روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الخامس 5 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الخامس 5 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الخامس

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الخامس

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة الخامسة

فَيَاَليْتَ شُرْبي مِنْ وِدَادِكَ صَافِياً
وَشُرْبيَ مِنْ مَآءِ اْلفُراتِ سَرَابُ .
أبو فراس الحمداني ✨
••••••
في تلك اللحظة التي تنتظرها جميع الفتيات لتُسقط “عاصي دويدار” في شِباك حبهم ، دخل بفخامته وخلفه عدد كبير من الحرس أشبه بموكب ملكي ، صُوبت نحوه جميع الأعين ، من يطالعه بإعجاب ، ومن يحدجه بنظرات التمني ، ومن يطلق صفير انبهاره علنًا ، رجل تجمعت به وسامة وفخامة رجال الأرض ، ولكن كل هذا انطفىء بمجرد وقوفه بجانب فتاة أشبه بحوريات البحر ، ترتدي فستانًا فخمًا باللون الازرق استمد لونه من عيونها ، مرتديه حذاء بكعب مرتفع مما جعلتها تُنافس قامته في الطول ، شعرها المموج الذي ينسدل بطوله ليُغطي أسفل ظهرها ، مُلفتة لانتباه الجميع كالعطر من غير صخب .
تحاشي الجميع موكب” عاصي “الفخم وصُوبت أسهم نظراتهم الثاقبة نحو ” رسيل ” الواقفة على يساره ، اقبلت عبلة إلى ابنها كإقبال العطشان على بُحيرة ماء وعانقته هامسة بعتب :
-كل دا تأخير ؟!
ربت عاصي على ظهرها وقال :
-كان عندي شغل !

 

ابتعدت عبلة عنه وهي تراقب ” رسيل ” بنظرات حارقة وسألته بهمس :
-مين دي ؟!
اتسعت ابتسامة ” عاصي ” وهو يطوق خصر الفتاة ويجذبها إليه أكثر ويجهر بصوته معلنًا :
-حياة ، حياة مراتي !
أمطرت السماء جمرًا على رؤوس الجميع بمجرد ما أعلن عاصي عن هوية الفتاة التي تجاورهم ، عيون متسعة تحاصرها النيران ، وأفواه مزمومة تضم الكثير من الأسئلة ، كانت جملته أشبه ببطارية سقطت من جوف ساعة الحائط ، فـ تعطل عندها الزمن ، وشُلت حركة عقاربها كما شُلت أقدام الحاضرين .. لم يختلف الأمر بـ النسبة لـرسيل الذي عقدت اتفاقها معه ولكنه جاء مخالفًا لكل التوقعات !
برقت عيونها وتوقف مجرى الدمـاء بعروقها وهي تسأله بصدمة :
-دا مش اتفاقنا .
ضغط على خصرها بقوة كي تبتلع بقية تساؤلاتها ثم اقتربت منه ” عبلة ” محاولة استيعاب جملته وهي ترمقهم بأسهم نظراتها المسمومة التي جاءت عكس مخططها وقالت بذهول :
-مراة مين ؟! عاصي أنت أكيد بتهزر !
قفل زر سترته الفخمة بعد ما أرسل ابتسامة خفيفة للحضور وتحدث بحرص ألا يسمعه أحد وبصوته الخفيض أجاب :
-مش دا طلبك ، نفذته ، الدور عليكِ بقا !
انغرس كعب حذائها الرفيع بـ الأرض إثر حركتها الدائرية التي تعكس سخطها وقالت بنبرة مهددة :
-أنهي المهزلة دي دلوقتي يا عاصي .

 

أدرك عدم تجاوز أمه للأمر بسهولة ، فدارت رحي الحـرب بينهم وتحمحم عاصي متجاهلًا تهديدها وهو يضم رسيل لحضنه وبصوته المرتفع أعلن بفرحة عارمة :
-وبعد كام شهر هيشـرف ولي العهد ، ابن عاصي دويدار !
ثم أخفض نبرته هامسًا بصوته الرخيم في مسامعها مُتحديًا :
-حياة حامل !
تلك كانت آخر جملة تسمعها “رسيل” منه قبل ما تدور رأسها إلى موضع اتفاقهم الذي عادت إليه بكامل إرادتها ، عندما غادرت قريته السياحية وأخذت تتجول بتيهٍ وهي لا تحوى ثمن نقود خُطاها ، ولم تتحمل سخافة وحماقة المارة حولها ، شعرت بالعُري في ليلة تغمرها العواصف الكونية وهي بدون ملجأ أو مأوى ، باتت هي والطبيعة وجهًا لوجهٍ بدون درع واقٍ من قسوة الحياة حولها .
أجبرتها الحياة أن تتنازل عن كبريائها ، وتعود لتعلن موافقتها على ممارسة لعبة سخيفة كـ هذه ، غيرت اتجاه خطواتها عائدة إلى مقره بعد تردد وتفكير قرابة النصف ساعة ، وفي اللحظة التي فتح عاصي باب غرفته وجدها أمامه بعيونها التي تتجول بداخلهم التمرد وعدم الموافقة على طلبه ولكن أعلن لسانها عكس دواخلها واكتفت بقول جملة قصيرة :
-أنا موافقة .
على الرغم من يقينه بعودتها ولكنها فاجأته فلـم يدرك أنها تُرد إليه بتلك السرعة ، كان يود أن يكون حبل الكبرياء لديهم أطول من ذلك كي يتلذذ في شماته بضحاياه ، انتظرت منه ردًا بدلًا من فحصه لها وقالت بتردد وهي تعود خطوة للوراء :
-دا لو لسه قائم !
عقد حاجبيه وبغرور رجل استطاع هزيمة امرأة رأي فوق رأسها شموخ الجبال وقال :
-غيرتي رأيك يعني !
أغمضت جفونها التي لا تود مُطالعة رجل مُستغل مثله وقالت متأهبة للذهاب :
-وواضح كمان أنك غيرت رأيك !
أمسك معصمها ودارها إليه فألتوى معها شعرها الكثيف على كتفها مما جعله يسبح قليـلًا في محاسن تلك الحورية التي قدمها البحر له ، اتحددت أنظارهم على قبضة يده حول رسغها ، فأرخى أصابعه تدريجيًا وقال بفظاظة :
-اتفقنا .
وقفت أمامه معترضة :
-لا لسه .. أنا ليا شروط .

 

مط شفته السفلية متعجبًا من صمودها أمامه ، فلم تخلق امراة يمكنها أن تتجاوز حدودها وتلقي قائمة شروطها أمامه ، ابتسم بتخابث وقال :
-جمالك يشفع لك ، سامعك !
اترعشت لطهارة قلبها ، و لتعكر ما يبطن بعيونه من نظرات غامضة ، تظاهرت بالقوة أمامه وقالت بتحدٍ :
-أولا لعبتك دي لازم يتحدد لها مُهلة ، ومش أكتر من شهر .
اتكئ على الجدار بجانبه وهو يعقد ذراعيه وقال بتغطرس :
-لا اطمني ، مفيش ست قعدت معايا أكتر من يوم !
ارتجفت عيونها بقلق من هول جملته التي لم يترجمها نقاء عقلها وسألته :
-يعني أيه !
تجاهل سؤالها متعمدًا وكأن اللعبة قد راقت له ، وقال :
-يعني اللي بعده !
بلعت علامات الاستفهام المُتعلقه بحنجرتها وأكملت :
-وعدتني هتلاقي أهلي ، فـ يبقى شرط مقابل التاني والمُهلة شهر .
نصب قامته مرة أخرى بانتشاء حيث كان للحديث معها مذاق خاص ، واقترب منها حتى باتت أنفاسه تداعب خصلات شعرها وقال بعجرفة :
-ولو نفترض ما لقتش أهلك !

 

لم تهابه تلك المرة بل وقفت وجهًا لوجه أمامه بغرور أنثوى يُسقط أقوى الرجال في شباكه :
-وقتها الدنيا كلها هتعرف أن عاصي دويدار شخص مُستغل وكذاب ، واستغل حالتي عشان يحقق مطالبه .
تلقى تهديدها بابتسامة خبيثة لم تعلم مصدرها وقال بحماس شديد وهو يرجع شعرها للوراء :
-اتفقنا .. أي شروط أو اسئلة تانية ؟
تراجعت للخلف بذعر كي تبتعد عن مرمى يده وقالت :
-لا .
” عودة للحفل”
كانت تلك المحادثة الأخيرة التي دارت بين الاثنين ، غريق تعلقت في صنارة النجاة ، ورجل ماهر في صيد الأنواع النادرة من الأسماك ، فاقت من شرودها على صخب وثرثرة عاتية لم تتحملها رأسها ، باتت الرؤية أمامها سراب ، حتى عقلها توقف عن ترجمة الكلمات وتزاحمت الاصوات في ذهنها فلم تستطع تميز شيئًا منها وسقطت بين يده كقطعة قماش مهترئة فقدت كل قوى تحملها وخرت مغشيًا عليها .
تلقاها ” عاصي ” على رسغه بـ صدمة من سقوطها المفاجئ بين يديه ، احتشد الجميع حوله وهو يحاول إفاقتها ولكن بدون فائدة ، تمددت يده تحت ركبتيها وحملها مُتجهًا ناحية غُرفته الخاصة بحديقة منزله ، وجهر مناديًا على يسـري :
-شوف لي الدكتورة اللي هنا .
أجابه يسري بطاعة وهو يركض للداخل باحثًا عن شمس ، وعلى الجهة الأخرى تراقب ” هدير ” و ” جيهان ” الأمر بعيون يشتعل منها اللهب المحترق بدخان الحقد والانتقام ، اقترب من أمها وبنبرة الهزيمة صرحت ولازالت تحت تأثير صدمتها :
-مامي هو اللي بيحصل دا بجد !
استندت جيهان على أقرب مقعد حديدي بجانبها محاولة استجماع شتات نفسها وقالت :
-دا أكيد كابوس ! دي طلعت لنا منين ؟!
فشت غُبلها بخصلات شعرها وهي تلملمه بعبث وتهرول بكلمات مُبهمة :
-أنا مش هسكت ، ولو كنت سكتت زمان ، مش هسكت دلوقتي .
هنا انضم كريم إليهم والضحك يملء اساريره ويقول متحمسًا :
-القصر بقا كله أكشن وضـرب نار .

 

حدجته ” جيهان ” بنظرة ساخرة وقالت لابنتها :
-يبقى تنفذي اللي كنت رافضة تعمليه ، ونرد القلم بعشرة .
جاء مُراد من الخلف وهو يرسم ضحكة الاستهزاء على وجهه ويقول :
-لمـا اقولكم إنه راجل مجنون تصدقوا .
التفت له جيهان بعيونها السوداء التي تختلف عن سواد قلبها وقالت بصوت يشبه فحيح الأفاعي :
-مُراد ، لازم تسمعني وتثق في كلامي لو لمرة واحدة ، مفيش قدامنا غير جوازك من عالية .
اختنق مراد من إصرار أمه على زواجة من فتاة لا يعرف عنها إلا اسمها وبراءة ملامحها وهي في سنة العاشرة ، تأفف بضيق :
-عالية أيه بس ! أنا همشي !
مال ” كريم ” على مسامعه وقال بسخافة :
-عالية حلوة .
رمقه مُراد بتهكم وهو يتأهب منصرفًا تاركًا الحروب المُندلعة وراء ظهره ، اتسعت ابتسامة ” كريم ” وهو يسأل أمه بفضول :
-أنتِ متخيلة أن عاصي هيوافق يجوز عالية لمراد !
سبحت في فضاء حقدها وقالت بـ كرهٍ يُنافس نار غضبها :
-الشوك هو انتقام السمك بعد مُوتــه ، وأحنا لازم نمسك في الشـوك اللي هنغرسه في قلب عاصي !
كريم باستخفاف :
-لا أنتوا اتجننتوا رسمي ، أنا هحصل مراد .
وجهت حديثها بنبرة آمرة لابنته ونهرتها :
-أنتِ مش هقعدي جمبي تندبي حظك ، ركزي معايـا كدا !
••••••

 

‏ابتلعت الكلمات بـ جوفها وأخذت تدرب نفسها على الصمت الطويل حتى تنجو من الغابة التي رماها القدر فيها ، تحاول ألا تقول شيئًا تندم عليه ، تعلم أن كل شيء لا يناسب مع غرورها وترى ذلك بوضوح لكنها قررت أن تتجاهل لتسري المياه الراكدة ، ربما تسحبها لبر أمن ، كل هذا عقدته بزمام قلبها ولكن كم هو مُولم بالنسبة لها أن تقرر اليسر بدون تجديف ، أن تسبح دون مقصد !
انتهت ” شمس ” من فحص ” حياة ” بعناية وضبت جهاز قياس الضغط وهي تقول بنبرة جافة :
-ضغطها واطي جدًا ، متحملتش أغمى عليها .
سألها يسري باهتمام
-أيوه يعني محتاجة مستشفى !
تأففت ” شمس ” بجزعٍ وقالت :
-والله لو مش واثق في كلامي ممكن تمشوني من هنا !
تدخل عاصي بعد ما نزع سترته السوداء في حديثهم لـ يهدئ من حدته :
-يسري ميقصدش ، قصده هتفوق أمتى !
أغمضت عيونها للحظة محاولة تمالك اعصابها وقالت :
-شوية وتفوق ، وتبقى كويسة .
ثم وقفت وعقدت ساعديها أمام صدرها وقالت :
-عايزه اتكلم مع حضرتك .
تدخل يسري مُعاتبًا :
-وأنت شايفة أن دا وقته ! الباشا قلقان على مراته .
نهرته شمس بـ قوة :
-وأنا والله عندي أهلي وقلقانين عليا !

 

رفع عاصي كفه ليُسكت يسرى عن المُجادلة ، وطالع شمس بفظاظة :
-معاكِ .. قولي !
ألقت نظرة خاطفة على ” حياة ” وهي تُشير إليه بالابتعاد عنها ثم تابع خُطاها مستجيبًا لـ طلبها تحت أنظار ” يُسري ” المذهولة من تصرفات رئيسه الذي أفرغ الساحة لفتيات مثلهن بالتحاور معه ! ركض خلفهم ليتجسس على حديثهم الذي بدأته شمس بسؤالها الحاد :
-أنت عايز مني أيه !
طالعت رفع حاجبه مستغربًا ، ثم كررت سؤالها ولكن بصيغة آخرى :
-أنا هنا بعمل أيه !
كانت أعصابه باردة بدرجة الثلج عكس نيرانها الحـارقة وقال :
-بتشتغلي يا دكتورة !
اندفعت في وجهة مُجيبة بـ ترحٍ :
-أنا مش دُكتورة ولا حاجة .. ولو سمحت كفاية كدا !
ثم جهرت مُعلنة :
-ولو على الايجار متقلقش ، مش هاكله عليك .
ركز على ثغرها محط اشتهائه وهي تعلن بكلماتها ثورتها ضده ، وقال بمكرٍ :
-طيب لو دفعتي تمن الايجار ، تمن طولة اللسان بتاعتك مين هيدفعها !
-يعني أيه ؟!

 

عاصي مُتحديًا :
-يعني اللي غلط ، لازم يتحاسب !
-أفهم من كدا إني مخــٰطوفة هنا ؟!
أخذت تحدق النظر في عيونه الصقرية منتظرة رده ، كانت متأكدة أنه سيكون عكس توقعاتها ، أخرج سيجارة من جيبه وأشعلها حتى سبحت في دُخانها وبدأت تسعل بقوة وهو يقول :
-حاجة زي كدا !
-أنت عارف عقوبة الخٰطف أيه فـ القانون !
زفر تبغ سيجارته بوجهها فبدأت تُشتته بكفها منتظره إجابته :
-أنت عارفة عقوبة السرقة أيه فـ القانون !
تراجعت خطوة للخلف وهي تسأله بغرابة :
-سرقة أيه ؟!
بجدية أجابها عاصي :
-سرقة طقم ألماس من مكتبي تمنه يتجاوز 50 ألف دولار !
نفت اتهامه السخيف بسخرية :
-بس دا محصلش ؟!
بفظاظته المعهودة ، وبتخابث :
-بس دا اللي هيحصل لو ….. أنتِ شاطرة وهتفهمي !
رمقته باستحقار:
-أنتَ مش بني آدم !
-يعني بالمُختصر كدا يا دكتورة شمس ، أنا مش فاضي أدور على دكتور جديد يتابع حالة ” تميم ” ، أو بالمعنى الأصح مش بعرف اشتغل مع حد إلا ما أكون ماسكه من أيده اللي بتوجعه ، وأنتِ عز الطلب ، سددي ديونك ، وبعدين هقولك باي باي وأحنا حبايب ومتصالحين !
أدركت أن الحوار معه لم يصل إلى نتيجة حتمية ، قلبت عرضه بدون جدل ولكنها اعترضت قائلة :
-أنا عايزه أوضة لوحدي ! ماهو مش هينفع أبات مع أخوك في نفس المكان !
شيعها بنظرة دنيئة لا تختلف عن نظرته لكل الفتيات التي يشتراها كل ليلة وقال بسخافته المعهودة :
-أديكي شايفة حالة تميم ، يعني متخوفش ..

 

ثم مال على آذانها بـ خسة و أتبع :
-ألا ولو روحتي له بـ نفسك !
سكب دلوه المُثلج فوق رأسها وغادر قبل ما يترجم عقلها أبعاد كلماته البذيئة .. عاد ” عاصي ” إلى غُرفته الخاصة التي يذاع منها رائحة الخمر حتى اصطدم بيسري وهو يسأله :
-البنت دي طولت لسانها يا باشا .
-أشش سيبها سيبها ، عارف النوعية دي أنا ، كبيرها شوية فلوس !
فهم يسري على عاصي وما يشير إليه من كلماتٍ وقال :
-شكلها دخلت دماغك !
راقت له الفكرة وهو يفكر بـ إعجاب
-وليه لا ؟! عايزك تعرف لي تمنها كام !
••••••
” في غُرفة تميـم ”
-أنا أول مرة أقول إني خايفة ، حاسة بكرة هيجي أصعب من اللي فات ، قلبي مقبوض كدا ، وحاسة أن البيت اتحول ساحة للقـتال ، كل واحد بيتنافس مين اللي هيبان أقوى !
كشفت ” عالية ” عن خبايا قلبها لـ ” تمـيم ” شريكها في العجز ، وليس عجز الجسد بل العجز عن تغيـر واقع لا يناسبهم ، أخذت تتجول الغُرفة أمامه بعشوائية وقلقٍ كمن يركض فـ حلقة مُستديرة يملأها الخوف بعد ما
حُكم عليه بـ الإعدام ولكنه لا يعلم متى سيكون ؟ ولكنه حتمًا آتٍ ! حتمًا مُجبرٌ على انتظار المٰـوت !
جلست بقُربه على المقعد المُبطن وأكملت بوجع يُشاطر روحها :
-عاصي تصرفاته بقيت مُرعبة ، الصبح بقرار وبالليل بكارثة ، امتى اتجوز وامتى عرفها ، والأهم هي مين !
أخذت تفرك في كفوفها بـ تضايق وحسرة :
-مامي عمرها ما سمعتني ، كُل همها ألبس أيه ! أصاحب مين ، بتحركني في أيديها زي العروسة الخشب ، والمخيف أكتر أن العلاقة بينها وبين عاصي اتحولت من علاقة أم وابنها لـ شخصين بيتنافسوا مين فيهم هيمشي كلامه على التاني !
ثم جثت على ركبتيها وحضنت كفوفه وأخذت الدموع تحفر وجنتيها من شدة الرعب :
-تميم أنا خايفة أوي ، أنا مبقاش عندي القُدرة أعيش أيام أصعب من كدا ، أرجوك طمني ، محتاجة حد يطبطب علـيا ويقولي بكرة هيكون أجمل وأحن من اللي فات .

 

صمت مريب يحاصره الخوف والقلق من كل الاتجاهات ألقى سدوله فوق مجلسهم ، مسح تمـيم على رأسها وقال متأملًا :
-ربنـا مش بيجيب حاجة وحشة ، حتى ولو كان الغيب مخيف ومفهوش حاجة تطمن أتاكدِ انه مش هيخلى من النجوم .
ثم أمسك بذقنها ورفع وجهها إليه متبسمًا :
-مش أنا اللي هقولك كدا ، خلي عندك ثقة في رحمة ربنا !
ثم داعب أرنبة أنفها ليُخفف من حِملها :
-وبعدين أنا جمبك أهو !
أغرورقت عيونها بقطرات الحزن وقالت بأسف :
-نفسي أوي ترجع تقف على رجلك زي زمان ، ونروح المدرسة سوا ، وتفضل تحميني وتاخد لي حقي من اللي يزعلني ! ارجع عشان خاطري أنا وحيدة أوي من غيرك .
بـمجرد ما انهت جملتها ارتمت في حضنه منفجرة ببركان الحزن المُتوق بجوفها ، ظل يمسح على رأسها ويهمس لها بكلمات لتطمئنها حتى هدأت تدريجيًا بين يديه وتراجعت ممسحة بدموعها وهي ترسل له ابتسامة امتنان :
-شُكرا أنك في حياتي بجد .
أزاح يدها ومسح بكفوفه دموعها الغالية على قلبه وقال بمزاحٍ ليُغير مجرى الحديث بتلقائية :
-هي شمس ، أممم أقصد الدكتورة شمس !
أسبلت ” عالية ” دموعها بتخابث :
-أممم ، دكتورة شمس ، دا أنت مش معايـا أصلًا !
ابتسم وجه تميـم وهو يتحاشى النظر إليها ويقول :
-دماغها عجباني ، تحسيها لغز كدا عايز يتحل !
رجعت ” عالية” خصلة من شعرها وراء أذنها وقالت بلؤم :
-يعني مش عشان جميلة !
أدرك تميم أن عالية تستجوبه في الحديث ، فتبسم عندما أحس أنه انتصر على خوفها وجعلها تتناسها حتى ولو للحظات ، عاد إليه لا مباليًا لـ مداعبتها :
-هي جميلة ؟! مخدتش بالي ؟! عادية يعني ! بس تشدك !

 

أصدرت عالية إيماءة ماكرة وهي تطالعه بخبثٍ :
-عادية ! وتشدك ! في جملة واحدة ؟!
ثم أطلقت تنهيدة ارتياح وأتبعت بغمز :
-دا شكلو حوار جديد !
لم يتمكن تميم من توقف حالة السخرية التي فعلتها عالية عليها ، والتفشي بها ، أتت شمس وبرأسها صواعق ناريك تضرب في رأسها إثر تطاوله عليها ، وماذا يقصد؟ ، نفضت غبار كلماته السخيفة وتبسمت بوجه عالية :
-شكلك كان قمر أوي فـ الحفلة .
تحمحمت عاليـة وهي ترسل لتمـيم نظرة لا يفهمها سواهم وقالت :
-بنت حلال ، جيتـي في وقتك ، كُنا لسه في سيرتك !
شمس بغرابة :
-بجد ! خير ؟!
عالية بنبرة ممازحة مبطنة بالتهديد:
-أقول ؟!
انقذ تميـم نفسه من لسان عالية الأحمق وقال :
-تقدري تروحي تباتي مع عالية في أوضتها بدل قعدتك فـ البلكونة .
بنبرة خزى :
-يا ريت ينفع !
اقترحت عالية عليها :
-البيت هنا له مواعيد ثابتة ، أول ما تخلصي علاج تمـيم تيجي براحة عندي ، وأنا يا ستي هصحيكي قبلهم ، أي رأيك يا تيمو !
تميم بتفاخر :
-عاش يا هندسة .
تبسمت شمس بارتياح لحل أكبر مشكلة لها ، ولكنها غيرت مجرى الحديث :
-هو ليه كله اتفاجئ لما شاف مرات اخوكم !
ضحكت عالية بضحكة استبدلتها عن البكاء وقالت :
-عشان عاصي فعلًا فاجئنا كلنا !
•••••••

 

تهوى براثين غضبها بكل ما يقابلها أخذت تبعثر وتُكسر في الأشياء التي تواجه خُطاها وهي تصرخ بقلة حيلة لأمها في الغرفة وتطالعها بعيونها الساقطة بداخل حُفرة سوداء من الكحل السائح :
-يعني أيه اتجوز ! افهم من كدا أيه ؟! تاني ! تاني يا عاصي ، بيكرر نفس الوجع بعد ما اتجوز مها ! مامي أنا مش هقبل بالتنازل تاني .
ثم توجهت نحو المرحاض وشرعت في غسل وجهها من أثار ألوان التجميل وكأنها أرادت أن تخمد شرار غيرتها المشتعلة بالماء الباردة ، تابعت ” جيهان ” خُطها وقالت :
-ناوية علي أيه !
اجابتها منفعلة وهي تجفف وجهها :
-هنزله ، هنزل اتكلم معاه ، لازم يعرف إني بحبه .
فكرت ” جيهان ” بمخطط ابنتها ثم قالت مشجعة :
-اعملي كدا ، بس قبل ما تنزلي ، اعملي اللي اتفقنا عليه ، وأنا هروح اتكلم مع خالتك .
ثم ربتت على كتفها وأكملت :
-اطمني ، جوازك من عاصي هـ يتم ، وده وعد من جيهان المحلاوي .
أذعنت ” هدير” لشروط أمها بدون جدال أو اعتراض على رغم من رفضها القاطع من قبل ولكن قلة السُبل تجبرك على الاختيار ، فارقت المرحاض وفتحت جهاز الحاسوب ، فـ نقشت ضحكة جيهان التي تتناقض مع مجرى مُخططها الدنئ واطمئن قلبها بتنفيذه :
-كدا أنتِ بنتي بـ صحيح !
ثم غادرت غُرفتها مُتجه إلى عبلة التي تهاوت أوصالها من شدة الغضب ، بعد ما أعدت لها كوب من الليمون البارد ، وذهبت إليها فوجدتها تُدخن بشراهة غير معهودة ، قفلت الباب خلفها وعاتبها :
-هتمـٰوتي نفسك يا عبلة ! أيه الدخان دا كله !حرام عليكِ !

 

جلست عبلة على الأريكة وهي تتشبث برأسها الذي كان أن ينفجـر من وقع الصدمة التي حل بها عاصي وأعلنت :
-ابن دويدار بيتحداني ! جايب لي بنت من معارفه الشمال وبيقول عليها مراته ! هتجنن هتجنن يا جيهان !
وضع كأس العصير بقُربها وجلست لتبُخ سمها من جديد :
-وهو دا اللي جايه عشان أكلمك فيه .
أغمضت جفونها غير متحملة المزيد من الجدال في نفس الموضوع وقالت بكللٍ :
-جيهان أجلي أي كلام أنا على أخرى !
أصرت جيهان على موقفها وشرعت تمهد لها سُبل استماعها :
-لو كان ينفع يتأجل كُنت أجلته ، بس دا أوانه يا عبلة .
انتبهت لها عبلة بوجه متهجم وقالت :
-قصدك أيه ؟!
-أقصد أن عاصي بيشتغلنا كلنا ، وعامل لعبة سخيفة مقابل بس ياخد عقد التنازل منك ، وأراهنك بأيه البنت دي لا مراته ولا هي حامل من أصله !
راق لها ما سمعته من أختها ولكن سرعان ما بد على وجهه الانزعاج :
-لالا أنتِ متعرفيش عاصي ، وكمان واضح أن البنت عاجباه ووراها مصلحة كبيرة عشان كدا اتجوزها !
ضربت جيهان على ساقيها بنفاذ صبر ؛
-بردو بتقولي اتجوزها ! خلاص معاكي اتجوزها ! نسكت له ؟! نجيب بنت منعرفش أصلها من فصلها تشيل الجمل بما حمل !
توقف عقل عبلة عن التفكير ولكنها أصغت كُليًا لأختها ،و التفتت إليها باهتمام :
-قصدي متديش الفرصة لعاصي ينتصر عليكِ ! هو أه اتجوز بس متجوزش البنت اللي على مزاجك ؟! يبقى مفيش عقد ، ولا تنازل ، ويورينا بقا هيسيطر على السوق ازاي ؟!
شردت للحظات ثم قالت :
-طيب والحل !
تحمست جيهان بإلقاء قنبلتها الموقوتة وقالت :
-الحل تحطي شرط جواز هدير بنتي قصاد تنازلك عن نصيبك !
ثم مالت إليها بدموع مزيفة :
-البنت بتحبه يا عبلة ، وهتحافظ على ماله وبناته ! بدل الجربوعة اللي جايبها من الشارع ، اسمعي مني عاصي محتاجك دلوقتي ، نرمي صنارتنا بقا ونصطاد ! وبكرة هيشكرنا ما أحنا بردو عايزين مصلحته ومصلحة بناته !
••••••••

 

يبسط جسده على الأريكة الواسعة متحررًا من رابطة عنقه وأزرار قميصه يتصفح هاتفه تارة ويُطالع حورية البحر التي تتوسط فراشه طورًا ، بات يشرد في تفاصيل لقائهم الأول ، و لمسته الأولى لشفتيها التي كانت كشهقة السيجارة أول مرة في سن المراهقة ، كانت ميثرة وحارقة .. وقوفها أمامه شامخة رغم تهاوي أوصالها وضعفها ، مناطحته كأنها تعامل باع في سوق الجمعة .. سحر عيونها التي أسر بداخلهم ، نفض أتربة مشاعره من فوق قلبه وقال رافضًا لإعجابه بها
-كل واحدة وليها تمن ! فوق يا عاصي قلبك مـات بـ مٰوت مها .
تغنجت في فراشها بخفة مصدرة أنينًا منخفضًا أثار انتباه قلبه ولكن تحول صوت الأنين لطرق على باب جناحه الخاص ، نهض بتكاسل يجر في اقدامه الحافية ويفتح الباب فوجد هدير أمامه ، طالعها بسخطٍ
-من أمتى التعليمات بتسمح لحد يقرب من هنا !
بلعت هدير جمر إهانته وقالت بحرقة :
-معلش ، هعطلك عن الهانم !
زفر بضيق :
-عايزة أيه يا هدير !
زحفت بأقدامها نحوه خطوة هادئة وقالت بـ عتب :
-هتعمل فيهـا كتير مش شايف ولا عارف !
احتلت الغرابة معالم وجهه محاولًا فهم مغزى سؤالها :
-قصدك أيه ، ادخلي في الموضوع على طول .
انسكبت دمعة من طرف عينيها ونهرته :
-لا يا عاصي ، أنت فاهم كويس أوي !
طالعها بفضول يتبع عباراتها وعبراتها المتقطرة :
-طيب فهميني !

 

لمحت هدير ظل ” حياة ” تقترب منهم ، فتمادت في بكاءها واقترابها منه ، حتى أمسكت بيده ووضعت الأخرى على صدره العاري وقالت بحنو :
-أن قلبك دا يخصني ، أنا ما حبتش غيرك في حياتي يا عاصي .
لم تمنحه فرصة للرد فبمجرد ما لمحت “حياة” أمامها ارتمت في حضنها وأخذت ترتعش بين يديه وتقول :
-أنا بحبك ، ليه تعمل فيا كدا ؟!
وعلى المُقابل في غُرفة عالية ، تقلب شاشة هاتفها لتقرأ اذكار المساء منتظرة قدوم شمس إلى الغرفة ، ففوجئت بعدد لا كثير من الرسائل المرسلة لها ، تجاهلت الأمر قليلًا حتى وجدته زاد عن حده ، فتحت أول رسالة من أحدى زميلاتها فاتسعت عيونها وفزعت صارخة وهي تشاهد الشاشة وتهذي :
-يانهار اسود !!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى