روايات

رواية يناديها عائش الفصل السابع والخمسون 57 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل السابع والخمسون 57 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء السابع والخمسون

رواية يناديها عائش البارت السابع والخمسون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة السابعة والخمسون

‏إرضاء النّاس غاية يجب أن تُترك.
******
توقفت السيارة في حارة السلام أمام بيت بدر، و نزلوا جميعهم” بدر و والدته و عمه مصطفى و زياد يرافقهم أُبَيّ ”
كان زياد يشعر بشيء خاطئ يحدث في العائلة، أو حدث بينما كان يعتمر ولم يخبره أحد، و ذلك الشيء تحديدًا يخص بدر.. شعر زياد بالقلق حيال ابن عمه و صديقه الوحيد، فأخذ يتأمله باستفسار عما يحدث له.. لاحظ بدر نظرات زياد التي تتفحصه بدقة، فأدار وجهه للناحية الأخرى بحركة غير إرادية.. جعلت زياد يقسم في نفسه أنه بالكاد حدث شيء كبير يخفيه عنه الجميع، بدا بدر في حالة مذرية، و صار حاله متغيرًا بشكل كبير.. شعره أصبح أشعث و وجهه منطفئ بسبب كثرة الهموم، وفيه عينيه نظرة حزينة منكسرة خائبة الأمل، و أحاطت الهالات السوداء عيناه؛ لقلة النوم و كثرة التفكير الذي أرهق ملامحه و جسده.
بدا الحزن واضحًا في عين زياد وهو يتأمل بدر.. قال مصطفى مربتًا بحنو على كتفه
” ادخل يا بدر ارتاح.. الحمدلله أنها جات على قد كده”
و قال أُبَيّ بنبرته اللينة كعادته
” هَون على روحك فهي بيد الله ”
أومأ بدر بنصف ابتسامة و غمغم
” الله المستعان ”
قبل أن تأخذه والدته وتصعد.. شده زياد بلُطف ليقف معه بعيدًا عنهم قليلًا، و قال بخفوت
” مش هسألك فيه ايه أو ايه اللي مغيرك كده.. هسيبك ترتاح الأول شوية.. و أنت بنفسك اللي هتيجي تحكيلي.. زي ما اتعودنا نحكي لبعض على اللي مزعلنا.. هتقولي يا بدر ايه اللي شقلب حالك كده.. مهو مش معقول يكون كل ده بسبب التعب اللي عندك !.. أنت في عز تعبك كنت أقوى من كده.. أنا عايز بدر بتاع زمان.. الجبل اللي ما يهزه ريح.. و أنا هعرف ارجعه ازاي.. روح بس ارتاح الأول كده و متفكرش في حاجة خالص.. و بلاش تطلع زهقك على عائشة يا بدر.. سامع ؟.. البنت بتحبك و ملهاش ذنب تطلع اللي جواك عليها”
نظر له بدر بضعف و قلة حيلة عندما قال له آخر جُملة، ليهز رأسه باستسلام ساخرًا من نفسه
” حاضر.. مش هزعلها.. مش هطلع زهقي عليها.. مش هتعبها معايا.. هي ملهاش ذنب.. هي فعلًا ملهاش ذنب ”
أحس زياد أن بدر يهزأ من نفسه، فتجاهل ذلك و لم يذكره أمامه.. ليقول بلهجة مرحة مغيرًا مجرى الحديث
” هي الدكتورة اللي اسمها شمس دي كانت بتبصلك كده ليه ؟ ”
“بتبصلي ازاي يعني ؟ ”
” بتسبلك.. طول ما احنا واقفين وهي مشالتش عنيها من عليك.. ده عائشة لو كانت موجودة كانت علقتها في ميدان عام ”
قال آخر جملة ضاحكًا، فشاركه بدر الضحك المصطنع ليقول بمجاراة في الحديث
” فعلًا.. لو كانت موجودة ”
” طب يلا هسيبك تطلع تناملك شوية و أنا رايح لمراتي حبيبتي عشان وحشتني ”
” سلملي عليها ”
” هي شغلانة ما أنت كنت عندنا الصبح.. يلا يا حبيبي اطلع لمراتك نام في حضنها و متصدعناش”
تنهّد بدر باشتياق لعائشة و حزُن قائلًا في نفسه
“يا رتني ما طلقتها.. أنا غبي.. غبي”
تركه زياد و اتجه لبيته، صعد لشقته ثم فتح الباب ببطء، و في نيته افزاعها.. عندما وطئت قدميه الشقة.. سمع صوت استفراغها قادم من المرحاض.. فزع قلبه عليها و أسرعت خطواته نحو المرحاض ليجدها تميل على بئر المِرحاض
” موضع قضاء الحاجة” و تتقيئ بقوة.. اندفع نحوها بخوف يجلس القرفصاء خلفها ويضع يده على ظهرها يمسد عليه بحنان و اليد الأخرى على شعرها بلُطف ليقول بنبرة خائفة قلقة كثيرًا
” خدي راحتك يا حبيبتي.. متخافيش.. أنا جنبك”
انتبهت هاجر لوجوده ملتصق فيها يربت على ظهرها بلين، و لكنها لم تقدر أن تقول شيء لشدة تعبها، برغم أنها انزعجت كثيرًا وشعرت بالإحراج أنه رآها بهذا الوضع.
قامت بسحب السيفون، ثم نهضت بمساعدة زوجها المذعور عليها.. اتجهت للحوض لتغسل فمها ووجها، فأسرع هو بفعل ذلك بدلًا منها.. كان يبدو عليها التعب و الإرهاق الشديد و جسدها أصبح أكثر دفئًا مائلًا للسخونة.. كانت تتمايل بشدة وهي تضع يدها على جبهتها من آثار الدوار.. انحنى زياد ليحملها بين ذراعيه و يضمها لصدره برفق مُتجهًا بها نحو غرفة النوم؛ ليضعها على الفراش بحرص ثم جلس بجانبها يتحسس وجهها و أعلى صدرها بظهر يده، وجد أن جسدها حرارته مرتفعة.. قال باضطراب و خوف
” مش هينفع كده.. لازم تكشفي.. احنا من ساعة ما جينا من السفر و أنتِ مبطلتيش تستفرغي.. و جسمك سخن.. مش معقول يكون ده من السفر ! أنتِ وشك باين عليه التعب.. أنا هجيب دكتورة تيجي تشوفك حالًا”
قالت وهى تهز رأسها بنفي و بصعوبة
” لأ.. أنا هبقى كويسة.. أنت عارف إني مبقتش أحب الكشوفات ولا العلاج.. الجو ده بيتعبني نفسيًا.. عشان خاطري متجيبش دكاترة ”
أخذ زياد كفيها ليطبع قُبلة دافئة عليهما و قال باصرار
” أنتِ عارفة إن خاطرك عندي أغلى من حياتي.. بس مش هقدر أسمع كلامك المرة دي.. هاجر يا حبيبتي.. لازم نكشف عشان نعرف عندنا ايه وناخد علاج و نبقى كويسين.. ولا يرضيكِ زياد حبيبك يموت من الخوف و القلق عليكِ ؟ ”
قالت بصعوبة
” بعيد الشر عليك.. بس أنا جسمي مش سخن أوي.. هو بس عشان استفرغت كذا مرة.. حاسة إن ده بسبب المربى الكتير اللي أكلتها الصبح و أنا مبحبش الحاجة المسكرة أصلًا.. بس مش عارفة ليه كانت نفسي رايحالها أوي كده ”
مسد على خديها بحنان و قال
” بس أنا مش هيهدالي بال ولا أطمن إلا لما أعرف عندك ايه.. و اللي بيحصلك ده بسبب ايه.. نورا عارفة دكاترة ستات كويسين كتير معاها في المستشفى.. هخليها تكلملنا دكتورة كويسة تيجي تكشف عليكِ.. ماشي يا حبيبي ؟ ”
استسلمت لتوسلاته بقلة حيلة، فقبْلها زياد من جبهتها ثم تركها ونزل لأسفل باحثًا عن نورا.. كانت الساعة قاربت على السادسة مساءًا، و كانت نورا في غرفتها تقوم بتنظيفها.. وجد والدته تشاهد التلفاز في الصالة.. سألها بلهفة
” هي نورا فين ؟ ”
” في أوضتها.. في حاجة ولا ايه ؟ ”
قال زياد بتوتر و بسرعة
” هاجر من الصبح وهي مش كويسة.. مبطلتش استفراغ و تعبت جامد حتى جسمها سِخن.. كنت عايز نورا تكلملي دكتورة كويسة تيجي تكشف عليها”
قلقت والدة زياد على هاجر، بغض النظر عن كونها زوجة ابنها، لكنها تحبها و تعتبرها في مقام ابنتها منذ أن وُلدت.. خرجت نورا على صوت أخيها تتساءل عن الأمر، فأخبرها بما حدث.. تبادلت نورا ووالدتها النظرات بشك لتقول الأم
” أنت بتقول إنها نفسها جابتها على المربى و استفرغت أكتر من مرة و درجة حرارتها علت صح؟ ”
هز رأسه بقلق
” آيوه.. ده معناه ايه ؟! ”
قالت نورا بحماس
” ده معناه إن أنا هبقى عمتو قريب إن شاء الله ”
نظر لها زياد بغباء و قال
” تبقي عمتو ازاي ؟.. يعني ايه !.. مش فاهم ”
قالت الأم لنورا بفضول
” روحي الصيدلية هاتي اختبار حمل بسرعة”
على الفور وضعت نورا حجابها على عبائتها البيتية ثم أسرعت الخطوات تجاه الصيدلية، بينما أم زياد صعدت لشقته، و من خلفها ولدها لا يفهم أي شيء أو أصبح الاستيعاب عنده بطيء.
كانت هاجر متسطحة على الفراش بتعب، في حين أن حماتها دلفت لعندها تتحسس جبهتها و تدقق النظر في ملامحها المرهقة لتقول باسمة تطمئنها
” متخافيش يا هاجر… في أول كام شهر بتبقي كده..
صاح زياد بنفاذ صبر
” أنا مش فاهم حاجة !! ”
” متقلقش هي هتبقى كويسة.. أنا هروح أعملها كوباية عصير عشان جسمها دلوقت محتاج سوائل كتير ”
نظر زياد لوالدته بعدم فهم، ثم نظر لهاجر باستفهام التي كانت تبادله النظرات أيضًا بطلب توضيح لما يحدث.. أحس زياد أنه يبدو كالأبلة فقال
” يعني ايه جسمك دلوقتي محتاج للسوائل ؟؟ ”
ردت هاجر باستيعاب بطيء
” يمكن قصدها إني استفرغت كتير ولازم أعوض ده بالسوائل ! ”
هتف وهو يجلس بجانبها و يتوق أكتافها بحنان بالغ يسبقه الخوف
” هتبقي كويسة ياحبيبتي والله.. إن شاء الله مفيش حاجة.. أنا متفائل خير ”
مالت هاجر برأسها على كتف زوجها الحنون لتقول بهمس بسبب الإرهاق المتزايد
” أنا تعبتك معايا انهارده كتير ومعرفتش ترتاح من السفر.. أنا آسـ….
قاطع اعتذارها واضعًا ابهامه على فمها قائلًا بنبرة عتاب
” متكمليش.. أنتِ بتعتذري على ايه ؟ على حقك ! إحنا عارفين إن الحياة الزوجية بتتبنى على مودة ورحمة.. وحقك عليا إني أودك و ألطف بيكِ عشان نبني حياتنا صح.. ما بالك بقى لو زوجتي دي مش مجرد واحدة اتزوجتها لأجل الزواج.. لأ دي حبيبة مراهقتي و شبابي و عمري كله.. يعني كلمة آه اللي بتطلع منك دي بتبقى بالنسبالي أكن حد جاب سكينة و رشقها في قلبي.. بتموتني.. تقومي سيادتك تحسسي نفسك أنك تقيلة عليا !!.. ده أنا ميرتاحش بالي ولا يغمضلي جفن غير إما أشوفك كويسة.. ده أنتِ دوا لجروح زياد و سُكر حياته والله ”
ابتسامة ممتنة و جميلة كصاحبتها، نمت على شفتيها، و انبسطت أساريرُ وجهها وهي على كتفه تميل بكل أريحية عليه، كأنه بيتها المريح و وطنها الآمن، وهو بالفعل كذلك..
دائمًا يفوز الرجل الحنون بقلب المرأة، و تحتاج المرأة لوجود هذه الصفة في زوجها، و تميل دائمًا للرجل الذي يهتم بكل تفاصيل حياتها، حتى لو كانت تافهة و صغيرة..
و إذا بحثت عن كثير من العلاقات الناجحة، ستجد أن الحنان، و العطف، و المودة، و الرحمة .. كل تلك المصطلحات الراقية هي أساس نجاح العلاقة، و أقوى رابط في تكَاتُف العلاقات بين الأزواج.
الكلمات التي ألقاها زياد على مسامع هاجر فعلت بها فعل السحر، جعلتها تود لو أن تدخله في قلبها و تغلق عليه للأبد.. يبقى سجين قلبها هي فقط، لا تراه إمرأة و لا يحادثه أحد.. أسير حُبها هي فقط.
الحنان و الرحمة لا يُكلفان شيء، فلا يجب عليك أن تبذل مجهود للتعامل بهما، معاملة الزوجة بحنان، و مبادلة الزوج الحنان و الحُب، هو أساس تآزر و تعاضُد العلاقات.
قال تعالى فى كتابه العزيز: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ًلتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة” (الروم ٢١)
أي لتستقروا، ولتطمئنوا، و الله -عز وجل- جعل بين الزوجين الرقة والرأفة، والقرابة والعطف، والحنان وجعل المودة والرحمة متبادلة بين الطرفين.
و أيضًا الرسول صل الله عليه وسلم كان مثالًا يُحتذي به في التعامل بحنان و رفق و لين مع زوجاته حتى وقت الشدة و الحروب رغم المسئوليات والمشقة، فعن أنس قال: “خرجنا إلى المدينة -قادمين من خيبر- فرأيت النبي صلّ الله عليه و آله وسلم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبتيه حتى تركب البعير”، فلم يخجل الحبيب صل الله عليه وآله وسلم من أن يرى جنوده هذا المشهد وهو يظهر الحب والمودة والحنان لزوجته السيدة صفية.
وكان يطيب خاطرها إذا حزنت، فقد كانت السيدة صفية مع رسول الله صل الله عليه وآله وسلم في سفر، وكان ذلك يومها، فأبطأت في المسير، فاستقبلها رسول الله صى الله عليه وآله وسلم وهى تبكي، وتقول: حملتني على بعير بطيء، فجعل رسول الله يمسح بيديه عينيها ودموعها، ويسكتها.
و ها هو سيدنا علي بن أبى طالب كرم الله وجهه ، دخل على زوجته يومًا، فوجدها تستاك فقال مداعبًا ومغازلًا لها
(أنه يحسد عود الأراك لملامسته فاها وأنه يتمنى أن يكون مكانه ولو كان أحد غيره لقتله).
و قد قيل في الحنان هو السُّكَر الذى تحلو به حياتنا المُرَّة.
جاءت أم زياد و حماة هاجر، بعد أن أعدت كوب العصير.. فدخلت عليهما الغرفة و هي تحمحم من باب الإستئذان أنها ستدخل..
قال زياد وهو ما زال على وضعيته مع زوجته، يضمها لصدره و يمسد على شعرها بحنان
” تعالي يا ماما”
ابتسمت الأم لا إراديًا عندما رأت ابنها يعامل زوجته بهذا الحب و الحنان و الرحمة و ردد لسانها تلقائيًا
” ما شاء الله عليكم.. ربنا يديمكم في حياة بعض و ما يوريني فيكم حاجة وحشة أبدًا ”
رد الاثنان بابتسامة صافية
” آمين ”
أخذ زياد الكوب من والدته بعد أن شكرها و ناولها لهاجر في يدها بحذر، فشكرت حماتها بلُطف و سمت الله ثم أخذت تشرب منه بمساعدة زوجها، فقد كان يضع يده على يدها يمسك الكوب معها مخافةً أن يسقط عليها؛ بسبب ارتعاش أصابعها من التعب.
___________________♡
منذ أن احببتها، أصبحت لا أرىٰ أحد غيرها.. لقائلها♥.
**********
وقفت تلك الفتاة التي ترجلت من السيارة للتو أمامه تتأمله بشوق و اشتياق بالغ و حنين للماضي، حتى نطقت بصوتها الرقيق
” وحشتني يا كريم ”
أحس كريم بأن لسانه عُقد فلم يستطيع النطق..
تسمر مكانه و اصفر وجهه و عقله يستعيد ذكرياته السوداء الجسيمة معها..
تلك الفتاة الواقفة أمامه تنظر له بحُب واضح و حقيقي، هي” نِداء ” ابنة عمه و أول حُب في حياته..
وقعا في حُب بعضهما البعض منذ أن كانا يدرسان في كلية الشُرطة معًا، كريم يكبرها بعامين فقط، تعاهدا ألا يفترقا أبدًا.. كان حُبه لها يفوق أضعاف حُبها له بكثير، كم انتظر أن تمر الأيام بسرعة حتى يتخرج ويتقدم لطلب الزواج منها.. جميع العائلة كانوا على علم بقصة حُبهما الجميلة هذه.. حتى أنهما قاما بتسمية ابنائهما في المستقبل، و لكن للأسف لم تكتمل القصة و لم يكتمل الحُلم.. سافرت نِداء لاستكمال حياتها في الخارج مع عائلتها، فقد كان يعمل أبوها دكتور جامعي في إحدى جامعات ولاية كاليفورنيا بأمريكا.. ترجاها كريم كثيرًا أن تبقى ليحققوا حلمهم سويًا ولكنها أبت و فضلت السفر مع عائلتها، رغم أنها أحبته لكن نِداء كانت فتاة شغوفة بحياة الغرب، أحبت العيش بالدول الأجنبية وكونت صداقات كثيرة هناك، حتى وقعت في حُب شاب أمريكي اسلم لأجلها و تزوجها، عندما علم كريم بالأمر فقد السيطرة على نفسه و ساقه تهوره و جنان الشباب لقتل نفسه.. حاول شنق نفسه و قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لحقته أخته وقامت بقطع الحبل الذي لفه حول رقبته بشدة.. أصيب بالاكتئاب لفترة طويلة و كرر محاولة الانتحار أكثر من مرة، و في كل مرة يفشل.. بعد مرور أشهر و أعوام عاد لطبيعته و لكن بشخصية مختلفة.. أصبحى متبلد المشاعر قاسي الطبع.. لا يبالي بأي أحد أو أي شيء.. حياته عبارة عن العمل فقط و ملاحقة المجرمين.. أصبح ذو شخصية متملكة.. إذا أراد شيئًا حصل عليه رغمًا عن أي أحد، و إذا هوت نفسه شيء تملكه للأبد.. تلك الصفة تربت في شخصيته من بعد ترك نِداء له، حينها أقسم على نفسه أنه إذا أراد شيء سيأخذه بأي ثمن.
تحولت ملامح وجهه للعبوس وهو يتذكر تلك الذكريات القاسية، و انفلتت أعصابه فصرخ بها بغضب شديد
” أنتِ ايـه اللي جابـك !! جايـه بعد السنين دي كلها عــاوزه ايــه ؟؟ ”
حاولت لمس وجهه للتهدئة من غضبه، فنفض يدها عنه بعُنف و قال بشِدَّة غَضَب، و تحرُّق من الغَيْظ
” أنا مكرهتش حد قد ما كرهتك يا نِداء.. كل إما بفتكر اللي حصلي بسببك ببقى عاوز أمحي الماضي.. أمحي حُبي ليكِ.. يا ريتني ما حبيتك
تجمعت الدموع في عينيها و قالت بخفوت
” ممكن تتهدى و هفهمك على كل حاجة ؟
صاح بغيظ
” جايه تظهري في حياتي بعد السنين دي كلها و عاوزاني أهدى !! تعرفي أنا بفكر في ايه دلوقت ! بفكر أحرقك و أنتِ حية، أو أدفنك و أنتِ حية برضو.. عشان تحسي و تعيشي القهر اللي حسيته بسببك.. ندمان أوي إني حبيت واحدة زيك.. ندمـان.. و لو الزمن رجع بيا كنت دوست على قلبي قبل ما يفكر يحبك ”
رغمًا عنها بكت بحُرقة من كلامه الذي يدل أنه أحبها حُبًا جَمًا، و لكنها لم تُقدر ذلك.. قالت بتوسل
” أنا جيت بعد السنين دي كلها عشانك.. جيت عشانك يا كريم.. أنا.. أنا لسه بحبك و عاوزاك
أشار لها بسبابته أن تصمت ليقول بغضب عارم
” ششش.. اخرسي.. متقوليش بحبك دي.. أنتِ محبتنيش..أنتِ كدابة و استهونتِ بمشاعري ”
صمتت للحظات تعيد ترتيب الكلام في رأسها، ثم قالت
” أنا فضلت مع مارتن أربع شهور بس و انفصلنا.. سيبته يا كريم عشان محستش نفسي معاه.. مقدرتش أحبه.. محدش قدر ياخد مكانك في قلبي.. أنت لسه في قلبي يا كريم.. و أنا لسه بحبك.. بعد عشر سنين فراق.. نزلت من أمريكا مخصوص عشان أقولك إن مش عاوزه أبقى لحد تاني غيرك.. أنا قلبي ملكك و أنت قلبك ملكي.. مش ده الوعد اللي بينا.. إن مفيش حد فينا يسمح لقلبه يدق لغيره ؟ مش ده العهد اللي خدناه على بعض يا كريم ؟ ”
أجاب بهدوء مريب
” و أنتِ نقضتِ العهد ده.. اللي بينا انتهى من زمان يا نِداء.. أنتِ بنت عمي و بس لا أكتر ولا أقل
” كريم.. أرجوك..
قالتها ببكاء و توسل.. فقال بمشاعر صادقة
” أنا ربنا رزقني ببنت لو لفيت الدنيا كلها مش هلاقي زيها.. أنا معايا اللي مكفياني.. أنا خطبت و قريب هكتب كتابي.. اللي خطبتها مش مجرد واحدة سد خانة أو تملى فراغ أنتِ سبتيه.. لأ.. اللي خطبتها دي خدت قلب و روح و عقل كريم.. يعني اللي واقف قدامك ده بشحمه و لحمه بقى ملكها هي.. أنا بحبها و مش قادر أتخيل حياتي من غيرها.. و معنديش استعداد أعيد الماضي تاني.. لأن المرة دي أنا واثق إني أخترت صح.. فمش هفرط فيها.. لأني عاوزها بجد.. فهمتي ؟
قلبي بقى ملك واحدة تانية.. فمتفكريش إن ممكن ارجعلك.. لأن ده مستحيل يحصل..”
مشاعر مضطربة ما بين الغيرة و الغضب و الشوق تملكت من نِداء.. انتشلها كريم من شرودها متسائلًا بابتسامة صفراء بعد أن نجح في السيطرة على اعصابه و تهدئة نفسه ليعود لبروده المعتاد
” مقولتليش.. بابا وهو بيطلب منك تيجي عشان تبوظي فرحتي مقالكيش إن أنا اتغيرت و مبقتش كريم العبيط بتاع زمان ؟ عارفة يا نِداء.. مشكلتك أنتِ و عيلتنا أنكم فاكرني سهل عشان طول الوقت هادي و مُسالم.. لكن الحقيقة في الوقت اللي أنتم فاكريني فيه ساكت، كُنت بناقش خطة مع إبليس عشان أمحي أي حد يقف في طريقي.. فوقي لنفسك يا حلوة أنتِ واقفة قدام ظابط مخابرات مصرية مش مُهرج ! ”
بالداخل كانت رُميساء تتأفف بضجر و ملل من عدم رد كريم عليها.. أرسلت له أكثر من رسالة و يظهر عندها أنها تمت رؤيتها دون رد منه؛ لأنه عندما كان يراسلها جاءت نِداء فلم يخرج من المحادثة؛ لذلك يظهر لديها أنه يرى الرسائل..
احتقن وجهها من الغيظ؛ ظنًا بأنه يتعمد تجاهلها لإثارة استفزازها، و لكنها أحست بأمر خاطئ يحدث معه فقلقت عليه مما فكرت للحظات ماذا تفعل لتعرف أين هو، و لماذا لا يرد عليها.. استدعت شقيقتها الصغرى و أخبرتها أنها ستشتري لها دُمية جميلة، إذا ذهبت لعند مجلس الرجال باحثة عن خطيب أختها دون أن تخبر أحد، و بالفعل وافقت الطفلة الصغيرة و ذهبت للغرفة التي بها أبيها و أعمامها و والد كريم، فلم تجده.. عادت ثانيةً و أخبرت أختها، مما أكل التوتر قلبها، فانتهزت فرصة انشغال النساء بالحديث مع بعضهن، و نهضت متسحبة بحذر لتبحث عنه بأعين قلقة، فقد تعلقت به و أحبته بشدة.. خرجت تبحث عنه في حديقة الڤيلا الواسعة وفور أن لمحته عيناها من ظهره، يقف مع فتاة بهذا الجمال يتبادلان أطراف الحديث.. تملك الغيرة النسائية منها و اصطكت أسنانها من شدة الغيظ و أخذت تضغط على هاتفها الذي تحمله في يدها بقوة لا إراديًا كتعبيرًا عن الغيرة و الغضب و الانزعاج.
_____________________♡
يقول أحمد شوقي عن مرارة الفُراق :
‏إِنَّ الفراق جهنم الأَقدار.
******
اليوم هو موعد ظهور نتيجة الثانوية العامة.. صدح صوت المذيعة في التلفاز يرج في جميع البيوت المصرية
“كلما اقترب موعد ظهور نتيجة الثانوية العامة لهذا العام، كلما ازداد معها حالة القلق و التوتر بين الطلبة وأسرهم، حيث تعتبر تلك المرحلة هي المرحلة الفاصلة في حياة كل طالب ومرحلة جني ثمار التعليم المدرسي و الانتقال للتعليم الجامعي وفقا لدرجات ومجموع كل طالب وتتويج مجهودهم طوال العام بدخول كلية مناسبة تؤهلهم لسوق العمل فيما بعد….
جلست روان أمام الحاسوب الخاص بها، تفرك يديها بتوتر وقلق شديد و تبتلع ريقها بخوف كلما جف حلقها من كثرة القلق، و بجانبها تجلس زوجة والدها تدعو الله أن يجبر خاطرها و يفرح قلبها، و في الخارج والدها يجوب الصالة ذهابًا و إيابًا في قلق هو أيضًا، و يرفع يده يدعو الله أن يوفق ابنته.
دقائق معدودة تفصلها عن تحميل الموقع الذي سيظهر عليه نتيجتها.. حاولت الاتصال مرارًا بـ رُميساء و لكن الرقم يعطيها خاصية مشغول في كل مرة.. أخيرًا صار الموقع متاح !
أغمضت عينيها و أخذت نفسًا عميق لتقول بنبرة متوترة
” يارب اجبر بخاطري.. يا حي يا قيوم أغثني ”
استطاعت السيطرة على أصابعها المرتعشة و أخذت تكتب رقم جلوسها رقم يليه الآخر بصعوبة بالغة.. و ظهر اسمها كاملًا بنتيجتها !
” روان حافظ مُرتضى الشامي ”
ثم ظهرت المواد الخاصة بالقسم الأدبي و أمام كل مادة الدرجة.. تجاهلت عيناها كل المواد لتصوب بصرها وهي تتنفس باضطراب و بخوف على النسبة المئوية الخاصة بالمجموع الكُلي
” ٩٥ % ”
ظلت لدقيقة كاملة تطالع النتيجة بفم مفتوح بذهول وعينان لا تصدق ما تراه.. أطلقت إيناس زوجة والدها الزغاريد و صاحت تنادي زوجها الذي أقبل مهرولًا بوجه متهلل من السعادة
” خير.. طمنوني ”
” روان نجحت يا أبو روان.. و جابت ٩٥ ٪ ”
أول كلمة قالتها روان بعد أن استوعبت النتيجة
” الحمدلله.. ألف حمد و شُكر ليك يارب ”
لم تسع الفرحة قلبها، و غمرتها سعادة لا توصف، و راحت تركض في سرعة وسرور كعصفور غادر قفصه في أرجاء المنزل وهي تصيح بسعادة و فرح
” نجحــــت… أنـــا نجحـــت.. روان نجحـت يا بشـــــــــر ”
صوت زغاريد إيناس و صياح روان السعيد وصلوا لمسامع الجيران، فخرجوا من بيوتهم و شرفات منازلهم، منهم من يرد عليهم كنوع من التعبير عن الفرحة لهم، أو المباركة بالزغاريد المصرية، و منهم من عبر عن مباركته بالقول أو المال و في مناسبة كهذه اعطاء المال يُسمى ” نُقطة” يتبادلون إعطاء بعضهم النُقطة و المشروبات الغازية.
احتضنها والدها بحنان قائلًا بسعادة شديدة
” الليلة عيد يا قلب أبوكِ.. هروح بقى أشتري خروف عشان الوليمة بتاعت بكره و أشوف طباخ كويس و اجيب بالمرة كام فرع نور نزين بيه البيت..
عاود معانقتها و تقبيل رأسها وهو يقول بامتنان
” فرحتي قلبي ربنا يفرح قلبك و يجبر بخاطرك دنيا و آخرة ”
” و اياكم جميعًا يا أحلى بابا ”
قالتها بابتسامة مسرورة، و كادت أن تطير فرحًا من شدة سعادتها.. لقد كللت جهودها بالنجاح.. عانت كثيرًا هذا العام.. لاقت الكثير من الصعوبات و المواقف المؤلمة، و بفضل قوة ايمانها و توبتها النصوح تخطت كل ذلك بصبر و جِد.. ذاكرت و اجتهد جيدًا في آخر ثلاث شهور قبل الامتحان، لتحصد نجاحًا باهرًا جعلها تسجد لله باكية من استجابة دعائها، لم تنسى أن تدعو لصديقتها و رفيقة دربها رُميساء أن يجبر الله خاطرها أيضًا، فعدم ردها على الهاتف جعلها في حالة قلق عليها.
بعد ساعات رن هاتف روان وكانت وقتها تصلي العشاء، أنهت صلاتها، و أسرعت ترد على الهاتف ظنًا بأنها رُميساء.. توقفت للحظة تنظر للشاشة المضاءة بعدم تصديق.. فالمتصل والدتها، هذا رقم والدتها !!
هل بعد كل تلك المدة وهذا الفراق، تتصل لتطمئن عليها و تتساءل عن نتيجتها ؟
هل حقًا والدتها ما زالت تهتم لأمرها ؟
شعرت روان بالحيرة هل ترد أم لا، في البداية قررت أن تتجاهل اتصالها، و لكن مع الحاح المتصل حثت نفسها على الرد طاعة لله فقط، و أنه مهما حدث ستظل أمها.
فتحت روان عليها و قبل أن تنطق بأي حرف سمعت صوت صراخ والدتها تقول مستنجدة بها
” الحقيـني يـا روان ” !!
____________________♡
‏لا يبكي المرءِ مِنَّا من فرط أحزان قلبه بل من فرط يقينهُ بأنهُ لا يستحق كل ذلك أبدًا.
***********
لمحت عائشة دماء سائلة بغزارة على الأرضية..!
دخلت سريعًا للغرفة و قلبها يكاد أن يقفز من الفاجعة على جدتها.. وقعت عيناها على مشهد لا يتحمله أحد.. !
جدتها مُلقاة على الأرض والدماء تسيل من رأسها، بدت كأنها جثة هامدة فارقت الحياة..
صرخت عائشة بفزع وهي تجث على ركبتيها بجانب جدتها تتفحصها بجنون
” تيتــــه.. تيتــــه فـــوقي.. تيتـه رُدي عليا.. رُدي عليـا عشان خاطري.. تيتـــه قومي.. عشان خاطري قومي
ارتفع صوت بكائها الشديد و أصبحت يداها ملطخة بدماء جدتها.. وضعت رأسها عند قلبها تجس النبض و بسبب الخوف الشديد لم تسمع دقات قلبها، أخذت تصرخ و تنادي الجيران لينقذوا جدتها
” الحقــوني.. تيتــــه بتمــوت.. حد يلحقنا الله يخليكم.. يا تيتـه رُدي عليـا بقى.. أنا مبقاش ليا غيرك.. متسبنيش.. يـارب.. يـــارب..
…..
في بيت رحيم.. وقفت أمه تنظر له بضيق و غضب منه لتقول بتوبيخ
” أنت مش هتنضج أبدًا ؟ ايه اللي نيلته مع البنت ده ! مش ناوي تعقل بقى.. أنا مش فاهمة أنت ازاي ظابط شُرطة.. ربنا يهديك يا بني
قال بلا مبالاة وهو يتناول قشر الموز
” ما تفكك مني بقى.. أنا عملت ايه يعني.. هي غمزة بس.. اومال لو كنت قولتلها هاتي بوسة كنتِ قولتي ايه ؟ ”
” هاتي بوسه ! أنا أول مرة أحس إني معرفتش أربي.. ده ولا أكنك لسه عيل مراهق طايش.. مش بغل عنده اتنين و تلاتين سنة.. اللي قدوا فاتحين بيوت و…
قاطعها رحيم مكملًا هو ليقلد طريقتها في الكلام
” و عندهم عيال و شايلين مسؤولية.. ماما.. بقولك ايه.. ما تفكك مني و تروحي تشوفيلك مسلسل يسليكِ كده بدل ما أنتِ فاضية و بتتسلي عليا ”
هتفت بنفاذ صبر منه
” صدق أنك عيل قليل الأدب..
” عيل !! مش من شوية كُنت بغل ؟! ”
قالها بمشاكسة و هو يكمل أكل قشرة الموزة، فهو يختلف عن جميع البشر في تلك النقطة، لا يحب تذوق الموز نفسه، إنما يجد متعته في تناول قشره، كم يشتهي تناول قشر الموز خاصةً الناضج بشدة.
شدته أمه من ذراعه المُعضلة، لتسحبه أمامها وهي تقول باصرار
” امشي قدامي.. هنروح نعتذر لهم عن اللي عملته
توقف مكانه ليقول بصدمة
” أعتذر لمين !! صل على النبي كده.. أنا مبعتذرش لحد.. حتى لو أنا اللي غلطان مبتأسفش و أنتِ عارفة كده كويس
” أنا اللي أعرفه إن ما مشيتش قدامي حالًا نروح لعائشة و ستها نتأسفلهم هخلع الشبشب اللي أنا لابساه ده و أنسره على وشك.. سامع يا ولا ! والله يا رحيم لأربيك من جديد.. يلا امشي قدامي.. اخلص
زفر بضيق مستسلمًا لإلحاح والدته، ليذهبا لبيت جدة عائشة يعتذروا منها و من حفيدتها.
بعد دقائق وصلا للبيت.. سمعا صوت بكاء و نحيب قوي يأتي من الداخل.. في الحال دفع رحيم الباب بجسده و اقتحم البيت ترافقه والدته، ثم اتجه بقلق لمصدر الصوت، فوجد عائشة تحتضن جدتها و تبكي بحُرقة مرددة كلام غير مفهوم..
ضربت أم رحيم بيدها على صدرها هاتفة بفزع
” أم جميلة !! الحقها يا رحيم الوليه سايحة في دمها !!!
نظرت لهما عائشة بتوسل لتقول من بين بكائها
” بالله عليكم الحقوها.. تيته هتروح مني.. مليش غيرها..
لم ينتظر رحيم أن يطلب سيارة الإسعاف، فمجيئها سيستغرق وقت وفي هذا الوقت ربما تفارق المرأة حياتها؛ لذا أسرع بالركض لبيته ليحضر سيارته، وفي دقيقة جاء و حمل جدة عائشة الذي اتضح أن أحدًا قام بضربها بآلة حادة على رأسها من الخلف؛ فتسبب ذلك في فتح الرأس.
ركبت عائشة بجانب جدتها وهي لا زالت تبكي وتدعو الله أن ينقذها، و انطلق رحيم بسيارته و بجانبه والدته باتجاه أقرب مشفى لهم.
وصل في وقت قياسي للمشفى، ثم حمل الجدة لينقلها للداخل.. استدعى الأطباء و الممرضين ليأتوا جميعهم مسرعين لإنقاذ تلك التي غطا الدماء ملامحها.. أدخلوها غرفة العمليات و استدعوا الطبيبة التي ستقوم بإجراء العملية لها، و لم تكن تلك الطبيبة سوى “شمس” و تلك المشفى هي المشفى الخاصة بها و التي تملكها.
عندما رآها رحيم ناداها فالتفتت له لتقول بدهشة
” رحيم !! ”
_________________♡
هناك بعض الوجوه توحي
لك بالتقزز من غير أي سبب.
*********
ظل قُصي يهز قدمه بملل و نفاذ صبر وهو يطالع بتقزز ذلك المعلق من قدميه أمامه.. ليقول
” انجز.. صبري بدأ ينفد ”
لم يفهمه آراش لأنه يتحدث الإيطالية.. حدثه قُصي بنفس لغته مكررًا الجُملة
“Sbrigati, la mia pazienza sta finendo.”
هتف آراش مُتوسًلا
” فك قيدي أولًا.. أقسم لك سأخبرك بكل ما تريد أن تعرفه.. ”
” بأي إله تقسم أنت ! ”
قالها قُصي ساخرًا منه؛ لأنه يعلم بأنه لا يؤمن بأي دين ولا يؤمن بوجود إله.
قال آراش وهو يبكي كالنساء
” أقسم بـ إلهك أنت.. إذا كنت تحبه اتركني اذهب ”
ضحك قصي بسخرية ليقول
” أقسم بالذي خلقني و خلقك لأجعلك تصرخ من فرط الألم ”
عقب قوله بأن نهض و فك قيده، ثم انهال عليه يمارس الملاكمة في وجهه، حتى أصبح متورمًا، ليقوم بشد الحلق الذي يرتديه في أذنيه بقوة مما انتزع وقطع أذنه فسال الدماء منها، ظل يصرخ و يبكي و يترجى قُصي أن يتركه.. قال قُصي بفتور وهو يعود ليجلس مكانه و يشاهده وهو يتألم مستلذًا بإذلاله
” كان إستدراجك سهل جدًا عليّ.. أعطيتك ورقة بالعنوان الذي أنت موجود فيه الآن فجئت إليّ.. ظننت أنني مثلك و أريد فعل الفاحشة معك، و لكنك نسيت أننا نحن المسلمون نعتز بديننا و نخشى الله.. نتقزز من فعل تلك القذراة التي تفعلها أنت و أمثالك..
صمت ليتنفس بعمق مُكملًا..
” لم يكن ضربي و تعذيبي لك بسبب مجيئك أنت و جماعتك الفاسدة للإنتقام من عائلتي.. لقد قصدت تعذيبك لأنني مشمئز منك، كلما تذكرت أنك ممن يأتون الذكور شهوة دون النساء أردت دفنك أنت و أمثالك أحياء.. اللعنة عليكم ليوم الدين”
خاف آراش أن يرد عليه فيتلقى ضربًا أكثر، وهو اكتفى اليوم من العذاب.. نهض قُصي ليتجه لمنضدة موضوعة إحدى زوايا الغرفة، أخرج من جيبه كيسًا من المُخدر قوي المفعول ووضعها في كوب ماء و أخذ يقلبه حتى يذوب
تساءل آراش بقلق
ماذا تفعل؟
رد قُصي بجفاء
” ده منوم و مخدر في نفس الوقت… مش هيخليك تحس باللي هعمله فيك.. عمرك شفت واحد بيعامل المجرمين بحنية؟
لم يفهمه آراش، فأعاد قُصي صيغة السؤال باللغة الإيطالية..
أجاب آراش
” لا..
ركله بمهارة رجل محترف في الكونغ فو، مما انتفض آراش مصطدمًا بظهره في الحائط خلفه ليسقط على الأرض يتلوى من الألم الشديد، و يصدر الكثير من الآهات و الأنين، وهو يتحسس مكان الركلة..
قال قُصي وهو يخرج العلكة من جيبه ليمضغها
“الكداب بيروح فيـن ؟؟ بتكدب ليه ؟ أنا بسألك سؤال بسيط ترد عليا بكذبة ليه و أنت عارف إن مبحبش الكدب ! بقولك عمرك شوفت واحد بيعامل المجرمين بحنية تقولي لأ ! اومال أنا ايه يا آراش الهباب أنت.. أنا ايــه !!!.. ده من يوم ما حبستك هنا و أنا بعاملك بطيبة و احساس.. ناقص بقى ادلعك قدام الناس وكده ابقى كملت الكوبليه..!!
بتجيب لنفسك الضرب و التهزيق معرفش ليه.. شكلك بتحب كده أصلًا..
تحرك قصي ذاهبًا لـ آراش و بيده كوب المخدر
” اشرب ”
نظر له آراش برعب من نظرته الثاقبة المريبة، و بقلة حيلة أخذ الكوب منه و شربه كله، وبعد دقائق كان آراش مغيبًا عن الوعي لا يشعر بأي شيء..
حمله قُصي و وضعه على بطنه على المنضدة، ثم بدأ عمليته الجراحية باحتراف.. فتح جزء صغير من أسفل الكتف ووضع بداخله شريحة دقيقة و صغيرة جدًا ثم قام بخياطة الجرح كأنه طبيب ماهر..
تلك الشريحة هي شريحة تتبع قوية من أخطر الاختراعات حديثًا ولا يتم استخدامها كثيرًا، بعبقرية و ذكاء قُصي فكر في تلك الفكرة الجهنمية ليتتبع كل خطوة يخطوها آراش دون الحاجة لاستجوابه مجددًا، لقد علم من كارمن مؤخرًا بفضل التسجيل الذي سجله لها في الغرفة المبنية فوق سطح المنزل، أن آراش هو الذراع اليمين لـ كارمن، و لن يعترف بسهولة عليها..
لقد ساعد أُبَيّ شقيقه بتمويله بالمال اللازم له لشراء تلك الشريحة التي لا تُباع إلا في دول أجنبية معدودة.. بعد أن قام قصي بذلك ترك باب الغرفة مفتوحًا؛ ليستطيع آراش الذهاب عندما يسترجع وعيه، ثم تركه و ذهب عائدًا للحارة وهو يشعر بالنصر الذي سيحالفه قريبًا عندما يعرف الحقيقة كاملة و يُسلم هؤلاء الأوغاد للشُرطة.
_______________♡
لديّ أخ أعرف تمامًا أنني إن اتكأت عليه بكل ثقلي لن أقع أبدًا .
*******
عندما صعد بدر لبيته وقعت عيناه على شقيقه مستغرق في النوم على كرسيه المتحرك و رأسه تميل على كتفه.. يعلم بدر أن وضعية النوم تلك تؤلم الرقبة كثيرًا، وجد نفسه تلقائيًا يسرع بعدل رقبة أخيه بحنان و بحذر حتى لا يوقظه، ثم قبله بعمق من جبهته.. مما أيقظته تلك القُبلة..
فتح سيف عينيه الخضراوتان على وجه أخيه، فاتسعت ابتسامته و هتف بسعادة
” بـدر !! أخيـرًا جيت.. أنا استنيتك كتير
سرعان ما تلاشت ابتسامته عندما لاحظ تلك الضمادة البيضاء العريضة تحجب نصف خصلات شعره الطويلة من الانسياب على جبينه كالعادة.
تساءل بخوف على أخيه
” ايه ده !! في ايه.. مالك !! ايه اللي عمل فيك كده ؟؟ ”
مسد بدر على شعره بحنو قائلًا بابتسامة صافية
” متقلقش أنا كويس.. دي حادثة بسيطة كده..
تحسس سيف الضمادة برقة و حذر وهو يتساءل بقشعريرة
” حادثة !! حادثة ايه ! بدر أنت كويس.. طب مين اللي عمل فيك كده ؟؟
تنهّد بدر ببطء و قال
” منا قدامك و زي الفل أهو.. والله أنا كويس الحمدلله.. اللي حصل حصل بقى.. كله خير.. المهم أنا هنام دلوقت واما اصحى نكمل كلامنا
” يعني مين اللي عمل فيك كده؟! ”
ضحك بدر قبل أن يتسطح بتعب على الفراش مستسلمًا للنوم
” أنت عارف إن محدش يقدر يمس شعره من أخوك.. يلا سيبني أنام بقى متبقاش مزعج
تركه سيف ينام، ثم ذهب و بقي جانبه يحاول تحسس الضمادة بلُطف كطفل يحاول اكتشاف أمر جديد.. مما ضحك بدر من فعلته و فتح عينيه ليشده من خده كما كان يفعل معه وهو صغيرًا، ليقول بيأس
” ما تبطل ازعاج بقى و سيب العبد لله يناملوا ساعتين على بعض
قال سيف بضيق و عينيه تلمع ببريق الحُب لشقيقه
” ماشي يا بدر.. هسيبك تنام.. بس علفكرة بقى أنا مش مزعج.. أنت اللي مزعج.. عشان جيت صحتني من أحلى نومه.. يلا بقى
” ماشي يا عم أنا آسف.. سيبني أنام بقى
” نام يا خويا نام”
قالها سيف مغتاظًا منه ثم تبسم ابتسامة صغيرة مشتاقًا لبدر القديم الذي كان يشاكسه دائمًا بنفس تلك الطريقة كما حدث الآن.
______________________♡
أنتِ في عيني أجمل إمرأة، معجزة حظيت بها، وهذا يكفي. لـ نرمينا.
**********
خرجت نورا تمشي بسعادة تجاه الصيدلية داعية الله أن يصدق حدسها، و تكون هاجر حامل بالفعل.. أخذت تتخيل نفسها وهي عمة و تلاعب طفل أخيها و ابنة عمها و تشتري له كل الأشياء التي يحبها و تأخذه في نزهات تداعبه بين الحين و الآخر.. أثناء تخيُلها لكل ذلك قطع شرودها صوت تعرفه جيدًا.. صوت حنون هادئ يقع أثره كالبلسم على أُذن السامع.. بالطبع كان ذلك صوت أُبَيّ، الذي شعر بصداع يقتحم رأسه فخرج قاصدًا الصيدلية لشراء دواء للصداع.
قطع أُبَيّ شرودها متسائلًا بابتسامة لطيفة
” رايحة فين ؟ ”
ردت و الابتسامة المشرقة لا تفارق شفتاها
” رايحة الصيدلية أجيب حاجة ضروري ”
” حاجة ايه ! أنت..أنتِ..أنتِ كويسة ؟؟ ”
تساءل و الخوف يكاد يقفز من عينيه، فقالت نورا بإيماء
” أنا كويسة.. الحاجة دي مش ليا ”
هز أُبَيّ رأسه بتفهم؛ ظنًا بأنها ذاهبة لشراء شيء خاص بالفتيات فقط، و خجلت أن تقول ذلك.
تساءلت هي بعفوية
“و أنت رايح فين ؟ ”
” هجيب حبوب صداع..
” لمين ؟
” ليا.. منمتش كويسة و.. وطول النهار كنت برا.. لسه جاي وحاسس بإرهاق و..
كان يتحدث جيدًا وهو يسير معها ينظر للطريق أمامه، ثم التفت لينظر لها و أكمل
” و.. شكلك حلو.. في.. في.. في العباية.. دي ”
نظرت له باسمة، ثم أدارت وجهها بخجل و قالت بهمس
” شُكرًا ”
وصلا للصيدلية، و اشترى أُبَيّ الدواء.. انتظرت نورا ذهابه حتى تخبر الطبيب بما تريده، و لكن أُبَيّ لم يذهب و وقف ينتظرها..
تساءل الصيدلية بابتسامة رسمية، فهو من أهل الحارة و يعرف أفراد عائلة الخياط جيدًا
” ازيك يا نورا.. أجبلك ايه ؟ ”
ردت نورا بخجل و احراج
” عايزه.. عايزه اختبار حمل ”
رمقها أُبَيّ بدهشة و كذلك الصيدلي، فظنت أنهم يشكون بها.. قالت سريعًا
” مش ليا.. ده لمرات أخويا ”
قال الطبيب ضاحكًا بخفة
” مهو أكيد مش ليكِ منا عارف أنك لسه متجوزتيش.. أنا بس استغربت اكمن مفيش حد من عيلتكم لسه اتجوز… آه صحيح..ده ناسي والله.. يكونش ده عشان مرات بدر ابن عمك أو مرات أخوكِ زياد ؟؟ ”
” منا قولت لحضرتك لمرات أخويا ”
” هو زياد جه من العُمرة ؟ أصل محدش شافه يعني”
تدخل أُبَيّ ليقول بانزعاج من هذا الطبيب الفضولي
” ممكن تجبلها اللي قالتلك عليه عشان نمشي ؟ ”
أومأ الطبيب باحراج و أحضر لنورا اختبار الحمل وهو يقول برسمية
” سلميلي على أخوكِ و عمرة مقبولة إن شاء الله و ألف مبروك على الحفيد الجديد مقدمًا ”
أومأت نورا في صمت، ثم خرجت مع أُبَيّ بينما الأخير شكر الله في نفسه أنه استطاع قول جملة كاملة دون التأتأه؛ حتى لا يسخر منه أحد من الواقفون في الصيدلية.
تساءل أُبَيّ بعدم فهم
” هو اختبار الحمل ده ليه؟ هي.. هي هاجر حامل؟ ”
هتفت نورا تتحدث بسعادة و هي تتمنى من قلبها ذلك
” قول يارب.. بس أنا متأكدة إنها هتطلع حامل إن شاء الله ”
شاركها أُبَيّ الفرحة ليقول بعدم تصديق
” يعني أنا هبقى عم !! ”
أومأت نورا وهي تضحك بسعادة مماثلة
” و أنا هبقى عمتو ”
قابلا قُصي وهما في طريقهما للبيت، ترجل من سيارة والده التي سرقها ثم أقبل يبشر أخيه بما حدث، فسارع أُبَيّ بإخباره
” هبقى عم يا قُصي.. هاجر حامل ”
نظرت له نورا نظرة توبيخ على تسرعه في نشر الخبر وهم لم يتأكدوا من حملها بعد.
أشار قُصي لنفسه يشاركهم السعادة صارخًا كالأحمق بجنون جعل المارة ينظرون إليهم
“هاجـر حــامل !! زياد هيبقى أب !! ده معناه إن أنا هبقى عم !!
أخرج هاتفه من جيبه وهو يقول بسعادة حقيقية
” إما أبشر الولا سيف إنه هيبقى خال.. ده هيفرح أوي..
اسرعت نورا بالاعتراض
” لا مش دلوقت.. إما نتأكد الأول
لم يهتم قُصي لهما، و هاتف سيف ليأتيه الرد بعد لحظات
” ايه يالاه عايز ايه ؟
” جايبلك خبر بمليون جنيه
” هات المليون و خليلك الخبر ”
” إما تعرف هو ايه هتغير كلامك خالص
قال سيف بملل
” اشجيني
” أختك حامل.. هتبقى خال يسطــا
رمش سيف للحظات يستوعب ما قيل له
” أنت بتعمل فيا مقلب صح ؟
” أقسم بالله بكلمك بجد.. أنا لسه عارف من أُبَيّ و نورا
ألقى سيف الهاتف من يده ليصيح بفرحة احتلت ملامحه
” هبقى خــــال..
بدأ يهز أخيه مكملًا صياحه
” بدر اصحى.. أنا و أنت هنبقى خيلان.. أخوال.. خو… هي بتتقال ازاي !
المهم.. أنت هتبقى خال و أنا هبقى خال.. هاجر حـــامل
استيقظ بدر يتساءل بعدم استيعاب وفهم لصراخ سيف المستمر
” في ايــه ؟؟!
“هاجر حامل”
” أنت بتتكلم بجد ؟
” والله العظيم بجد ”
جاءت أمهما على بعد سماع ذلك الخبر من سيف و أصدرت زغاريد كثيرة و راء بعضها قائلة بمنتهى السعادة
” هبقى تيته.. يلا يا ولاد نروح لأختكم
كانت شهد شقيقة أُبَيّ و قُصي الوسطى قادمة من درس التجويد و عندما لاحظت تجمع أشقائها مع نورا تساءلت بفضول فأخبرها قُصي، مما صاحت كالمجنونة هي الأخرى و انطلقت لبيتهم تخبر أباها و والدتها و أختها الصغرى.. حتى انتشر الخبر بسرعة البرق في الحارة و علم الجميع أن هاجر زوجة وكيل النيابة زياد أكبر أحفاد عائلة الخياط حامل في أول حفيد لمصطفى الخياط.. الخبر الذي عرفه الجميع ولم تعرفه صاحبة الشأن بعد !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى