رواية غير قابل للحب الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم منال سالم
رواية غير قابل للحب الجزء التاسع والعشرون
رواية غير قابل للحب البارت التاسع والعشرون
رواية غير قابل للحب الحلقة التاسعة والعشرون
استخدامه لهذه النوعية من التلميحات المتوارية كان مُحيرًا ومربكًا للغاية، ما الذي يمكن أن يمنحه لي أكثر من مجرد لقب رسمي؟ هل واجهة اجتماعية مثلًا؟ لا أعتقد ذلك، فقد ظفرت بها، والجميع يعاملني بتبجيلٍ واحترم، ولا أظنه الحب، فهذه المشاعر المرهفة مُحرمة في عالمه الغارق في الظلام المُوحش، أما إن كان يعني طفلًا، فقد أنذرني منذ اللحظة الأولى بقتله لما قد يحتويه رحمي إن غفلت عن تناول أدويتي، إذًا ما الذي يقصده؟
تركني “فيجو” متخبطة، وغارقة في حيرتي، ليتجه خارج الغرفة ليجري عدة اتصالات، بقيت هائمة في موضعي أتطالع ثوبي البراق بنظراتٍ سارحة، بدوت عاجزة عن تفسير فحوى كلماته، في الأخير بعد تملك اليأس مني رددت لنفسي بجديةٍ:
-هو يحاول التلاعب بي!
ظللت أكرر بخفوتٍ، وقد انقلبت سِحْنتي:
-كنت سأقع في فخ تصديقه، اللعنة، هو لا يكف أبدًا عن تضليلي.
انحنيتُ لالتقط الثوب بيدي، ثم أرحته على ساعدي، وأنا لا أزال أحادث نفسي:
-يظن بذلك أني لن أخرج عن طوعه.
سرت ناحية غرفة تبديل الثياب، وصوت غير مسموع يردد في عقلي:
-وهل أقوى على ذلك؟
توقفت أمام الأرفف أحدق فيها بنظراتٍ حائرة؛ لكن الصوت الداخلي ظل يقول:
-وما الذي بيدي لأفعله؟ لم يعد أي شيء يهم الآن، فأنا بِتُ في الوحل، وسأكون بعد ساعات مثلهم، قاتلة!
تنهدتُ مليًا في ملل منزعج، ورحت أتكلم بصوتٍ شبه مرتفع
-يا إلهي، أنا لا أستطيع فهمه مطلقًا، كيف يمكنني التعامل مع شخصية غامضة مثله؟
أردت إراحة عقلي من التفكير التحليلي، وانشغلت باختيار المناسب من الأحذية والحُلي لتتطابق مع الثوب اللافت، كم بدا ذلك بالنسبة لي أكثر صعوبة وترددًا! فأنا لستُ من هواة تنسيق الثياب وملحقاتها بشكلٍ أنيق وجاذب في نفس الآن، ومع ذلك بذلت أقصى طاقاتي للتوفيق بين المتاح من الخيارات.
…………………………………………
أمام المرآة اللامعة، وقفت لبرهةٍ أتأمل هيئتي، الثوب كان ملائمًا بدرجة لم أكن أتخيلها، مررت يدي على القماش الناعم لأشعر بملمسه الحريري على بشرتي، انخفضت نظراتي نحو ساقي اليسرى التي برزت من الفتحة الجانبية الطويلة. ضممت الطرفين قليلًا، ثم سويت بيدي شعرة لاحظت نفورها من مقدمة رأسي، قبل أن أديرها للجانب لأتأكد من ضبط الكعكة التي عقدها لكومة شعري. كنت قد حررت خصلتين وتركتهما تنسدلان على وجنتي في التفافة متناسقة.
ما إن فرغت من هندمة شعري حتى أمسكت بالفرشاة، ووضعت مسحة من مساحيق التجميل المتراصة على تسريحة المرآة، كما أفرطت في وضع أحمر الشفاه ليتطابق مع لون الثوب الصارخ. نظرة أخيرة ألقيتها على نفسي بعد أن تأنقت، وتألقت، وارتديت الأبهى من كل شيء، أطلت النظر فيما أصبحت عليه بافتنانٍ واضح، للحظة شعرت بالرضا عن حالي، ولكن راودني ذلك السؤال المحير، ماذا إن رآني “فيجو” على هذه الوجاهة الزائدة؟ أتراه سيعجب بي كشخص واله متيم يهيم شوقًا؟ أم فقط سيمنحني نظرات إعجاب مجاملة كتقدير لمجهودي المبذول لأبدو فاتنة؟ عبثت بخاتمي وأنا أوجه اللوم لنفسي لإفراطي في الاعتقاد في شيء لن يحدث إلا في خيالي الأبله:
-ما الذي تفكرين فيه الآن؟ أفيقي “ريانا”.
ابتعدت عن المرآة، ولم أتوقف عن توبيخ شخصي:
-لماذا أصبحتِ رومانسية هكذا فجأة؟ هل هذا فردٌ يؤمن بالحب لأقع في غرامه؟
جلستُ على المقعد المبطن الخفيض والملاصق لحافة الفراش لأضع الحذاء في قدمي، أحكمت ربط أشرطته الجلدية، ونهضت في تأنٍ، تفحصت شكل الحذاء في قدمي، كنت راضية كليًا عنه، فلونه كان مماثل للون الثوب، لذا بدا كل شيء متكاملًا، حقًا من يراني على تلك الحالة يظن أني ذاهبة في مقابلة رومانسية، لا لتنفيذ جريمة مأساوية. تأهبت للخروج بعد أن سحبت نفسًا عميقًا عبَّأت به رئتي، في بادئ الأمر كنت أسير بثباتٍ، وثقة، إلى أن بلغت الدرج، أصبحت أكثر ارتباكًا وتوترًا، استنكرت ما يعتريني من اضطراب لمجرد تخيل نظرات “فيجو” ناحيتي.
مجددًا تنفست بعمقٍ، وأكملت هبوطي على درجات السلم إلى أن وصلت إليه، حاولت جاهدة أن أرسم ابتسامة لبقة صغيرة على محياي، لأخفي ورائها العواصف الدائرة في دواخلي وأعماقي. رفعت ناظري تجاهه ما إن أصبحت في مرمى بصره، رأيتُ هذه اللمعة تتوهج في حدقتيه، فارتفع الخفقان في قلبي، بلعت ريقي، وسألته لأغطي على ما ينقبض توترًا بين ضلوعي:
-أهذا جيد للتمويه؟
أكاد أجزم أني شعرت به يكتم أنفاسه ليضبط انفعالاته بعد أن رآني في أبهى صوري وأكثرها إغراءً وإغواء، ظهر ذلك على قسمات وجهه المشدودة، شملني بنظرة مليئة بأشياءٍ تؤكد حدسي، وقال بعد هنيهة بزفيرٍ أحسست بثقله:
-إنه رائع للغاية.
تقدم ناحيتي دون أن يحيد بعينيه عني، فشعرت بهذه الرجفات المتواترة تضرب أوصالي بلا هوادة، وقف قبالتي، وراح يتأملني بنظراتٍ ضاعفت من هواجسي بشأنه، بسط كفه بشيء براق، انعكس لمعانه في عيني، رفعه لأراه قبل أن يقول مادحًا:
-ينقصك ذلك فقط لتكوني كـ “فينوس”.
سألته في لعثمةٍ خفيفة:
-ما هذا؟
وضع كفه على كتفي ليديرني برفقٍ، فأصبح ظهري مقابل صدره، شعرت بلمسة من أصابعه على منحنى عنقي، فنالت مني قشعريرة لذيذة، لأحس بعدها بملمس بارد يلتف حول رقبتي، رفعت يدي لألمس الشيء المعدني الذي طوقني، فوجدته يخبرني في صوتٍ هامس وعذب:
-إنها لأجلك.
منحني “فيجو” قلادة مصنوعة من الألماس، لتتطابق مع الخاتم الذي أرتديه في إصبعي، حبست تأويهة غادرة كادت تنفلت من بين شفتي حين مسَّ جلد عنقي بشفتيه، لسعتني أنفاسه، وعلا الدبيب في قلبي، لم أرغب في الانسياق وراء الوخزات الحسية التي راحت تثور وتزأر بداخلي، وسألته في لهجة جمعت بين الجدية والهزل:
-أهذه هدية ما قبل القتل؟
شعرت به يبتعد عني، فاستدرت لأنظر إليه، رأيت كيف بدا وجهه جامدًا، جاء رده مخالفًا لتوقعاتي بشأن ما ظننت:
-لا.
أصابني بالحيرة، وسأمت من البحث عن مبررات لما يفعل، لهذا سألته دون مراوغة:
-إذًا لماذا ابتعتها؟
أجاب في هدوءٍ وهو يدس يديه في جيبي بنطاله الكحلي:
-لأني أريد ذلك.
اغتظت من تحايله وهروبه عن منحي ما أريد سماعه، فهاجمته بتحيزٍ ملحوظ:
-حقًا أنا لا أفهم تصرفاتك، تكاد تناقض طبيعتك المعهودة، لماذا تعاملني مؤخرًا بلطافة وأنت مع أدنى خطأ تصبح وحشًا كاسرًا؟!
أخرج يدًا من جيبه، ووجه ذراعه ناحيتي لأتأبطه وهو يخبرني:
-هيا، سنتأخر.
نفخت بصوتٍ مسموع، ورحت أبرطم بكلماتٍ مبهمة قبل أن أعلق ذراعي على خاصته، نظرت إليه من زاويتي، فوجدته لا ينظر إلا أمامه، من جديد زفرت عاليًا لأعبر عن ضيقي من تجاهله المَغيظ؛ لكنه أبقى على بروده واستطرد:
-انتبهي خلال سيرك.
رددت باستخفافٍ هازئ وأنا أشيح ببصري بعيدًا عنه:
-لا تقلق، لن أتعثر وأمزق طرف الثوب.
أسرعت في خطاي دون أن انتبه حقًا لذيل ثوبي الذي علق في كعب حذائي، وكاد يجعلني أنكفئ؛ لكنه كان يقظًا لحركتي المزعوجة، فشعرت بقبضته تشتد على ذراعي، وبيده الأخرى تلتف حول خصري ليمنعني من السقوط، قبل أن يأتي تعقيبه في نوعٍ من التحذير المستتر:
-ألم أقل لكِ؟
صحت به في قنوطٍ عابس بعد أن استللت ذراعي منه:
-أتقصد أني خرقاء؟
وقبل أن يضيف شيئًا واصلت هجومي المتحفز مشيرة بسبابتي:
-أنت من دعست على طرفه لإيقاعي!
رأيت كيف نظر إلي بهذه النظرة الجريئة النافذة والمليئة بالرغبة، ليخبرني بلا مزاحٍ:
-إن أردت تمزيقه صدقيني لن أتردد.
أحسست من نبرته أنه جاد فيما صرح، كما أن تخيل قيامه بالأمر أرسل وخزات متوترة إلى مواطني الحسية، أثرت عدم مناطحته، وتخيلت عن تذمري الزائد، لأتنحنح مرددة بصوتٍ متراجع:
-هيا .. لقد تأخرنا.
أشار لي لأتأبط ذراعه مُجَدِدًا تحذيره:
-من جديد انتبهي لخطواتك.
لم أنبس بكلمة، ومددت ذراعي لأضعها في موضعها السابق، وصوت دقات قلبي يلاحق خطواتي المضطربة.
……………………………………………….
على غير العادة، قرر “فيجو” أن ننطلق بمفردنا في سيارتنا، دون سائق يصحبنا في مثل هذه النوعية من الزيارات الرسمية، لكننا كنا وسط أسطول من سيارات رباعية الدفع، تحركنا جميعًا معًا وكأننا في موكبٍ رئاسي مهيب، يفصل بيننا مسافات قصيرة منتظمة. احتفظت بصمتي غالبية الوقت؛ لكن رأسي لم يكف عن التفكير أو التساؤل، فكل الأمور باتت محيرة في الفترة الأخيرة، ومشاعري لم تعد مرتكزة على الكراهية والعداء بنفس القدر من القوة، بل تناقص ذلك رويدًا بدرجة جعلتني أتخبط، ولم تبقَ كذلك على الحياد أو السلبية، لقد حسمت أمرها واختارت خيانتي، كما فعل من قبلها جسدي.
انتشلني “فيجو” من حلقة الصراع المحتدمة في رأسي حين مد إصبعيه بالإبرة تجاهي، انتفضت في جلستي، ونظرت إلى يده وهو يأمرني قبل أن أرفع عيني إليه:
-ضعي هذه في حقيبتك الصغيرة.
أخذتها منه، وفحصتها بنظرة عابرة، لأعلق بعدها ساخرة وأنا أضعها في حقيبة يدي الصغيرة:
-ظننت أنك نسيتها!
لاحت ابتسامة صغيرة على زاوية فمه وهو يخبرني بلطافةٍ:
-وهل هذا يُعقل؟ فأنتِ نجمة اليوم.
كعادته احتوت كلماته على تلميحاتٍ غير مريحة لي، خاصة أن نظراته المتأملة أشعرتني باندلاع الرغبة في صدره، عمدت سريعًا إلى تغيير الموضوع، وأردفت قائلة وأنا أبقي عيناي على جانبي من الطريق:
-أرى أنك اصطحبت جيشًا معنا.
قال لي بجديةٍ تامة:
-نحن ذاهبون إلى أعدائنا، فمن الواجب أن نتخذ كافة التدابير اللازمة وأن نحتاط جيدًا لأي غدر متوقع.
وترتني كلماته، فسألته بتوجسٍ بدا على ملامحي ونبرتي ونظراتي:
-وماذا عني؟
تطلع إلي في لحظة قبل أن يحدق في الطريق، فأكملت التعبير عن مخاوفي التي راحت تتصاعد:
-ما الذي سيحدث إن اكتشف أمري؟
وجدت يده تمتد لتمسك بكفي المسنود على حجري، قبض عليه قليلًا، وأخبرني مؤكدًا وهو ينظر تجاهي:
-لن أسمح لأحد بأن يصيبك بسوء، ثقي بوعدي.
تفاجأت بتصرفه المراعي، وقلت كنوعٍ من مقاومة ما يختلجني الآن من اضطراب متعاظم:
-أعذرني، تعلمت منك ألا أثق بأحد.
ثم سحبت يدي من أسفل قبضته، لأدعي حاجتي لضبط مقدمة رأسي بها. رعشة خفيفة نالت من بدني كأنما ضرب بي البرق، وقد راح يداعب بظهر كفه الجزء البارز من فخدي أسفل ثوبي. انكمشت في جلستي، ونظرت إليه بتوترٍ ملحوظ، فاستطرد بتسليةٍ:
-مبهر، أنتِ مستمعة جيدة لنصائحي، ولهذا أنتِ مميزة.
أبعدت يده بلطفٍ، وسألته وأنا أجاهد لأبدو متماسكة:
-أهذا مدح أم سخرية؟
جاء رده صادمًا على كافة المقاييس والأصعدة:
-إعجاب!
اتسعت حدقتاي في ذهولٍ، وانفرجت شفتاي لتسأله بغير تصديقٍ:
-ماذا؟
انخطف قلبي مرة واحدة عندما وجدته يميل ناحيتي ببطءٍ، كأنه ينوي تقبيلي، خاصة مع نظراته المسلطة عليه، تلك التي تحوي إغواءً لا يمكن مقاومته؛ لكنه لم يفعل ذلك، بل أشار بنظراته العابثة نحو الخارج موضحًا في مكر:
-الملهى يوجد هناك.
كان حقًا يجيد اللعب بأعصابي، واستثارة انفعالاتي، يعرف كيف يستحث مشاعري، ويؤثر فيها بقوةٍ، وفي نفس الوقت يمنع عني ما أرغب في التمتع به. حبست أنفاسي في ترقبٍ إلى أن تراجع عني وهذا الصوت يتساءل في عقلي:
-ماذا به؟ لا أصدق أنه يفعل بي ذلك.
………………………………………..
في منطقة راقية للغاية، امتازت بانتشار النوادي الليلية الخاصة بروادٍ ينتمون لطبقة اجتماعية معينة غير عموم الناس، بدأت السيارات في إبطاء سرعتها، توقعت أن نقف عند المدخل الخاص بالملهى الذي أشار إليه “فيجو” من بوابته الأمامية، كما يفعل البقية؛ لكن انحرفت السيارات نحو طريق جانبي، شبه معتم، يعج بعشرات الأشخاص من ذوي الأجساد الضخمة والسترات السوداء، حيث يقومون بحراسة وتأمين المدخل الخاص بالضيوف المميزين.
شعرت بانقباضة في صدري، مع تلاحق نبضات قلبي، لن أنكر أن إحساسي بالخوف قد بدأ يتخذ دوره هو الآخر، فما أراه الآن يوحي بحربٍ وشيكة.
ذكرتني هيئة المكان الجانبية بما عشته من تجربة مريعة في طفولتي، حين قتل “ماركوس” أثناء محاولة اختطافي، لم أكن قد تجاوزت الذكرى بعد حتى طفا بعقلي ذكرى تعذيبي على أيادي جماعة الروس، دب الرعب بأعماقي، واحتل الخوف كل خلجات جسدي، أحسست بالمزيد من موجات الذعر تجتاحني كلما أصبحنا أكثر قربًا من المكان، يبدو أن الظلام غطى على امتلأ به وجهي من أمارات الرعب. انتفضت في فزعٍ مرئي عندما أخرجني “فيجو” من شرودي المرتاع عندما قال بهدوءٍ:
-هيا بنا.
ترددت في النزول، وسألته دون أن أبذل أدنى محاولة لإخفاء هلعي:
-هل هذا هو الملهى الروسي؟
أجاب نافيًا:
-لا، إنه تابع لأتباعنا المخلصين، يمكن اعتباره مجازًا بأرضٍ محايدة.
سألته والتوتر يتجلى أكثر في عيني:
-هل مؤمن جيدًا؟
قال مؤكدًا بنبرةٍ جادة للغاية:
-لم أكن لآتي بكِ دون أن أتأكد من سلامتك.
في لحظة ضعف حقيقية، تخليتُ عن الحاجز الذي أضعه في علاقتنا، واعترفت له بصدقٍ وأنا أمد يدي لأضعها على عضده:
-“فيجو”، أنا خائفة حقًا، لن أدعي القوة أو غير ذلك؛ لكني مذعورة للغاية.
شعرت بعضلته تشتد أسفل قبضتي، وتطلعت إليه بتوسلٍ عاجز، فرمقني بهذه النظرة الغريبة، المتأرجحة بين النقيضين، لينطق بصوتٍ ثقيل؛ كأنه يخوض حربًا بداخله:
-كفى دلالًا، وهيا.
يبدو أنه لا مفر من مصيري المحتوم في هذا العالم المظلم، سحب ذراعه من تحت يدي، وهبط عن السيارة أولًا، بينما وجدت أحد أفراد الحراسة يقوم بفتح الباب الملاصق لي، ترجلت من السيارة، بعد ثوانٍ معدودة حاولت فيها استجماع شجاعتي الهاربة كليًا، شعرت بدقات قلبي تقصف بقوة، انضم إلي “فيجو” ولف ذراعه حول خصري، أكاد أظن أنه استشعر الرجفة التي تصيبني الآن، فزاد من ضمه هامسًا في أذني:
-لا تخشي شيئًا وأنا إلى جوارك.
ربما طمأنتني كلماته قليلًا، ومع ذلك فهي لم تقضِ على رهبتي، سِرت في خطواتٍ شبه مرتبكة نحو المدخل، متوقعة حدوث الأسوأ بين لحظة وأخرى.
……………………………………………..
للوهلة الأولى، عندما تتأمل المكان من الخارج تظن بديهيًا أنك في المنطقة الخاصة بمكب النفايات؛ لكن ذلك مجرد تمويه محكم لخداع الغرباء، فخلف ذلك الباب الصدئ توجد منطقة كبار الزوار، والشخصيات الهامة للغاية، فما إن فُتحت الكتلة المعدنية حتى بدا المكان على النقيض كليًا، ظهرت مظاهر البذخ والثراء بوضوح مبهر، كأنك في منتجع ترفيهي فائق الخدمة.
خطفت الأضواء البراقة نظراتي، ولم أعرف إلى أين أسلط ناظري تحديدًا، تركت لـ “فيجو” توجيهي، فعبرنا ممرًا داكنًا امتد لبضعة أمتارٍ، قبل أن نهبط على عدة درجات للسلم نقلتنا إلى حيث الصخب؛ لكننا لم ننخرط وسطه، بل دفعني برفقٍ لانحرف نحو الجانب، ثم سار بي ناحية منطقة معزولة عن البقية، مُقسمة إلى ما يشبه الحجرات الخاصة، يفصل بينها حواجز خشبية وزجاجية؛ لكنها تمكنك من رؤية كل ما يدور حولك.
ما إن اقتربنا من المكان المخصص لنا، حتى رأيتُ أحدهم كان جالسًا في المنتصف ينهض من جلسته المسترخية، ويبعد عنه الفتيات المجتمعات حوله، رسم على وجهه ابتسامة عريضة، وفرد ذراعيه في الهواء مرحبًا:
-أهلًا بالزعيم.
تقدم ناحيتنا فبدا طوله مقاربًا لزوجي؛ لكنه لا يفوقه، كما كان جسده مثله ممتلئ العضلات، ووجهه به لمحة من الشر. وجدت نظراته قد ارتكزت علي بشكلٍ جرئ سبب لي الحرج، فأشحت ببصري مدعية تطلعي لما يحيط بي، سمعت “فيجو” يخاطبه في برودٍ يشوبه التعجرف:
-اخترت مكانًا مناسبًا لهذا الاجتماع “ألكسي”.
فهمت من الاسم الذي ناداه به أنه الشخص المعني باللقاء، وحاولت ألا أنظر ناحيته وهو يتكلم مع زوجي في غرور مصطنع:
-تعرف أن ذوقي مميز في انتقاء الأفضل.
تلقائيًا اضطررت للنظر تجاهه عندما سأل بشكلٍ مباشر:
-أهذه زوجتك؟
شعرت بالمزيد من التوتر المختلط بالحرج ينتابني، في حين لم ينطق “فيجو” بشيء، وكأن صمته قد أعطاه الرد. تابع “ألكسي” بما بدا لي تجاوزًا رغم مدحه المجامل:
-إنها حقًا كما قالوا أميرة جميلة، بل رائعة الجمال.
انفرجت شفتاي في دهشة وقد رأيته يتجه ناحيتي ينوي تقبيلي، تجمدت في مكاني في تخوفٍ؛ لكن “فيجو” اعترض طريقه واضعًا يده على صدره لإيقافه وهو يخبره بصرامةٍ شديدة:
-غير مسموحٍ لك بالاقتراب منها…
طريقته الحامية التي فرضها في التو أشعرتني بالأمان، خاصة مع انتشار الخوف بأوصالي، رأيت كيف حول “ألكسي” نظراته المزعوجة نحوه، و”فيجو” لا يزال ينذره بوجه قاسي الملامح:
-ولا تنسى أن فعلتك الخبيثة لم تمر بعد دون محاسبة!
رفع “ألكسي” كفيه في الهواء موضحًا:
-أعتذر عن تجاوز أحد رجالي، وقد قمت بقطع يده كعقابٍ رادع.
حملقت في وجه “فيجو”، فوجدته قد ازداد قساوة، لوهلة شعرت بالامتنان لكوني إلى جواره، أقع تحت حمايته، ظللت أنظر إليه وهو يستطرد معقبًا عليه بغير تساهلٍ:
-لا يكفيني ذلك.
اتجهت مرة ثانية بنظري نحو “ألكسي” وهو يطلب منه:
-حسنًا لنتفاوض على ما تريد ونحن نجلس…
ثم خاطبني في ودٍ لم استسغه:
-تفضلي هنا سيدتي.
كدت أتحرك إلى حيث أشار لي بالجلوس؛ لكن ضمة “فيجو” أوقفتني، نظرت إليه بتحيرٍ، فلم ينظر ناحيتي؛ لكنه قام بنقلي بين ذراعيه نحو الجانب الآخر، لأكون في منأى من اقتراب “ألكسي” أو أعوانه. تصرفاته معي وإن كانت متسلطة أفادتني إلى حد كبير، فموضع جلوسي كان محميًا من أي مضايقات، والتصاق “فيجو” بي بث بداخلي إحساس الاطمئنان حتى كدت أتناسى أني جئت إلى هنا من أجل القتـــل.
………………………………………………
وترني الترقب، وأنا أطبق على شفتي لا أعلق بكلمة على ما أسمعه من حواراتٍ، تسترت بالسكوت مجازًا، وبدأت أتناول المشروب المقدم إلي، دون أن أسرف في الشراب، فأنا بحاجة لأن أكون في قمة وعيي خلال ارتكابي لجريمتي المحددة. غادر “ألكسي” بعد برهةٍ وتركنا، وظللت كما أنا صامتة إلى أن جاءت “سيلفيا”، حينئذ ملت نحو “فيجو”، وهتفت في أذنه بربكةٍ قلقة:
-إنها هنا!
نظرت أمامي فرأيتها قد أصبحت في مواجهتي وهي محدقة بي بتركيزٍ متعمد، ازددت تلبكًا واضطرابًا، خاصة عندما انتقلت للوقوف قبالتي، كانت ممسكة بكأس مشروبها، تؤرجحه بين أصابعها بخفةٍ، حدجتني بنظرة دونية وهي تقول بازدراءٍ مباشر:
-لقد جئت بدميتك العاهرة إلى هنا، يا لك من جريء!
أحسست بالإهانة الشديدة من وصفها المسيء، وراح شعور الخوف يتناقص ليحل بدلًا منه الضيق والانزعاج. استمرت “سيلفيا” على طريقتها البغيضة في الكلام فأضافت:
-أليس من المفترض أن يكون مكانها الفراش؟ أم أنك سئمت منها، وقررت إعطائها لغيرك لمضاجعتها؟
شهقة مذهولة انفلتت مني، وأوشكت على الخروج عن صمتي لأرد عليها بعد أن تجاوزت كثيرًا عن المسموح لها، إلا أن “فيجو” سبقني وقال محذرًا بلهجة حازمة:
-إياكِ وقول المزيد، سأقطع لسانك…
اشتاط وجهها تحت الإضاءات البراقة، رأيتُ كيف تلونت عيناها بحمرة مغتاظة عندما تابع:
-هي ليست كابنتك، تفتح ما بين ساقيها لمن يقدم لها جرعة الكوكايين.
صرخت به “سيلفيا” في حدةٍ وقد ألقت بالكأس من يدها ليتهشم في التو:
-أنت من جعلتها تدمن بخيانتك المتواصلة، أنت من دمرت حياتها.
ثم همت بالانقضاض عليه محاولة الفتك به وهي تواصل صراخها المهتاج:
-وستكون نهايتك قريبة.
قبل أن تصل إليه أبعدها أحد أفراد التأمين، أمسك بها من رسغيها، ودفعها للخلف بقليلٍ من الخشونة، فظلت تصرخ فيه:
-دعني، سأنتقم منك “فيجو”، سترى.
رد عليها “فيجو” بنبرة هازئة:
-في المرة القادمة استخدمي شيئًا فعالًا غير السم.
جن جنونها، وهدرت في حنقٍ أشد:
-سأقتلك، وسأقتل عاهرتك تلك.
سلطت نظراتها علي، فاشتعلت بشرتي بغيظٍ، وجاش الغضب بصدري، نجح فرد التأمين في إبعادها كليًا عن محيطنا، لكن إهانتها ظلت تحرقني، لقد نجحت هذه المرأة في تأجيج مشاعري المحتقنة، وأوصلتها إلى ذروتها، تبدد ما كان بي من خوفٍ، وهتفت في تعصبٍ:
-لن أسكت عن تلك الإساءة.
علق “فيجو” بهدوءٍ:
-جيد، استخدميها في تنفيذ مهمتك، إنها لا تراكِ أكثر من مجرد عاهرة تدفئ لي الفراش.
هاجت بي الانفعالات، فرحت أسأله بغيظٍ:
-هل تتعمد استفزازي؟
جاوبني بنفس أسلوبه الهادئ المستثير للأعصاب:
-بل أخبرك بحقيقة ما تراه فيكِ، لئلا تأخذكِ بها شفقة.
قبل أن أعقب عليه جاء “ألكسي”، وقاطع ما بيننا من نقاشٍ، فتراجعت في مقعدي وأنا أسحب كأس المشروب لأتجرع ما به دفعة واحدة، ظللت أحدق بوجه غائم فيمن حولي، تتراقص في عيني شرارات الغضب، رأيت “ألكسي” يميل نحو “فيجو” ليحدثه بشيء لم أستطع سماعه بوضوحٍ بسبب الصخب السائد. عادت الحيرة الممزوجة بالغضب تتصارع في رأسي، فهناك حلقة مفقودة بمسألة زواجه السابق، كم وددت لو كان صريحًا معي، أو على الأقل أطلعني على ذلك الأمر بدلًا من التفاجؤ به؛ لكن في عالمنا الأوامر تصدر، والطاعة إلزامية!
كان من المفترض أن أشعر في هذه اللحظات الحرجة بالتردد والخوف؛ ومع ذلك وللغرابة استبدت بي مشاعر الغيرة والحقد، بتُ أدرك أني تغيرت عن السابق، أصبحت نسخة جديدة من شخصيتي القديمة المتسامحة ذات الطيبة والأخلاق، طالتني تأثيرات “فيجو” السوداوية غير الرحيمة، وراحت تصبغني بما يتفق مع طبيعته ويُرضيه. استفقت من سرحاني المشحون بلمسة رقيقة من يده على ظهري، استدرت ناحيته، فخاطبني هامسًا في أذني بصوت محفز، وعيناه تشيران إلى بقعة محددة:
-إنها في انتظارك بالحمام …………………………………… !!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غير قابل للحب)
تم