رواية حجر ينبض الفصل الخامس عشر 15 بقلم فريحة خالد
رواية حجر ينبض الجزء الخامس عشر
رواية حجر ينبض البارت الخامس عشر
رواية حجر ينبض الحلقة الخامسة عشر
– يُخرج؟ لأ طبعًـا يا شيماء ، إزاي أسيبه يُخرج يعني!!
أنا اديتله حُقنة مُهدّئة لإنه كان مُنهار أول ما عبد الرحمن خرج من عنده ، والصّبح هبلّغ دُكتور معتز أو دكتور عُمر أنا ما أقدرش أتصرف من مزاجي مع الحالة دي بالذّات.
مش عارفة ليه لمّا عُديّ بلّغني إنه ما خرجش من المُستشفى وإنه لسه موجود حسّيت براحة من جوّايا ، يمكن لإن لسه عندي أسألة كتير عايزة أواجهه بيها؟!
– شيماء انتِ معايا؟!
– ها.. آه آه يا عُديّ.
– شيماء أنا خطيبك مش حد غريب! وِ من حقّي أعرف إيه بيحصل بالظّبط!
أخدت نفس طويل ، خرجته بهدوء وِ اتكلمت بثبات :
– حقك طبعًا يا عُديّ ، ادّيني فُرصة بس أهدى وِ أستوعب الأول وهفهمك كل حاجة.
– براحتك يا شيماء ، أنا هكون مستعد أسمعك في أي وقت تقدري تتكلّمي فيه.
– شُكرًا يا عُديّ بجد.
– الشّكر لله يا شيما ، انتِ هتيجي المُستشفى بُكرة مش كده؟
فكّرت لثواني وبعدين رديت عليه :
– أيوة هآجي طبعا.
– طيب هسيبك تكمّلي نُومك وِ هروح أنام أنا كمان ونتقابل الصبح.
– ماشي تصبح على خير.
أنا بحب الوضوح في حياتي ، مبحبش الألغاز أبدًا ، مش هسمح بأي شيء يعكّر عليّا أنا وأخويا صفاء حياتنا.
هروح المُستشفى بكرة ، مش عارفة إزاي هتحمّل أشوفه تاني ، بس لازم أحط النقط على الحروف ، أنا عايزة أعرف هو عايز مني أنا وأخويا إيه بعد السنين دي كلها؟!
عايزة أعرف إيه اللي حصل يحوله من شيطان مايفرقش معاه شيء لإنسان ندمان!!
ومن حجر لِـبني آدم بيبكي بحرقة وِ حزن على الماضي!
رغم إنه ميستاهلش مني إني أسمعه ، بس أنا مُضطرة أسمعه علشان أخلص من العبء اللي على قلبي ، عايزة أخلص من عبء صَـالِـح دروِيش ، بقى عامل زي المُعضّلة واقف في طريق حياتي وِ سعادتي أنا وأخويا.
اتنهدت تنهيدة قويّة ، وِ قمت من السرير ، الظّاهر إني مش هنام النهاردة خلاص..
غسلت وشّي وِ رفعت راسي للمراية اللي فُوق الحُوض ، لِـ لحظة دقّقت النظر فيّا ، وِ ابتسمت..
أنا مش قادرة أفتكر ملامح أمّي ، بس شيفاها فيّا.
فكرة إني شبهها دي مفرّحاني أوي!
فكرة إن كل اللي يشوفني يفكّرني فيروز دي محسساني بفرحة لا مُتناهية!
يعني أنا كل ما توحشني وقلبي يوجعني عليها أبص لنفسي في المراية هشوفها.
خرجت قعدت في البلكونة وسيبت الهوا يخبط فيا بقوّة ، كنت متغطية بشال خفيف وِ ببص للطّريق ، سرحت في العربيّات اللي رايحة وِ جايّة ما أخدتش بالي من دخول عبد الرحمن البلكونة ألا وِ هوّ بيحط إيده على كتفي ، اتخضّيت وِ قمت من مكاني بقلق وأنا بقوله :
– عبد الرحمن! إنتَ كويس يا حبيبي؟! مالك في حاجة!
ابتسملي بملامح مُرهقة وِ عيون حزينة وقال :
– أنا كويس يا حبيبتي ما تقلقيش ، أنا بس قلقت فَـ قمت أشم شوية هوا ، انتِ بقى إيه مصحيكي؟
– كنت نايمة و صحيت على مكالمة من عُديّ فَـ معرفتش أنام تاني ، جيت أشم هوا.
قعد وِ قعدت جنبه ، حاوط كتفي وِ ضمني لحضنه وِ قالّي :
– هوّ كان عايز حاجة؟
– أبدًا ، كان بيستفهم عن اللي حصل ، وِ أنا قلتله لما أبقى كويسة شوية وأقدر أستوعب اللي بيحصل هفهمك كل حاجة.
– هوّ انتِ عرفتي إزاي!؟ علىٰ حسب كلام صَـالِـح دروِيش لما دخلت عنده الأوضة في المُستشفى قال إنه محكاش ليكِ حاجة ، وإنك انتِ كنتِ عارفة كل حاجة لوحدك!
بدأت أحكيله كُل حاجة حصلت ، من أوّل ما عُديّ كان واقف بيناقشني باستغراب عن حالة في غيبوبة من عشرين سنة لـحد ما وصلت بيه لِـ النّهاردة وِ محاولتي الفاشلة إني أسِمّ صَـالِـح دروِيش بعد ما اكتشفت كل حاجة! وهوّ كان مستغرب جدا ومش متوقع إني عملت كل ده ، رد وِ قالي بِـلُوم :
– يااااه ، مرّيتي بِـكُل ده لوحدك!!
شكّيتي وِ اتلغبطّي وِ عيشتي في كل الصدمات دي من غير ما تفكّري تشكيلي همّك؟!
– في الأول كان الموضوع مش في بالي ، كنت بقول سوء تفاهم ، بس بعدين حسيت إن فيه حاجة غلط ولازم أعرف إيه هيّ.
بس كُنت خايفة!! كُنت خايفة لو جيت وِ حكيتلك ما أعرفش أوصل للي عايزاه ، وبعد ما وصلت للي عايزاه اتمنّيت لو إني ما وصلتش لحاجة ، ونويت أنسى كل حاجة عرفتها علشانك ، علشان مافتحش في جرحك من تاني!
رغم إني مش عارفة إيه اللي حصل عشان هويتنا تتبدّل!
ورغم إني مش عارفة مين منصور البحراوي!
ورغم إني مش عارفة أنا مش فاكرة ليه!
بس للأسف إنتَ اكتشفت كل حاجة خلاص.
– يعني ماكنتش صُدفة أسئلتك عن إحنا شبه مين؟ وعن أهل ماما عايشين فين؟
ولا كانت صُدفة الأسماء اللي كنتِ بتقولي إنك نفسك تسمّي بيها ولادنا.
ابتسمت بهدوء وِ قلتله :
– ماكنتش صُدفة ، كُنت بحاول أثبت لنفسي إن دي مجرد شكوك!
بس ردود أفعالكم أثبتتلي العكس وِ علشان كده رحت لِـ الشيخ نُوح.
– ياه الشيخ نوح!! تتخيّلي ما شوفتش الشيخ نُوح ده من ساعة ما خرجت بيكِ من الحارة من عشرين سنة فاتوا..!!
– هوّ ينفع أسألك إنتَ خرجت ليه؟
أخد نفس طويل وِ خرّجه في تنهيدة أطول ، ضمّني ليه أكتر وِ رد على سؤالي اللي قلته باندفاع بنبرة كلها وجع وِ عذاب :
– ما كنتش عايزك تواجهي نفس مصير نُور!
ما كانش باقيلي غيرك ، وِ ما كنتش مستعد أخسرك انتِ كمان ، انتِ وصيّة ماما اللّه يرحمها ليّا وعلشان أنفّذ وصيّتها وِ أحافظ عليكِ مُستعد أدفع دمّي التمن!
الكابوس اللي كنت بصارعه كل ليلة..
القلق اللي كنت بعيشه في كل لحظة..
الخُوف اللي كان متمكّن منّي من وقت ما ماما ماتت..
هوّ رجوع صَـالِـح دروِيش تاني..
مكنتش آخر مرة شفته فيها اللي كانت قبل ما يُغمىٰ عليّا وأنا في حُضن ماما.
تفاصيل اليوم ده عمرها ما هتتمحي من دماغي ، وِ هو بيضربني بالماسورة الحديد في رجلي بكل قسوة ، كنت بموت قصاد عينه ، كنت بعيط وبقوله كفاية ، ماما كانت بتصوت وبتحاول تاخد عني الضّرب بس هوّ كان مُصر..
كإنه كان في نيّته يعجّزني!
كُل مرّة أسند فيها على العُكّاز أفتكر اليوم ده وِ أتوجع ، كإن اليُوم ده كان إمبارح ، كل مرّة أحاول أدوس عليها وأفشل أتعذب كإنّي لسه متعجّز إمبارح!!
شُفته مرّة كمان ، بس المرة دي كانت غير كُل مرّة ، وِ دي بقى كانت آخر مرّة ، وِ اللي بسببها خرجت من الحارة نهائي..
كان عدّى أربع سنين من بعد موت ماما ، كنت بحلم فيهم وأنا صاحي بكابوس رجوعه ، كنت مجهّز نفسي كويّس أوي لو رجع أنا هعمل إيه.. كُنت ناوي على مُوته.. كُنت ناوي أقتله بإيدي زي ما قتل ماما وِ نور وده كان هيكون أقل عقاب ليه!
رجع.. بس رجع تعبان وِ متبهدل وِ حزين واللي يصدمك بقى رجع ندمان!!
يومها بليل كنتِ نايمة في حُضني زي ما متعوّد من وقت موت ماما وِ نور علشان كنتِ بتفوقي على كوابيس كتير ، وِ أول ما سمعت البوابة الحديد بتتفتح فتّحت عيني برعب ، وفي ثانية كنت قايم من مكاني وِ خارج من الأوضة وقفلت ورايا بالمُفتاح ، دخلت المطبخ أستخبّى فيه وسحبت سكّينة وخبّيتها ورى ضهري علشان أول ما يخطّي لجوّه أغرسها في قلبه بإيدي.
سمعت باب الشّقة بيتفتح بهدوء ، سيبته لمّا دخل خطوتين لجوّه وِ جيت من وراه ، حاولت أخرج السكينة من ورى ضهري علشان أقتله ما قدرتش.. اتكتّفت..
اتكتّفت زي ما اتكتّفتي بالظّبط وماعرفتيش تغرسي فيه السّم!
كإن تربية فيروز عائق لِـ انتقامي وِ لِـ خطّتي اللي فضلت ليالي بدرّب نفسي في بالي إزاي أنفّذها ، ما كنتش قادر أستحمل شعور العجز ده ، وِ رميت السكّينة فجأة من إيدي وِ أنا بعيّط ، ادّير بِـصدمة وِ أول ما شافني قالّي بدموع :
– رحيم!
حاول يجي يقرب عليّا ، بس أنا رجعت في ثانيتها لِـورىٰ وِ أنا بعكُز على رجلي ، لمّا أخد باله إني عكزت على رجلي سألني بنبرة صُوت ملهوفة :
– إنتَ.. إنتَ رجلك مالها؟
وقتها كُنت بعيّط ، زعّقت فيه وقلتله :
– وانتَ مالك؟ جاي هنا ليه تاني؟ عايز منّي إيه بعد كل ده؟؟
عجّزتني وِ قتلت أمّي وِ أختي وِ أختي التّانية بتعيش أسوأ أيام حياتها ، مش كفاية كده؟؟ ولا جاي تكمّل وتقتلني أنا وهيّ ما إنتَ قتّال قُتلة ومش مِستبعد منك حاجة!!
رُد.. رُد وِ قُلّي جاي ليه!!!
نزل علىٰ رُكبه في الأرض ، وطّى راسه لِتحت ولمحت دُموعه بتنزل ، سمعته بيتكلّم بِـصُعوبة ويقول :
– ماتوا؟ نُور وِ فيروز ماتوا؟ ماتوا بسببي!!
إنتَ اتعجّزت!! أنا.. أنا اللي عملت كل ده؟!!!
استحالة!! أنا عملت فيكم كده!!
مشيت ناحيته وِ بقيت مش خايف منّه كنت مبسوط بكسرته دي ، نزلت لمستواه في الأرض وِ خبطته في كتفه بإيدي وِ أنا بقوله بقوّة رغم إني كنت بعيط :
– أيوة إنتَ اللي عملت كده!! إنتَ اللي قتلتهم وِ عجّزتني يا صَـالِـح يا دروِيش!!
و أقسم بِـدين اللّه مش هسمحلك.. مش هسمحلك تقرّب منّي أنا أو ندىٰ لآخر يوم في عمرك فاهِم؟!!
رفع عيونه فجأة ليّا ، وِ قام من مكانه وهوّ بيقول بحيرة وبيتلفت يمين وِ شمال :
– نَدىٰ.. نَدىٰ فين؟؟ هيّ فين نَدىٰ!!
عايز أشوفها بالله عليك ، هيّ فين؟؟
أنا كنت خايف ، كنت خايف ألا يأذيكِ ، ألا يكون بيمثّل جو الانكسار والندّم ده ، علشان ياخدك منّي أو علشان يعمل فيكِ حاجة ، اتأكّدت إن المُفتاح في جيبي ، و فضلت أراقبه من بعيد وهوّ بيحاول يفتح باب الأوضة..
كان بيعيّط وهوّ بينادي عليكِ من ورى الباب وبيحاول يفتح ، رجعلي تاني كنت لسّه هبعد عنه لاقيته نزل على الأرض وِ حاول يبوس رجلي ، رجعت خطوة لورى بسرعة فَـ وقعت في الأرض ، كنت بعيّط وِ هوّ بيعيط وِ لأول مرّة هوّ اللي يترجّاني مش العكس..
– أبوس رجلك يا ابني ، أبوس رجلك ، هشوفها مرّة واحدة بس!!
هشوفها وِ آخدها في حُضني مرة واحدة ، مرّة واحدة ومش هتشوف وشّي تاني.
أبوس رجلك يا رحيم ، ندى الوحيدة اللي بتحسسني إن ينفع حد يحبّني ، محتاج أحضنها ، محتاج أشبع منها وأصبر نفسي على عُمري من غيرها.
كنت هضعف قصاد كسرته ودموعه دي كلها..
كنت هضعف قصاده وِ وهو بيترجّاني..
كنت هضعف وأطلع المُفتاح من جيبي ، بس في اللحظة الأخيرة وما أعرفش.. ما أعرفش عملت كده إزاي واللّهِ..
إيدي قبضت علىٰ السكّينة اللي وقعت منّي أوّل ما جِـه ، كنت واقع في الأرض وهيّ ورايا ، مسكتها وعلى غفلة منّه وِ هوّ بيعيّط وبيترجّاني مسكتها وِ غرزتها في كتفه!!
وأنا بغرس السكّينة فيه ، ماكنتش شايف حالته دي لأ ، كنت شايفه وِ هوّ بجبروته بيضرب أمي كل يوم والتّاني..
كنت شايفه وهوّ بيضربني بِـ قساوة ، كنت شايف نور وأنا بدفنها ، كنت شايف ماما وهيّ في فرشتها بتودّع..
عيني ماكنتش قادرة تشوفه وهوّ ندمان ومكسور أبدًا!
أوّل ما صرخ من الوجع ، سمعت صريخك من ورى الباب بتعيّطي وتنادي عليا و بتجربي تفتحي الباب المقفول ، كنت مرعوب عليكِ ، ومرعوب منّه ، ومرعوب أكتر من اللي عملته..
قمت من مكاني جري وأنا بعيّط أكتر ومش عارف حتّى أمشي على رجلي السليمة ، كنت بهز راسي يمين وِ شمال مش مصدّق إني عملت كده!!
هوّ حاول يقوم وهوّ بيبصلي من غير تصديق إني أنا فعلا عملت فيه كده!
لاقيت نفسي بصرّخ وأنا مغطّي وشي بإيديا الاتنين من منظر الدّم اللي غرّق قميصه وبقوله :
– اطلع برّه ، امشي بالله عليك ، امشي بعيد عن هنا..
أنا خايف.. لأ أنا مرعوب.. أنا مش عارف أنا عملت كده إزاي!!
ندى بتصرّخ بالله عليك امشي.. امشي بعيد عن هنا.. بالله عليك.
وقف عند باب الشّقة وِ قال بنفس نبرة صوته المكسورة الحزينة من ساعة ما جِـه بس كان بينهج وباين عليه التعب جامد :
– أنا همشي..
همشي و مش هتشوفني تاني صدّقني..
بس مش عايز منك غير إنك تسامحني أرجوك.
أول ما خرج من باب الشّقة ، أنا بصّيت للسكّينة اللي في الأرض والدّم اللي عليها وعلى الأرضية وأنا هموت من الرّعب..
ومرعوب أكتر حد يسمع صوت صريخك يجي على البيت يشوف المنظر ده!
إيدي كانت بترتعش وِ شفايفي وِ جسمي كله وأنا بمسح الأرض بفوطة ، وبغسل الفوطة والسكينة أنضّفها من الدّم ، وبعد خمس دقايق كنت فاتح باب الأوضة بتاعك وِ واخدك في حُضني وبقينا نعيط إحنا الاتنين..
كُنت مدمّر يا ندى!! مدمّر تمامًا ، أنا إزاي قلبي طاوعني وغرزت السكينة فيه!!
خُفت ألا يرجع تاني ، أنا كنت مازلت مش مصدق إنه ندمان بجد! مش مصدق إنه اتغير!!
أول ما نِمتِي في حُضني ، لمّيت كل حاجة تخصّك وِ تخصّني في شنطة وِ أخدت معاهم شوية حاجات لماما ونور ، غيرت هدومي وخليتك تغيّري ، ماكنتش عارف أنا رايح فين أو ناوي على إيه ، كل اللي كنت عارفه إن صَـالِـح دروِيش ممكن يرجع تاني في أي لحظة! وأنا خايف من اللحظة دي!!
قفلت الأنوار ، و وقفت نفس وقفة ماما عند الباب وهيّ بتودع البيت ، كنت حاسس إننا مش هنرجع تاني!
كان على عيني أسيب البيت رغم إن ليا ذكريات مُرّة فيه ، بس ذكرياتي الحلوة معاكم كانت كُلها فيه!
شدّيت باب البيت قفلته و دموعي بتنزل ومش عارف أرد على سؤالك وانتِ بتقولي إحنا رايحين فين!
خرجت من الحارة وفضلت ماشي بيكِ وبالشّنطة لحد الصّبح ، تعبت وانتِ كنتِ تعبتي ، قعدت بيكِ على الرّصيف ومش عارف أفكّر..
ماكنش معايا فلوس غير الفلوس اللي كنت بحوشها وكانت تعتبر شوية ملاليم ، افتكرت ماما لما كنا هنهرب من الحارة زمان وكانت قايلالي إننا هنركب قطر لأسيوط وِ هناك هنسأل على خالها ، هيّ كانت موصيّاني وهي بتموت أسيب الحارة أساسًا ، بس أنا كنت خايف.. كُنت خايف من الحارة بس في نفس الوقت كنت خايف لو سيبتها أتوه ومأعرفش أرجع تاني!
أخدتك وِ وصلنا لأقرب محطّة قطر ، سألت على تذاكر لأسيوط ما لقيتش قطر طالع لأسيوط الوقت ده ، القطر اللي هيتحرّك لأسيوط هيكون كمان ست ساعات!
أخدتك وقعدت على رصيف المحطّة ، كنت بعيط من قلّة الحيلة ، انتِ نمتي في حُضني ، وأنا كنت بقاوم علشان ما أغمضش لحد ما نركب القطر..
ركبنا القطر وساعتها نمت أنا وإنتِ فيه لحد ما وصلنا ، لما وصلنا أنا كنت عامل زي اللي بيدور على إبرة في كوم قش!
مش عارف عن الراجل اللي بدور عليه غير إسمه!
لفيت ولفيت وماعرفتش أوصل لحاجة ، كنت بسأل أي شخص بيعدي من قصادي عن الاسم ده ، سألت في المحلات والمطاعم وأي مكان يقابلني ومافيش أي فايدة!!
انتِ كنتِ تعبتي وجبتي آخرك خلاص و بتعيطي من التعب والجوع..
كنت ببص لدموعك وتعبك وأنا ماسك دموعي بالعافية وِ لِـ لحظة الرعب دب في قلبي أول ما خطر في بالي سؤال..
هعمل إيه لو ما عرفتش أوصل لِـ خال ماما؟!
الفلوس اللي معايا ما ترجعنيش القاهرة!!
الفلوس اللي معايا ما تعملش أي حاجة غير إنها تجيب ساندوتش لِـكُـل حد فينا.
رحت جيبت لكل حد فينا ساندوتش وقعدنا على الرصيف في الطريق ناكل ، كنت بتمنى لو أرجع تاني الحارة!!
على الأقل لو حصلي حاجة هناك انتِ هيكون معاكِ ناس تعرفك تحافظ عليكِ ، إنما هنا لو حصلي حاجة مكنتش عارف أتخيل مصيرك هيكون إيه!!
سيبتك تكمّلي أكلك وحطّيت الشنطة جنبك وِ جريت على راجل كان ماسك جُرنال بيقرأ فيه وهوّ ماشي على جنب الطريق ، قلت جايز يكون عارف حاجة ، كنت واقف بسأله وِ هوّ كان متجاوب معايا وبيحاول يساعدني..
ادّيرت وأنا مُبتسم لإنه قالي على مكان هروحه وهناك هقدر أوصل لخال ماما بسهولة ، بس أول ما شفتك وانتِ بتجري على عربية الچيلاتي اللي على جنب الطريق من الناحية التانية ، ابتسامتي اتمسحت و حل مكانها الرعب والقلق ، صرّخت باسمك وأنا شايف عربيّة مش واخدة بالها منك بتخبطك…
جريت عليكِ وأنا بعيّط وبفوّق فيكِ ، اترجّيتك كتير تفوقي وما تقلقنيش عليكِ ، بس انتِ كنتِ بتنزفي دم من راسك بطريقة صعبة ، وعيونك مغمّضة ، الناس كانت ملمومة علينا ، صاحب العربيّة أخدنا للمُستشفىٰ وِ هناك الدكتور قال إن حصلك ارتجاج في المُخ نتيجة للخبطة!
لما سمعت كده انهارت ، كنت عارف ومتأكد بنسبة مية في المية إنك هتروحي من إيدي!!
بقيت بعيّط وأنا جنبك وأنا حاسس إني ما أفرقش حاجة عن صَـالِـح دروِيش ، هوّ السبب في موت ماما ونور وأنا هكون السبب في موتك!!
نفس الطريقة اللي ماما و نور ماتوا بيها.. كنتِ انتِ هتموتي بيها.. وأنا.. أنا كان عمري ما هسامح نفسي إني ما قدرتش أنفذ وصية ماما وِ أحافظ عليكِ!!
عدّى يومين وانتِ لسه في المُستشفى ما فُوقتيش ، خلال اليومين دول صاحب العربيّة كان دايمًا يجي يطمّن عليكِ وكان مُتكفّل بمصاريف المُستشفىٰ لحد ما تفوقي ، وأنا كنت ببات معاكِ وخايف أسيبك..
لما قلتله إن شنطة هدومنا في الشارع اللي خبطك فيه وإني محتاجها ، سألني أنا بعمل إيه هنا بيكِ وبشنطة الهدوم!
لاقيت نفسي بحكيله كل حاجة حصلت معايا في حياتي ، من جواز ماما وحياتها مع صَـالِـح دروِيش لهروبها منّه وموتها ، لهروبي أنا وِ انتِ مِـنُّه على أسيوط ، كإن ما صدقت حد يسمع اللي جوايا ، كإن الحمل اللي شايله عايز حد يساعدني فيه مش شرط يشيل معايا ممكن يسمعني بس ده كان هيخفف عني!!
كان مُتأثّر جدا جدا باللي حكيتهوله وِ كان بيبصلي بعطف وهوّ شايف دموعي بتنزل وأنا بحكي ، سألني عن اسم خال ماما اللي أنا كنت جايله وقالي هيساعدني مش هيسيبني أنا وإنتِ غير لما نوصلّه ، و أوّل ما نطقت الاسم قام وقف من مكانه بِـصدمة وهوّ بيقول بعيون مِفتّحة على آخرها :
– فيروز!! أنتم ولاد فيروز!!!
هزّيت راسي باستغراب وِ سألته :
– أيوة ، إنتَ تعرفها؟!
– أنا منصور البحراوي!! ابن خال فيروز!
ابتسمت وأنا مش مصدّق ، مسحت دموعي وأنا بسأله تاني بتأكيد :
– بجد؟ إنتَ ابن خال ماما؟!
بس إزاي وِ ماما كانت بتقول إن خالها ما عندوش غير ابن واحد برّه مصر.
– أنا فعلا كنت برّه مصر وِ لسه راجع من أسبوع ، و أول مرة كنت أنزل فيها أسيوط يوم ما خبطت ندى بالعربية.
بقالي سنين وسنين ما أعرفش حاجة عن فيروز ، كان نفسي لما أعرف عنها أخبار تكون أحسن من كده.
بس.. بس أوعدك أول ما ندى تفوق هاخدك إنتَ وهيّ لبابا هيفرح بوجودكم جدا جدا.
لولا تدابير ربّنا ، كان زمانا مُشرّدين ، يشاء ربنا العربيّة تخبطك علشان يطلع صاحبها ابن الراجل اللي جاي أسيوط بدوّر على أي خيط يوصلني بيه!
اليوم ده بليل قبل ما هوّ يمشي الدكتور بلغنا إنك فوقتي ، دخلت وحضنتك وأنا مبسوط إنك بقيتي كويّسة بس الصدمة كانت لمّا انتِ اتخضّيتي وبعدتي عني وماكنتيش عرفاني!!
هنا أنا ماكنتش مستوعب في إيه؟ كل ما أقرب منك وأقولك أنا أخوكِ و أحاول أهدّيكي تصرخي وتبعدي عني ، الدكتور دخل وقال إنك للأسف فقدتي الذاكرة نتيجة للإرتجاج اللي حصل في مُخّك ، قال ممكن تفقديها يوم اتنين تلاتة و ممكن العمر كله ، و عَدّى عشرين سنة وانتِ لسه فقداها أهو!!
اللي حصل بعد كده هو اللي قلب موازين حياتنا ، منصور البحراوي كان الشخص اللي ربنا مسخّره يقف في ضهرنا ويكون سند لينا ، هوّ اللي يستحق عن جدارة إنه يكون أبونا ، هو الوحيد اللي يستحق لقب بابا بجد!
أخدنا يومها عنده البيت ، كنتِ انتِ نايمة بسبب حُقنة المُهدئ ، وأنا كنت مصدوم من فكرة إنك فقدتي الذاكرة ونسيتيني ، حسيت إني لوحدي تماما!!
هناك قابلت خال ماما ، جدو عبد العزيز ، ولما اتعاملت معاه عرفت ماما جايبة الحنية دي كلها منين!!
مكنش بيحب يقولك يا ندى ، كان دايما يقولك يا شيما على اسم أخته اللي هيّ مامة ماما لإنك شبهها أوي.
عيشت أنا وإنتِ شهر كان من أجمل أيام حياتنا ، منصور البحراوي عاملنا على إننا عياله بجد ، وانتِ كنتي بتقوليله بابا أنا ممانعتش بالعكس اتمنّيت لو ده كان أبونا الحقيقي!
لحد ما ربنا حققلي أمنيتي ، و أجازته في أسيوط خلصت ، وكان لازم ينزل القاهرة ، جدو طلب منه ياخدنا معاه وقاله إننا مسؤوليته ، وإننا الحاجة الوحيدة اللي هيوصيه عليها ، وطلب منه يحافظ علينا بقدر حُبّه لفيروز..
بس أنا كان عندي حسابات تانية كتير وكنت قلقان وخايف!
أنا هربان من صَـالِـح دروِيش في القاهرة هستفاد إيه إني أرجعله برجليا..؟!
لما ناقشت جدو في كده وقلتله نفضل هنا في أسيوط رفض وقال إنه كبير في السن ومش عارف هيعيش لينا لحد امتى ، وإن الوحيد اللي هيعرف ياخد باله مننا ويحافظ علينا هو منصور البحراوي ، ده غير إننا مش هنفضل نهرب من صَـالِـح دروِيش طول عمرنا!
لما جينا هنا كان عايز يقدملنا في مدرسة وأنا كنت متردد خايف وخصوصا عليكِ ، خايف يتعرضلك في أي وقت وإنتِ مش فاكرة حاجة عنه!
ساعتها بابا اقترح عليا الحل اللي ريحني وشال كل الهموم من على كتفي ، الحل اللي طبطب على قلبي وحسسني إن خلاص أنا هقدر أدفن الماضي بكل جروحه وأعيش حياة طبيعية!!
اقترح عليا إنه ينقل أسمائنا لاسمه ، بحيث لو حتى هو حاول يتعرضلنا هيقدر يحمينا منُّه لإنه هيطلعلنا شهادات ميلاد جديدة يكون هوّ فيها اللي أبونا، يعني عُمره ما يقدر يأذينا..
أنا وافقت وكنت مبسوط ، شبح صَـالِـح دروِيش هيختفي من حياتي ، وفعلا تاني يوم بابا بحكم إنه محامي وإنه دارس قانون بره مصر واشتغل فترة برّه كان له علاقات كتير ، قدر ببساطة يطلعلنا شهادتين ميلاد جداد كان اسمنا فيهم كـ التالي..
عبد الرحمن منصور البحراوي.
شيماء منصور البحراوي.
كتبك شيماء على اسم تيتا لإنك سبحان الله زي ما بيقولوا انتِ صورة من ماما الله يرحمها اللي كانت صورة من تيتا.
وكتبني عبد الرحمن علشان تكون أسمائنا الجديدة بعيدة تماما عن أسمائنا الحقيقية ، وساعتها اتفقت معاه يساعدني ما نرجعش الماضي بأي طريقة كانت..
يعني انتِ لما تكبري مش هنقول إنه مش أبوكِ الحقيقي نهائي ، ولا هنقول إنك اسمك ندى ، ولا هنقول إن أنا حتّى رحيم ، إحنا هنعيش زي ما مكتوب في شهادات الميلاد الجديدة بالظبط ، وهنحاول ما تفتكريش أي لحظة من اللي فات.
وده اللي حصل يا ستي ، انتِ كنتِ عارفة إن اسمك شيما أساسا لإن من وقت ما فوقتي ورحنا بيت جدو عبد العزيز وهو وبابا بيقولولك كده ، وبدأت أحفظك إني اسمي عبد الرحمن ، وساعدني في ده فكرة إنك مش فاكرة أي حاجة عن الماضي فَـ استوعبتي بسرعة وبقت بالنسبالك دي الحقيقة!
أما بقى يا ستي ، ماما حنان اللي عاشت معانا هنا ست سنين وماتت ، دي انتِ عارفة قصتها من بابا نفسه لما سافر قنا واتجوزها ، كانت حنينة زي ماما الله يرحمها وكانت بتحبنا جدا ورغم إنها كانت عارفة الحقيقة كلها ، إلا إنها خبّت عن أهلها ، وأي حد يسألها علينا تقول إننا عياله من مراته الأولى اللي ماتت ، بابا اتجوّزها بعد حوالي شهر وشوية أيام لما جينا هنا ، وانتِ لما سألتي عليها هيّ بنفسها قالتلك إن هيّ ماماتك وكنت مسافرة فترة عند أهلها بعيد علشان كده ماكنتش موجودة جنبك.
رغم إني كنت زعلان علشان مش قادر أعرفك إن فيروز هي مامتك الحقيقية ، بس كنت مبسوط إني قدرت أنفذ وصيتها وخليتك تعيشي في حياة هادية مليانة حب و حنية!
كنت مبسوط بيكِ وبالرحمة اللي قدرت أزرعها في قلبك زي ما ماما زرعتها فيا.
تعرفي إن مر عشرين سنة على الأحداث دي ، ورغم كل السنين اللي فاتت أنا عايش حاطط إيدي على قلبي!
خايف ألا بعد كل اللي عملته ده ، يجي اليوم اللي تشوفي فيه صَـالِـح دروِيش من تاني ويأذيكِ!!
وأهو حصل فعلا وكل المجهود اللي بذلته طول حياتي علشان أمنع ده يحصل اتبخّر في الهوا ، اتبخر وأنا شايفك منهارة قصادي لما اكتشفتي الحقيقة.
مع آخر جملة نطقها عبد الرحمن انفجر في العياط ، كنت بعيط أثناء ما هو بيحكي و أول ما خلص وتيرة عياطي زادت ، واتشبثت في حُضنه أكتر!
كنت حاسة بحاجات كتير جوايا مُتضاربة مع بعضها ، كنت لسه هتكلم من وسط دموعي ، بس موبايل عبد الرحمن رن ، اتنحنح ومسح دموعه ، شدني ليه أكتر وِ رد على الموبايل بقلق :
– ألو أيوة يا آنسة سجدة في إيه خير!!
سمعت صوتها من الموبايل بتعيط بصوت مكتوم وبتتكلم بهمس بتقول :
– الحقني يا رحيم ، أبوس إيدك الحقني ، مصيبة.. هروح في ستين داهية ، تعالى المُستشفى بسرعة..
– في إيه يا سجدة عندك؟ أنتم كويسين!
– لأ لأ مش كويسين بسرعة يا رحيم بالله عليك بسرعة..
كان لسه عبد الرحمن هيرد ، سمع صوت صرخة سجدة ومن بعدها الخط قطع والصوت اختفىٰ…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية حجر ينبض)