روايات

رواية يناديها عائش الفصل السادس والخمسون 56 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل السادس والخمسون 56 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء السادس والخمسون

رواية يناديها عائش البارت السادس والخمسون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة السادسة والخمسون

لا يُلام الحمار على أنه حمار، و كذلك البعض .
********
بعد خروج مُجاهد من غرفة أُبَيّ التي يشاركه فيها قُصي منذ ساعة مصطنعًا النوم، حتى لا ينكشف أمره أمام والده بمعرفته بوجود فتاة فوق سطح بيته مُخبأة في غرفة تخصه.. أزاح صاحب المصائب المتتالية مصيبة تلو الأخرى الغطاء من على وجهه، ليقول بهمس محدثًا شقيقه
“أنا كنت عامل حسابي على اليوم اللي هتيجي فيه وظبطت كل حاجة في الأوضة زي ما قولتلك بس مكنتش أعرف إن بنت اللذين هتيجي انهارده !.. هو قالي إنها متفقة معاهم على بُكره !
تساءل أُبَيّ بحِيرة
” يعني هتعرف تنفذ اللي قولت عليه ولا مش هتعرف و هتودينا في داهية ؟ ”
رد قُصي بابتسامة ماكرة
” عيب عليك.. في مثل بيقول لا تعطيني سمكة، و لكن علمني كيف اصطاد
صمت أُبَيّ لثوانِ ينظر له ببلاهة منتظرًا منه أن يكمل
” ايوه كمل فين الحكمة؟ ”
” ما هو مفيش حكمة عشان مبحبش السمك ”
قالها ثم أصدر ضحكة قوية وهو يضرب بكفه على فخذ أخيه، فضربه الآخر بالوسادة وهو يقول بغيظ منه
” قوم يالاه اطلع برا.. أنت مش ليك أوضه لوحدك !.. مشوفش وشك هنا تاني ”
” طب استنى بس.. إحنا هنعمل ايه بجد.. أنا خايف أبوك يعرف… مش مهم أمك لو عرفت.. أمك أصلًا بينضحك عليها بكلمتين.. إنما أبوك مصمم يبقى يحي في الفيل الأزرق ”
” ده أنت اللي يومك هيبقى أزرق لو ممشتش البت دي من هنا ”
قالها أُبَيّ بجدية، رد قُصي بتفكير
” ناخد منها اللي احنا عاوزينه و اغورها ”
” قُصي.. متستعبطش.. أنت تقدر تاخد اللي أنت عاوزه من غير ما تكون موجودة هنا.. اطلع مشي البت دي.. أبوك بالله لو عرف هيخلي يومك مش فايت ”
زفر بضيق وهو مصمم على تنفيذ ما يدور في رأسه.. قال بنظرة انتقام
” أقسم بالله لو طلع اللي في دماغي صح لأخد فيها إعدام هي و الشلة الـ*** اللي معاها و أنا رافع راسي ”
نهره أخيه بغضب خوفًا عليه من تهوره
” أنت كده تبقى غبي مبتعرفش تفكر.. تودي نفسك في داهية عشان شوية عيال متسواش قرش…اعقل كده و كله بالهداوة ”
هز رأسه باقتناع في محاولة لتهدئة ثورة دمه، ثم أحضر اللاب توب خاصته و الذي أوصله خصيصًا بكاميرا مراقبة صغيرة جدًا قام بوضعها في الغرفة التي بها كارمن…الكاميرا تقوم بتسجيل كل شيء صوت و صورة… !!
بعد عدة دقائق من استماعهم و رؤيتهم لكل شيء..تبادل أُبَيّ و قُصي النظرات بصدمة و أمارات الغضب و الدهشة تملأ وجههما..هتف قُصي بتعصب
” شفت..عشان أقولك إنهم وراهم حاجة كبيرة..ولاد الـ*** جايين مصر عشانا مخصوص..طب و رب الكعبة لأندمهم على اليوم اللي فكروا يجوا فيه..”
قال أُبَيّ غير مصدق ما قد سمعه
” و بابا إيه داخله بالموضوع ؟ اشمعنا بابا بالذات اللي عاوزين ينتقموا منه ؟! ”
” أنا هعرف كل حاجة..متقلقش..و على جثتي لو حد مس شعرة واحدة من عيلتنا ”
قالها قصي بغضب بالغ، ثم نهض من مكانه متجهًا للأعلى..استوقفه أُبَيّ قائلا بهدوء
” أنا عاوزك تهدى خالص كده..و تتعامل كأن مفيش أي حاجة..و ده لمصلحتنا علفكرة ”
أومأ قُصي بتفهم
” متقلقش… روح أنت بس لاهي أبوك في أي حاجة على ما اطلع أمشيها ”
***
صعد قصي لعند كارمن، و قبل أن يدخل الغرفة استنشق الهواء بعمق، ثم زفره بهدوء؛ كمحاولة لتهدئة ذاته عند رؤيتها بعد ما سمعه منها.. فتح الباب فاستقبلته بلهفة مزيفة تحاول احتضانه
” حبيبي.. بدأت أقلق لما أتأخرت.. لو وجودي هيسببلك مشاكل ممكن أمشي ؟ ”
نمت جانب شفتيها ابتسامة خبيثة، و قرر مجاراتها في اللعب بدهاء و مكر.. احتضنها برومانسية جعلت مشاعرها في تَخَبُط.. ثم ابعدها عنها برفق وهو يطيل النظر في عينيها بحُب مصطنع، ولكن بالنسبة لأي حد فهي نظرات حُب حقيقية.. هو جيد في تزييف المشاعر ولا أحد يستطيع التلاعب به بسهولة، بعمر الثانية والعشرون و عقله يفكر كرجل في الأربعون خاض معظم دروب الحياة.
قال بلهجة عاطفية
” أنا كلمت بابا و ماما عليكِ.. قولتلهم إني بحبك و مقدرش استغنى عنك.. و عايزين يقابلوكِ ”
اتسعت ابتسامة النصر لديها، و ظنت بأنها حققت مبتغاها، و التقرب من أهله هي أول خطوة في الانتقام.. ولكن تلك الابتسامة لم تدوم و تلاشت في الحال عندما تابع قصي القول بخبث شديد
” قولتلهم اسمك الحقيقي عشان يبقوا عارفين حقيقة شريكة حياة ابنهم.. و أنها أجمل و أطيب بنت في العالم.. كفاية إنها من عيلة محترمة و مشهورة.. عيلة سمير الضبع.. طب والله اسم نهلة بالنسبالي أحلى من كارمن بكتير.. ”
بهت وجهها فور أن كشف لها قصي حقيقتها أمامه، ظهر التوتر و الخوف عليها و تحججت بالرحيل قائلة بتلجلج
” طيب.. استأذن أنا دلوقت.. عشان عندي مشوار مهم كنت هنسى ميعاده
” لسه بدري يا نهلة يا حبيبتي.. بابا مستنيكِ تحت عاوز يتعرف عليكِ ”
قالها قصي بسخرية، فأصرت على الرحيل وهي تقول
” بعدين.. بعدين أتعرف عليهم ”
” طب يلا هوصلك ”
قالت بنفي سريعًا
” لا.. لا شكرًا معايا عربيتي ”
تابعها قُصي بعينيه حتى ذهب بسيارتها من أمام بيتهم، و عاد لقمة غضبه هاتفًا
” كانت قدامي.. كان زماني خلصت عليها و ارتحت مش شرها وقرفها.. اوف.. بس لأ هسويهم على نار هادية الأول ”
***
في الداخل كان أُبَيّ يستعد لملاقاة صديق له منذ سنين، كان يعمل بإحدى الدول الأجنبية ثم قرر الإستقرار في مصر و إقامة مشروع خاص به، فعرض عليه أُبَيّ أن يكون شريك له في شركته الخاصة، و يكبروا سويًا بشراكتهم طالما قُصي لا يريد الشراكة ويفضل الاستقرار بذاته.. فوافق صديقه المدعو بـ ” راجي عيسوي ” على أمل أن يلتقيان في أحد المقاهي الراقية، و يخططان للقادم.
نثر عطره الهادئ، بعد أن ارتدى ملابس كاجول أنيقة، و هندم شعره الأسود الناعم للوراء.. كان والده قد ذهب للنوم ثانيةً، بعد أن أبلغ قصي بنتيجته، التي لم يهتم بها بقدر اهتمامه برد كرامته هو و أهله و الانتقام من هؤلاء الجماعة الفاسدة.
تقابل أُبَيّ مع شقيقه عند الدرج ليتسائل الأول بفضول
” ها عملت ايه ؟ ”
رد قصي وهو ينظر لشقيقه باعجاب من أناقته
” متشيك كده و رايح فين ؟ رايح تقابل ! ”
” آه.. واحد صاحبي.. ”
” واحد !! و صاحبك !! .. أنت منهم !؟ ”
” من مين ياض أنت.. ما تحترم نفسك.. ده راجي ما أنت عارفه ”
ضحك قُصي مازحًا
” بهزر معاك… هو رجع من السفر إمتى ؟ ”
” لسه من يومين ”
” اممم.. أنا مبحبوش مش عارف ليه ”
“مش لازم أنت تحبه.. ده صاحبي من سنين و أنا بحبه”
“ماشي يا عم.. ربنا يهني سعيد بسعيدة.. أنا داخل أكمل نوم”
” مشيتها ؟ ”
سألها أُبَيّ في حذر.. رد قصي بانفعال
” غارت في ستين داهية ”
رن هاتف أُبَيّ برقم صديقه.. فقال وهو يتعجل ليذهب
” طب لما أجي هنتكلم تاني في الموضوع ده”
“مستنيك يا بطل.. سلام”
” سلام”
خرج أُبَيّ و قبل أن يفتح باب سيارته، لمح نورا ابنة عمه تخرج من منزلها، و هي تكمل ارتداء حقيبة الظهر الجميلة خاصتها.. فور أن وقعت عيناه عليها تبسم وجه لإراديًا و صارت دقات قلبه مسموعة !
تنهد تنهيدة حُب طويلة و قال بخفوت
” آه.. نورا ”
حاول أن يتحكم في نفسه ولا يتلعثم عند الحديث معها بسبب توتره الزائد كلما حدثها.. لم تنتبه إليه؛ بسبب بصرها الذي لم يرفع عن الأرض فقط تنظر بالقدر الذي يمكنها الانتباه من الطريق، غير ذلك لا تلتفت لأحد.. استوقفها صوت أُبَيّ يلقي عليها التحية
” السلام عليكم يا نورا.. عامله ايه ؟ ”
نظرت له فارتبك في الحال..ردت باسمة بعفوية
” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. أنت عامل ايه ”
ابتلع ريقه يحاول استجماع الكلام
” الحمدلله.. رايحه فين كده ؟ ”
” عندي درس قرآن دلوقت ”
أومأ بابتسامة صافية و قال
” ربنا معاكِ.. خلي.. خلي.. خلي بالك على نفسك ”
جز على أسنانه بغيظ من التأتأه، التي اصابته فجأة بعد أن قال جملتين كاملتين.. قال وهو يبعد نظره عنها بضيق
“سلام”
تعجبت من نبرته التي تغيرت فجأة فقالت بعدم فهم
” مع السلامة ”
ثم أكملت سيرها للدرس، و هي تظن أنه عندما رأى عينيها تقزز منهما كما يفعل الكثيرون.. فتلعثمه هذا يحدث كلما وقع بصره على عينيها، رغم أنه ذكر لها كم هي مميزة وجميلة بتلك العينان مختلفتان اللون.
ركب سيارته قائلا بعصبية
” أنت.. أنت.. أنت لازم.. لازم تشوف.. حل.. للي.. للي أنت فيه ده.. لو.. لو عاوز نورا.. مـ.. مضيعهاش من ايدك زي.. زي سيلفيا ”
مسح على وجه بنرفزة، و قام بتشغيل القرآن لتهدئة نفسه ثم انطلق للمقهى الذي اتفق مع صاحبه للقاء فيه.
وصل أُبَيّ للمقهى و تقابل مع صديقه.. ظلا يتعانقان بحرارة ثم جلسا يتحدثان عن أمور حياتهما.. تذكروا الماضي الذي طفق ذكرياته الحزينة آثار الإنطفاء على وجههما..
قال راجي بألم
” ربك بيختار الأحسن.. بس كنت أتمنى تكون هي الأحسن ”
رد أُبَيّ مبتسمًا بحسرة
” مكانش ناقصني حاجة عشان تبعد عني بعد ما علقتني بيها.. سابتني و سابت في قلبي ندبة صعب تروح العمر كله”
صمت ليتابع باسمًا بسعادة متذكر نورا
” بس عارف.. أنا حاسس إن.. إن ربنا هيعوضني قريب.. أنا نسيت سيلفيا بس اللي مأثر فيا اللي عملته.. لكن مبقتش أفكر فيها هي شخصيًا”
غمز له صديقه بمجاكرة
” ايه.. في واحدة تانية ؟ ”
أومأ بصدق
” آيوه.. نورا بنت عمي.. قريب هعترفلها بحبي.. و إن شاء الله متفائل خير… بس.. بس خايف يكون تلعثمي هو العقبة اللي بيني وبينها.. خايف.. خايف الماضي يتكرر.. خايف.. خايف اتأذي تاني.. أنا معنديش.. معنديش غير قلب واحد.. مش.. مش عاوزه يتكسر تاني ”
قال راجي بجدية
“مفيش حد بياخد كل حاجة يا أُبَيّ، الكون ده ليه قوانين و قوانينه هي اللي بتحكمنا و بُناءًا على القوانين دي مصيرنا بيتحدد.. يعني كل واحد فينا عارف هو موهوب في ايه و عنده نقص في إيه، ربنا اداك حاجة وخد منك حاجة مش معني كده إن توقف حياتك على الحاجة الناقصة عندك.. لأ كمل و انجح في الحاجة اللي أنت موهوب فيها.. شق طريقك وعافر و أوصل للنجاح اللي بتحلم بيه.”
ابتسم أُبَيّ ابتسامة لطيفة و برقت عيناه بالأمل وهو يتخيل نورا عروس في أبهى صورتها، وتمسك في يده تناظره بسعادة شديدة، وهو يبادلها النظرات بفرحة طاغية مرتديًا بدلة عرسه التي زادته وسامة.. ليقول
” بس.. بس نورا لو وافقت تتجوزني.. هكون..هكون حققت النجاح اللي..اللي بتمناه بجد ”
رمقه راجي بابتسامة ساخرة و قال
_ أنت كده بتضحك على نفسك.. يابني قصص الحُب العقيمة مبتكملش إلا في الأفلام، في الخيال.. في الأحلام يا أُبَيّ.. لكن في الواقع !.. الواقع مُرّ.. عكس ما أنت متوقع خالص.. الجنس التاني ده ليهم تفكير مختلف عننا خالص.. نظرتهم لينا مختلفة عن تفكيرنا بكتير.. يعني الواحدة منهم لما بتحط عينها على واحد بتبقى عاوزاه كامل متكامل.. عاوزاه توم كروز في نفسه..
براد بيت.. عايزه واحد وجه سينمائي الكل يحسدها عليه.. بروسلي في نفسه.. ليه كاريزما شبه المعلمين كده.. إنما واحد عنده عيب !. اراهنك لو كملت معاه.. هما يهمهم نفسهم جدًا.. يهمهم شكلهم قدام الناس و المجتمع.. مستحيل تقبل بواحد الناس يبصوله بشفقة أو يتريقوا عليه.
بدا الاستياء على ملامح أُبَيّ ليقول بصوت منزعج
” صوابعك مش زي بعضها يا راجي.. أنا.. أنا.. متأكد إن نورا مش من نوعية البنات اللي يهمها الشكل و.. و.. نظرة الناس بس.. نورا.. نورا.. أنضف و أحسن من..من كده بكتير”
“ده إذا كان أنا اللي صاحبك بقالي سنين اتخنقت من كتر ما أنت بتقف في الكلام أكتر من مرة.. ده أنت ماشي في التلاتينات و مش عارف تكون جملة على بعضها.. تفتكر هي هتوافق عليك ! طب خليها وافقت.. هتستحملك لحد إمتى ؟.. روح إتعالج الأول يا أُبَيّ و بعدين فكر في الحُب.”
لم تكُن شظيةً من أنفجار، لم تكُن رصاصة من بندقية، كانت كلمة.. كلمة نزلت على عقله فصدمته، و على رأسه فشجته، و على قلبه فكسرته..
نظرات أُبَيّ في تلك اللحظة لصاحبه لم تكن مجرد نظرات عتاب حزينة على ما تفوه منه، بل كانت نظرات كلها خيبة و انكسار و قهر، شعور بالمرارة الفادحة و الألم العميق اكتسح فؤاده، لقد سمع صوت نياط قلبه تتمزق في تلك اللحظة، ود لو أن جاءه ملك الموت وقبض روحه قبل أن يسمع ذلك الكلام السام، يعلم أن كل ما قاله صحيح و احتمال كبير أن ترفضه نورا مثلما رفضته حبيبته السابقة، ولكنه تمنى أن يجامله صديقة ويلاطفه بالحديث ولا يخبره بما يجعله يتألم في صمت، ولكن الحقيقة مُرّة أحيانًا وصعبة على صاحبها.
صحح راجي سريعًا عندما أحس أنه أحزن أُبَيّ
” أنت زعلت !.. أنا والله مقصدش حاجة… أنت عارفني صريح و مبعرفش أجامل.. و أنت أعز عليا من أخويا.. واجبي أنصحك ”
ابتسم أُبَيّ بقلة حيلة و قال
” و لا يهمك.. مش زعلان..حصل خير ”
لكنه ليس خيرًا يا أُبَيّ، هو ليس ضعيف الشخصية، هو فقط يتنازل كثيرًا ليرضي الآخرين، يخاف أن ينام و في أحدهم حزن منه، يحمل حزن العالم في قلبه ولا يظهره أمام أحد كي لا يحمله همه.. ولكن أن يأتي الكلام المؤذي من أقرب شخص لك.. ذلك هو الأذى بعينه
اتساءل.. ‏من يُرسل شخصًا إلى الحزن العميق كيف يبقى كاملًا في حياته دون خوف مما فعل؟
جملة سألها أحد الأشخاص الذين انكسروا من اقربائهم، ولم يجد الإجابة بعد..
بعد أن قضى أُبي بعض الوقت مع راجي، استأذن ليعود للبيت.. دخل الحارة قرابة العصر وعندما أذن مؤذنًا للصلاة اتجه للمسجد ليصلي.. تقابلا مع عمه مصطفى فسلم عليه و بعد الانتهاء من الصلاة بدقائق أتته مكالمة تخبره بحادث بدر، وكان زياد وقتها يصلي معهم فذهبوا جميعًا للمشفى التي بها احتجز بها بدر بعد اخبار والدته..
******
بعد نصف ساعة، أتت لقُصي مكالمة مهمة كان ينتظرها منذ أسابيع.. في الحال ارتدى ملابسه ولم يتردد في أخذ سيارة والده بعدما سرق المفاتيح كعادته.. ثم انطلق مسرعًا للمكان المقصود.. و بعد ساعة.. وصل الداهية المتنكر في وجه مهرج !
في مكان مظلم يشبه القبو في أرض تعتبر نائية نوعًا ما، مكان مخيف نادرًا ما يتواجد به أحد.. يقف ذو العينان الزرقاوتان بشموخ و الإبتسامة الصفراء ملء شدقيه وبيده شمعة يقوم بإسقاط القليل منها على جسد ذلك المُعلق بحبل غليظ من قدميه في السقف و يصرخ بأعلى صوته من شدة الألم كلما يقطر قُصي بالشمعة على جسده تحديدًا في أماكن حساسة.
“خلاص طالما مش هتتكلم يا شاذ يا زبالة.. يبقى هضطرني أستعمل معاك العنف.. خد بالك أنا لحد دلوقت حنين معاك خالص.. أنت لسه مشفتش الوش التاني لـ قُصيّ الخياط.. اللي أنتم نازلين مصر مخصوص عشان تلعبوا بيه”
قالها قُصي بنبرة هادئة و واثقة كأنه لا يبالي بشيء، ولكن تلك اللمعة المخيفة في عينيه الزرقاء التي تشبه لمعة الذئب عندما يترقب فريسته؛ تجعل من يراه يقسم أنه يخطط لشن حرب تفتك بنصف العالم.. التغيير المفاجئ في شخصيته و تحوله من الشخصية المرحة التي اعتاد الجميع عليها لشخصية مخيفة و غير متوقعة لم يشهدها أحدًا من قبل تدل أن هذا الشخص ما هو إلا داهية متنكرة في وجه مهرج لا يصلح إلا لإلقاء الدعابات و إسعاد الناس فقط، و الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
قام قصي بتسخين سيخ من الحديد حتى احمر وتوهج من شدة الإحمرار و قبل أن يقربه من جسد ” آراش ” صاح طالبًا النجدة ليهتف متوسلًا بلكنته
” أرجوك لا تفعل.. سأخبرك بكل شيء.. لكن.. لكن أنزلني أولًا.. أشعر أنني أختنق.. أرجوك أبعد ذلك الشيء عني و سأقول لك الخطة كاملة”
لوى قصي شفتيه بملل وحك شعره برتابة ثم جلس على الكرسي المقابل لـ آراش ووضع قدم فوق الأخرى ليقول ببرود
” لأ.. هتقول كل حاجة و أنت متعلق.. و بسرعة عشان بدأت أزهق ”
*********
‏‏”إن الاكتئاب هو أبغضُ تجرُبة يمُر بها الشخص على الإطلاق، إنه انعدام تصور الشعور بالسعادة مرة أخرى، وأيضا غياب الأمل كُليا، إنه الشعور بالموت، إنه مُختلف تمامًا عن الشعور بالحُزن.”
“لـ مريض اكتئاب”
********
لم تبرح الطبيبة شمس الغرفة التي وضع فيها بدر أو “ضلفة الدولاب” كما أطلقت عليه بسبب طوله الفارع و عُرض منكبيه أو ربما بالغت شمس في وصفه لقصر قامتها و ضعف بُنيتها مقارنة بأي رجل.. لم تدرِ ما ذلك الشعور الغريب الذي انتابها فجأة منذ اسعافها لبدر و التأمل في ملامحه بانبهار أثناء خياطتها جرحه، ليس انبهارًا بملامحه الشرقية الأصيلة، و إنما للشبه الكبير بينها و بين خطيبها الذي توفي في حادث سير !
رؤيتها لبدر جعلتها تسترجع جميع ذكرياتها مع “براء” الذي من المفترض أن تكون معه الآن في عش الزوجية، و لكن القدر تدخل مبكرًا و حسم الأمر.
كانت تقف بالقرب من فراشه تتأمله بعيون دامعة كأنها ترى البراء أمامها و ليس بدر، لتقول بصوت مسموع تزامن مع رجوع بدر الشباب لوعيه
“وحشتني..”
فرك بدر جبهته بتعب و رمقها باستغراب قائلا بغضب
” أنا لسه بهبب إيه هنا ؟! ”
قطع صوته المنزعج شرودها، فرجعت للوراء وهي تتحدث بحيرة
” أنت.. أنت فوقت ليه دلوقت..! أنت مش المفروض تفوق دلوقت ”
” نعم يا اختي !! ”
قالها بنظرة استنكار، ثم نهض ليخرج وهو يتمتم
“أنا مش فاهم دكتورة ايه دي اللي جايبنها تعالج الناس ! دي هطلة”
وقفت شمس أمامه لتمنعه من الخروج، و امتعضت ملامحها ثم أشهرت سبابتها الصغيرة في وجه لتقول بتهديد
“أنت وجهتلي إهانة أكتر من مرة في مكان شغلي.. و أنا لا يمكن أسمح بالمهزلة دي.. ده بدل ما تشكرني إني أنقذت حياتك.. و لا أنت من الناس اللي مبيطمرش فيها !! ”
رد بدر بسخرية
“شكرًا يا سيادة الطبيبة.. خدي بالك أنتِ منعتيني من الخروج و ادتيني حقنة مهدئ و أنا أصلا فايق و زي الفل.. يعني أنا ممكن اقدم فيكِ شكوى لمدير المستشفى دي و أقول إنك حجزاني هنا و منعاني من الخروج و أنا أصلا كويس و مفيش داعي إن أستنى أكتر من كده.. بس هسيبك تاكلي عيش”
ضحكت باستهزاء وهي تعقد يديها فوق صدرها قائلة
” بجد ! هتقدم فيا شكوى لمدير المستشفى ! تحب أوصلك و لا عارف المكان؟.. شكلك متعرفش مين شمس الأنصاري ”
عندما وقع اسمها على مسامع بدر، انفجر ضاحكًا ولم يستطع تمالك نفسه و أخذت ضحكاته ترتفع ليقول وهو يكاد يأخذ أنفاسه بصعوبة
” بجد والله اسمك شمس الأنصاري !!
و ياترى بقى ليكِ جزء تاني و لا المسلسل خلص على كده ؟.. آه صحيح معاكِ بدر الديزل
عاد يضحك بشدة و شاركته هي الضحك رغمًا عنها لتقول بغيظ
“أنا أول مرة أعالج مريض مهزق..
رد بدر باستفزاز
” و أنا أول مرة أتعالج عند دكتورة هطلة
أشارت له بالعودة على فراشه لتقول بحزم
” اتفضل على سريرك عشان أكشف عليك ”
” هو أنتِ فاضية؟ لا بجد فاضية ! مفيش وراكِ في أم المستشفى الطويلة العريضة دي غيري ! كل إما تلاقي نفسك فاضية تيجي تكشفي عليا ؟ ناقص تعملي عليا تجارب! أنتِ متخرجة من كلية طب ولا مدحرجة من شجرة نسانيس !
جزت على أسنانها بغيظ من أسلوبه لتقوم بإخراج حقنة مهدئ أخرى من جيب المعطف الطبي خاصتها، ثم لوحت بها أمامه بحركة تَحْذِير قائلة
” لو مقعدتش مكانك هضطر أستخدم معاك أسلوب قاسي ”
أخذ بدر الحقنة في لمح البصر ثم قام بثنيها و ألقاها في سلة المهملات بينما هي شهقت بدهشة من فعلته، فقال بدر بلا مبالاة
” شغل ابتدائي ده طلعيه على حد تاني.. مش مع بدر الخياط.. و يلا امشي من قدامي عشان أنا مبمدش ايدي على حريم ولو أنك يعني ملكيش صلة بالحريم.. أنتِ شكلك لسه بتسنني ومحتاجة ببرونة.. و أنا عندي مشاغل وهموم متلتلة مش فاضي للعب العيال ده.. ”
أزاحها بدر من طريقه كأنه يزيح دميه، ثم فتح الباب و خرج متجهًا لخارج المشفى.. لحقت به شمس لتعترض طريقه ثانية قائلة بنبرة قلق
” أنت بجد لسه تعبان و مينفعش أسيبك تخرج في الحالة دي.. أنت ليه مش عاوز تستنى لحد ما أهلك يجوا ياخدوك ؟ ”
” يجوا ياخدوني ؟ ليه.. طالع من الحضانة.. بقولك ايه.. متعصبنيش عشان أنا قلبتي وحشة.. سيبني أمشي لو سمحتِ”
كادت أن تجادله، و لكن مجيء عائلته قطع كلامها.. انتبه بدر لإقبال والدته عليه بلهفة وخوف و بكاء، يرافقها عمه مصطفى و من وراءه يأتي زياد ركضًا بعد أن قام بركن سيارته، و يرافقه أُبَيّ الذي علم بالأمر صدفة من عمه مصطفى أثناء صلاة العصر بالمسجد.
لم يود بدر إطلاقًا إعلام أهله بأمر الحادث، فرأسه بها من الضجيج ما يكفي ليجعله لا يريد محادثة أي أحد في أي شيء أبدًا..
أقبلت عليه أمه تقول بانهيار فور رؤيته
” بـدر.. ابني..
أخذت تتفحص كل إنش به بجنون أم هز الهلع قلبها عندما تم إخبارها أن ابنها أصيب في حادث..
” ايه اللي عملك فيك كده..فجعت قلوبنا يا بدر.. وجعت قلبي عليك يا ضنايا..
ضمها بدر إليه؛ ليهدئ من روعها قائلًا بهدوء
” أنا بخير يا أمي.. اطمني ياحبيبتي والله كويس
تدخلت الطبيبة شمس لتقول بابتسامة بشوشة وهي توزع الأنظار على عائلة بدر
” أنتم بجد حلوين أوي.. قليل إما حد يخاف على حد كده في الزمن ده ”
تمتم بدر متعجبًا من سذاجتها
” دي طلعت هبلة بجد ! ”
رد مصطفى عليها بعفوية
” ده ابننا .. ازاي مش هنخاف عليه ! ”
كانا زياد و أُبَيّ واقفان ينظران إليه بحزن وخوف، يحاولان تخيل الحادث الذي مرّ به.. تقدم زياد منه وعانقه عناق أخوي صادق المشاعر ليقول
” الحمدلله أنك بخير.. أنا قلبي كان هيتخلع من الخوف لما عرفت بالحادثة ”
رد بدر باسمًا
” يارتني كنت مُت والله يا زياد ”
عقد زياد حاجبيه في غضب، ثم وبخهُ
“ايه ياعم اللي بتقوله ده..! أنت عاوز تحرق قلب أمك و قلبنا عليك !”
صمت ينظر أمامه بنظرة منكسرة.. قال أُبَيّ في محاولة منه لملاطفته
” أنت بطل يا بدر.. و الأبطال مش بيتهزموا بسهولة.. صبرك على كل اللي بتمر بيه مش ببلاش عند ربنا.. ربنا اختارك أنت و ابتلاك بكل ده عشان يثبتلك أنك أقوى من أي حاجة ”
” ونعم بالله ”
قالها بدر، ثم التفت يشكر شمس قائلًا بابتسامة عادية
” شكرًا يا دكتورة.. أتمنى مكنش تعبتك معايا ”
ردت بابتسامة واسعة
” ده واجبي.. و إن شاء الله متكونش دي آخر مرة”
نظر لها الجميع بدهشة من قولها، بينما هي شعرت بالخجل الشديد، فهي في الحقيقة لم تكن تقصد قول ذلك البتة، و إنما أشارت بقولها لغاية في قلبها، وهي أن تستطيع رؤية بدر ثانية لأنه يذكرها بحبيبها.
انتشلها بدر من خجلها، فقال بمدافعة
” هي متقصدش يا جماعة.. دكتورة شمس كويسة جدًا بس عندها مشكلة في الكلام الحلو.. بيطلع عادب.. ”
ضحكت والدته بخفة وهي توزع النظرات على بدر و شمس بشك.. همّ جميعهم بالخروج من المشفى، فاستوقفته شمس متسائلة بلهفة
” طب مش هشوفك تاني طيب ؟ ”
رد مازحًا
“هتشوفيني آه.. لو جتلك في حادثة تانية
” بعيد الشر.. قالتها سريعًا وظهر الإعجاب في عينيها الذي استطاع بدر الانتباه له..و أيضًا والدته..
قال وهو يستعد للذهاب
” بشكرك مرة تانية.. سلام عليكم ”
” البراء.. هي نفسة نظرة العين الحادة بتاعت براء.. يارب يكون هو وده قرينه جايه يطمن قلبي إنه لسه معايا حتى بعد ما مات ”
كانت تحدث نفسها بصوت مسموع، بينما بدر وعائلته كانوا قد ذهبوا.. قطع حديثها مع نفسها صوت إحدى الممرضات تقول
” دكتورة شمس.. دكتورة شمس
_في ايه ؟
“في واحد جاي مناخيره بتنزف جامد”
_ ده فين ده ! أنا جايه حالًا.
….
في الطريق للحارة.. أعاد بدر في ذاكرته ما حدث بينه وبين شمس من مزاح و نظرات، شعر بالتقزز و القرف من نفسه على تخطيه الحدود في التعامل مع إمرأة لا تحل له.. تحدث مع ذاته بصمت
” ما هو يا إما الحادثة أثرت على نافوخك، يإما أنت ضربت بأخلاقك عرض الحائط و استحليت النظر للمحرمات.. ده أنت كنت بتتكسف تبص لواحدة ايه اللي حصلك ؟ لأ وكمان العشم واخدك وعمال تهزر معاها ! ..
رد على نفسه يدافع مظهرًا البراءة
“بس أنا مكنتش في وعيي ساعتها.. كنت حاسس إني ملغبط و تايه ومش عارف بقول إيه ولا بعمل إيه.. ”
أجابته نفسه اللاوامة
“أنت فعلًا كل إما تسيب نفسك لمرضك هتفضل تايه ومحتار.. وهتفقد شخصية بدر المحترمة العفيفة اللي فضلت سنين محافظ عليها.. خوفك من إظهار المرض النفسي اللي عندك و رهبتك من شكلك قدام عيلتك هتخليك في أسوأ حالاتك يا بدر.. الحق نفسك قبل ما تبقى في القاع و ساعتها هتقول يا رتني كنت اتعالجت بدري”
هزته والدته من كتفه لتقطع شروده
” مش تاخد بالك من الطريق يابني !.. الحمدلله أنها جات على قد كده.. أنا مرضتش أقول لسيف.. فضل ياحبة عيني مستنيك تفطروا سوا ولما لقاك اتأخرت نام على نفسه وهو قاعد.. أصله طول الليل بيفضل صاحي يقرأ قرآن ويصلي و يدعي ربنا إنه يخف.. مش عاوز يشيلك همه.. شايفك أبوه وعاوز يفرحك بيه وهو دكتور ناجح ”
ربت بدر على يدها بحنو قائلًا بابتسامة لطيفة
” هيبقى أحسن دكتور بإذن الله.. أنا مش هرتاح غير إما اسفره يتعالج”
” أنت عارف أخوك دماغه ناشفه.. مش هيرضى”
” سيبيلي بس الموضوع ده عليا و متشغليش بالك.. وعاوزك تجمدي قلبك كده علينا.. عيالك أسود مهما حصلهم هيفضلوا كويسين.. اطمني ”
مسدت على شعره وهي تقول داعية الله
” مفيش أم قلبها جامد على عيالها.. ده أنتم روحي اللي عايشها بيها.. ربنا ما يوريني فيكم يوم وحش وتفضلوا سند لبعضكم يارب دايمًا”
وجد بدر نفسه يميل تلقائيًا على فخذه أمه، فأخذت تمسد على شعره وتدعو الله أن يبعد عنه أي مكروب ويريح باله و قلبه، لطالما أحب بدر النوم على فخذ والدته وهي تربت على شعره، بتلك الوضعية التي تشعره أنه مهما كبر سيظل طفل ضعيف بين أحضان أمه.. أحس بارتياح شديد و بكل طفولة و حُب غفى تحت ذراعها التي تضعها بحنان عليه..بينما زياد و والده و أُبَيّ فضلا الصمت طيلة الطريق و إعطاء بدر القليل من الخصوصية مع والدته.
__________________♡
إن الشَوْق لفَاضِح المُتعالِ
كلما اشتاق سَهر الليالي..
أما حان يا قلبُ أن تَحِنُ !
و الله أنك في البالِ لم يكفْ سُؤالي…
لـ نرمينا راضي.
*********
بينما كانت جدة عائشة تتحدث مع أم رحيم، وقف رحيم أمام المطبخ المطل على الصالة ينظر لعائشة بإعجاب واضح، لاحظت هي ذلك فقامت بإرسال نظرة اشمئزاز منه جعلت يرفع حاجبه بدهشة ويقول في نفسه
” أنا أول مرة واحدة تبصلي كده ! مالها البت دي! هتشوف نفسها عليا ولا إيه ! ”
لحظات و جاءت و الدته لتحضر العصير لهم..
قال رحيم بنبرة ساخرة
“أول مرة أشوف أم بتجيب لابنها العرايس في البيت.. يا ماما قولتلك أنا مش عاوز اتهبب اتجوز.. أنا مرتاح كده”
” وطي صوتك فضحتنا.. عرايس مين يا ابن الهبلة.. دي حفيدة خالتك أم جميلة.. بنت ناهد الله يرحمها ”
_ الرقاصة !
“يابني وطي صوتك عشان ميزعلوش
_لا بس الصراحة البت وتكة
_وتكة ! بقى فيه رائد شرطة ليه اسمه ومركزه يقول وتكة ! بيئة و مش هتنضف أبدًا
” قلبي يا زوزه.. المهم هتغدينا ايه ”
_ همك على بطنك.. خد طلعلهم العصير على ما اجي..
تجاهل كلامها أو لم يسمعه من الأساس بسبب تحديقه الشديد في عائشة..
نهرته والدته عندما لاحظته يقف كالصنم يطالع عائشة
” واقف متنح للبت كده ليه.. ما تحترم نفسك ”
” حلوة أوي يا ماما ”
” ما أنت كان معاك الأحلى و ضيعتها يا عين أمك
انكمش وجه حين قالت والدته ذلك، و هتف بغضب
” مش قولتلك متفتحيش أم الموضوع الزفت ده تاني !! دي واحدة *** بنت **** بنت ***
وضعت والدته يدها على فمه سريعًا وهي تقول بخفوت توبخه بشدة
” وطي صوتك.. فضحتنا.. ايه اللي أنت بتقول ده !! واحدة راحت لسبيل حالها عمال تهتك في عرضها ليه.. هتجبلي الشلل ياابن بطني ”
قال بغيظ وهو يخرج من المطبخ
” معتيش تجيبي سيرتها تاني.. عشان مسيبش البيت و أمشي ”
” طب انكتم.. خلاص.. أنت ما بتصدق تمسك في الكلمة.. يوه منك ”
زفر بضيق وتركها، ثم عاد في لحظات ليأخذ صينية العصير قائلا بمشاغبة و في عقله يلمح لفعل شيء.
” أنا هطلعها ”
قدم العصير لـ إخلاص جدة عائشة فشكرته بلُطف، و عندما اقترب من عائشة غمز لها وهو يقدم العصير..فقامت عائشة بأخذ الكوب منه و شكرته على طريقتها..قامت بسكب الكوب كله في وجهه..صاح رحيم بدهشة و غضب
” أنتِ مجنونة !!! أنتِ ايه اللي عملتيه ده !!
ردت عائشة بشجاعة وهي تطالعه باحتقار
” لو أنت واخد على الشغل الشمال فتيجي عندي وتحترم نفسك.. المرة دي كبيت العصير في وشك المرة الجاية هفتحلك دماغك وهعلم عليك قدام أهل البلد كلهم… يلا يا تيته”
“استني يا عائشة.. حقك عليا يابنتي”
” ربي ابنك يا طنط.. يلا يا تيته لو سمحتِ”
أخذت جدتها رغمًا عنها، و خرجوا من المنزل و أم رحيم تركض وراءها تطلب منها السماح، فلم تهتم عائشة و تجاهلتها تمامًا مكملة سيرها للبيت..
عندما وصلت دفعت بباب الغرفة ثم انهارت على الفراش باكية، وهي تتخيل نفسها محاطة بعالم بشع يفتح فمه بافتراس و أنيابه المخيفة تستعد لتمزيقها..
دخلت وراءها جدتها في الحال و أخذت تهدئها قائلة
” والله لاجبلك حقك منه.. بس متعيطيش.. عياطك بيقطع قلبي.. طب أنا اللي غلطانة.. حقك عليا.. متزعليش ”
قالت بتلقائية و ببكاء شديد
” أنا عايزه بدر.. عايزه بدر يا تيـته ”
صمتت جدتها للحظات، لا تعرف من بدر هذا، فهي لا تعرف أي شيء عن عائلة والد عائشة، ظنت أنها كأي فتاة مغرمة بشخص ما.. فقالت الجدة بحنان متفهمة الأمر
” هعملك اللي أنتِ عاوزاه بس براحه كده و فهميني.. مين بدر ده ؟ ”
بعد دقائق مسحت وجهها و اعتدلت مكانها، لتقول بنبرة حزينة منكسرة
“جوزي.. أو اللي كان جوزي”
رمقتها الجدة بصدمة و قالت
” أنتِ أكيد بتهزري.. بتضحكِ عليا صح ! ”
هزت رأسها بنفي
” ياريته كان هزار.. مكنش زمان حصلي كل ده ”
” لا لأ.. أنا مش فاهمة حاجة.. واحدة واحدة عليا كده و فهميني ”
أومأت في صمت ثم نهضت قائلة
” هغسل وشي و أجي ”
اتجهت للمرحاض، و اغتسلت و توضأت استعدادًا للصلاة، ثم خرجت وقبل أن تطأ قدميها باب الغرفة.. لمحت دماء سائلة بغزارة على الأرضية..!
دخلت سريعًا للغرفة و قلبها يكاد أن يقفز من الفاجعة على جدتها.. وقعت عيناها على مشهد لا يتحمله أحد.. !
**********
أحتلني حُبكِ كأنكِ تُعانِقينَ قلبي بكل قوّاكِ. لقائلها. ♥
_______________♡
صوت الزغاريد يخرج من بيت “مصطفى صِديق” والد رُميساء، و ارتفعت أناشيد الأفراح الإسلامية.. و بالطبع امتلأ الجو بهجة بوجود الأقارب و الاصدقاء خاصة تلك المشاغبة طيبة القلب روان..
رغم أنها لا تبرع في الرقص، ولكنها نهضت بكل همة و لفت وشاح حول خصرها و ظلت تتمايل يمينًا ويسارًا بسعادة حقيقية و أيديها تتشابك مع رُميساء وهما يغنيان مع المنشد..
” ده عرسنا عبر قلبه سكة الأشواق
ونده يا قمر انزل لي أنا مشتاق
غني وقول على طول و غناك عالي
عيني يا ليل ليل يا عين ليل يا عيـن ”
بعد قليل من المرح و الرقص.. بدأوا جميعهم في ارتداء الفساتين استعدادًا لحفلة الخطبة الليلة..
ساعد الفتيات رُميساء في ارتداء فستانها زيتي اللون ذو الذيل متوسط الطول و الذي تجمع عند الخصر بفيونكة رقيقة، فستانًا من الستان تناسب مع قوام جسدها و ارتدت فوقها خمارًا طويل أخفى مفاتنها و نقابها بالتأكيد، لشراء شبكتها ثم ستنزع النقاب و الخمار و تبقى بالفستان و شعرها المزين تكمل الاحتفال مع النساء فقط.
كانت تجلس في السيارة بجانب كريم الذي زينت الابتسامة السعيدة وجهه، وُضعت بينهما حاجز في المقعد، و لم يتركهما والدها وحدهما.. كان جالسًا بجانب السائق..
قالت رُميساء بخجل و هدوء
” ممكن أطلب منك طلب ؟ ”
نظر لها بحُب شديد، فلفت وجهها سريعًا بخجل زائد و توتر.. قال بنبرة عاشقة
” أنتِ تطلبي و أنا أنفذ ”
صمتت للحظات ثم قالت
” ممكن مامتك هي اللي تلبسني الشبكة ؟ ”
“و أنا عشان بحبك و عاوز علاقتنا تكمل على خير و ربنا يبارك فيها.. وعد مني مش هلمسك.. و ماما اللي هتلبسك الشبكة زي ما أنتِ عاوزه.. ها فراشتي تأمر بحاجة تاني ؟ ”
قالها وهو يطالعها بفرحة أنها أصبحت خطيبته و قريبًا زوجته.. هزت رأسها بنفي و قالت بهمس
” شكرًا ”
” لا شُكر على عشق حلال مُبارك فيه ”
قالها بابتسامة عذبة، ثم نظر أمامه احترامًا لوجود والدها و لأنها شديدة الخجل من المحتمل أن ينفجر خديها الآن من تحت النقاب!
وصلوا جميعهم محل المجوهرات، وتم شراء الشبكة بفرحة من الجميع و مباركات انهالت عليهما، حتى والد كريم اظهر فرحته بمبالغة، فظن أهل رُميساء الطيبين أنه تقبل الواقع الذي وضعه فيه ابنه، أما كريم كان يعلم أن فرحة والده المزيفة هذه وراءها كارثة، لكنه كان يدعو الله في جوفه أن تمر الليلة بسلام و بعد ذلك سيتفرغ له.
و مرت الليلة بسلام بالفعل.. كان يوم من أسعد الأيام و أجملها مرّ عليهم جميعًا خاصة رُميساء و الضابط الخلوق الصادق في مشاعره.
رأى فيها شريكة حياته، فبدون إرادة منه وقع في حبها، و بلطفه و أخلاقه أحبته هي، فتقدم لطلب الزواج منها على سنة الله و رسوله، فكيف لا يبارك الله في علاقة طاهرة كمثل هذه ؟!
إن الحب شيء لا يُملك، وإنما هو أمر بيد الله، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يحاسبنا الله على أمر يملكه هو ولا نملكه نحن؟!
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال: “يا رسول الله في حجري يتيمة قد خطبها رجل موسر ورجل معدم، فنحن نحب الموسر وهي تحب المعدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نر للمتحابين غير النكاح” (قال الألباني: الحديث أخرجه ابن ماجه والحاكم والبيهقي والطبراني وغيرهم، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، صحيح السلسلة الصحيحة، 624، صحيح ابن ماجه 1497).
بعد مرور أسبوع على الخطبة، دعا مصطفى عائلة كريم لتناول الغداء و قضاء يوم لطيف معهم، فقرر رياض رد الدعوة و تحت الإلحاح قبل مصطفى الدعوة.. لم يود مجيء ابنته الآن في بيت كريم، ولكن الجدة أصرت على مجيئها بعد ام اقنعت والدها أنها ستجلس معها ولن يتواجد كريم في مكان هي فيه.
وضعت أطباق الطعام بأصناف مختلفة تبدو شهية و لذيذة، على تلك الطاولة الطويلة التي جلس عليها والد رُميساء و أعمامها و كريم و والده و بعض رجال العائلة.. أما بغرفة كبيرة و راقية مجاورة للصالون وضعت طاولة من نفس أصناف الطعام الموجودة عند الرجال، و التي جلس عليها رُميساء و أخوتها و والدتها و جدة كريم و والدته و أخته..
تناول الجميع الطعام في جو من الألفة و السعادة بدا على وجوه النساء وهن يتسامرن مع بعضهن، أما رجال عائلة رُميساء شعروا أن والد كريم قام باصتدافتهم في فيلته لإهانتهم و التقليل منهم، و لكن كريم كان ينقذ الموقف في كل مرة بتغيير مجرى الحديث..
عندما أحس كريم الملل معهم تركهم يتجادلون في بعض الأمور ونهض ليقوم بإرسال رسالة لحبيبته الصغيرة محتواها
” ‏أحبيتك بقدّرِ ما أصابَ الجمِيع الفُضُّول لمعرِّفة لماذا أنتِ بالتحديد”
سمعت صوت الرسالة وهى على منضدة الطعام، ففتحت هاتفها لتلقي نظرة عليها..بدأت تقرأ بعينيها و الإبتسامة ترتسم على محياها شيئًا فشيئا، و تخضب وجهها بالحمرة عندما لاحظت أن معظمهن يتابعن تعبيرات وجهها الموحية بأنها تحظى بقصة عشق رائعة..
بادلته الرسالة محتواها
” ‏أيُ رياح طيبة أتت بك ؟
من أيُ أرضٍ حلوة أتيت إليّ؟ ”
عندما قرأها تبسم تلقائيًا، و أخذ يشاهد صور خطبتهما على هاتفه، رغم أنه لا يظهر من ملامحها شيء بسبب رداءها الفضفاض و نقابها، و لكنه يشاهدها بطريقة مميزة، يتأملها كأنه يستريح
بالنظر إليها من التعب.
كان يقف في حديقة الفيلا وهي لا زالت بغرفة الطعام يتبادلن الرسائل الغزلية العفيفة و أحيانًا المزاح السخيف المضحك، حتى سمع صوت سيارة تقف أمام البوابة الحديدية و حارس الفيلا يقف عند نافذة سائق السيارة يستفسر منه عن هويته..
أخذ كريم يراقب السيارة بنظرات استفسار عله يكون أحد أفراد العائلة، و لكن المفاجأة عندما فُتح باب السيارة و نزلت منه تلك الأنثى التي من شدة جمالها يمكنها أن تسلب عقول الناظرين إليها.. ظل كريم ينظر لها بشك في محاولة منه للتعرف عليها، فهو يظن أنه على معرفة سابقة بها..
بدأت الفتاة في الاقتراب نحوه وعلى وجهها ابتسامة رقيقة ساحرة، حتى اتضحت ملامحها لكريم الذي شعر بأن صاعقة تضرب رأسه !
وقفت الفتاة أمامه تتأمله بشوق و اشتياق بالغ و حنين للماضي حتى نطقت بصوتها الرقيق
” وحشتيني يا كريم ”
أحس كريم بأن لسانه عُقد فلم يستطيع النطق !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى