سلسلة الرجال قوامون القصة الثالثة 3 بقلم منال سالم
رواية الرجال قوامون الجزء الثالث
رواية الرجال قوامون البارت الثالث
رواية الرجال قوامون الحلقة الثالثة (رسائل محظورة)
انقضت عليه ليلتان طويلتان في محبسه بداخل مخفر الشرطة التابع لهذه الدولة العربية، كان معزولاً عمن حوله، لا يأتي إليه أحد إلا في أوقاتٍ محددة بالطعام والشراب، اتلفت أعصابه وتحرَّقت من كثرة الترقب والانتظار. ما إن فُتح باب غرفة الحجز، وجاء النداء لاستدعائه للمثول أمام مسئول التحقيق حتى انتفض مذعورًا متوقعًا حدوث الأسوأ، فما فعله لن يمضي على خير، فالإجراءات الأمنية بشــأن تعاطي المواد المخدرة أو الإتجـــار فيها غير متسامحة على الإطلاق.
نكس “فؤاد” رأســه في خزي وذل أمام المحقق الذي حدجه بنظرة دونية محتقرة، كان مشوش الفكر، مرتكب الذهن، لا يعرف كيف يتصرف، فمستقبله والقادم من حياته على المحك، كم ودَّ لو ترأف به هذا الرجل! لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، لن ينكر أنه طوال اليومين السابقين توسله بالغالي والنفيس ليعفو عنه، استسمحه من أجل المقايضة بأي شيء لئلا يصعد الأمر، خاصة أن وقت إلقاء القبض عليه كانت العطلة الرسمية للدولة، وبالتالي لن يتم النظر في التحقيقات والقضايا الجديدة إلا مع بداية الأسبوع القادم. رجــاه لأجل زوجته أن يعتبرها المرة الأولى والأخيرة، توسله لأجل أمه ألا يدمر مستقبله جراء طيشه الأرعن؛ ولكن لم يأته رده. ظل الصمت يعمُ حجرة التحقيق إلى أن رفع المحقق هاتفًا محمولاً في وجهه متسائلاً بصوتٍ خشن:
-أهذه صورة زوجتك؟
لم يندهش “فؤاد” من تواجد الهاتف معه، فجميع متعلقاته تم أخذها بمجرد وضعه بالحبس. لعق شفتيه، وبصوت مهتز أجابه وهو يمعن النظر في الصورة التي تجمعه بزوجته فاتنة الجمال وتحتل شاشة هاتفه المغلق:
-نعم.
أرجع المحقق ظهره للخلف ليغوص في مقعده الجلدي، وقال ببسمة ماكرة تحتل ثغره:
-حسنًا لديك فرصة ذهبية للخروج من هنا فقط إن نفذت شرطي!
من فوره سأله وقد شعر بأنه وجد طوق النجاة الآمن:
-وما هو شرطك؟
نقر المحقق بأصابعه على سطح مكتبه، راقبه لمدة من الزمن مستمتعًا بإحراق أعصابه أكثر، ثم استطرد بهدوء، وهذه النظرة الخبيثة تصدح في عينيه:
أن تطلب منها إرسال صورها…
ضاقت عينا “فؤاد” بشكٍ، فأكمل بوجه مسترخي التعبيرات:
-وهي عارية.
ثارت ثائرته وهاج لطلبه المخجل فصاح هادرًا:
-ماذا تقول؟ هل تسمع أذناك ما ينطق به فمك؟ ألا تستحي أو تخجل؟
ضحك في تلذذ قبل أن يجيبه غامزًا بطرفه:
-مع النساء لا.
لوح “فؤاد” بيده كما لو كان على وشك صفعه وهو يصرخ به:
-إنها زوجتي يا هذا!
اخشوشنت نبرة المحقق، وهدر به مهددًا:
-احفظ أدبك، ولا تنسى مع من تتعامل!
كظم “فؤاد” غضبه المندلع مرغمًا، فالموقف لا يحتاج للمزيد من التعقيد، خاطبه المحقق بوسوسة كالشيطان الماكر:
-إنه اختيارك.. لا تتعجل الرد.
احتقن وجهه بشدة، وانعكس غليل نفسه في نظراته نحو الموقف الذي استمر يكلمه ببرود متلف للأعصاب:
-كما سمعت، إن أردت النجاة من هذه الورطة، فالأفضل لك أن تفكر بتعقل.
أطبق “فؤاد” على شفتيه مانعًا نفسه من إطلاق سبة لعينة، ينهي بها على فرصته الوحيدة والوضيعة في نفس الآن للخروج من هنا. انتشله من تخبط أفكاره قول المحقق المليء بالتحذير:
-ولا تنسى السجن في انتظارك إما لتعاطي المواد المخدرة، أو الإتجار فيها، أنت صاحب الاختيار الأخير.
دمدم “فؤاد” مع نفسه بغير صوتٍ، وغضبه المستعر يأكل في صدره:
-اللعنة، كيف كنت غبيًا ولم أصغِ لتحذيرات زوجتي؟!
نهض المحقق من خلف مكتبه، وســار ببطءٍ مدروس ناحيته ليضيف بعد ذلك وهو يمد يده ليربت على كتفه:
-سأتركك هنا لتفكر بروية، والهاتف معي.
قال كلماته الأخيرة وهو يدس الهاتف في جيب بنطاله ليدعه يحترق على أتونٍ من الجحيم. انهار “فؤاد” جالسًا على المقعد، ويداه أعلى رأسه، ضغط بهما عليها في تعصبٍ وهو يردد بصوتٍ خفيض مشحون بالحقد والحنق:
-يا إلهي! كيف يكون التصرف؟ السجن هنا يعني ضياع مستقبلي بالكامل، ناهيك عن تدمير سمعتي، وماذا عن أهلي إن بلغهم الأمر؟ حتمًا ستجن أمي، وأبي سيفقد صوابه! كيف لم أنتبه وأتخذ حذري؟!!
استحضر في مخيلته هذه اللحظة المشؤومة التي قرر فيها تدخين الحشيــشة في سيارته بعد أن اقترح عليه رفيقه بتجربة هذا النوع الجديد، كانت زوجته قد نبهته مرارًا وتكرارًا ألا يلجأ لمثل هذه الأشياء الخبيثة، خاصة وهو مسافر للعمل، لأنها قد تودي بحياته قبل أن تهلك صحته. لعن نفسه لسوء تفكيره وانسياقه وراء ملذاته، فالأمر لم يكن مقتصرًا على التدخين، بل تمادى إلى علاقات محرمة مع النساء الرخيصـــات، يرتب معهن عبر الرسائل أماكن اللقاء وموعده، وهاتفه يعج بمئات الرسائل الخليعة التي لسوء حظه لم يمسحها بعد. آه لو اكتُشف الأمر أيضًا! إنه هالك لا محالة. راح يوازن بين كافة الحلول، ويرسم كل السيناريوهات المتوقعة في حالة الرفض أو القبول.
قضى ليلته مُنفردًا، مُختليًا بنفسه حتى طلع النهار، وجاء إليه المحقق في قمة نشاطه وحماسه، رمقه بنظرة شاملة جابت على كل شبرٍ في وجه “فؤاد”، بدا الإرهــاق جليًا على تقاسيمه، فانتشى لرؤيته في حالة الاضطراب تلك، فالضغوط الشديدة إما تخرج أحسن ما في النفس البشرية، أو أسوأ ما فيها. أشار له بالجلوس وقال في هدوء:
-تركت لك الليل بطوله لتستغرقك في تفكيرك دون ضغط أو مقاطعة.
كان حديثه إليه كذبًا؛ لكنه أراد خداعه ليظن أنه يملك حرية القرار. أحني “فؤاد” رأسه على صدره متمتمًا في صوتٍ خافت وهو يتحاشى النظر إليه:
-عذرًا لا أستطيع.
بنفس الصوت الهادئ، والتعابير غير المقروءة علق عليه المحقق:
-كما تشاء.
تحفز “فؤاد” في جلسته غير شاعرٍ بالارتياح مُطلقًا، انقبض قلبه بشدة وهو يسأله:
-ماذا سيحدث لي؟
ببساطةٍ أجابه وهو يمسك بالقلم الحبري:
-سيتخذ القانون مساره معك…
سرعان ما احتلت بسمة أكثر خبثًا محياه وهو يكمل كأنما يتوعده:
-سترسل للسجن العمومي، وسأحرص على أن تعلق رقبتك في حبل المشنقة، فأمثالك يملأون بلادنا الحبيبة بالسموم، ولذا تستحق كل العقاب الرادع.
هنا هب ناهضًا من موضعه ليردد في ذعرٍ:
-ماذا؟ إنها مجرد قطعة صغيرة!
نقر المحقق بالقلم الحبري على الملف الورقي، وأخبره باسمًا:
-ليس كذلك، لقد تم الإمساك بك وبحوزتك 5 كيلو جرامات من المواد المخدرة، ولا أظن أن هذه الكمية بغرض التعاطي.
جحظت عينا “فؤاد” في هلعٍ، وقصف قلبه رعبًا، خاصة عندما استأنف المحقق كلامه:
-بالمناسبة أوصيت أحدهم بفتح هاتفك، وتفاجأت بالصور الأخرى الموجودة به، ولا أظنها تعود لزوجتك، على ما يبدو أن تحب خيانتها، وهذه جريمة أخرى هنا؛ الزنا. أعتقد أنها لن تكون مسرورة إن عرفت حقيقتك، وربما أحرص بنفسي على إبلاغ والدتك بجرائمك.
هنا صرخ في ذعرٍ كبير:
-لا أرجوك، إلا والدتي، إنها لن تتحمل الأمر، ستموت قهرًا فيها.
-وماذا عن زوجتك؟
ظهر التردد على محياه، فأردف المحقق مقترحًا بمكر:
-أظن أنها لن تمانع في إرســال بضعة صور للترفيه عن زوجها.
لم يضف المزيد، وتطلع إليه في ترقبٍ، فوجده قد لجأ إلى الصمت، وغاص في تفكيرٍ عميق، لم يمانع الانتظار، ومنحه كل ما يحتاج من وقت، لينطق بعد مضي لحظاتٍ:
-سألبي شرطك، لا داعي للفضائح.
حلت ابتسامة انتصار على محياه، وقال مشجعًا إياه:
-حسنًا فعلت.
أعطـــاه المحقق الهاتف، وطلب منه الاتصــال بزوجته، في وجوده، ليسمعه وهو يتفق معها على إرســال الصور. ما إن خابر زوجته حتى صاحت تلاحقه بأسئلتها في قلقٍ كبير ومبرر:
-“فؤاد”، أين أنت؟ ولماذا هاتفك مغلق؟ لقد كدت أجن عليك لولا أن تواصل معي أحد أصدقائك وأبلغني بأنك في ورطة، ما الذي حدث؟
بعرقٍ بارد يملأ جبينه أجابه وهو يولي ظهره للمحقق، كأنما يخجل من رؤيته في هذا الموضع:
-لقد تم الإمساك بي، وأنا بحوزتي قطعة من الحشيش.
جاءه صراخها عاليًا مسموعًا لمن معه:
-ماذا تقول؟! كيف؟
بلع ريقه، وأخفض من نبرته وهو يأمرها:
-اسمعي ولا تقاطعي. فلا وقت لدي.
ردت عليه في صوتٍ ملتاع يعبر عن خوفها:
-أخبرني ماذا تريد، كلي آذان صاغية، هل تريد مني توكيل محامي عن طريق السفارة؟ أم يجب أن آ…
قاطعها للمرة الثانية قائلاً بترددٍ:
-انتظري، ما أريده غير ذلك.
سألته في الحال:
-ما هو؟
مسح بظهر كفه عرقه المتصبب، وقال وهو يختلس نظرة سريعة نحو المحقق:
-أريدك أن تلتقطي عدة صور لأجلي.
سألته في غير فهمٍ:
-صور عن ماذا؟
توقع دهشتها واستغرابها، فجاهد قدر استطاعته أن تكون نبرته ثابتة وهو يطلب منها:
-صورك عزيزتي
سألته في استنكارٍ متعجب:
-لماذا؟ وهل الظرف مناسب لهذا المزاح الثقيل؟
صحح لها فهمها موضحًا:
-أنا أتحدث بجدية.
عمَّ الصمت لهنيهة قبل أن تتساءل من جديد:
-كيف؟ وما العلاقة؟
هتف بها من بين أسنانه:
-نفذي دون نقاش، واحرصي أن تكون صورك كما اعتدتي أن ترسليها لي في ليالي الخميس.
بدا صوتها مدهوشًا مليئًا بالحيرة وهي تسأله:
-ولماذا تحتاج لمثل هذه الصور؟! ألست محبوسًا؟!
أجابها بعد أن ابتلع ريقًا غير موجودٍ في جوفه:
-بلى، ولكن لأمر هام…
خفض من نبرته أكثر ليوضح:
-إنها تذكرة خروجي من هنا، وإنهاء هذه المشكلة.
بدا من غير اليسير عليها استيعاب مقصده، فسألته:
-لم أفهم ذلك جيدًا، ما الذي تعنيه بكلامك؟
اضطر أن يشرح لها بإيجازٍ ما يريده بالضبط، ليخرج من ورطته، وتُمحى هذه السابقة كأنما لم تكن يومًا، فما كان منها إلا أن صرخت في إنكارٍ حانق:
-اللعنة عليك! تريد المساومة بشرف زوجتك من أجل مصلحتك؟ يا لك من وضيع!
رد عليها بتوترٍ:
-افهمي، أنا مضطر لذلك، مستقبلي سـ…
هدرت تقاطعه قبل أن يتم كلامه:
-وأنا لست مضطرة، لطالما حذرتك من هذا الشيء اللعين الذي تشربه كأنه الماء والهواء بالنسبة لك، وكنت تخبرني كذبًا أنك توقفت عنه، والآن تريدني أن أكشف ستري أنا زوجتك لتحصل على حريتك؟ أي خسة تلك؟
اختطف “فؤاد” نظرة سريعة نحو المحقق الذي لاحظ تبدل تعابيره للشحوب، وتوسلها في أنفاسٍ متقطعة:
-اسمعيني رجاءً.
صاحت بنفس النبرة المتشددة:
-بل أنت من ستسمعني، أنضج، وكن رجلاً، وتحمل نتيجة جرائرك.
خرج “فؤاد” عن شعوره بعد أن خاب رجائه، وصاح في زوجته بعصبيةٍ جمة:
-اللعنة عليكِ، أنتِ زوجتي ومفروضٌ عليكِ طاعتي.
استنكرت وضاعة مطلبه، وهاجمته من موضع قوة:
-بلى، ما تقوله صحيح، إلا أن يكون في معصية للخالق.
علق في سخطٍ ناقم، متعمدًا إهانتها:
-كفى موعظة وأنتِ أبعد ما يكون عن ذلك، أم نسيتي ثيابك الخليعة التي ترتديها أمام الجميع بلا حياء؟
ردت عليه بصوتٍ شبه مختنق:
-ربما أنا مقصرة؛ لكني لستُ بعاهرة.
نفدت كل الحلول المتاحة حاليًا في عقله، ولم يستطع التفكير بذهنٍ صافٍ بعد أن ضاق به الخناق، لذا لجأ لتهديدها في نزقٍ:
-إن لم تفذي أمري سأطلقك.
ضحكت ضحكة هازئة منه قبل أن تعلق:
-يا ليتك تفعل ذلك، فاستريح من همك، يا فاقد الرجولة ومعدوم النخوة!
سحقت كرامته ومرغتها بالتراب بسيل تحقيرها المزدري له، فما كان منه إلا أن نطق برعونةٍ، وحفظًا لماء وجهه المنسكب:
-أنتِ طالق.
على عكس ما توقع من بكاءٍ مرير تفاجأ بها تُطلق زغرودة فرحة، لتضيف بعدها:
-خيرًا فعلت، اذهب غير مأسوفٍ عليك!
-انتهى الجزء الأول-
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة السلسلة كاملة اضغط على : (سلسلة الرجال قوامون)