روايات

رواية يناديها عائش الفصل السابع والستون 67 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل السابع والستون 67 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء السابع والستون

رواية يناديها عائش البارت السابع والستون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة السابعة والستون

__________________________♡
اللهم دمر اليهود أبناء القردة والخنازير، اللهم شتت شملهم، اللهم عليك بقتلة الأنبياء، اللهم ارسل عليهم حجارة من سجيل وبث الرعب والذعر في قلوبهم، اللهم ابعث عليهم رياح عاتية تقتلع جبروتهم اللهم ثبت عبادك المخلصين في غزة وفلسطين، وارسل السكينة على قلوبهم وقوي عزمهم وإرادتهم وحبب فيهم روح الشهادة يا من قلت:
{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزقُونَ}
_________
‏«من أدب الفراق؛ ألّا تغادر ‏دُفعةً واحدةً كالموتِ الفجأة» ( سميح فتحي).
********
“بدر مات يا زياد… ! ”
جُملة قالها قُصي، وقعت على مسامع زياد كاللهيب تحرق قلبه قبل أُذنيه، صدمة احتلت وجهه، دهشة جمعت بين عدم الاستيعاب و رفض التصديق..
زاغَ بَصَرُهُ وهو يستحضر صورة بدر أمامه، كأنها تتلاشى رغمًا عنه، و تسارعت وتيرة تنفسه.. بدأ عقله يرفض معالجة الحدث الجديد، و ظلت جُملة واحدة تتردد في عقله
“لا أصدقُ أنه رحل، لا أصدق أنني لن أراه ثانيةً”.
أخذ شهيقًا عميق وهو يسمع بُكاء قُصي في الهاتف، تسائل تلك المرة بقلب توجس الرد
” قُصي.. متهزرش !
كان قُصي يتأمل من خلف زجاج الغرفة، الأطباء وهم يقومون بإنعاش صاحب الشعر الطويل بكل دقة.. تعالى صوت بكائه الذي شهدته حواس زياد لأول مرة، و قال بصوت مضطرب
“بـدر راح يا زياد.. مفيش فايدة
تزامنت جُملته الأخيرة مع يأس الأطباء الذي لاحظه على وجوههم، حينما لم يجدي انعاش قلبه بالنفع..
نزلت الدموع من عين زياد، وشعر بغصة في بطنه، و ازدادت دقات قلبه؛ حتى بدت مسموعة..
قال بعدم تصديق
” مش وقته خالص هزارك السخيف.. اديني بـدر يا قُصي..
قُصي !!.. قُصي روحت فين !؟ يابني رُد.. قُصي !!
وقع الهاتف من قُصي، و لأول مرة يشعر بالخوف الشديد.. تسمرّ مكانه، و انعقد لسانه وهو يشاهد الطبيب يكشف عن وجهه بنزعه للقناع الطبي، و قد تحولت ملامحه للعجز وقلة الحيلة هامسًا
” إنا لله و إنا إليه راجعون ”
حول بصره ثانيةً ناحية الغُرفة، فوجد الممرضات يقمنّ بتغطية وجه المتوفّى.. !
خرّ جسده على المقعد خلفه، وتوقفت عيناه عن الدموع، وهو ينظر للفراغ أمامه بصدمة عقدت لسانه؛ فلم يستطيع نُطق كلمة واحدة.. نظر عن يمينه ليجد “عائشة” تنكمش على نفسها في المقعد الآخر، و دموعها تزداد دون استيعاب ما حدث، فقط تُردد بعجز
“لا يارب.. خدني أنا و سيبه”
انتبهت حواسه لُجملة قالتها تسأل بها إحدى النساء ” للطبيب” وهي تبكي بحُرقة
” فؤاد مات يا دكتور ؟!..
ثم أطلقت صرخة ووقعت أرضًا، بعد أن فقدت الوعي، جاء على إثرها ثلاثة نساء أخريات و أربعة رجال يبدو الحُزن جليًا على وجوههم، منهم من يقول ” إنا لله و إنا إليه راجعون ” و منهم من يقول
” ده كان باقي على فرحه شهور يا حبة عيني ”
و تصك إمرأة وجهها قائلة بحسرة..
“يا حبيبي يا خويا.. راح في عز شبابه” فيقوم رجل من اقاربها بتهدئتها، قائلًا بحكمة
“وحدي الله يا بنتي.. ادعيله بالرحمة.. ميغلاش على اللي خلقه”
تجمعت تلك العائلة المكلومة أمام الغرفة التي بها صاحب الشعر الطويل، الذي صعدت روحه منذ قليل !
لم يعد قُصي يفهم شيء، حالة من الحيرة العقلية القصيرة و المكثفة تمرّ به الآن، و قد اتسعت حدقتا عينيه، و ارتفع حاجباه و تقوَّسا، فاغرا فمه في سكون بسيط عابر، بعد أن استوقفه ذلك الأمر المدهش
« وهو أن صاحب الشعر الطويل ليس بدر» !
توقفت ” عائشة” عن البُكاء، و انتقلت الدهشة من معالم وجه قُصي لملامح وجهها الذي بدا أحمقًا من عدم الفهم لمجريات الأمور.. اقتربت من قُصي و هي تمسح آخر دمعة تعلقت بأهدابها قائلة ببصيص من الأمل لمع بعينيها
” بدر لسه عايش !
نطق قُصي أخيرًا بعد دقائق من استيعاب الأمر
” اللي جوا ده مش بدر ! ”
اشتعلت نظرة عينيها بفرحة ناطقة و قالت
” قلبي كان حاسس إن فيه حاجة غلط.. الحمدلله
كانت تلك المرة دموع الفرحة التي تجمعت في مُقلتيها، وهي تحمد الله بفرحة احتلت قلبها، بينما قُصي نهض متسائلًا الطبيب
” بعد إذنك يا دكتور.. كان فيه واحد جه من حوالي نص ساعة كده مضروب بمطوى في بطنه ودخل أوضة العمليات..
قاطعه الطبيب وهو يهز رأسه بتفهم، و قال بهدوء
“الحالة دي موجودة في الطابق التالت مع الدكتورة شمس الأنصاري
و الدكتور هشام أبو النجا.. و بفضل الله قدروا يوقفوا النزيف..
تنهّد بارتياح حامدًا الله ثم قال في بفيض من السعادة
“شُكرًا يا دكتور”
انحنى قُصي ليحضر هاتفه الذي أسقطه من الصدمة، وجد أن ” زياد” قام بالاتصال به عدة مرات.. هاتفه قُصي في الحال وهو يقول ضاحكًا بسعادة قبل أن يجيب زياد عليه
” ده زياد لو عرف إني اتلغبط في بدر هيعمل مني بطاطس محمرة.. ”
ردت عائشة عليه، وهي تسرع في الصعود للطابق الأعلى
” احنا ازاي توهنا و معرفناش إن ده مش بدر ؟ ”
” عشان أول ما دخل على الترولي.. طلبوا مني أسجل بينات ” بدر” و أنتِ كان حالتك ما يعلم بيها إلا ربنا، و عشان إحنا مكناش في وعينا أصلًا مخدناش بالنا وهما بيدخلوا بالترولي الاسانسير..غير كده.. اللي كان في أوضة العمليات ده الله يرحمه و يصبر أهله بقى..كان شعره طويل زي بدر و مخدتش بالي من ملامحه عشان جهاز الاكسجين اللي على وشه.. الحمدلله إنها جات على قد كده.. إن شاء الله هيبقى زي الفُل ”
” يارب يا قُصي.. يارب ”
***
كان ” زياد” يقود سيارته بسرعة جنونية، يتخطى كل السيارات التي بمحاذاته على الطريق، و وجهه ممتلئ بالدموع لا يصدق أن رفيقه لم يعد موجود بالحياة… لم يُخبر أحدًا؛ خوفًا عليهم من الصدمة، و أكد على والده أن يبقى مع هاجر لحين استرجاع وعيها، ثم يأخذها و يعودا للحارة بعد أن أخبره بذهابه لشيء مهم للغاية.. لم يتركه أُبَيّ يرحل مفرده و ذهب معه دون أن يعرف حتى لأين الوجهة !
صرخ عليه أُبَيّ عدة مرات حتى يبطئ من سرعة السيارة.. قائلًا بخوف
” زيــاد.. زيــــاد.. رُد عليا.. في ايــه ؟؟ وقف العربية.. هدي السُرعة يا زيــاد.. العمود.. العمــــود.. حــــاسب….. !!
قال أُبَيّ جُملته الأخيرة و عينيه تتسع بفزع، ليمسك هو عجلة القيادة و يقوم بتحريكها باتجاه آخر قبل أن تصطدم السيارة بعمود الإنارة على جانب الطريق..
توقفت السيارة، و أخذ أُبَيّ يلهث بشدة، بينما زياد في حالة يُرثي لها، وهو لا زال يبكي بصوت مكتوم.. هزه أُبَيّ من كتفه قائلًا بهدوء
” زيـاد.. في ايه.. انطق ؟
نطق زياد أخيرًا بصعوبة
” بدر مات ”
” بـدر ايـــه ! ”
قالها أُبَيّ في دهشة شديدة، و صدمة فاقت كل توقعاته.. في تلك اللحظة رن هاتف زياد برقم قُصي، نظر زياد للشاشة المضاءة قليلًا بيأس، ثم رد بصوت مُتعب
” فين المستشفى يا قُصي.. ؟ احنا في الطريق للمنصورة”
على الجانب الآخر، حاول قُصي المام شتات عقله؛ خوفًا من ردة فعل زياد… حَمْحَمَ في توتر
” احم.. زياد.. خد نفس عميق كده قبل ما تسمع اللي هقوله لك ”
صاح زياد بنفاذ صبر
” في ايــه يا قُصي.. ؟
“بدر عايش.. أنا اتلغبط في واحد تاني”
تبادل زياد مع أُبَيّ النظرات لثوانِ، لتتسع ابتسامة الأخير قائلًا ” الحمدلله ”
بينما تحولت نظرات زياد للضيق، و تطاير الشرر من عينيه؛ ليصيح بعصبية بالغة
” يلـ** اليوم اللي شفتك فيه..
توقف ليستغفر عدة مرات من السباب و اللعن، واضعًا كلتا يديه على وجهه ليمسح عنه بتعصب و نرفزة، بينما أُبَيّ ارتبك من عصبية زياد و تدارك الأمر سريعًا؛ بسبب حماقة و تسرع شقيقه..
هاج و ماج مُتابعًا
“ده أنت عيل خنـ***.. ***.. و لو شفتك *** ***** أهلك.. يلـ** عيل *** ”
كمية من السب و الاهانات و التوبيخ، التي لأول مرة ينطق بها زياد خرجت منه تحت تأثير الغضب الشديد الذي سيطر عليه.. حاول أُبَيّ تهدئته دون جدوى، فأزاح يده التى تربت عليه باستشاطة، و ترجل عن السيارة صافعًا بابها خلفه، ليركل العمود أمامه بتشنج مكملًا الكم الوابل من الشتائم
” أخوك الـ *** ده لو مسكته في ايدي **** ****
ضحك أُبَيّ رغمًا عنه و قال مُلاطفًا
” استهدى بالله بس.. المهم إن بدر بخير.. الحمدلله
” اسكت أنت كمان يا *** ”
اتسعت عين أُبَيّ بذهول، فانتبه زياد سريعًا لما قاله، و تنهد معتذرًا
” آسف يا أُبَيّ.. ثُم تابع ليصيح من جديد وهو يشير بيديه بحركات عشوائية
” الـحيوان بيقولي بدر مات.. الـ*** والله لو لمحته لأخليه يقوم نص الليل يزرغط من اللي هعمل فيه
فلتت ضحكة نابعة من قلب أُبَيّ قائلًا
” ده لو عرفت تجيبه أصلًا.. زمانه هرب ”
” أخوك ده لو راضع زيت عربيات مش هيبقى بالتخلف ده ”
” اسم الله عليك أنت اللي كنت بترضع زبادو ”
خرج ذلك الصوت من هاتف زياد الذي وضعه على السيارة من الأمام عندما نزل مُتعصبًا.. يبدو أن قُصي لم يغلق المكالمة بعد، و استمع لكل السب الذي انهال عليه
زجر زياد في وجه الهاتف باغتياظ
” امشي يا *** يا *** يا *** يا غبي ”
” في واحد محترم يقول يا غبي ! ”
قالها قُصي، فانفجر أُبَيّ ضحكًا، مما زاد تعصب زياد منهما و هبْ منفعلًا على أُبَيّ
” أنت بتضحك على ايـــــه ؟؟ أنتم عاوزين تجننوني ؟؟! ”
” اهدى يا بني.. أعصابك ”
قالها أُبَيّ، ثم أخذ الهاتف منه ليحادث شقيقه متسائلًا عن اسم المشفى و مكانها، و بعد دقائق استطاع زياد العودة لهدوئه و تمالك أعصابه بفضل أُبَيّ، ثم انطلقا للمشفى التي بها ابن عمهما.
على الجانب الآخر، في المشفى التابعة للطبيبة
” شمس الأنصاري ” وقف قُصي و معه عائشة مع احدى الممرضات؛ لتسأل الأخيرة عن أحوال بدر
” هما هيخلصوا امتى ؟ ”
” متقلقيش.. هو الحمدلله النزيف وقف و عدى مرحلة الخطر ”
” الحمدلله.. طيب هيخرج امتى ؟ ”
” يعني.. ممكن نص ساعة كده ”
تساءل قُصي باستفسار
“مش محتاج نقل دم ؟ ”
ردت الممرضة بابتسامة ودودة
” أكيد كان محتاج نقل دم، لأنه نزف كتير، و الدكتورة شمس كتر خيرها نقلت ليه دم، فصيلة دمها تطابقت مع فصيلة دم المريض.. و مكنش فيه وقت تدور على مُتبرع.. و اللي قام بالعملية الدكتور
هشام أبو النجا؛ لأن الدكتورة شمس فقدت توازنها وتعبت شوية بعد نقل الدم.. بس كله تمام دلوقت الحمدلله ”
أحست عائشة في تلك اللحظة، بخفقان في قلبها، و تبدلت ملامحها للحُزن مُكتفية بالصمت و قول كلمة ” الحمدلله ” بوجه شاحب و ابتسامة مزيفة.
شكر قُصي الممرضة، و أخذ عائشة ليُجلسها على مقعد قريب من غرفة العمليات، بعد أن لاحظ الغيرة تنضج من عينيها، و الحُزن يملأ وجهها؛ ليذهب و يأتي بعد قليل، ومعه كوبان من عصير القصب..
قال بهدوء وهو يعطي لعائشة الكوب البلاستيكي
” اشربي العصير ده عشان متدوخيش مني و أنا مبشيلش حريم متخصنيش.. بنت عمي آه بس اللي جوا ده لو حس إن لمستك ممكن يقلب فيها ڤامبير ”
ضحكت عائشة بوهن، ثم أخذت الكوب منه قائلة بضعف
“تفتكر بدر لما يفوق إن شاء الله.. هيسامحني”
” هيسامحك على ايه ؟ ”
تساءل بعدم فهم، فردت بعد أن ارتشفت رشفة بسيطة من العصير
” يعني.. على إني السبب في اللي حصل لهاجر و حصل ليه.. أقصد إن أمير كان بينتقم من بدر في هاجر بسببي.. و كان هيموت تيته بسببي برضو.. يعني كل اللي حصل ده بسببي.. تفتكر بعد ده كله هيسامحني ؟ ”
” ما هو سامحك قبل كده على البلاوي اللي عملتيها.. ها يجي على دي و يتصدر فيها ؟ ”
قالها بتلقائية شديدة، وهو مشغول بتلذذ مذاق العصير الحُلو.. نظرت له عائشة بخزي من نفسها، ثم أطرقت رأسها بموافقة على كلامه
” عندك حق ”
انتبه قُصي لما قاله، فصحح سريعًا
” أقصد يا عائشة إن بـدر قلبه طيب و بيسامح، ده غير إنه بيحبك بجد، بيحبك بدرجة أنا نفسي مش مصدق إن لسه في حد بيحب كده.. هاجر و زياد حبهم متبادل.. يعني الاتنين بيبادلوا بعض نفس المشاعر يعني حُبهم معتاد عليه من ناس كتير، أما أنتِ و بدر قصتكم مختلفة خالص.. أنتِ مكنتيش بتحبيه و كُنت بتحاولي تخرجي من الحارة بأي طريقة، وهو كان بيحبك من يوم ما جيتي للدنيا.. برغم إنك رفضتِ حُبه كتير، لكنه مكنش قادر يتخطاكِ.. هو أول واحد شالك على ايده من العائلة، أول واحد كان بيراعيكِ كويس.. بيهتم بكل تفاصيلك.. عارف بتحبي ايه و بتكرهي ايه.. عارف بتفكري ازاي.. بيخاف عليكِ أكتر من نفسه.. أنتِ عارفة إن معشتش غير كام سنة معاكم و الباقي كله كان متوزع على دول أجنبية، فاللي حضر قصتكم من أولها من وأنتِ لسه عُمر ساعة، كان أُبَيّ أخويا؛ لأنه هو و بدر و زياد مكانوش بيفارقوا بعض.. كان بيقعد يحكيلي عليكم.. بيقولي يا قُصي أنا شُفت كتير، بس عمري ما شفت حد بيعشق بجنون كده زي بدر.. بيقولي كان بيخلي عمتي مفيدة تعلمه طريقة ضفيرة السُنبلة عشان يعملها لعائشة، بيقول في مرة راح يجيبك من الحضانة لقاكِ بتعيطي، شالك وضمك ليه لحد ما بطلتِ عياط و قولتيله إن زميلتك في الحضانة بتغيظك عشان مامتها عملالها تسريحة أحلى من بتاعتك.. يومها روح بدر و خلى عمتك تعلمه أحسن تسريحة شعر كانت موضه أيامك.. و عملك الضفيرة دي بنفسه؛ لأنك مكنتيش بتخلي حد يسرحلك غير بدر.. و تاني يوم روحتي الحضانة و كل زمايلك كانوا مبهورين بشعرك حتى المدرسات بتوعك، ولما رجعتي كُنتِ في قمة سعادتك.. بدر ساعتها بقت ابتسامته من الودن للودن وكل اللي يسأله سبب الابتسامة الجميلة دي ايه، يقول جُملة واحدة بس
” عائش مبسوطة ”
تفتكري واحد كُل أمنيته إن يشوفك سعيدة، مش هيسامحك ؟
عائشة، أنتِ مهما تعملي هتفضلي..
” عائش.. حبيبة بدر الأبدية ”
كانت تستمع له، و ملامحها الشاحبة تسري فيها حُمرة الخجل مختلطة بمشاعر السعادة و الحُب، افتر ثُغرها عن ابتسامة من القلب جميلة لتقول
” و أنا معرفتش معنى الحُب الحقيقي غير مع بدر”
” طيب ما ترجعيله ؟ ”
هزت رأسها و قالت بتنهدّ
” هرجعله أكيد إن شاء الله، لأن مليش غيره.. بس مش دلوقت ”
” اومال امتى يا عائشة..الأيام بتجري و تسرق من عمركم ”
” بدر لازم يتعالج الأول يا قُصي… أنا لو رجعت لبدر وهو على حالته لسه، هيكنسل العلاج.. أنا مش هسيبه والله.. هفضل جنبه أدعمه لحد ما يتحسن، لكن لو رجعت ليه دلوقت هيتهرب من العلاج عشان ميظهرش ضعفه قدامي.. بدر لازم يتعالج عشان نفسه الأول.. مش عشان أي حد تاني”
” كلامك منطقي، لأن نوبات الغضب اللي بتجيله ممكن يأذي نفسه فيها و يأذيكِ معاه.. ومش هيسامح نفسه لو جرا لكِ حاجة ”
” مش مشكلة أنا.. المهم عندي هو ”
فُتح باب غرفة العمليات، و خرج ” بدر” على الترولي برفقة اثنتان من الممرضات، و الطبيبة ” شمس” و الطبيب ” هشام” الذي قام باجراء العملية له..
نهضت عائشة في الحال، عندما رأت “بدر” يخرج من الغُرفة، تمالكت نفسها و ظهر ايمانها لأول مرة في موقف عصيب كهذا، فأخذت تذرف الممر جيئة و ذهابا، بعد أن دخلوا به لغرفة أخرى يرافقهم قُصي للمساعدة في نقله للفراش.. لسانها لا ينفك عن الدعاء و التضرع إلى الله أن يتعافى سريعًا، دخلت الغُرفة و آلام الخوف الشديد تقوى على رأسها كالمطارق، ففكرة وجوده بالمشفى طريح الفراش لا حول له و لا قوة؛ تؤلم قلبها كثيرًا.
تقدم الطبيب، و جسّ نبضه بتأن و رويّة، و بكل دقة، ثم التفت اليهما و قال بوجه بشوش
” هيبقى كويس إن شاء الله.. اطمنوا ”
كان ” بدر” غائب عن الوعي بفعل مُخدر العمليات، فقد كان ذو حظ وفير، و لولا ستر الله لكان في تعداد الموتى، و مع الفحص الطبي لتحديد ما إذا كان النزيف الداخلي موجودًا، تم استخدام تشخيص مُركز مع التصوير بالموجات فوق الصوتية (FAST)، و وُجد أن الأنسجة و الأعضاء لم تتأثر؛ بسبب بُعد الطعنة عنها، أو عدم تمكن الجاني من الطعن جيدًا، فكان الضرر بسيطًا، و لأنه فقد كثير من الدماء بسبب النزيف، فنقلوا له الدم سريعًا، و تمكن الطبيب من ايقاف النزيف و تطهير الجرح، ثم تخييطه.
بعد خروج الطبيب و الممرضات، لاحظت عائشة وقوف شمس بجانب ” بدر” تتأمله بحُزن..
تساءلت عائشة بغيرة بدت في صوتها، و لكن ظلت محافظة على هدوئها
” هو حضرتك موجودة في المستشفى دي أربعة و عشرون ساعة ؟ ”
التفتت لها شمس، و ردت مبتسمة بلُطف
” المستشفى دي بتاعتي.. بس لتالت مرة يتصادف وجودي مع وجود بـدر ”
عقدت عائشة يديها على صدرها، و قالت وهي تزفر بضيق
” و هو مكنش فيه غيرك اللي ينقله الدم ؟ ”
” أنا الوحيدة اللي كانت فصيلة دمي متطابقة معاه من الموجودين ”
قالتها، ثم اقتربت من عائشة بخطوات هادئة
” ملهاش لازمة الغيرة دي.. أنا عارفة إنك بتحبيه و هو كمان بيحبك.. كان باين في نظرات عينيكم لبعض لما كانت جدتك موجودة هنا.. خلي بالك منه و حافظي عليه كويس عشان ميروحش منك زي ما “البراء” خطيبي ما راح مني ”
قالت آخر جُملة بعيون دامعة، ثم تركت الغرفة و خرجت.
تابعتها عائشة بلا مبالاة، ثم اقتربت من بدر و جلست بجانبه على الفراش؛ لتمتد اناملها تداعب خصلات شعره المتناثرة على وجه الشاحب.. فرت دمعة منها سقطت على يده المتعلقة بالمحلول، فمسحتها له، وانحنت لتضع قُبلة عميقة في راحته، ثم قالت
” اليُتم الحقيقي معشتوش، غير في اللحظة اللي حسيت فيها إنك ممكن تروح مني ”
مسحت على شعره الناعم مسحة الحنان، و تابعت بدموع
“مفيش نَوَافِلُ في شَوَّقَيِ ليك، اللَّحْظَة اللي بِتِيجي عَلىٰ بَالِيٌ هِيَ فَرْضُ”
قاطعها قُصي ضاحكًا
” هو ليه كل إما حد يقع في الحُب بيتحول لشاعر ؟ ”
ردت عائشة دون أن تلتفت اليه
” عشان كل كلام الغزل اللي بيطلع بيبقى طالع من القلب يا قُصي.. و القلب مبيقولش غير أحلى كلام”
” اممم.. طيب اسيبك معاه بقى على ما أعمل مكالمة كده مهمة و جاي ”
خرج قُصي ليطلب الرقم الدولي الذي أرسل له رسالة نصية مضمونها
” سلم نفسك و إلا أخوك كبش الفدا ”
رد الطرف الآخر بعد عدة لحظات ليقول بنبرة ساخرة
” كنت متأكد إنك ذكي و هتفكر ”
” كمل.. سامعك ”
قالها قُصي بشيء من الانصات؛ لمعرفة الغرض الحقيقي منه.. تابع الرجل
” كلامنا مش هينفع يبقى في التليفون خالص.. أنا عارف كويس إن تليفونك متراقب، و زمان عزمي بيه قاعد بيسمعنا دلوقت..
ضحك ساخرًا ثم أكمل..
“مش هيبطل الخِصلة دي.. بيحب التجسس زي عينه.. هي آه شغلانته.. بس هو حِشري بالفطرة.. المهم عايز تعرف الحقيقة.. يبقى تسافر بكره الصبح ” السويد “، و لما توصل هبعت رجالتي ياخدوك للمكان اللي هنتقابل فيه.. ” عزمي بيه” يعرف أنا مين و متحاولش تسأله عشان مش هيقولك الحقيقة، و لو قالها مش هتبقى كاملة.. مش من مصلحة ” عزمي ” أبدًا إنه يعرفك عليا.. ساعدني عشان أقدر أساعدك
أحس قُصي أنه في متاهة بعد سماعه لكلام هذا الرجل المجهول، انتاب عقله الحيرة و تساءل في فضول يصحبه القلق
” أُبَيّ أخويا ايه علاقة بالموضوع ؟ و ليه بتساومني بيه ؟ ”
تنهّد الرجُل بحُزن؛ مُتذكرًا بعض المشاهد السوداوية، التي لا يستطيع اخراجها من ذاكرته أبدًا.. تحدث بنظرات حقد تكمن بداخله منذ سنوات عِدة
“يـاه.. الموضوع يطول شرحه.. هتعرف كل حاجة لما نتقابل..
تساءل قُصي في شك
” كارمن ليها علاقة بالموضوع ؟ ”
” نهلة سمير الضبع تُقصد ؟ أنا لغاية دلوقت بحميك منها و من جماعتها، لكن لو شيلت ايدي من حمايتك؛ هتتأذي أنت و عيلتك كُلها..
” أنت مين ؟ ”
تملك الفضول الشديد من قُصي، فبادر بسؤاله، و كان رد الرجل المجهول
” بُكرة تعرف ”
أغلق الرجل المكالمة دون انتظار رد من قُصي، مما عاود الأخير الاتصال به بلهفة؛ فجاءه رد يقول أن “الهاتف المطلوب غير موجود بالخدمة ”
كاد أن يجن جنونه و يفقد صوابه، وهو يحاول اعادة الاتصال دون جدوى.. تنفس الصعداء بغضب وقام بالاتصال على ” اللواء عزمي باشا”
جاءه الرد منه كأنه كان في انتظاره لحين انهاء مكالمته مع الرجل الغريب
“قدر ياكل بعقلك حلاوة ! ضحك عليك بالكلمتين بتوعه دول ! قُصي اوعى تصدقه، ده من أكبر أعدائنا، هو اللي بيمول الارهابيين اللي بيدخلوا مصر، محدش قدر يوصل لمكانه الحقيقي.. حتى الانتربول الدولي معرفش يحدد موقعه، كنت متوقع اتصاله بيك وحاولت اوصل لموقعه معرفتش، لأن للأسف بيستخدم تكنولوجيا موصلتش لعالمنا لسه في التليفونات تخلينا منقدرش نحدد موقعه.. ده أخطر ارهابي في العالم يا قُصي.. أي جريمة سياسية أو اقتصادية كُبرى بتحصل في أي بلد سواء عربي أو أجنبي هو السبب فيها.. بيقدر يتحكم في اقتصاد العالم كله من خلال موقعه السري اللي محدش يعرفه لسه.. واحد زي ده تفتكر هيغامر إنه يبعت رجالته ياخدوك من مطار السويد ده لو كان في السويد أصلًا؛ عشان تقابله ! هو عارف و متأكد إنك لو طلعت برا مصر هتبقى فريسة سهلة بالنسبة ليه.. قُصي الراجل ده عاوز يخلص منك بأي طريقة بس مش عارف.. عشان أنت في مصر محمي كويس يا قُصي”
اختلطت عليه الأمور، و لم يعد قادر على استيعاب شيء، و حامت الأسئلة حول عقله، سؤال يليه الآخر يُريد الكثير و الكثير من الأجوبة المقنعة عليه، استقر على سؤال مهم أخيرًا
” أنتم عايزين مني ايه بالضبط ؟ ”
“قُصي.. أنت خرجت من الممر عشان ترجع بنت عمك.. و الحمدلله قدرت ترجعها و كنت واثق إنك هتحل لغز اختطافها عشان كده سيبتك تخرج و شفتك و أنت بتضرب الحارس و بتتخطى جهاز الانذار، بس سمحت لك تهرب بإرادتي.. لكن دلوقت لازم ترجع للممر.. المهمة بدأت يا قُصي و اعتمادنا على ربنا ثُم عليك”
تنفس الصعداء بعُمق و قال بعد تفكير
” هرجع يا عزمي باشا، و مش هسافر برا مصر و هصدقك، بس لو كان فيه خطر واحد على أي فرد من عيلتي أنت أول واحد هتزعل.. و بقولها في وشك.. أنتم لسه مشفتوش الوش التاني مِني، و اللي مجربش زعلي يسجد لله ركعتين شُكر ”
” تمام يا قُصي.. أنت و عيلتك بأمان طول ما أنت معانا ”
“تمام يا باشا”
قالها، ثُم أغلق المكالمة و أخذ يفكر في كلام كُل منهما الآخر، يحاول استيعاب ما قاله ذلك المجهول، و ما قاله ” اللواء عزمي” الذي يعرفه جيدًا من آخر مهمة تم استدعائه لها الخاصة بـ “شيكاغو” اقتنع أخيرًا بكلام اللواء، و فضل المكوث في الممر؛ حتى يتسنى له بتحقيق المُراد من المُهمة.
في داخل الغرفة التي بها ” بدر ” لا زالت عائشة تجلس بجانبه، تحتوي كفه و تضمه لصدرها، و هي تُحدثه بحُب تارة، و تمسح على شعره بحنو تارة أخرى، كان قد مرّ من الوقت ساعة و نصف منذ دخول بدر للمشفى..
انتهت آخر قطرة من المحلول الموصل ليد بدر، و جاءت الممرضة بعد دقائق لتُعلق له آخر، ثم اطمأنت على حالته فوجدته في طريقه لاسترجاع وعيه، خرجت و تركت عائشة بجانبه تقاوم النعاس الذي احتل جفونها، فلم يكحل النوم عينيها إلا ساعات قليلة في الأيام الماضية، في نهاية المطاف سقط رأسها رغمًا عنها على صدر ” بـدر” و غطت في النوم، و بعد عشر دقائق أحست بحركة خفيفة أسفل رأسها، ففتحت عيونها و انتبهت أذنيها لصوت دقات متسارعة نابعة من بين ضلوع بدر، رفعت رأسها بخفة تُطالعه بأمل، وهو يرفرف بأهدابه السوداء الكثيفة كأنه يصارع حلمًا ما.. لحظات و فاق على صوت دافئ حنون يقول
” حمد الله على سلامتك يا بدري ”
فتح عيونه أكثر؛ لتتضح صورتها أمامه التي لم تفارق مخيلته حتى وهو فاقد الوعي.. نطق بصوت ضعيف للغاية بالكاد يكون مسموع
” عائـش ! ”
هزت عائشة رأسها و سقطت دمعة الفرح منها على خد بدر، فابتسم لها بوهن.. مسحت عائشة دمعتها و لم تستطيع منع نفسها من احتضانه بارخاء رأسها على صدره و التمسك بكتفيه بشوق شديد، قالت وهي على وضعيتها
” وجودك شيء مكملني لأني لوحدي مش بقدر”
ضحك بدر بتعب و همس بصعوبة
” ملامِحك كلها مني يا دوب الإسم متغير ”
رفعت رأسها لتتأمله بحُب يصحبه المشاكسة
” بس أنا أبيض.. ”
انفرجت ابتسامته و تحولت لضحكة صافية، قائلًا
” أنتِ مُهجة قلبي يا عائش ”
ابتسامة خجولة زينت ثغرها، و الصمت هو سيد الموقف؛ لكنه لا يخلو من التواصل البصري بينهما، انتهى أخيرًا بامتداد يد ” بدر” الخالية من المحلول، لرقبتها ثم سحبها برقة لتتوسط صدره قائلًا بلُطف
” ارتاحي يا عائـش ”
كانت بالفعل بحاجة للراحة التي لم تنعم بها منذ أن انهالت عليهما تلك الابتلاءات، ثوانِ و ارتخت جفونها مستسلمة للنوم بعمق على صدره، بينما هو
على خدها الناعم ليَّنه بتمرير الأنامل عليه، ثُم شد الغطاء ليخفي جسدها عن أعين الطارق..
كان الطارق قُصي، دخل باسمًا عندما وجدهما على تلك الوضعية ليقول بمرح
” حمدالله على سلامتك يا شيخ بدر.. نقول مبروك ؟ ”
ضحك بدر بخفة، و قال بصوت منخفض مشيرًا للباب
” خليك برا على الباب شوية عشان عائشة عاوزه تنام و مدخلش حد ”
هز قُصي كتفيه باستسلام ليقول قبل أن يخرج
” زي ما تحب.. ”
تمتم وهو يغلق الباب خلفه
” فاكرني الحارس بتاعه.. مفيش حتى كلمة شُكر ليا.. يلا زي بعضه خيرًا تعمل شرق الدلتا ”
” شرق الدلتا.. هي الكلمة دي زي اللبانة علطول في بوقك ! ”
كان ذلك الصوت عائد لشقيقه أُبَيّ الذي وصل برفقة زياد منذ دقائق، و سألوا عن رقم الغرفة الخاصة بابن عمهما، ما إن رآه قُصي حتى القى بنفسه بين احضان أخيه قائلًا بحُب حقيقي
” كُنت حاسس إن ولا حاجة من غيرك ”
ربت أُبَيّ على ظهره قائلًا
” أنا فخور بيك يا بطل.. فخور بكل اللي عملته.. أنت كويس يا حبيبي ؟ ”
أومأ قُصي مبتسمًا ببراءة، كأنه مجرد طفل صغير رأى والده بعد رحلة سفر طويلة، فبرغم شقاوته و جنونه أحيانًا و سرعة البديهة التي حباه الله بها، إلا أنه لا يستطيع أخذ خطوة واحدة في مسار حياته دون الرجوع لشقيقه الأكبر، الذي رباه مثل والده و اعتنى به أكثر من أبواه، و منحه الحُب و الحنان الحقيقيين، فوجود أُبَيّ بجانبه له أثر كبير إيجابي على حياته.
” كويس الحمدلله.. و بدر فاق و معاه عائشة جوا”
قالها، ثم نظر نظرة خاطفة على ذاك اللذي، يراقبه بأعين ممتلئة من الغضب و الغيظ.. قال زياد وهو يشده من كتفه
” بعد كده تتأكد قبل ما تنقل أي خبر.. أنا في لحظة قلبي وقع مني ”
شدّ قُصي ذراعه برفق قائلًا بمراوغة
” ده بدل ما تشكرني إن عرفت اللي خطف مراتك و الشرطة قتلته ! ”
” ده ميمنعش برضو إن لسه متأثر بالخضة اللي فزعتني بيها على بـدر ”
” فزعتك بيها على بـدر ! هو أنت مفكر نفسك عائش ! ”
قالها ساخرًا باستنكار.. همّ زياد بضربه من استفزازه له، و لكن أُبَيّ أسرع و أخفاه خلف ظهره، ضاحكًا
” حقك عليا أنا ”
عاد زياد للهدوء، ليقول بجدية تلك المرة
” بس عارف رغم إنك غلس، لكن على قلبي زي العسل و بحبك ”
” بتحبني ! لأ.. أنا مليش في الشمال و الله ”
قالها قُصي، وهو يرجع بضع خطوات للوراء استعدادًا للركض، لأنه يعرف أن ما تفوه به كالأحمق؛ سيجعل زياد في أوج غضبه، و بالتأكيد لو لحق به سيضربه ضربًا مُبرحًا..
” يعني لو مسكتك يبقى حلال فيك اللي هعمله ”
قالها وهو يهمّ بالركض وراءه، متناسيًا وجودهما بالمشفى، امسكه أُبَيّ من ذراعه ليوقفه كالصغار زافرًا بضيق منهما
” أنت هتعمل عقلك بعقله يا زياد.. كبر دماغك منه يا عم.. تعالى نطمن على بدر ”
تمتم زياد بغيظ وهو يدخل الغرفة
” حيـوان ”
تفاجأ أُبَيّ و زياد من ذلك الجسد الضعيف المندثر تحت الغطاء على صدر بدر، كان الأخير قد استعاد وعيه بهمة قليلًا فأشار لهما بالخروج، و فهما الاثنان الأمر، فخرجا في الحال، مما اضطر بدر أن يوقظ عائشة طابعًا قُبلة حنونة على جبينها القريب من ذقنه، فأيقظتها بدورها.. قالت بصوت ناعس
” في ايه ؟ ”
” آسف يا حبيبتي.. لازم تقومي عشان أُبَيّ و زياد هنا ”
نهضت وهي تفرك عينيها البنية التي غلب عليها
الوَسنُ من غير نَوْم لتقول
” أنا محستش بنفسي لما نمت.. تعبتك ؟
تساءلت بكلمتها الأخيرة وهي تتحسس قلبه
رد مبتسمًا
” تعبك راحة يا عائـش ”
تزحزحت عن الفراش لتقف بجانبه، تعيد فرش الغطاء الخفيف عليه، و الذي تزامن حدوث ذلك مع دخول أبناء عمها.. قال زياد مُرحبًا بصوت مسرور
” كده تخضني عليك يا سيد الناس ”
و يقول أُبَيّ بنفس نبرة زياد المرحة
” حمدالله على سلامتك يا بدر ”
” الله يسلمكم.. أنتم عرفتم ازاي ؟ قُصي صح؟ ”
” هو في غيره ابن اللذين اللي وقع قلبي و جابني على ملا وشي ”
ضحك بدر، و حاول النهوض ليسند ظهره على الوسادة، فشد عليه ألم الجرح و أحس بحرقان مكانه، مما وضع يده عليه وهو يتأوه بتعب واضح
أسرعت عائشة بازاحة يده من على جرحه، قائلة بخوف
” متحطش ايدك على الجرح دلوقت يا بدر عشان ميوجعكش ”
” حاسس بحرقان جامد.. نادي أي حد ”
أخذ يتأوه بألم و يجز على أسنانه، في محاولة منه لتحمل آلامه.. انتفض زياد و أُبَيّ عليه بخوف و قلق، و أسرع زياد باحضار أي طبيب أمامه، فلم يجد إلا طبيبة لم تكن ملامحها غريبة عنه، فقد رآها سابقًا عندما وقع بدر من أعلى الكبري في الماء.. أخبرها بما يحدث مع ابن عمه، فجاءت سريعًا و جلبت معها أدوية..
دخلت الغرفة المجتمع بها عائشة و زياد و أُبَيّ، بالاضافة لقُصي الذي آتى لاحقًا بعد أن اشترى أربعة أكواب من القهوة.. كانت عائشة تقف على مقربة من بدر تحتوي كفه و تدلكه بحنان ليهدئ بينما تضع له ” شمس” الكريم المضاد للالتهابات
انتهت من عملها تحت عيون عائشة التي تفترسها من الغيرة، كلما لامست جسد بـدر
قالت شمس بخوف بدا واضحًا عليها قد لاحظه الجميع
” حاول متتحركش كتير لأن الجرح لسه طري.. هتدهن من المرهم ده كل أربع ساعات، و الحبوب دي هتتاخد بعد كل وجبة رئيسية، و الحباية دي مرة واحدة في اليوم بعد العشا لمدة شهر.. و الأفضل بعد العملية تكثر من شرب الماء لأن المريض بعد العملية الجراحية بيبقى مُعرض أكتر للإصابة بالجفاف، و الماء بيساعد في الحفاظ على رطوبة الجسم و تجنب التعب الزائد.. و عصير التفاح كويس جدًا للتخفيف من الألم ”
تساءل زياد
” هيقدر يخرج امتى ؟ ”
” مينفعش يمشي دلوقت خالص.. لكن بعد مرور أربعة و عشرون ساعة اقدر ابلغك بميعاد خروجه ”
” تمام يا دكتور.. شُكرًا لحضرتك ”
ابتسمت بعفوية، ثم التفتت لبدر قائلة
” حمدالله على سلامتك ”
بادلها بدر الابتسامة بعفوية
” الله يسلمك.. شكرا يا شمس ”
” أجيب لكم اتنين لمون أحسن ! ”
قالتها عائشة بغيرة و هي توزع نظراتها الغاضبة على الاثنين، مما تفاعل قُصي معها على الموقف و قال
” ده ناقص نجيب كرسيين و ندق الشماسي بالمرة ! ”
التفتت شمس له لتقول باعجاب و انبهار بعد أن تأملته للحظات
” عيونك بتشبه البحر في زرقة مائه.. سبحان الله!
رفع قُصي شفتيه في استنكار و قال
” يعني خدتِ بالك من لون عيوني و مخدتيش بالك من لون عيون أخويا اللي يشوفه يقول توأمي ؟ يا قادرة ! ”
” احترم نفسك..
” نفسي و أنا حر فيها احترمها اعمل منها فتة كوارع أنا حُر ”
” حُر دي لما تبقى في بيتك مش في المستشفى بتاعتي.. ”
” طب اتفضلي اطلعي برا بقى من المستشفى بتاعتك عشان متزعليش ”
كانت الابتسامة تملأ وجه عائشة، من وقوف قُصي بصفها، أما بدر نظر له بانزعاج و قال بتعب
” آسف يا دكتورة.. اتفضلي دلوقت ”
استوقفها قُصي هاتفًا وهو ينظر لعائشة نظرة ذات مغزى
” لأ تتفضل فين.. الهانم انتهزت فرصة أنك محتاج نقل دم و اديتك دمها.. مش يمكن يكون الدم ده مسمم.. أصل فيه تعابين السم بتاعها بينتشر في الدم بسرعة ”
صاحت عائشة هي الأخرى بنوبة غيرة فأخذت تُقلدها..
” أنا ملاحظة نظراتك ليه من المرة اللي فاتت.. و كل شوية أصل شبه البراء خطشيبي.. أصل بيفكرني بيه و المُحن ده..
سحبها بدر من يدها برفق ليهمس
” عائش.. خلاص.. تعالي اقعدي..
شدت يدها و تابعت بغضب
” مش قاعدة.. و أمور السهوكة دي مبتاكلش معايا
” ايوه كده يا شوشو.. اديها ”
قام أُبَيّ بدفع أخيه لخارج الغرفة قائلًا في اِشْتِداد
” اطلع برا.. أنت جاي تولعها ”
” مبكرهش غير اتنين في حياتي.. راجل خاين و ست خطافة رجالة ”
” و أنت داخلك ايه بالموضوع ”
” أنا و ابن عمي على الغريب.. و دي غريبة عننا ”
” طيب اسكت يا قُصي و بلاش شغل الحَرابى ده ”
اعتذر زياد من ” شمس” فقبلت اعتذاره مُقدرة الوضع الذي هُم عليه، بينما عائشة أحست أنها أخطأت في حقها، فقالت في أسف
” بعتذر.. بس حُطي نفسك مكاني.. هتغيري و لا لأ؟
تبسمت شمس بتفهم قائلة
” اللي معاها راجل زي بدر لازم تغير عليه ”
حدثت عائشة نفسها بتعجب
” هي مصممة تستفزني ولا ايه ! ”
تجاهلت عائشة جملتها و هتفت في هدوء قليلا
” الشكر لله ثم لكِ إنك أنقذتيه في الوقت المناسب، لو لقدر الله كان راح مني، متتصوريش أنا كان جرا لي ايه ”
بايماءة رأس قالت شمس
” الحمدلله.. ربنا ما يحرمكيش منه ”
” يارب” قالتها عائشة و هي لا تزال تناظرها في برود.
بعد فض الشجار القائم بينهم، خرجت شمس لتجد قُصي يقف بجانب الباب.. هتفت في غيظ منه
” مش حاسس إنك شايف نفسك ! ”
رد ذلك المشاغب ببرود قاتل
” إحنا كلنا بنشوف نفسنا… يعني أنا مرة كُنت شايف نفسي .. مكنتش مصدق بصراحة.. و بعد ما شفت نفسي خدت سلفي معايا ”
وصل ما قاله لمسامعهم جميعًا، فانخرطوا في الضحك، و شقيقه يضرب كف بالآخر قائلًا بقلة حيلة
” منك لله.. أعمل فيك ايه بس ”
كادت أن تتركه و تذهب، و لكنها توقفت مكانها و عيناها تتعلق بفتاة أصغر منها، تربط شعرها ذيل حصان و تغطيه بكاب، و ترتدي زي رياضي، حاملة على ظهرها حقيبة رياضية بها مضرب تنس طاولة و زجاجة مياه، فتاة قصيرة القامة بخفة الفراشة، لها ملامح بالرغم من صغرها لكنها حادة، ترتدي نظارة طبية تخفي خلفها عيونها ” النجلاء ” و هي عيون يتصف أصحابها بالاتساع والحدة، وتعد من العيون الملفتة للنظر.
التفت قُصي لما تنظر اليه، فاتسعت عينيه بصدمة و هتف في تعجب
” ده أنتِ لو طالعة لي في البخت مش هشوفك كل شوية كده ! ”
تساءلت شمس وهي توزع النظرات بينهما بدهشة
” تعرفها ؟ ”
ضحك بثقة وهو يفترسها بنظراته
” عز المعرفة.. دي منة النطاط.. حفيدة المعلم رشدان بتاع سلاحف النينجا ”
ضحكت شمس رغمًا عنها، بينما ” منة” نظرت له ببرود قائلة
” سِمج ”
” بتعلم منك ”
قالها في تحدي وهو يرمقها بعينيه الزرقاوان الظاهر بها لمعة السخرية..
اقتربت منه بقامتها القصيرة، و ضربت بظهر كفها بخفة على صدره لتقول في ضيق
” العب بعيد يا شاطر ”
أطرق قُصي رأسه بطريقة هزلية ضاحكًا
” مش سامعك من تحت ”
كورت قبضت يدها و لكمته بقوة في بطنه، فأمسك بألم مكان الضربة
” آه.. يا غبية..
” المرة الجاية هعيشك عقيم طول عمرك
” عارفة.. مصر تعتبر من أشهر البلدان في العالم في صناعة الساعات بعد سويسرا.. ومن أهم الماركات المصرية، الساعة السودة والساعة الزرقاء والساعة اللي شفتك فيها ”
” يعني مُصمم ! ”
خرج أُبَيّ و زياد على صوتهم وهم يتبادلون العراك، بينما شمس تحاول فض الاشتباك قائلة بعقلانية وهي تخفي تلك الصغيرة الشَرِسة خلفها
” أنا بعتذر لكم يا جماعة.. منة اتفضلي قدامي ”
صاحت منة مشيرة لقُصي
” لو لمحتك هساوي وشك الأمور ده بالأسفلت ”
” كنت فاكرك من الجنس الناعم و مرضيتش امد ايدي عليكِ.. بس شكلك كده متعرفيش حاجة عن الانوثة، و لو شفتك في مكان تاني هخلع راسك و أركب مكانها راس الأميرة فيونا لما بقت شبه شريك”
“اهدوا “.. صاحت بها الطبيبة شمس، ثم التفتت للصغيرة منة خلفها متسائلة بتعصب
” مش قولتلك ساعة بالكتير و نتقابل في الكافيه بتاع بابي ”
” بابي ! ”
قالتها عائشة في استنكار دون أن يسمعها أحد، متابعة بضحك
” أنتِ من اياهم ! ”
ردت منة بنفاذ صبر
” مقدرتش استنى.. أمير ابن عمو فايز اتقتل انهاردة.. الشُرطة قبضت عليه و قتلته.. جيت اقولك عشان تروحي العزاء تعملي الواجب بما إنه أخو ” البراء” الله يرحمه..
” اتقتل ! ”
قالتها شمس بعدم تصديق.. رد زياد بغضب
” هو اللي كان خاطف مراتي.. هاجر الخياط لو كُنتِ بتابعي أخبار.. و كان هيقتل بدر لولا ستر الله
“أنتم من عيلة الخياط ؟”
تساءلت منة في دهشة، ثم تابعت بدهشة أكبر
” تعرفوا نورا الخياط !
أسرع أُبَيّ بالرد
” تبقى حبيبتي ”
نظرة له زياد بدهشة وعدم استيعاب.. أخذوا جميعهم يتبادلون النظرات في دهشة و تعجب و عدم فهم لما يحدث من هذا الترابط المخيف..
قطعت شمس هذا التواصل البصري فيما بينهم، قائلة بحزن
” بس أمير كان طيب.. ازاي يعمل كل ده !
هتف قُصي في سخرية
” ابن حرام و غبي و فاكرينه نبي ”
” لأ.. ده يبقى ابن حمايا ”
زم شفتيه في استنكار من سذاجتها، ليقول
” ده ابليس و كان عامل فيها قديس ”
أطرقت رأسها في حزن
” ليه تعمل في نفسك كده يا أمير.. ربنا يسامحك ”
تساءل قُصي وهو يتابع منة بنظراته دون أن تنتبه له
” بقولك ايه يا دكتورة.. هي الاوزعه دي تقرب لك ايه ؟ ”
كادت منة أن تنهال عليه بالضرب ولكن شمس اوقفتها بصعوبة
” هي مين اللي أوزعة دي يا طويل التيلة ”
” منة اهدي لو سمحتِ.. اخرجي وأنا جايه وراكِ.. ”
أخرجتها بمعاناة، ثم عادت و اعتذرت لهم لتقول لقُصي
” منة تبقى أختي الصغيرة من الأم.. عن اذنكم ”
دخلوا للغرفة التي بها بدر، يضربون جميعهم كفًا بكف في دهشة من الأحداث و تداخل الأمور في بعضها.. كان ذلك الحوار الذي دار بينهم منذ قليل، قد وصل لمسامع بدر، و لكنه لشدة تعبه لم يستطيع الانخراط معهم..
تساءل في تعب
” في ايه ؟ ”
ردت عائشة، و هي تعود للجلوس بجانبه
” متشغلش بالك يا بدر.. كله تمام ”
استدار زياد لـ أُبَيّ متسائلًا عما اعترف به منذ دقائق
” اللي أنا سمعته برا ده صح ! ”
هز أُبَيّ رأسه مبتسمًا بخجل
” هحكيلك لما الدنيا تروق ”
أومأ زياد بتفهم، ثم تأمل انسجام بدر و عائشة، فانتهز الفرصة و قال
” بما إن الشامي اتلم على المغربي نقول مُبارك ”
نهضت عائشة بخجل من جانب بدر، بينما الأخير ابتسم لها بعشق و قال مُفجرًا مفاجأة للجميع، وهو يبسط كفه لعائشة يحثها على وضع راحتها فيه
” أنتِ على ذمتي يا عائش ”
اتسعت أعين الجميع بدهشة، و تبادلوا النظرات فيما بينهم، أما عائشة تقوس حاجبيها في عدم تصديق متسائلة
” يعني ايه على ذمتك ! ”
” هاتي ايدك ”
مدت يدها لكفه المبسوط بتلقائية، فسحبها برفق ليجلسها بجانبه، ثم طبع قُبلة رقيقة على يدها و قال
” مكنتش حابب أعرفك غير لما أنتِ ترجعي لي بمزاجك.. بس مش قادر استنى بصراحة.. بُعدك عني بيموتني في اليوم ألف مرة يا عائش..
فاكرة لما جيت لك أنا و زياد عشان ترجعي معايا و أنتِ رفضتِ ؟ ”
هزت رأسها في دهشة تنصت له باهتمام و تحثه على الاستكمال.. تابع
” لما حضنتك كده أنا رديتك ليا بدون ما أخد بالي..
“مش فاهمة”
نظر لهم وأعاد ما دار بينه و بين الشيخ عمار عليهم، فقال..
” ايوه.. أنا قولت لحضرتك إننا كنا عايشين مع بعض في بيت أبوها.. زي أي اتنين متجوزين عادي بس مقربتش منها.. طلقتها و هي مراتي عالورق.. حتى طلقتها طلقة واحدة بس عشان لما اخف و حالي يتصلح اروح ارجعها.. لأني مش هقدر يا شيخ على بُعدها ”
تفهم الشيخ الأمر و قال
” إذا خلا الرجل بزوجته خلْوةً صحيحة، فيقع الطَّلاق رجعيًّا ويبقى له طلقتان، وتكون الرجعة منه بالقول، أو بالفعل دون حاجة إلى عقد جديد؛ لأن الخلوة الصحيحة بين الزوجين لها حكم المدخول بها حتى ولو لم يَطَأْ، على الراجح من أقوال أهْلِ العلم إذا ثبتت بينَهما الخلوة بالإقرار، أو بالبينة؛ لِما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى زرارة بن أوفى قال: “قَضَى الخُلفاءُ الرَّاشدونَ المهديُّون: أنَّ مَن أغلقَ بابًا، أو أرْخى سترًا، فقد وَجَبَ المَهْرُ، ووجبتِ العِدَّة. ”
” يعني ينفع أرجعها لعصمتي تاني يا شيخ ؟ ”
” نعم، و لكن تلك المرة عليك الدخول بها ليكون الزواج شرعيًا و كامل الأركان ”
****
التفت لعائشة و قال باسمًا
” يعني أنتِ دلوقت على ذمتي يا عائشة، بس عشان يكتمل الزواج لازم يحصل الخلوة الشرعية الصحيحة.. و ده مش هيحصل غير بارادتك.. أنا مش هجبرك على حاجة أنتِ مش عاوزاها ”
اتسعت ابتسامة ابناء عمهم، و تجمعت الدموع بعين عائشة لم تدر ما يتوجب عليها فعله، فاقتربت باستسلام منه و ارتمت بين ذراعيه هامسة بدموع
” أنا بحبك يا بدر ”
ضمها اليه و قال بتفهم
” أنا هتعالج عشاني أنا مش عشانك يا عائشة.. و ده اللي أنتِ عاوزاه.. عاوزاني اتعالج عشان ارجع بدر بتاع زمان و يبقى قرار زواجي الشرعي مني قرار بارادتي مش تحت تأثير الاضطرابات النفسية اللي عندي.. مش كده ؟ ”
هزت رأسها بضعف وهي بين ذراعيه.. تابع هو
” و ده اللي هيحصل إن شاء الله.. أنتِ مراتي آه.. لكن هتبقي في حكم خطيبتي لحد ما أكمل العلاج و ساعتها نبني حياتنا من جديد و بكده نقدر نكون أسرة سوية.. ”
رفعت رأسها لتنظر في عينيه قائلة بابتسامة عاشقة
” توعدني ؟ ”
” أوعدك يا عائش إن شاء الله.. وعد الحر دين و الدين لا يسده إلا الرجال.. بس ده ميمنعش إن أحضنك وقت ما أحب.. أنتِ مراتي برضو ”
قال جملته الأخيرة ضاحكًا، فشاركته الضحك بسعادة، ثم انتقل بصره لزياد
” زياد روح أنت عشان هاجر و بكره إن شاء الله أُبَيّ هيجيبني أنا و عائشة و خد قُصي معاك”
قاطعته عائشة في تردد
” و تيته ؟ ”
” مش هينفع اسيبك تعيشي هناك بعد اللي حصل ده.. لكن جدتك على راسي تيجي تعيش معاكِ في بيت أبوكِ ”
” تيته مش هتوافق يا بدر.. تيته متعلقة ببيتها جدًا.. و أنا بصراحة اتعلقت بيها و..
لم تكمل الجملة بسبب مجيء جدتها لهم برفقة أم رحيم..
كانت الجدة تتكئ على أم رحيم بتعب، فهي لا زالت متأثرة بالضربة التي تلقتها على رأسها.. قالت بوهن وهي تجلس على أحد الكراسي بالغرفة
” عرفت اللي حصل من أهل القرية.. خفت عليكِ و جيت علطول ”
اقتربت منها عائشة بلُطف و انحنت على يدها لتُقبلها
” تيته.. بما إنك هنا.. عاوزه احكيلك
حكاية بدر و عائش.. ”
__________________♡
اختاري قدرًا بين اثنين وما أعنفها أقداري.. مرهقةٌ أنت، و خائفةٌ، و طويلٌ جدًا مشواري.. غوصي في البحر أو ابتعدي، لا بحرٌ من غير دوارِ، الحب مواجهةٌ كبرى إبحارٌ ضد التيارِ.. ~ نزار قباني~ ♥
************
موجة من الغضب سكبت على ملامحه، فحولتها لضُرغامٍ مغوارٍ يهجم على قبيلة؛ فلم يتبقى منها نُطفة.. كاد أن يتكسر الهاتف في يده من قوة قبضته و هي محكمة عليه بفعل، ما سمعه من
” فراشته ” و مُلكه لأبد الآبدين، بأنها لا تريد الزواج منه !
ألقى بالهاتف في الحائط، و تحول لوحش همجي يقوم بتكسير أي شيء يراه أمامه وهو يستعيد ذكرياته مع ” نِداء” حُبه الأول عندما استيقظ على فاجعة خيانتها له، و تركه يموج في أحزانه مصارعًا آلام الفراق..
صاح بغضب أعمى بصيرته
” مش هتكوني لحد غيري يا رُميساء.. انسـي ”
خرج من الغرفة الخاصة به، صارخًا في اللواء
” عزمي باشا”
“مش هكمل في المهمة دي.. فيه غيري كتير يقدروا يسدوا مكاني”
لم ينتظر رد اللواء، وخرج يقود سيارته بأقصى سرعة لبيت مملوكته كما يحسُبها..
على الجانب الآخر..
تساءل والد رُميساء بقلق
” عايزه تسبيه ليه يا بنتي ؟ في حاجة حصلت ؟ زعلك في حاجة ؟ ”
” لأ يا بابا.. بس مش مرتاحة ”
قالتها ثم نهضت لتأخذ حمامًا سريعًا، تاركة والدها في حيرة من أمره.. انهت استحمامها، و خرجت حابسة الدموع في عينيها خوفًا من أن يكون قد رآها وهي تستحم، و لكن شيء ما في قلبها يخبرها أن ” كريم ” لن يخدش حياؤها لتلك الدرجة.
جلست على فراشها، بعد أن ارتدت ملابس الصلاة، والتي قررت المكوث بها دائما في البيت بسبب تلك القلادة اللعينة.. لحظات و رن جرس الباب؛ ليصل لها صوت صديقتها روان الذي لم تسمعه منذ عدة أيام..
كانت رُميساء بالفعل في حاجة لشخص يفهمها أمين على أسرارها؛ تخبره بما حدث معها من أشياء لا يصدقها العقل، و ما أن سمعت صوت روان؛ ارتاح قلبها و شعرت بالأمان قليلًا..
استقبلتها رُميساء بدموع ثم احتضنتها بقوة قائلة
” سامحيني يا روان إني بعدت عنك الفترة دي ”
ردت روان بمشاغبة
” ما هو من لقى أحبابه نسى أصحابه ”
” بالعكس.. أحبابه طلعوا مش مفهومين يا روان ”
” يعني ايه ؟ ”
” ادخلي اما احكيلك ”
جلست روان قبالة رُميساء على فراشها، و قالت بابتسامة مشرقة
” أنا حققت حلمي و جايه احتفل معاكِ بيه.. بس الأول عاوزه احكيلك على شوية حاجات بتحصل معايا ميصدقهاش العقل”
تجاوبت رُميساء معها بعيون حزينة و قالت
” أنا اللي عاوزه احكيلك على حاجة مش موجودة غير في الخيال أصلًا ”
في تلك اللحظة شعرت رُميساء بشيء غريب يسري في جسدها يدفعها للتعصب و الغضب، ثم الهدوء و السكينة، مشاعر مختلطة تجعلها تشعر بالتنميل في جسدها بالكامل..
عكفت على نفسها و امسكت بكتفيها قائلة في ألم
” حاسة إن الدم بيجري في جسمي.. حاسة بتنميل
قلقت عليها روان وقبل أن تمد يدها تتفحصها، جاءها ألم شديد في رأسها جعلها تضع يديها بشدة أعلى جبهتها، و أخذت ترمش بأهدابها بكثرة، ثم سكن الألم و نظرت لرُميساء في تعجب شديدة، و قالت
” هو كريم بقى مُخيف كده ليه ! جاي في الطريق بيسوق عربيته بسرعة شديدة و في عينيه نظرة كلها شر ! ”
______________♡
” فهمتي الحكاية يا تيته ! ”
سألت عائشة جدتها في لُطف، بعد أن حكت لها كل شيء.. أومأت الجدة متفهمة بعقلانية و أردفت
” زوجك بحاجة ليكِ يا عائشة.. مينفعش تسبيه وهو في الظروف دي.. روحي معاه يا حبيبتي و متقلقيش عليا.. عمتك أم رحيم مش بتسيبني لحظة.. روحي مع زوجك يا بنتي ”
” أنا هاجي لك يا تيته علطول ”
قالتها عائشة بدموع الاشتياق، ثم احتضنت جدتها، و اتخذت قرارها أخيرًا، بالرجوع لبدر الشباب تحت مسمى خطيبته، حتى يحدث الزواج الحقيقي.
*****
بعد مرور يوم بالكامل على بدر بالمشفى، سمحت له الطبيبة بالخروج مع الحرص على أخذ الأدوية في مواعيدها..
وصل زياد ليلة أمس للحارة، و أسرع بتخطي درجات السلم درجتين درجتين، في لهفة و شوق كبير لوردته الحمراء ” هاجر ”
كان حماها قد عاد بها من كفر الشيخ، بعد أن فاقت في المشفى، و أصبحت على ما يرام، تساءلت عن زوجها، فأخبرها بأنه ينهي عدة أمور مهمة مع أُبَيّ و سيلحق بهم قريبًا.
صوت المذياع في شقتها على قرآن يتلو بصوت الشيخ ” صديق المنشاوي” و تنام هي على أريكة الصالون و بجانبها بعض العصائر و الطعام الذي أعدته لها حماتها لتتناوله، و لكنها لم تستطيع ادخال أي شيء حلقها لحين عودة زوجها و أخيها..
صوت ادخال المفتاح في مزلاج الباب جعلها تستيقظ في التو، فتح زياد الباب و دخل شقته ليجدها تركض نحوه كابنته الصغيرة، فحملها اليه قائلًا باشتياق
” وحشتيني أوي.. كأن عدا عليا سنين و أنتِ بعيدة عني ”
بكت وهي متعلقة في رقبته لتقول بضعف
” الحمدلله.. ربنا رحيم يا زياد ”
” أنا مش هسيبك تاني.. هفضل لازق لك كده لحد ما أموت ”
” ربنا يبارك لي في عمرك”
قالتها وهي تتأمل ملامحه بعشق و اشتياق، كأنها لم تراه منذ سنوات
” أنا هفتح المكتب بتاعي في الدور اللي فوق ومش هبعد عن البيت أبدًا إن شاء الله.. و أي مكان هتروحيه هكون معاكِ فيه.. معنديش استعداد أخسرك تاني يا وردة زياد ”
ابتسمت برقة ثم تجمدت ملامحها و قالت فجأة
” شامة ريحة ممبار ”
” ممبار ! ”
هزت رأسها بتأكيد ” جواه رز بلحمة مفرومة ”
” هاجر حبيبتي.. أنتِ و مصارين العجل عمركم ما اتفقتوا مع بعض ! ”
ضحكت بشدة وهي تعيد ما قالته باختلاف تلك المرة..
” صدقني أنا شامة ريحة فسيخ ”
” هو مش كان ممبار من شوية ؟! ”
ضحكت وهي تلف ذراعيها حول رقبته قائلة بدلال
” انزل هات لي مصاصة بالليمون ”
” البسي وتعالي معايا.. ما هو فكرة إن أسيبك لوحدك دي.. إنسيها ”
******
أضاءت الحارة أنوارها بعودة بدر برفقته عائشة، يصطحبهما أُبَيّ بسيارته، و قُصي يركب بجانبه بعد أن صمم زياد ألا يأخذه معه..
استقبلهم الجميع بحفاوة، و ساعد أُبَيَّ و قُصي ابن عمهما بالصعود لبيته، و عائشة ترافقهم..
تسطح بدر على فراشه، و جاء سيف الاسلام يعانقه بحرص؛ حتى لا يؤلم جرحه، أما والدته لم تكن على علم بأمر طعن ابنها، ولكن عندما شرحوا لها الأمر وقاموا بتهدئتها أخذت تُقبل بدر و تحمد الله، ثم احتضنت عائشة في سعادة و قالت بود
” نورتي الحارة من جديد يا عائشة ”
” منورة بيكِ يا ماما ”
جاءت هاجر هي الأخرى برفقة زوجها و نورا و سارة حماتها و عمها مصطفى، و مُجاهد وزوجته برفقة بناتهم؛ ليكون الاجتماع في بيت مُحمد الخياط الأخ الأوسط لهما يباركون رجوع احفاد الخياط بسلام.
تمر الأيام و جميع العائلة يجمعهم سقف الأمان و السكينة، إلا قُصي الذي عاد منذ يومان للممر السري، و أخبر العائلة أنه ذاهب لقضاء عطلة الصيف مع أصدقائه بشرم الشيخ، باستثناء أُبَيّ الذي كان يعلم بأمر تحركاته.
مرّ أسبوعان على تلك الأحداث، حتى استطاع زياد اصطياد أُبَيّ وهو يلعب مع كلبه في الحديقة.. فقد وجد مجموعة من الورود الجميلة موضوعة بأناقة في صندوق خشبي صغير وفي منتصف الورود رسالة ورقية في زجاجة صغيرة أنيقة، بالقرب من غرفة شقيقته، كان قد وضعها أُبَيّ دون أن تعرف نورا، عندما ذهب لعمه ليعطي له شيء أخبره والده أن يوصله إليه، فاستيقظ زياد في ذلك اليوم باكرًا و وجد صندوق الورود الجميلة و قرأ تلك الرسالة التي كُتب فيها..
“عيناكِ، و ما أدراكِ ما عيناكِ، تسلبني دون إرادتي، مجرد التحديق بهما؛ كموج بحرٍ غريق يسحبني، تائه أنا في مُقلتيكِ، ترجّ كياني، تُقوي إيماني، تجعلني أتساءل.. ماذا فعلتُ لأحظى بالنظر في عينين ذات جمالًا يوسفيّ ؟
أمن نسل يعقوب أنتِ؟ أم أن عيناي ترى الجمال مُضاعف ! ”
” اسمه ايه الهاسكي ده ؟ ”
رد أُبَيّ بمرح وهو يحتضن كلبه
” مارك ”
” اممم.. طيب ممكن يا مارك تسيبنا شوية عشان عاوز البيه الرومانسي في كلمتين ! ”
ابتلع أُبَيّ ريقه بقلق مصطنع، وهو يعلم جيدًا الأمر الذي جاء لأجله زياد.. ترك كلبه يلعب بالكرة بعد أن ألقاها له بعيدًا.. ثم جلس على مقعد في حديقة بيتهم و طلب من والدته أن تعد لهم اثنان من العصير..
ساد الصمت بينهما للحظات.. قطع هذا الصمت أُبَيّ وهو يتشجع قائلًا
_ أنا.. أنا.. بصراحة.. أنا
_ ما تتكلم يا عم في ايه !
_ هو.. يعني.. أنا..
_ يادي النيلة.. أنت ايـه !!!
_ أنا.. أنا بحب واحدة
_ اومال يعني هتحب واحد.. ايـه ! قولت ايـه ؟؟
” بتحب ! ” أُبي بيحب ! لأ ده حدث تاريخي لازم يتوثق
قالها في مداعبة منه وليس بسخرية، رد أُبَيّ بخجل وقد توردت وجنتيه، و أخذ يعبث في شعره بعشوائية
_ أنا مش بهزر.. أنا ملقتش حد اتكلم معاه غيرك.. لأنك الوحيد اللي هتقدر تساعدني في الموضوع ده
_ موضوع ايه ؟
_ إني بحب
_ بتحب !
_ ايوه والله بحب
_ ” أُبي” بيحب ! لأ ده حدث تاريخي لازم يتوثق
_ زياد.. أنت لسه قايل الجملة دي من شوية
_ بجد !
_ آه والله.. ها.. أعمل ايه !
_ تعمل ايه في ايه ؟
_ في الموضوع ده
_ موضوع ايه ؟
_ إني بحب
_ بتحب !!
_ ايوه والله بحب
“ده يا هناها و يا سعدها.. احنا ابننا لا يُعلى عليه.. ها قولي.. هي عارفة أنك بتحبها ؟ يعني حب متبادل و كده ولا من طرف واحد ؟”
قالها زياد بخبث وهو يتراقص بيديه في مرح..
رد أُبَيّ بتردد
_ مش عارف لسه.. مش متأكد.. يمكن من طرف واحد و.. و.. و يمكن من طرفين
” أُف.. دي كارثة بقى يا معلم.. طب مين دي و اسمها ايه و تعرفها منين و حبيتها ازاي.. اتكلم متتكسفش اعتبرني ابن عمك ”
_ ما أنت ابن عمي فعلًا.. !
_ بجد !
_ آه والله.. مالك يا زياد ؟ هو الجواز أثر على دماغك و لا ايه !
_ الجواز.. هو فيه زي الجواز و حلاوة الجواز.. دي أحسن خطوة خدتها في حياتي.. عقبالك يا بوبوس
_ بوبوس !
” دلع أُبي يعني.. بدلعك بدل ما تبص برا.. احنا ولاد عم برضو.. خلينا في المهم.. من امتى ؟ ”
” من امتى ايه ؟ ”
” من امتى يا عم الشاعر و قعت في حُب نورا ؟ ”
تنهّد أُبَيّ بلمعة حُب حقيقية
” من لما شوفت جمال عيونها ”
” صدق إنك قليل الأدب ”
” ليه ! ”
” ليه ! إحنا معندناش حد يحب في الخفاء، قلها في العلن هي ليست خطيئة ”
ضحك أُبَيّ بشدة و شاركه زياد الضحك، ليقول أُبَيّ بصدق
” هعترف ليها بحبي قدام الناس كلها يوم حفلة افتتاح الشركة التانية بتاعتي أنا و راجي صاحبي.. و هطلب ايدها من عمي.. بس بالله عليك اتأكد انها بتحبني الأول يا زياد.. عشان متجرحش تاني ”
” هو أنت اتجرحت أولاني !؟ ”
زفر أُبَيّ بحزن مُتذكرًا ما حدث معه
” اترفضت عشان بتهته في الكلام كتير..و ده شيء غصب عني والله.. خارج عن.. عن ارادتي ”
ربت زياد على كتفه بدعم قائلًا
” أنا جنبك.. متقلقش”

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى