سليم بل ظل على نفس صمته الذي أثار الأخر بجنون فأكمل بالنيابة عنه لعلمه بمدى شخصية اخيه:
-كنت هترفض وتثور وبردو تتهمني ان بكرهك، مع ان انا بحبك اضعاف ما انت بتحبني.
قست نبرته في نهاية كلامه وكأنه يحاول اثبات حبه المتغاضي عنه اخيه الاكبر، فواصل بحنق:
-طيب كنت جيت وحكتلك على ظروفها…كنت بردو هتصر وهتطلع مليون حجة عشان بس اللي في دماغك يتنفذ ودا حقك أنا معترف به بس في ظروف تبقى اقوى مننا.
لم يكن يريد أن يصمت ويترك المساحة لسليم وكأنه يخشى التغافل عن شيء فليعبر عما كان يسبب له الأرق:
-كنت عايزني اجي احكيلك على نهى واقولك ان انا جرحتها وهنتها بكلامي والبت انتحرت بسببي كنت هقولك على محاولاتي ان انقذها مثلاً هتقولي تتفلق هي وامها عشان بتكرههم..
هنا ظهر صوت سليم وأردف بسخرية قاسية:
-ولما انت حنين كدا متجوزتهاش ليه؟
أجاب ببساطة وهو يتنفس بوتيرة سريعة وكأنه كان يسباق شيء ما، فكان يلهث بقوة وهو على نفس وقفته الغاضبة:
-مبحبهاش…مش شايفها غير اختي.
-يعني مش هتتجوزها عشاني أنا؟!
تنهد زيدان بضعف من جديد وهو يجيب على اخيه الذي كان يحمل اصرارًا على أنه ما قاله وما أخرجه من مشاعر مكبوته زائفة بالنسبة له:
-مليكة مكنتش موجودة في السنين اللي فاتت ونهى كانت بتقرب مني، بتعمل اي حاجة ممكن الراجل يخليه يحبها اقولك ممكن ميحبهاش، بس يكتفي انه يتجوزها..بس أنا معملتش كدا عشانك بردو…عمتك مأذتنيش زي ما أذتك بس بكرهها عشان اللي عملته فيك وبقى التار اللي جواك ناحيتها تاري أنا بردو…بس نهى ملهاش دعوة هي فعلا غيرهم، عشان كدا ضميري حركني وعملت كدا.
نهض سليم بشموخ وهو يقف قبالة اخيه الثائر يوبخه بخشونة:
-هتفضل تزعق كتير…الناس اللي برا دي هيسمعوا ولما يعرفوا انك بتزعق لاخوك الكبير ابسط حاجة هيقولولي اضربك بالقلم عشان تحترم نفسك.
قالها بكبرياء وترفع..فاستنكر زيدان وأردف:
– لو دا اللي هيريحك يبقى اعملها ونخلص.
لمعت عيون سليم بشراسة:
-بجد؟
وبنفس لمعة الشراسة التي تملكها عائلة الشعراوي أردف بمكر:
-اظن ان كبرت على حاجات زي دي ونقدر نحل مشاكلنا، ولو عايز حل يرضينا يبقى انك تحضني.
-ايه الكلام الفارغ دا!
استنكر بقسوة مما دفع زيدان يقول بحقد:
-كلام فارغ ناحيتي بس من عند يزن عادي..
حدجه باستغراب فرد زيدان بحقد وغيرة:
-عادي يحضنك وينزل صورتكم على النت وتبانوا احلى اخوات وانا دايمًا المنبوذ.
شعر سليم بالغضب ينحسر داخله فوجد نفسه يقول بتهكم:
-انت بتحقد على اخوك!
رفع عينين مكسورتين وضعف سكن ملامحه وهو يجيب:
-عمري ما فكرت كدا غير لما بترضى عنه بسرعة وأنا بلف حوالين نفسي السبع لفات عشان اعرف ازاي اكسب رضاك.
لانت ملامح سليم بل اضمحل غضبه وغلب عليه حنينه لوجود زيدان بجانبه، معترفًا أنه كان يفتقد لذة التعامل معه، لقد كان يخشى قطع طرق الوصال بينهما لذا ظهر شبح ابتسامة فوق ثغره وهو يردف بنبرة غلب عليها الاستسلام والحنو:
-طول ما انا شايفكم في احسن وضع انا راضي، وبعد كدا متجيش تلومني على حقوقي فيك أنا اخوك الكبير ومش من حقك تحرمني من حاجات أنا كنت حابب اعملها بنفسي، ابوك الله يرحمه مربكش انت ويزن …أنا اللي ربيتكم واتبهدلت عشانكم ولسه هستحمل عشان تكونوا في راحة بال.
اقترب أكثر زيدان منه مستغلاً الرفق المرافق لصوته وهدوء اعصابه فقال بصوت أجش غلب عليه عاطفته الاخوية:
-والله مبحسش براحة بالي الا لما بتكون راضي عن اللي خلفوني.
كاد يبتسم سليم له…حتى ان قلبه صاح بحاجته لعناق اخوي دافئ من قبل اخيه الاهوج..ولكنه لم يتعلم ان يأخذ خطوة مثل هذه..فبقيت مع باقي امانيه..واكتفى بما حدث بينهما، ستظل تلك المواجهة النارية هي الطف ذكري حدثت له مع اخيه الجلف، فقد كان صمته الطويل أثناء المحادثة ليس سوى اداة يستخدمها لحفر اعترافات اخيه البريئة داخله.
دفعه سليم للخلف نحو المقعد وقال بنبرة غامضة:
-اقعد واحكيلي كل اللي فاتني.
رفع زيدان عينيه متسائلاً ببراءة ولهفة طغت على صوته:
-يعني كدا اتصفينا، أنا بسببك حاسس ان انا منحوس.
جلس سليم فوق مقعده وهو يتساءل بعدم فهم:
-قصدك ايه؟
-طول ما انت زعلان مني، بحس بلعنة عليا حتى جوازي من الانسانة اللي بحبها مكملش..ما ترضى عني بقى خليني اشوف مستقبلي يا عم.
أومأ برأسه عدة مرات وقد لمع لديه فكرة وعزم على تنفيذها فقال بجدية:
-احكيلي كل اللي انا معرفوش، عشان احدد هرضى عنك ولا لا.
-مستغل.
قالها زيدان من بين اسنانه، ولكنه عاد وهو يرفع بصره بابتسامة واسعة مقررًا اخباره بكل شيء بداية من مشاعره نحو مليكة والاوضاع الطارئة التي حلت بهما، ونهى..تلك الورطة التي وقعت فوق رأسه من العدم، انصت سليم لكل شيء باهتمام كبير حتى قال باستفهام:
-مفهمتش علاقتك انت ونهى ازاي دلوقتي؟
-من ناحيتي نهيت كل حاجة وكنت مستني رجوعها عشان اصارحها، بس خلاص وصلت لمرحلة وفاض بيا ترجع ولا مترجعش براحتها.
أجاب زيدان بما فكر فيه الفترة الأخيرة، فأيقن سليم أن اخيه لا يعلم بشيء عما حدث لنهى وابن عمتها، كتم معلوماته في بئره العميق حتى يتأكد من صحتها قبل اخبار زيدان بها.
اجفل كلاً منهما على دخول سيف وهو يحمل مروان…صغيره الرضيع بين ذراعيه مردفًا ببشاشة:
-أنا قولت اجيب مروان يسلم عليكوا.
حمله سليم بحب وقبله بلطف شديد، فتذكر شيء ما وسأل اخيه:
-شوفت قمر؟
هز زيدان رأسه بنفي:
-لا…ملحقتش.
-ازاي متشوفهاش أول ما ترجع.
عاتبه سليم بخشونة، فأردف زيدان بنفس خشونته:
-هو انت مديني فرصة من الصبح ومرمطني وراك، حتى ماما مشوفتهاش.
ضحك سليم بمكر وأردف بغموض اثار فضول سيف المتابع لحديثهما:
-هتعرف تصالحها؟ زمان الخبر وصلها.
وقبل أن يتحدث زيدان كان سيف يقحم نفسه بفضول:
-ايه بقى اللي انت عملته، انا عايز اعرف كل حاجة؟
وجد مروان يعود لذراعيه وسليم يدمدم بسماجة:
-شكرًا يا سيف..خليك في ابنك وامه اللي مطيرة برج من دماغك.
كتم زيدان ضحكته في ظل غضب سيف المردد بصوت عالي:
-عالله زيت العربيات تكون هداك شوية.
ارتفع ضحكات سليم وهو يربت فوق كتف اخيه كي يتبعه للخارج تاركين سيف ينظر لهما بغيظ وفضول لحالتهما الهادئة التي كانت تخالف دخولهما الثائر فارضين سطوتهما على ورشته، كعادة سليم حينما يكون غاضبًا.
***
ليلاً…
خرج زيدان من غرفة والدته بعد أن قام بمراضاتها وقد استغرق وقت طويل متحملاً عاتبها الباكي عما فعله وبالاخص اتفاقه مع ميرفت..حمد لله انتهى من ذلك الامر واستوت اموره كليًا، لم يبقى شيء يبعده عن حبيبته، كاد يدخل غرفته للقائها فلم يراها منذ الصباح ولكن انحرفت خطواته صوب غرفة يزن، فقد انتبه لاختفائه هو ايضًا منذ الصباح وقبل أن يفتح المقبض وجد يزن يدخل من باب الشقة فعقد حاجبيه وهو يقول:
-راجع متأخر ليه؟
تخطاه يزن وفتح باب غرفته وبكل وقاحة رسم بسمة سمجة فوق ثغره قبل أن يغلق باب الغرفة في وجه زيدان، فغر فم زيدان لوقاحة اخيه الاصغر ومن بعدها صاح معترضًا بخشونة:
-افتح يا يزن…ازاي تقفل الباب في وشي.
حرك المقبض عدة مرات حتى فتح يزن الباب بوجوم مردفًا بخشونة مماثلة:
-عايز ايه؟
دخل وهو يعقد ما بين حاجبيه بسبب عدم فهمه لتغيرات الطارئة على اخيه، فقال بنبرة مثقلة:
-مالك أنت كمان، انا مضغوط من الصبح ومش طايق نفسي.
-اه كلكم عليكم ضغوطات وانا عليا مكسرات.
قالها يزن بسخرية حاقدة وهو يحدج بأخيه في غيظ، فرفع زيدان عينيه محاولاً فهم سبب غضبه، فيزن قليلاً ما يبدى غضبه لأحد بهذا الشكل وبعد محاولات اخيرًا ادرك ما يلج بداخله، فاقترب منه وهو يقول بأسف:
-متزعلش مني، أنا مكنتش اقصد اخبي عليك موضوع نهى.
ابعد يزن يده عنه وهو يقول بنبرة طغى عليها العتاب:
-أنا معاك في كل حاجة، في كل مصيبة وفي ضهرك، وفي الاخر تخبي عليا.
تثاوب زيدان وقال بصوت ناعس ضائق:
-ما دي حاجة مكنتش تتقال يا يزن، المهم اللي حصل حصل، أنا تعبت من الصبح براضي في سليم وامك وانت كمان اهو..ناقص انزل في الشارع اراضي الناس الماشية.
وقبل أن يرد يزن وجد سليم يقتحم الغرفة مردفًا بجدية:
-يزن بقولك، في حاجة كنت عايزك…
قطع حديثه حينما لاحظ وجود زيدان هو الأخر، فقال يزن بنبرة قصد بها اغاظة زيدان وهو يقترب من سليم يتعلق بذراعه كالاطفال رغم ضخامة جسده:
-قول يا اخويا يا كبير يا حبيبي ياللي ماليش غيرك في الدنيا..أنا وأنت اخوات…أما دا…
أشار على زيدان المتابع لهما بسخط، وأكمل:
-دا امك لقيته عند باب الجامع وهو صغير اكيد مش اخونا.
نفض زيدان حديثه الساخر بعيدًا عنه، وتقدم صوب باب الغرفة في ظل صمت سليم..وقبل أن يغادر قال باستنكار:
-اشبعوا ببعض، أنا رايح اوضتي انام، ورايا حاجات أهم منك مش فاضيلك.
استدار سليم في ظل محاولاته لابعاد جسد يزن عنه تزامنًا مع نظراته المحذرة من محاولة اقترابه منه مرة ثانية حتى ابتعد يزن عنه، فأردف سليم بصوت غلب عليه التشفي:
-صحيح يا زيدان، مليكة مش موجودة في اوضتك.
تجهم وجهه وهو يتساءل بريبة:
-امال فين؟
ابتسم باستفزاز ولمعة ماكرة احتلت عينيه:
-عندي فوق، هتقعد عندي في الشقة.
صمت طويل من قبله يحاول فهم ما يحدث، اما يزن فكان يتابع بحماس وابتسامة شقية تزين ثغره، فوضع سليم يده في جيب سرواله وهو يقترب بشدة من زيدان يهمس بجانب اذنه:
-مينفعش تقعد معاك، الا لما تتموا جوازكم ودا مش هيحصل الا لما اعملك فرح كبير.
كاد يعترض بقوة ولكن نظرة قوية اخرسته من قبل سليم وخاصةً حينما قال:
-ايه هتعترض على حكمي، أنا هعديلك كل اللي انت عملته بس في نفس الوقت هعمل بردو اللي أنا عايزه، لازم اعملك فرح كبير يليق بعيلة الشعراوي.
اقترب منه زيدان محاولاً استعطافه:
-انا نازل اجازة اسبوع واحد.
-هنحدد فرحك على الاجازة اللي جاية، وبالمرة نجهز شقتك.
زفر زيدان بحرارة وهو يتمتم بغيظ:
-انت بتعاقبني صح؟
كان حديثهما خافت جدًا، فاستغل سليم ذلك وهمس بنبرة اكثر خفوتً:
-مش أنت الصبح كنت عايزني اضربك بالقلم وارضى عنك.. بس أنا عشان قلبي كبير وبيسامح مش هعمل كدا، واعتبر دا عقابك البسيط.
انتفض كلاً منهما على صوت صياح من خلفهما مصفقًا بيده والحماس كاد يقفز من عينيه:
-دا ميستاهلش يا سليم، ارزعه قلم كمان يفوقه من اللي هو فيه؟
وقبل أن يرد زيدان، استكمل يزن حديثه بنبرة ظهر فيها تشفي كبير:
-يا حرام يا زيدان دا كله ومكنتش متجوز..مكتوب كتابك بس.
-خليه يسكت عشان والله هقل ادبي عليه، ومش هعمل حساب لحد.
صاح زيدان في سليم بغضب عارم من تشفي اخيه، فهز سليم رأسه بيأس:
-بس انتوا الاتنين ايه عيال صغيرة بسكتها، وبعدين…
نظر ليزن واكمل بجدية:
-صاحبي اللي بعتهولك عشان العربية اللي عايزاها لاخته، فيها مشكلة ابقى شوف ايه.
تابع يزن ببراءة مصطنعة:
-اروح لاخته يعني.
كور سليم يده بغضب ورمقه بنظرة تحمل تهديد لاذع:
-متروحش يا يزن..وبلاش عك، الناس دي مش عايز اخسرها ومينفعش حد يعك معاهم، دول ناس تقيلة في البلد، متخشرنيش علاقتي بالناس.
رفع يزن يده لأعلى يدمدم باستسلام:
-خلاص يا عم أنا ولا رايح ولا جاي، هبعت حد يخلص الموضوع.
-حد تكون بتثق فيه.
تابع بتذمره فأومأ يزن رأسه بحنق، أما زيدان فتابع خطواته خلف سليم وقال بصوت تظاهر فيه بالنعاس:
-كنت هموت وانام، بس افتكرت ان مشوفتش قمر لغاية دلوقتي، هطلع معاك.
اوقفه سليم بابتسامته غلب عليها الاستفزاز:
-لا، ابقى خليك لبكرة وشوفها على الفطار، تصبح على خير.
خرج سليم متجهًا لشقته، بينما اشتعل زيدان بنيران الغيرة لوجودها بشقة سليم من الأساس والاهم انها وافقت دون الرجوع اليه، زفر بغيظ شديد ولكنه لم يظل كثيرًا على تلك الحالة حيث ضربت فيه من الخلف بقوة وسادة عملاقة، فاهتز قليلاً والتفت للخلف بصدمة وجد يزن يقف يضحك باستفزاز:
-بفكر اتعلم الرماية.
التقط زيدان الوسادة والقاها نحوه بنزق مردفًا من بين اسنانه:
-بالمخدات يا بارد.
لم تصبه فقد فر يزن بسرعة لغرفته، وترك زيدان ينتقل ببصره بين باب الشقة وباب غرفته بحقد وضيق كبير.
***
التقطت شمس ثياب سليم وقامت بطيهم بتفكير وفضول كاد يخترق عقل سليم الهادئ او ربما يتصنع الهدوء، هي حتى الآن لا تعلم ما دار بينه وبين زيدان، حتى مليكة لم تعرف واكتفت باخبارها بما تعرفه:
-قالي اطلعي اقعدي معانا فوق الشقة لغاية ما فرحكم يتم ويعمل الشقة.
-طيب ومزاجه كان ازاي وقتها؟!
هزت كتفيها دلالة على عدم معرفتها وقالت:
-معرفش…أنا مبفهموش.
زمت شفتيها بضيق وهي تعود للواقع متيقنة أنه لو كان سامح زيدان كان الخبر سينتشر بسرعة، ولكن الهدوء المسيطر على العائلة اقلقها جدًا..انتبهت على جلوسه فوق الفراش وكاد يغمض عينيه استعدادًا للنوم…كل هذا ولم يتحدث، لم يخبرها، لم يرضي قلقها عليهما فسارعت تسأله بقلق:
-عملت ايه مع زيدان؟
تمتم وهو يستعد للنوم، لحاجته الشديدة في الابتعاد عن الواقع بكل ما هو فيه واللجوء لعالم افتراضي يلقي فيه احزانه كاملة:
-معملتش.
رمقته بنظرة بائسة وهي تقترب منه:
-بردوا رفضت تسمعه؟
لم يعجبه نبرتها الحادة حتى وان حاولت عدم اظهارها بهذا الشكل، فصمت وهو يغمض عينيه، مدركًا حجم الغضب الذي سيصب عليه الآن، وكما توقع ثارت بحنق:
-مش طبيعي يا سليم اللي انت فيه، لازم تدي فرصة اللي قدامك انك تسمعه.
فتح عينيه ورمقها بنظرة حادة قوية:
-وانتي هتعرفيني اتعامل ازاي ولا ايه؟
هزت رأسها بقوة مماثلة وبترفع أردفت:
-اه هعرفك..أنت مشكلتك انك مبتسمعش الا صوت نفسك وبس.
اعتدل بجلسته بسرعة كمن لدغه عقرب، وقد اسودت الدنيا امامه وهو يقول بنبرة نارية:
-وايه كمان؟ عرفيني مشاكلي اللي أنا معرفهاش!
قالت بنبرة متوازنة واثقة، محاولة لفت انتباهه لأمر قد تأخر فيه كثيرًا:
-مشاكلك انا وأنت عرفينها كويس، بس الاهم من دا انك تاخد خطوة وتعالجها.
كاد يسحق اسنانه من شدة غضبه فنهض يناظرها بعنف ساخر:
-ويا ترى هعالجها ازاي، انتي تعرفي تعالجيها!
نفضت سخريته وقررت استكمال ما بدأته بالنهاية هي تسعى لاصلاحه..لمعالجة ندوبه التي مهما تجاهلها ستظل كالوحش المفترس يقلق سكينته:
-تعالجها بانك تروح لدكتور نفسي.
ارتعدت اوصالها وهي تنظر لعينيه التي كانت تموجان بالعواصف بعد تصريحها الأخير، فقد اختقنت نبرتها وخافت أن يتطور الأمر بينهما فسارعت بقولها:
-أنا..
-أنتي مالكيش أي حق تتكلمي معايا، أنا مش مجنون عشان اروح لدكتور نفسي، فاهمة..أنا مش مجنون.
كيف لها أن تتهمه بهذا الشكل، كيف تصف اوجاعه بالجنون..هي مجرد اوجاع يحاول معالجتها بطريقته، حتى وان لم توافق هي عليها..هو يشعر بالراحة لذلك، لن يهز مكانته وشموخه، لن يصارح أحد بما يعتمل بداخله، سيظل كبئر عميق أسود بلا قرار ولن يسمح لأحد بالدخول له.
غامت عينيها بنظرة حزينة وهي تنظر له، وانهمرت عينيها بالدموع التي سقطت فوق وجنتيها كالشلال وذلك عندما خرج من الغرفة صافقًا الباب خلفه بقوة، جلست باحباط فوق فراشها تبكي بصمت فلم تتوصل لنقطة تفاهم معه حتى بعد كل هذه السنين..ستظل نقاط ضعفه منطقة محرمة لا يسمح بالخوض فيها.
أما سليم فهبط الدرج لا يعلم وجهته كل ما يرده هو استنشاق هواء عليل يدخله لرئتيه الملتهبة بعد أن ضغطت شمس فوق جراحه بقوة، ولوهلة شعر بالندم الشديد يعتري صدره بعد أن سمح لها بأمورٍ كانت كخط أحمر لا تقدر على تعديه، سيعود لحجاب نفسه المجروحة عنها.
استمع لصوت أمه التي كانت تجلس بالصالة تقرأ ورد القرأن الخاص بها مستفهمة بصوت خامل مجهد:
-رايح فين يا ابني.
حاول أن يسيطر على انفعالاته ولكنه فشل حينما قال بحدة:
-رايح اشم هوا.
مررت بصرها عليه تراقب جسده المتشنج وكأنه يريد ملاكمة أحدهم، وأنفاسه الهادرة وعينيه التي كانت عبارة عن بركان ثائر يهدد بخطير قريب، لم تأبى لأي شيء وأشارت له برجاء:
-تعال عايزك.
اقترب منها بخطوات ثقيلة ينظر لها باستفهام ناري، فمدت يدها واجلسته رغمًا عنه ثم حركت رأسه لتسقط فوق ساقيها، كاد أن يثور عليها هي الأخرى، ولكن لمسة الحنان التي مسدت بها فوق خصلات شعره جعلته يستكين وكأنها القيت فوق تعويذة سحرية، هو نفسه لم يفهم ما الذي حدث له، حتى يخضع لها بهذا الشكل، اغمض عينيه بعدما فرت طاقته منه..كانت همهمات الدعاء له المخترقة مسامعه لها أثر جميل في نفسه فهدئت من نيران قلبه، بل دوات جراحه مؤقتًا، استمع لهمسها الحنون:
-مين زعلك!
أجاب بضعف لم يستطع اخفائه:
-شمس.
ربتت فوق وجنته بحنو وهتفت بنبرة لطيفة ناعمة:
-اكيد متقصدش، بتحبك وبتخاف على مصلحتك.
أومأ برأسه محاولاً النهوض، ولكن رغبته فاقت قدرته واعتدل أكثر حتى اغمض عينيه واستعد للنوم هكذا، متعجبًا من ذاته..أين ارادته؟ أين صلابته؟ لِمَ يشعر بأنه لا يملك أي طاقة ابدًا للابتعاد، ربما تكون حاجته لوالدته فاقت كل ذلك، أو اثر تلك اللمسات الحنونه تخدر جسده أسفل يده، لا يعرف..أو انه حلم جديد اخترق عقله الشريد، ترك صراعاته جانبًا وغرق في سبات عميق دون أن يشعر.
***
في اليوم التالي…
انتهت نهى من اغلاق السيستم الخاص بالمطعم بعدما اسدل الليل بظلمته وقل رواد المطعم تدريجيًا، زفرت بتعب وهي تغلق الحاسوب، ثم مدت يدها تدلك جانب رأسها في محاولة لتخفيف آلام رأسها المتزايدة، فمنذ ليلة أمس ولم تحظى بنومه هنيئة بسبب تفكيرها المنصب حول خالد وتجاهله لها منذ ليلة أمس حتى تلك الساعة لم يوجه لها أي حديث قط حتى نظراته قد حرمها منها، ماذا يقصد بافعاله تلك؟ تنهدت بإرهاق وهي تبحث عنه بعينيها رغم محاولاتها في اظهار عكس ذلك..رأته يقف بجانب مجدي وفتاة شابة جميلة ذات ملامحها الرقيقة..عقدت حاجبيها بضجر كبير وهي تنظر لهما تركز بعينيها التي طغى عليها سواد الدنيا بسبب ضحكتهما المتشاركة معًا، وما أحرق تماسكها هو اهتمام خالد بها..اهتمام كانت تعتقد أنها تحظى به وحدها، ولكنها كانت مخطئة، لم تعلم متى تركت مكتبها الصغير الذي يوجد في أحد اركان المطعم وتوجهت نحوهما في الخارج..تقحم نفسها كالخرقاء في الحديث بصوتها الناعم الهادئ:
-ما تعرفنا يا خالد؟
رفع عينيه الجامدة نحوها وهو يشير بجذل:
-دي فيفي اخت مجدي، ودي نهى قريبتي.
مدت المدعوة” فيفي” يدها تصافح نهى مبتسمة بهدوء، ولكن صوت مجدي المشاكس جعلها تنتبه:
-انت الوحيد اللي بتراضيها بفيفي دي، كلنا بنقولها يا فايزة.
بدت عينيها كجمرة من النار وهي تراقب ضحكة المدعوة فيفي بدلال وهمسها الانثوي:
-ربنا يخليك ليا يا خالد.
ضربت الكلمات معقل ثباتها وتحديدًا حينما لمحت لمعة غريبة تطفي على عيني خالد، ولأول مرة شعرت بنيران متأججة تكتسح صدرها بعد أن أحست نفسها تهوي من السماء السابعة..اجفلت من مشاعرها المحترقة بغيرة شديدة وكأنه جاء احدهم واضرم النار بفؤادها.
-ايه هنتكلم فين؟
أشار لها خالد نحو مقاعد تطل على الشاطيء، فتحركت معه وترك تلك المسكينة تتلوى كالسمكة حينما يصطادها صياد ماهر رغم محاولاتها في العودة للمياه..رفعت ابصارها بتعالي رغم الهزة القوية التي اطاحت بها فقالت بصوت جاهدت أن يخرج ثابت:
-أنا هروح.
وبلامبالاة أشار اليها:
-خلي مجدي يروحك.
كانت مفغورة الفاة، منذ متى؟ وهو يسمح لها بذلك! هل اختفى شعوره بالخوف من نحوها! كل هذا التغيير المفاجيء طرأ فجأة لمجرد أنها اختنقت بالأمس من نبرة الاتهام الذي كان يحادثها بها.
انتبهت لصوت مجدي يقول لها:
-يلا اوصلك في طريقي، عشان الحق ارجع هنا تاني.
لا تريد شيء سوى الاختلاء بنفسها، تحظى ببعض الوقت كي تعيد حساباتها من جديد، لمحت بطرف عينيها ذهاب بعض الفتيات من المطعم بعدما انتهى عملهما، فرفضت ايصال مجدي متحججة بحاجتها لترتيب بعض الامور قبل عودتها، ثم ذهبت للفتيات تذهب معهم:
-بس احنا مش مروحين يا مس نهى.
تحدثت أخرى بحماس:
-ما تيجي معانا، في نادي هنا بيعمل سهرات حلوة واغاني.
لكزتها أخرى بتحذير:
-ابلة نهى ملهاش في الكلام دا.
تدخلت نهى قائلة بتعجب:
-ليه ماليش، هروح معاكم، أنا نفسي اغير جو.
استسلمت الفتيات لاصرار نهى وبالفعل ذهبوا للمكان المنشود وقبل الدخول خلعت احداهن حجابها ووضعته في حقيبتها، تعجبت نهى من فعلتها وسألتها:
-قلعتي الطرحة ليه؟
اجابت بلامبالاة اثارت انتباه نهى:
-بتبسط كدا اكتر.
كادت نهى التحدث معها بعقلانية ولكن تابعتها صديقتها الأخرى بنفس الفعل، اشتد القلق فوق ملامحها وراحت تقول برفض:
-أنا مش هقلع طرحتي.
-متقلعيهاش عادي، احنا اللي بنحب كدا.
دخلوا وهم يتحدثون فتحركت نهى خلفهم قائلة برزانة:
-غلط اللي بتعملوه دا، الحجاب له احترامه.
لم يعيرا لها أي انتباه، فانتبهت لأخرى تقول بحنق:
-والله قولتلهم يا مس نهى، يا تلبسوا يا تقلعوا مينفعش كدا، أنا يوم ما اخد القرار دا مش هقلعه.
نظرت له نهى بغير رضا وتابعت المكان الممتلئ بشباب كثيرة، واغاني صاخبة تثير الضوضاء..ضغطت على رأسها بألم وضجر..فرقصت احدى الفتيات المرافقة لها:
-هتتعودي يا مس نهى، اتبسطى ومتفكريش في حاجة.
زمت نهى شفتيها بتفكير..فعلاً هي في أمس الحاجة لعدم التفكير، تتمنى أن يبقى عقلها فارغًا بلا شيء..فقط الاستمتاع بما يدور حولها..نظرت لمشروب وضع أمامها فسألت القريبة منها:
-ايه دا؟
-دا حاجة جديدة كدا شبه السفن اب بس حادق شوية بس هيعجبك..
لم تعير الفتاة الانتباه للكزات المتواصلة أسفل الطاولة من صديقتها فمالت عليها تسمع لقولها الموبخ:
-الله يخربيتك، باين عليها ملهاش في الكلام دا.
ضحكت الفتاة بتسلية وهي تنظر لنهى التي تتجرع بامتعاض ثم بدأت تشرب وكأنها اعتادت على مذاقه اللاذع:
-سيبها يا شيخة تروق من البؤس اللي هي فيه، خليها كدا تواكب عصرها…تحسي انها خام اوي.
زفرت الفتاة بقلق وهي تقول:
-ربنا يستر من مستر خالد لو عرف.
أشارت لها بلامبالاة وبدأت في الرقص والاندماج مع الموسيقي، بينما كانت نهى في بادئ الأمر تراقب فقط ما يدور حولها، حتى شعرت بدوار يجعلها تهذي ببعض الكلمات وتتخيل بعض الأمور..كانت حالتها تسوء تدريجيًا حتى فقدت الفتيات السيطرة عليها فكانت مرة تبكي بانهيار واخرى تضحك بشدة أثناء رقصها البهلواني.
قررت احدى الفتيات ان تنقذ الموقف سريعًا وتقوم باخلاء مسؤولياتها امام خالد، فقامت بالاتصال به الذي جاء رده بعد اتصالات عديدة..
-ايوا؟
-أنا انجي اللي بتشتغل في المطعم يا مستر خالد.
كانت الموسيقى صاخبة فحاولت الابتعاد وفي ذات الوقت كانت الفتيات الاخرى يحاولون ابعاد نهى عن ذلك المشروب بقوة بعدما ساءت حالتها..
-مستر خالد…مس نهى اصرت تيجي تسهر معانا في نادي ***** وشربت كتير ودلوقتي مش عارفين نعمل معاها ايه؟
تشنج عنقها بقلق حينما استمعت لصوته المتسائل بغضب امتزج فيه الاستنكار:
-مين دي اللي شربت!
-مس نهى…بس والله ملناش دعوة، هي اللي اصرت.
استمعت لشتائم غاضبة منه عبر الهاتف..ومن بعدها انقطع الاتصال.
***
دخلت مليكة لشقة والدة زيدان تبحث عنه بقلق وخاصةً بعدما اخبرها أنس بنبرته الطفولية الحزينة:
-عمو زيدان تعبان خالص تحت، مش انتي دكتورة انزلي اديله دوا.
لم تجده في الصالة… بل لم تجد أحد، اقتربت من غرفته وكادت تطرق الباب لولا يد قوية جعلت انفاسها تنحسر بخوف بين صدرها وهي تندفع للداخل بقوة..اغلق الباب خلفها بالمفتاح وابتسامته الماكرة تحتل ثغره، فقالت بتلعثم من فرط خوفها:
-ايه دا يا زيدان…والله خضتيني.
التصق بها دون سابق انذار فعادت بقوة للباب..وبقيت محجوزة بينه وبين الباب، وضعت يدها فوق صدره تبعده عنها بقوة بدأت في فقد طاقتها تدريجيًا وهي تنظر لسحر عينيه المعاتبة لها، وخاصةً حينما قال:
-ينفع تسمعي كلام حد من غير ما ترجعيلي.
يقصد موافقتها على حديث سليم، فقالت ببراءة ناعمة:
-مينفعش ارفض كلام اخوك الكبير.
-بس انتي مراتي!
اخشن صوته وهو ينبهها، فقالت بصوت شديد البحة:
-اتكسفت يا زيدان، هرفض ازاي، وبعدين الصراحة فكرة حلوة.
عقد حاجبيه بضجر وهو يقول:
-فكرة حلوة انك تقعدي فوق.
هزت رأسها بغنج وهتفت بشقاوة:
-مبسوطة اوي بنام جنب انس وقمر ومفيش حد بيطبق على نفسي بليل.
رد بنبرة هجومية متسلطة:
-على فكرة ممكن اجيبك هنا تاني وميهمنش كلام حد.
-وتكسر كلام اخوك الكبير.
قالتها بحذر، فاقترب منها أكثر يحتضن وجهها بين كفيه مردفًا بحنق:
-ومشاعري أنا تتكسر عادي.
حاولت ابعاده عنها بعدما لفحت انفاسه الساخنة وجهها، فأضرمت بقلبها وجعلتها ترتجف بقلق من خطوته التالية وقد كان هبط بثغره ينهل من رحيق شفتيها دون أن يراعي حالتها المنصهرة، انحشرت الكلمات بحلقها، وتوقف عقلها عن التفكير وهو يفرض سيطرته عليها بهذا الشكل، فكاد يعتصر خصرها بين يديه القوية..أما هو فلم يأبى لشيء سوى أن يهدأ من نيران اشتياقه لها، لقد حرمه سليم من اختلاس قبلته التي كان يطوق إليها وهي في مرقدها نائمة..انفصل عن واقعه وذاب مع انوثتها الخطيرة ولكن…حدث شيء لم يتوقعه حينما انتبه لطرقات متتالية من قبل..سليم ويزن.
-زيدان افتح.
ابتعدت مليكة كالمذعورة تهمس بحرج شديد:
-يالهوي اتفضحت، متفتحش.
نهرها بضيق:
-انتي مراتي.
امسكت ساعديه تقول برجاء والخجل يكسو ملامحها:
-عشان خاطري هتكسف من اخواتك، والله اقولهم انك ضحكت عليا وجبتني هنا.
رمقها باستخفاف، فزادت طرقات الباب المتتالية، فجذبت انتباهه بقولها:
-استخبى فين؟
-تحت السرير.
رمقها بتحدٍ وهو يشير لها بنظرة مستفزة قاسية:
-انزلي تحت السرير.
ومع طرقة حادة هبطت فوق الباب نزلت بذعر أسفله والخجل يغزو ملامحها….
__________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)