رواية يناديها عائش الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الرابع والعشرون
رواية يناديها عائش البارت الرابع والعشرون
رواية يناديها عائش الحلقة الرابعة والعشرون
“لم أجِد في حَياتي سببـًا يُديمُ ٱلحُبَّ و ٱلصَّداقةَ و ٱلشَّراكةَ مِثلَ ٱلتِماسِ ٱلعُذرِ و حُسنِ ٱلظَّنّْ.”
***
تلجلج زيـاد ليقول بمدافعة
–هـاجر.. اهدي لو سمحتِ.. اهدي وهفهمك على كل حاجة.. طيب كملي قراية للآخر.. متظلمنيش باللـه عليكِ.. أنا معملتش كده بإرادتي.. والله غصب عني.. والله…..
قاطعته قائلة بضعف وهي تنهض و تمسح دموعها
— لو سمحت إنت.. اطلع برا.. وجودك معايا مينفعش.. اتفضـل برا
تجاهل ما قالته وأخذ يردد بتوسل
— بالله عليكِ سامحيني.. طيب.. طيب اسمعيني للأخر وافهمي مني قبل ما تحكمي عليـا.. هاجر والله أنا سيبتك عشان وقتها مكنتش استحقك.. كنت بسعى إن أبعد عن القرف ده.. ربنا هداني والله عشان كده أنا مش هسيبك تاني
حبست هاجر دموعها لتردف بوهن
— لو سمحت يا زياد اطلـع برا… عايزه أبقـى لوحدي معلـش.. ممكن ؟
بإيـماءة بسيطة وهو على وشك الإنهيـار.. غمغم
–حـاضر.. بس.. بس سامحيني.. ده ربنا بيسامح
أخذت تُقلب في باقي الصفحات لتقع عينيها على اعتراف أخر كتبه
قطعت كل تلك الصفحات التي تحوي ذنبه حتى قابلتها صفحة بإعتراف أخر لم تكن قد قرأتها بعد، فقطعتها أيضـًا ثم خبئتهم في جيب عباءتها، ولم يكن زياد قد ذهب بعد، فإنهـار متوسـلًا
–هاجر.. بالله عليكِ متعرفيش حد.. حلفتك بالله.. هاجر إنتِ قريبة من ربنا وعارف إن ربك غفور رحيم بيستـر.. بالله عليكِ استُريني ومتعرفيش حد.. أقسم بالله أنا ندمان
التفتت لتقول بهدوء
–اهدي يا زيـاد..لم تكمل حديثها بسبب دخول عائشة محدقة بشدة في ذلك الذي يقف أمام الغرفة والدموع تكاد تنفجر من عينيه، حولت عائشة بصرها بين هاجر وزياد بعدم فهم قائلة
–هو في إيـه..؟؟.. إنتوا معيطين ولا إيه؟
تمالك زياد نفسه ونظر بيأس وضعف نظرة أخيرة لـهاجر ثم ذهب.. انتهزت هاجر عدم تواجده وانهارت باكيـة بشدة حتى شعرت عائشـة بالخوف تجاهها وهرعت لترى مابـها وهي تتساءل
–هاجر.. مالك.. في إيه؟
قالت هاجر بصعوبة
–مفيش.. تعبانه شويـه
شككت عائشة في الأمر فتساءلت
–زياد كان هنا ليه.. إيه اللي حصـل ؟
كفكفت هاجر دموعها وأردفت
–عادي.. يعني.. هو.. هو جه صدفه.. و..
قاطعتها عائشة بشـك
— و.. إيه؟.. قولي الصراحه يا هاجر.. والله مش هعرف حد.. بس على الأقل فضفضي.. الكتمان متعب والله
ابتسمت هاجر بقلة حيلة لتجيب
— كان بيكلمني في موضوع الفرح وأنا رفضت.. كنت محتاجه أراجع نفسي وأفكر
“تفكـري..!.. حرام عليـكِ والله.. زياد بيحبك بجد ليه تكسـري بخاطره.. ده المثـل بيقول خد اللي يحبك.. انتِ اتسرعتي يا هاجر.. على الأقل كنت فكري قبل ما ترفضي”
قالت عائـشة ذلك كأنها تحدث ذاتها، كـأنها تلوم وتوبخ نفسـها على جرحها لبدر أكثـر من مرة.. ولكن الوضع مختلف هُـنا، من وجهة نظر عائـشة أن هاجر وزياد قصة حُبهم مثـالية؛ لأن هاجر حظيت بـ رجل وسيم يمتلك وظيفة مرموقة لديه مال وفيـر يستطيع أن يبني لها بيت خارج الحارة إذا شاءت، وهاجر هي الفتاة الرقيقة الخلوقة التي يبحث عنها كل رجـل، أما هي وبـدر ينقصهم الكثيـر لتكتمل قصة الحُب البائسـة تلك.
ابتسمت هاجر بإستخفاف دلالة على عدم الرضا لِمَ تقوله، وقالت بهدوء
–أنا محتاجه أرتاح شويه.. حاسه بتعب في جسمي وقلبي بيدق جامد
حثتها عائشة على النهوض لتقول
–طيب قومي نروح
أومـأت هاجر ونهضت معهـا ليستأذنوا من عمتها للذهاب فقالت والدة هاجر وهي تتفحص ابنتها بشك
–هتـروحوا فجأة كده؟
“إنتِ عارفه يا ماما إن الامتحانات كمان اربع ايـام فهنروح نزاكر”
قالتها هاجر وهي تهـّم بالذهاب قبل أن يقع على رأسها أسأله أخرى وتضطر للكذب كي تخرج من المأزق الذي وضعها فيه اعترافات زيـاد.
أومـأت والدتها قائلة
–طيب أنا شويه كده وجايـه
ذهبت الفتـاتان دون أن يراهم أحد من الرجال، فقد أخذ عمهم مجاهد ابناءه وزوجته ليرتاحوا من عناء السفر في الطابق السُفلي الخاص ببيت مصطفى الواسـع، بينمـا بدر انتهز فرصة عدم تواجد أحد وذهب لإحـضار دفتر الرسم الخاص بشقيقه ليُريه لزياد كي يساعده في معرفة السبب وراء ذلك الحادث.
أمـا زيـاد تسطح على الأرجوحة في استراحة المنزل واضعـًا ذراعهه تحت رأسه واليد الأخرى تُخفي عينيه الرُمـادية من أشعة الشمـس.
***
لڪنِ لم افعل أي شيء؛ لأستحق هذا الألم يا أمـي.!
***
وصلت روميساء وروان لمنزل والدة الآخيرة بعد أن هاتفتها وعرفت منها العنوان.
دقت روان الجرس وهي تنظر لروميساء بمشاعر مضطربة، لأول مرة سترى أخواتها من الأم، سبق وأن رأتهم ولكن في الصور فقط.. بعد لحظات فتح طفل الباب يبدو من هيئته أنه في السادسة أو السابعة، أخذ يطالعهم بوجه بريء ثم ركض ليصيح
— ماما.. في اتنين ستات برا
ضحكت روميساء بخفة على ما قاله الصغير بينما روان كانت تفرك يديها بتوتر.. حتى ظهرت والدتها أمامها.
توقف الزمن لدقائق وهي تتأملها بشوق شديد، تُـود لو أن تلقي بنفسها بين ذراعيها، تريد أن تبكي وهي تعانقها بشدة، تتمنى لو أن تبقى بجانبها وتجتمع مع والديها للأبـد.. تمالكت روان نفسها حتى لا تنهار وتبكـي أمامهم، فدعتها والدتها للداخل وهي تبتسم قائلة
— أهلـًا ياروان.. اتفضلي ياحبيبتي..ثم التفتت لروميساء مردفة
— اتفضلي
دخلت الفتاتان وقالت روميساء بمرح في محاولة منها لتخفيف هذا التوتر بينهما
–في حد هنا يا طنط.. عاوزه ارفع النقاب.. الجو صعب انهارده
ابتسمت ثـُرية والدة روان وقالت
— لا يا حبيبتي.. مفيش غير عبد الله وجنى عيالي
رفعت روميسـاء نقابها وجلست جاذبة روان لتجلس بجانبها فقد تملك منها الصمت حين شعرت بأن والدتها تعاملها بجفاء أو كأنها غريبة وليست أول من أنجبت، شعرت بحزن شديد وأطبقت عينيها تحاول جاهدة ألا تبكي، كانت تظن أنها ستسحبها لأحضـانها أو ترحب بها بحرارة شديدة، ولكنها أخفقت اعتقادها بمعاملتـها الرسميـة.
جاءت ثُرية بعد دقائق حاملة أكواب العصير ثم جلست قبالتهم وجاء أطفالها ليجلسوا بجانبها.. خرجت روان من صمتها قائلة بإبتسامة جميلة
— عامله إيـه يا ماما.. وحشتيني أوي
بإبتسامة بسيطة قالت ثرية
— الحمدلله ياروان.. إنتِ عامله إيه في دروسك وفي المزاكرة ؟
من كثرة اشتياق روان لوالدتها أخذت تتحدث معها بأي شيء يأتي على بالها، لقد افتقدت الحديث معها حقـًا منذ أن افترقت عن والدهـا.
ثرثرت روان وهي ترتشف من العصير قليلًا ثم تعود وتتحدث
— فاكرة يا ماما لما قولتلك وأنا صغيره إن لما أكبر عايزه أبقى مدرسة أطفال ويبقى عندي حضانة كبيرة.. أنا بقى قررت أزاكر كويس عشان أدخل تربية طفولة وأعمل المشروع اللي كان نفسي فيه.. وهشتغل وأنا في الكلية عشان أفتح الحضانة الكبيرة إن شاء الله
أومأت والدتها قائلة
— إن شاء الله.. ربنا يوفقك يا حبيبتي
عمّ الصمت لدقائق، فعادت لتثرثر في محاولة منها للتقرب من والدتها؛ لكي تجذبها لتبادل الحديث معها
— مش تبـاركيلي.. أنا مبقتش ألبس بناطيل ولا أسيب شعري.. الحمدلله ربنا هداني وروميساء بصراحه ساعدتني كتير.. إيه رأيك بقى في الخِمـار عليا ؟
ابتسمت ثُرية وقالت
— حلو.. ربنا يثبتك
عاد الصمت لدقائق ثانيـة شعرت فيهم روان أن المعاملة رسمية جدًا بينها وبين والدتها وأحسـت في تلك اللحظـة أنها بلا أُم.
قطع الصمت تلك المرة هذا الصغير عبدُ الله متسائلًا بعفوية
— هي طنط بتقولك يا ماما ليه؟
نظرت روان له بصدمة ثم نظرت لوالدتها بدهشة هاتفة
— إنتِ مش معرفاهم إن ليهم أخت؟ مش معرفاهم إني بنتك..؟؟
أخبرت ثرية أطفـالها بأن يذهبوا للعب ثم التفتت لروان قائلة بحـذر
–روان لو سمحتِ وطـي صوتك.. الولاد ميعرفوش حاجه
ابتسمت روان ببلاهة وعدم تصديق هاتفـة
— هو اللي حصل من شويه ده بجد!.. هههه لأ.. لا لا أنا مش مصدقه.. مش قادرة استوعب.. ليه كده.. ليه مش عاوزه تعرفيهم بيـا ؟.. ليه يا ماما.. أنا عملت إيه ؟؟
أشاحت ثريـة وجهها بحزن لتقول
— معلش يا روان.. غصب عني.. الولاد ميعرفوش إن كنت متجوزه قبل كده.. وأشـرف جوزي.. يعني الصراحه.. لو عرف إنك جيتلي هيرمي عليا اليمين.. أشرف شكاك وهيفكر إني لسه على علاقه بـأبوكِ فلو سمحتِ عشان خاطري بلاش تكونِ السبب في خراب بيتي.. عيـالي ملهمش ذنب بأي حاجه حصلت.. لو أبوهم عرف حاجه هياخدهم مني ويرميني في الشارع.. أنا مصدقت لقيت واحد يتجوزني ويقعدني في شقه واسعه وحلوه زي ما إنتِ شايفه كده.. وخلفت منه وبقيت مجبوره اسمع كلامه عشان مخسرش عيالي
وقفت روان لتشير لنفسها وهي تتأملها دامعة
— طيـب وأنـا..؟؟.. أنا بنتك برضو.. ليه تمنعنيني منك ؟.. أنا مش جايه اخرب عليكم ولا أقلـب في اللي فات.. أنا والله العظيم جاي أشوفك واشوف اخواتي.. حتى شوفي.. شوفي جبتلهم إيه
أخذت روان تُريـها الألعاب والدمى الجميلة التي أحضرتها لهم وهي تجلس على ركبتيها وتفرغ محتويات حقيبة الهدايـا وتبكي بضعف حتى علا صوت بكاءها وتحول لشهـقات؛ فجلست روميساء بجانبها ترُبت على ظهرها كي تهدئ.. قالت ثُرية بخوف
— روان.. وطي صوتك عشان خاطري.. العيال هيسمعوا ويقولوا لأبوهم
رمقتـها روان بدهشـة، تُريد أن تصـرخ بها وتقول أي أم أنتِ؟.. أنا لا أستحق ذلك.. أُقـسم يا أمي إني أحبـك.. أقسم أننـي بحاجة لعناقك.. لا تحرميني من هذا العـِناق.. أرجوكِ.
بينمـا روميسـاء كانت تنظـر لها بإستغراب شديد من تلك المبالاة والجحود الذي يملأ جوفـها، ما ذنبـها روان المسكينة في أن تُصـبح بلا أم وأمـها على قيد الحيـاة.. ما ذنبـها ؟
قالت روان بصعوبة وهي تمسح دموعها
— أنا متـآسفة يا ثُرية هانم على الإزعاج.. أوعدك إنك مش هتشوفي وشي تاني
أخذت تمسح في دموعها التي انسابت بغزارة ثم فتحت الباب لتُلقي على والدتها نظرة أخيرة فأخفضت ثرية رأسها بقلة حيلة وذهب روان ومعها روميسـاء بعد أن اعطتهم حقيبة الهدايا وأبت أن تأخذهم حتى لا يعلم زوجها بالأمر.
ظلت روان تبكي طوال الطريق وروميساء تحاول جاهدة أن تجعلـها تهدئ، وجميع من بالسيارة ينظرون لها بشفقة وهي تهذي وتشهق باكيـة
— ليـه.. ليه يا روميسـاء.. ليه؟.. أنا عملت إيه طيب عشان.. عشان ماما تفضل عيال جوزها عني؟.. أنا مش غيرانه والله ولا بحقد على إخواتي.. بس.. بس كنت عايزاها تاخدني في حضنها وتطبطب عليا زي أي أمي ما بتعمل مع بنتها.. والله ما كنت عايزه منها حاجه غير شوية حنيه بس.. أحس حتى إن ليا أم.. أجري عليها لما اجي من مدرستي.. احكيلها على اللي مزعلني.. تسهر جنبي لما أتعب.. أكل من ايديها وأشكرها على أكلها الحلو.. نفسي.. نفسي أعيش معاها تفاصيل رسماها في خيالي.. تفاصيل بنت ضعيف قوتها هي أمها.. أنا مش زعلانه منها.. ربنا يسامحها.
هدئتها روميساء وعيونها تفيض بالدمع لأجلها
–معلش ياروان.. الله أعلم بيها..هي بتقول ان جوزها مانعها.. مقالتش انها مش عوزاكِ
انفعلت عليها روان هاتفة
— مفيش أي حد في الدنيا يقدر يمنع حُب أم لبنتها.. دي حجه يا روميساء.. بس أنا مسمحاها.. مسمحاها عشان بحبها.. وعمري ما هكرها مهما عملت.. لا هي.. ولا بابا
“هنا يا عمو لو سمحت”
قالتها روميساء للسائق، ليقف بالقُرب من منزلهم وهبطت الفتاتان من السيارة بينما الجالسون ظلوا يتحدثون عما حدث بحزن وشفقة.. فقال واحد من الراكبون
— لا حول ولاقوة الا بالله.. ما بيشلش الليلة كلها لما يطلق الأب والأم غير العيال.. ربنا يسترها علينا والله
قالت إمرأة
— ربنا يلطف بيها.. مسكينة يا حبة عيني.. أمها اتجوزت وخلفت ونست دي.
قالت إمرأة أخرى
— نسبة الطلاق عماله تزيد والموضوع بقا مخيف.. ربنا يطلـعنا منها على خير.
…
بعد إلحـاح كثير من روميساء على روان أن تبقي معها الليلة، وافقت الأخيرة بعد أن إستئذنت والدها ووافق.
***
ظل زيـاد في قلق وخوف شديد من ردة فعـل هاجر، شعور الحسرة ينتابه، فبـعد أن تاب من ذنبه وجهز كل شيء لمفاجئتها بطلبه للزواج منها.. حدث ما لم يكن في الحُسبـان، وهُدم كل ما بناه من أحلام وأمنيات جميلة في مخيلته معـها، لا يعلم ما الذي يجب عليه فعله، أيركض إليها ويتوسلها بأن تصدقه أنه تاب توبة نصوحة، أم يظل مكانه يدعو الله بخوف ألا يحدث شيء يكسر أحلامه وتتفهم هاجر الأمر؟
استقـر أخيـرًا أن يترك الأمر لله ولكنه سيُجن من التفكير..حدث نفسـه بحسـرة وخوف
–يارب استرها معايـا.. أنا ندمان والله ومش هكررها تاني.. يارب متحرمنيش من هاجر.. يارب تفهم قبل ما تحكم عليا
صمت للحظات يفكر ماذا ستفعل بالمكتوب في الورق بعد أن قطعته فتساءل ذاته
— ياترى يا هاجر هتعملي إيه بالورق ده.. هتفضحيني وتعرفيهم باللي عملته ولا هتستري عليا وتسامحيني ؟
***
ويل لمرئ حاقد يجري الغِل في دمه. “بقلـمي”
…
لم يهدئ لـنورا بال منذ أن علمت بأمر تقدم بـدر للزواج من عائـشة واصراره عليها.. انتهزت فرصة أن والدها يجلس في مكتبه الخاص بأعماله التجارية واستئذنت منه لتدخل فسمح لها قائلًا
— تعالـي يا نورا
دلفت نورا مبتسمة لتجلس بجانبه متسائلة بخبث
— غريبـة يعني يا بابا بدر يصر إنه يتجوز عائشة وأبوها لسه ميت من أسبوع ؟
ابتسم والدها ليقول
— طيب وإيـه المشكلة يا نورا !.. ده تصرف صحيح.. بدر بيحب عائشة وهي مبقاش ليها حد.. هو أولى بيها
“بس هي مش بتحبه.. بدر يستاهل واحده تشيل جذمته على راسها مش تطول لسانها عليه كل شويه.. أنا مش عارفه هو هيموت عليها على إيه”
قالتها وهي تلوي شفتاها بغلٍ واضـع؛ فضحـك والدها ليردف
–الحقيقة يا نورا إحنا مبناخدتش الستات من بيوتها عشان نخليهم يشيلوا جزمنا.. شوفتي معاملتي لأمك ازاي ؟.. عمري هِنتها ولا مديت إيدي عليها؟.. لأ مستحيل وعمره ما هيحصل.. إحنا بنتجوز عشان نتشارك الحياة نبني مستقبل جميل مع بعض.. نكون أسرة بسيطة محترمه.. مش نجيب واحده من بيت أبوها ونعمل عليها دور سي السيد.. النساء وصية رسول الله يا نورا والمؤمن الحق لازم ينفذ الوصية.. إنتِ دلوقت بتقولي والكلام ده ايه علاقته بسؤالك.. هو الحقيقة كلامي ده أُس الموضوع اللي هجيلك فيه حالـًا.
صمت ليرتشف القليل من كوب الشاي ثم تنهد مُـردفـًا
— محمود أخويـا الله يرحمه مات وأنا مشبعتش منه.. عمك محمود زي ما إنتِ عارفه كان أخونا الصغير.. جدك الله يرحمه قبل ما يموت وصانا على محمود لأنه كان الصغير وكان طيب.. على نياته وبينضحك عليه من العيال.. مكدبش عليكِ أنا كنت لسه متجوز أمك وكنت شاب بقا عاوز اشوف حياتي وكده وعمك مجاهد كان حاطط السفر في دماغه لحد ما خد نصيبه من ورث ابونا في الأرض والمزرعة وقعد كام سنه في البلد اتجوز وسافر.. اللي حافظ على وصية أبونا كان عمك محمد الله يرحمه..خد محمود في حضنه وبقى يحسسه إن أبوه ما ماتش لحد ما عمك محمود قال لمحمد أخويا إنه شاف شغل في القاهرة وساب البيت وقعد في سكن هناك وبعدها بكام سنه لقيناه جايب واحده معاه وبيقول انها تبقى مراته طبعـًا كلنا زعلنا ازاي يعمل كده من غير ما يعرفنا وكانت مشكله وقتها واللي نيلها أكتر إن اللي اتجوزها دي رقاصه وعندها كباريه.. الله يرحمها بقى ويسامحها.. المهم خلفتله عائشة وكنا وقتها مقاطعينه والكل كان زعلان منه.. عائـشة تعتبر يتيمه من يوم ما اتولدت.. أمها مبطلتش تروح الكباريه ولا أكنها عندها عيله محتاجه رعاية منها.. كانت سايبه البت لمرات عمك محمد أبو بدر وهي وعمك محمود يطلعوا من نص اليوم ميجوش غير وش الصبح وأحيانًا كان بيباتوا هناك.. فضلوا على الحال ده لحد ما في يوم وهما مروحين عملوا حادثه وماتت أم عائشة.. عمك محمود دور على شغل نضيف وتاب لربنا وبقى يشتغل عشان يأكل عائشة لقمه حلال.. بس عائـشة محستش بموت أمها عشان مكنتش قريبه منها أصـلًا.. حتى عمك محمود مكنش مراعيها قد كده.. اللي بقى يعاملها كويس أوي لحد ما البت اتعلقت بيه هو بـدر.. الله يجازيه خير مكنش بيحط اللقمه في بوقه غير لما يتأكد هي كلت الأول ولا لأ.. إحنا مكناش بنحب البت عشان أمها.. بس ده غباء مننا.. كانت وقتها طفله مش فاهمه حاجه وإحنا كنا قاسيين عليها ما عدا عمك محمد ومراته وعياله.. عائشة مكنتش فاهمه إحنا ليه مبندهاش وش ومكناش بنحبها.. لحد الآن متعرفش إيه السبب.. بس إحنا بقى ربنا يسامحنا.. دلوقت عمك محمود مات وسابلنا وصية.. بنته أمانة في رقبتنا.. وإحنا لازم نراعي اليتيم ونصون الأمانة يابنتي.. إحنا مش قد عذاب ربنـا.. عشان كده أنا مُرحب جدًا بجواز بدر من عائشة وربنا يتمملهم على خير.. عائشة مش وحشه.. عائشة بنت عمك مترتبتش في نفس البيئة والمستوى بتاعك انتِ وعيال عمك وأخوكِ.. كل واحد فيكم اتولد في وسط أب وأم وعاش وسطيهم.. أما هي معاشتش الإحساس ده.. جه دورنا بقى إننا نحافظ عليها.. حتى لو دماغها نشفه وعنديه بس قلبها أبيض زي ابوها بالظبط.. هي أصلا شبه ابوها في كل حاجه.. مسبتش حاجه منه.. ابوها برضو لطيبته الزيادة كانت العيال تضحك عليه وتاخد حاجته.. عائشة مضحوك عليها من صحابها والناس اللي حواليها.. هما السبب في عنادها وتكبرها وتمردها علينا.. هي محتاجه حد حنين يعوضها اللي معشتهوش مع أمها وأبوها.. ومحدش هيعرف ياخد باله منها ويحطها في عنيه غير بدر ابن عمك.. ده كفايه أنه بيحبها وده يخليني مطمن عليها معاه.. بصي يا نورا انتوا من هنا ورايح تعاملوا بنت عمكم كويس لو مش عشان عمك..يبقى عشان خاطر ربنا.. وهي هتفضل في رعايتي لحد ما ربك يأذن وتتجوز بدر.
لم تصدق نورا ما يقوله والدها، كانت تظن أنه سيقف في صفها ويسعى لإيقاف تلك الزيجـة، فقالت بمكـر
— طيب مش يمكن بدر صمم يتجوزها بعد موت عمي علطول عشان يكوش على ورثها ؟
نهـرها والدها بغضب قائـلًا
— عيب اللي بتقوليه ده على ابنك عمك يا نورا.. كلنا عارفين إن بدر مش كده واخر حاجه يفكر فيها إنه يتجوز واحده عشان الفلوس.. بدر بيحب عائشة من صُغره.. مش ممكن يفكر بتفكيرك ده
زفـرت بضيق هاتفـة
— ولما هو بيحبها أوي كده كانوا بيتقابلوا ازاي بالليل عند ماتور الميه ويعملوا بلاويهم دي.. الله أعلم هو عاوز يتجوزها كده ليه.. مش يمكن عمل معاها حاجه وعاوز يداري على عملته
صفعـة قوية نالتها على وجهها من والدها بسبب ما تفوهت به للتو؛ ليصيح بها مُحتدًا من الغضب
— أنـا إظاهر معرفتش أربيكِ ودلعتك زيادة عن اللزوم
وضعت يدها مكان الصفعة لتنظر له بدموع وبداخلها تشتعل غيظـًا وحقدًا وغيرة.. تركت الغرفة ودخلت لغرفتها صافقة الباب وراءها بقوة وظلت تجوب الغرفة ذهابـًا وإيـابـًا وهي تفكر بشيء يُرضي ذاتها.
***
حدث ما حدث، لا تضعف، لا تبكِ، لا تدس نفسك عن الحياة، أنت لا تريد هذا لكن الله أراد، أتعرف ما معنى أن يريد الله؟ أن ينتشلك من أكبر سوء إلى أفضل خير بينما أنت لا تدرك شيء، أنت فقط ثق بفضائل الله.. وأنك دائمًا في ظل رعايته.. الصبـر يا سيف.. عليك التحلي بالصبـر والرضـا.
كتب سيف ذلك في ورقـة ثم ثناها ووضعها في جيبـه مُتنهـدًا بحزن وندم على كُل ما فعله وارتكبـه في حق أخوتـه والمسكينـة روان.. تُرى ماذا تفعل الآن..؟
آه سامحيني يا روان.. سامحيني ياحُلوتي.. صدقـًا لم أكن أنوي ذلك ولكن الغيرة والنفس العاصية هم من أجبراني.. لقد سولت لي نفسي وساقتني قدماي لفعل السوء.. ربـي إنِ أعترف بذنوبي فاللهم مغفـرة.
ضغط على الزر في كُرسيه المتحرك ليتجه به نحو النافذة ثم فتحها وتمنى لو أنه يستطيع الوقوف؛ لمشاهدة صراخ ولهو الأطفال الذين يلعبون بمرح بألعـاب العيـد تحت النافذة، لأول مرة يقضي يوم العيد خارج منزلـه..كم هو صعب قضاء أجمل الأيـام بدون العائلة، بدون أخوته.
تنهد طويـلًا وهو يتذكر عيد الفطر السابق قبل شهرين.. عندما جاء من الصلاة برفقة بدر وزياد ثم انحرف عن الطريق بدون أن يلاحظوه واشترى مفرقعات للعب ثم جاء من وراءهم فجأة وأشعل واحدة جعلت بدر وزياد يقفزون من أماكنهم بفـزع أما هو وقع على الأرض من كثرة الضحك.
اتسعت ابتسامته وهو يتذكر تلك المواقف الطريفة والجميلة من بينهم موقفه المضحك للغاية مع هاجر عندما فاجئها بدُميـة جميلة لديها شعر أحمر مثلها ثم وضع في فستان الدمية حشرة من البلاستيك وطلب من هاجر أن ترى المفاجئة التي وضعها لها بداخل الفستان.. وما إن رأت الحشرة أخذت تجري وتصرخ كالمجنونة وتقسم أنها لن تتركه حتى تبرحه ضربـًا.. كم كان مرحـًا وشقيـًا قبل أن يلاحظ اهتمام بدر الزائد بـهاجر وعائشـة واهماله له.. نعم على الرغم من أن سيف ليس صغيرًا على تلك الغيرة، ولكنه أحس بأنه ليس له أهمية مثلهن.. منذ أن كان صغيرًا وهو اعتاد أن يكون محط أنظـار الجميع ولم يتغير هذا الطبع به حتى كبُر وأصبح شابـًا يافعـًا ولاحظ أن الجميع يرون أن بدر الأفضل منه حتى بعد أن اجتهد وزاكر واصبح بالسنة الثالثة في “كلية الطب” ولم يتلقى هذا الإهتمام البالغ الذي نـاله أشقاءه وابنة عمه عائـشة.. لكن الآن حان الوقت ليغير كل هذا.. عليه أن ينظر للحقيقة بعينه وعقله ويفكر جيدًا قبل أن يفعل شيء أحمق يندم عليه ثانيـة.. عليه أن يدرك أن بدر تحمل هموم منذ الصِغر لا يستطيع أحد تحملها.. لا يستحق كل هذا الحقد.. لقد ضحى بمستقبله ونفسه وشبابه من أجل إخوته دون مقابل، أراد فقط أن يراهم سعداء.. ولكن هذا الغبي سيف أعمت الغيرة قلبه.
أغمـض سيف عينيه بندم على كل ما اقترفه في حق أخيـه ليقول في نفسه
— بدر ميستحقش كده.. هو تعب كتير عشاني أنا وهاجر.. ودلوقت جه الوقت إننا نعمل أي حاجه عشان نفرحه زي ما كان دايمـًا بيفرحنا
تنهد مردفـًا بآسى غاضبـًا من نفسه
— وروان.. روان كانت بتحبني.. كان نفسها أكون سند وضهر ليها وأعوضها عن أمها وأبوها.. بس عشان دايمًا كنت بعايرها وشايفها رخيصه مكنتش راضيه تعترف بحبها ليا.. كانت خايفه من ردة فعلي.. ولما ربنا تاب عليها وهداها بدل ما أفرحلها وأشجعها.. كُنت.. كُنت عاوز أعتدي عليها !.. للدرجادي أنا وحش.. للدرجادي بُعدي عن ربنا عمى قلبي..؟
كان الطبيب يراقبه عبر جهاز المراقبة الذي وضعه في غرفته، فوجده شاردًا مستغرقـا التفكير في أمرا ما ويبدو عليه أن هذا الأمر يتعبه ويثير غضبه.
ذهب الطبيب إليـه ليستعلم منه عن أي شيء قد يفيده في علاجه.. جلس أمامه مبتسمـًا بـوِد قائلًا
— لو فيه حاجه مضيقاك وعاوز تفضفض أنا موجود.. أعتبرني سرك.. متخافش أي حاجه هتقولها محدش هيعرف بيها أبدًا
ابتسم سيف ليكتب
— شُكـرًا لإهتمامك
قال الطبيب بهدوء
— سيف.. لو عاوز تخف يبقى لازم تساعدني عشان تساعد نفسك.. إنت لسه في مقتبل الشباب.. وفي يوم من الأيام هتبقى صديقي في المهنة وليك اسمك.. وأظن إنك درست في الطب إن حالة المريض بتتحسن لم يحكي اللي جواه
صمت سيف للحظات ثم كتب
— بس أنا مش عايز أتعالج.. أنا مش مريض.. أنا بتعاقب.. ربنا بيعاقبني.. وأنا راضي.. أنا متأكد إن ربنا لما يرضى عني هيخليني أرجع أمشي تاني.. بس أنا غلطت كتير.. معرفش هيغفرلي ولا هفضل عاجز طول عمري
فكر الطبيب فيما كتبه سيف للحظات وأومـأ قائلًا
— تمام.. أنا كده فهمت نص الحكاية.. إنت عملت ذنب كبير وربنا عاقبك وخد منك رجلك ولسانك..على ما اعتقد إنت كنت مُقبل على ذنب كبير كنت هتعمله ولسانك أذى حد وظلمه عشان كده ربنا سحب منك العضوين دول.. صح ؟
ابتسم سيف بسخرية وكتب
— صح.. أُحييك على سرعة فهمك
ضحك الطبيب ليقول
— طيب مش عاوز تقولي النص التاني من الحكاية ؟.. أو حتى عنوان و اسم البنت اللي إنت أذتها أو كنت ناوي تإذيها.. عشان حابب أتكلم معاها برضو
رمقه سيف بغضب ثم صمت لدقائق محاولًا أن يهدئ.. كَتَبَ
— النص التاني من الحكاية ميخصش حد.. أنا هخرج بكره.. بدر هيجي ياخدني.. إنت وعدتني إنك مش هتعرف حد بحاجه !
بإيماءة بسيطة قال الطبيب
— متقلقش يا سيف.. محدش هيعرف.. بس خليني اساعدك ترجع تقف على رجلك تاني.. هو بالعلاج الطبيعي الموضوع هيطول معانا.. بس هترجع تمشي إن شاء الله
هز سيف رأسه بنفي ليكتب
— دي إرادة ربنـا وزي ما خلاني عاجز.. يقدر يرجعني أمشي.. هي مسألة وقت.. أنا واثق فيه
أومـأ الطبيب وتركه ليرتاح حتى لا يتسبب بالضغط عليه في حالة إكتئاب لا مفـرّ منهـا.
***
في نفس وقت صعود هاجر وعائـشة السُلم، كان بدر يتخطى الدرجات مـُسرعـًا وكـأن شيئـًا ما سيفوته، وقفت عائـشة مُترنحة لخصلات شعره الناعمة وهي تهتز بإنسيابيه معه أثناء هبوطه من على الدرَج.
تجاهل بدر نظراتها وسأل شقيقته
–إيه يا هاجر.. روحتوا ليه ؟
“مفيش.. بس قولنا نلحق نزاكر أي حاجه من المنهج المتراكم علينا ده”
مد بدر أنامله ليرفع ذقن شقيقته ناظرًا في عينيها بشك ليقول
–في إيـه..؟
ترقرقت عيونها بالدموع لتهمس
— مفيش صدقني
تنهد مردفـًا
— كده كده هعرف.. بس هسيبك دلوقت براحتك
أومأت مبتسمة بضعف.. أما هو أكمل مسيرته للخارج وقبل أن تتخطى قدماه بوابة المنزل استوقفته عائشة متساءلة بعفوية
— أبيـه بدر.. إيه نوع الزيت اللي بتستعمله لشعرك..؟
رمقتها هاجر بدهشه بينما بدر تبسم ضاحكـًا وخرج دون أن يجيبها.
قالت هاجر ضاحكة بخفة
–عارفـه يا عائـشة.. مشكلتك الوحيدة إن تفاهتك مبتطلعش غير في الأوقات الغلط
“علفكره والله أنا بسأل بجد.. بحس إن شعره بيحلو يوم عن التاني”
قالتها بجدية.. فأجابت هاجر مازحة
–اللاه.. ده إنتِ مرقباه بقى
هتفت عائشة بضحك
— والله أبدًا.. احمم.. هو باين عليـا ؟
هزت هاجر رأسها بضحك كتعبير عن عدم فهمها لما يدور في رأس تلك العنيدة التي لا تعرف ايضـًا ما الذي تريده.
***
ليسَ من عادتي أن أظهر كل هذا الحب ، لكنّك تستحق .♥️
بدا الإرهـاق والنوم على وجه عائـشة حقـًا، دلـفت لغرفة هاجر وألقت بجسدها على الفراش وفي غضون ثلاث دقائق كانت قد ارتخت جفونها واستسلمت للنوم.. انتهـزت هاجر الفرصة وأسرعت بحذر للمطبخ ثم أشعلت الموقـد وأخرجت اعترافات زيـاد التي حتمـًا ما إن وقعت في يد أحد غيرها لكان فُضح سره أمام الجميع؛ لذا قررت أن تحرق تلك الأوراق لتضع ورقة تلو الأخرى على النار؛ حتى انتبهت لإعتراف آخر لم تكن قد قرأته بعد.. لقد ساقـها القدر لرؤية اعترافات حبيبـها بالتوبـة لله.
قرأت المكتوب بعينيها ووجها ينشرح وتتسع ابتسامتها شيئا فشيـئا
” ٢٠٢١/٦/٢٨.. جاهدت نفسـي وها أنا قد فُزت.. تاب الله عليّ وهداني.. أوعدك يا الله أن تكون توبتي نصوحة. أقسم أننـي لن أفعـل ذلك مجددًا.. إلهـي كُن معي وأقدر لي وردتي، فإنها الخير كله وأنا بدونها لا شيء.. لا تجعل حياتي تعيسة يا الله وتبعدها عني.. هي حُلم يراودني منذ الصغر وأنت القادر فقدرها لي”
اغمضت عينيها بسعادة شديدة، كانت تظن أنه تركها لسبب ما وها قد رجحت ظنونها، حَبيِبُ قلبـُها أراد أن يغتسل من ذنبه قبل أن يشاركها حياته، أراد أولـًا أن يبتعد عن أي شيء قد يدنس حبهم الجميل.. اللـه جل جلاله قد ستر عليه حقـًا؛ لأنه تاب من قلبه وليس معنى أن هاجر رأت ذنبه أنه أُفتتضح أمامـها لماذا لم نقول أن الله أراد أن يبدأ حياته معها على صدق وحب حقيقي لا يشوبه أي شكوك، يعلم الله أن الإنسان بطبيعته تساوره الظنون دائـمًا إما سيئة أو جيدة، وهاجر لن يهدئ لها بال إلا إذا عرفت السبب الحقيقي وراء ترك زياد لها فجأة بدون أي مقدمات.. وها قد ظهر الحق وزاد حُبها لـزياد أكثـر..
“الله يعلم وأنتم لا تعلمون”
ترددت آلاف المرات قبل أن تلقي بالورقة في النار ولكن أخيرًا رست على احراقها حتى لا يتبقى أي أثر لتلك الإعترافات
قالت مبتسمة في نفسها
— خوفي الأكبر هو إنك تكون لسه مستمر في الذنب ده يا زياد.. عشان بحبك بجد خايفه عليك من حساب الأخرة.. الحمدلله يا حبيب طفولتي ورفيق عمري .. الحمدلله إنك تُبت.. تقبل الله التوبة يا زياد.. تقبل الله يا حبيبي
أحرقت جميع الأوراق ثم جمعت ما تبقى منها من رماد لتلقيه في القمامة ودلفت للمرحاض لتتوضئ وتُصلي ركعتان شُكر لله.
نحن نحتاج أن نشكـر الله في اليوم ألف مرة؛ لكي نذق طعم السعادة في حياتنـا
الدعاء الوحيد الذي رددته هاجر لأكثر من مرة في سجودها هو أن يجمعها الله بحبيب قلبها قريبـًا، ولكن ما زال أمر واحد يقلقها ويخيفها كثيرًا، بعد أن أنهت صلاتها واتخذت مكانها بجانب عائشة على فراشها ظلت تفكر بقلق حيال مرضها، أتخبره أنها على مشارف الموت قبل عقد القِران أم تدع القدر يكشف ذلك..؟
***
اتجه بـدر ناحية الإرجوحة التي يتسطح عليها زيـاد وهزه بخفة، فإعتدل زياد في جلسته قائلًا
— مين ؟
ضحك بدر وقال
–الملامين.. قوم كده وصحصح معايا عاوزك في موضوع مهم
“أنا اللي عاوزك في موضوع مهم جدا”
قالها زياد ومعالم الحزن ترتسم على وجه مما لاحظ بدر ذلك وتساءل بشك
— في إيه ؟.. أنا ملاحظ هاجر برضو في حاجه كبيره مزعلاها
“أنا.. أنا اللي زعلتها يا بدر”
احتد بدر وعبس وجه هاتفـًا
— وجاتلك الجرأة تقولها.. إنتِ عارف هاجر غاليه عندي ازاي و..
قاطعه زياد ليقول آسفـًا
–وغالية عندي أنا كمان.. عشان كده عاوزك تفهمني متبقاش متسرع زيها
قطب بدر جبينه بعدم فهم ليقول
— مش فاهم !
“هفهمـك.. قالها زياد وهو يتنهد مردفـًا بندم
.. اللي خلاني اسيب هاجر أختك ذنب.. ذنب كبير كنت بجاهد عشان اتركه
” عارف”
قالها بدر مبتسمـًا، فرمقه زياد بدهشة ليهتف
— كنت عارف ؟.. كنت عارف إني… إني
قاطعه بدر مأومـًا
— معرفش إيه نوع الذنب.. بس أنا فاهمك اكتر من نفسك يا زياد.. أنا مش هسألك هو ايه الذنب ده عشان دي حاجه بينك وبين ربنا بس اللي متأكد منه إنك توبت عشان كده عاوز تتجوز هاجر.. وده خلاني واثق إنها هتكون في آمان معاك.. واحد ساب البنت اللي بيحبها عشان شايف انه ميستحقهاش وهو بيغضب ربنا.. ولما تاب ورجع لربه قرر يكمل حياته معاها.. ده في حد ذاته يخليني مبسوط ومطمن على هاجر معاك
قال زياد بخزي وحزن
— بس.. بس هاجر عرفت.. كنت كاتب انا عملت الذنب ده امتى والوقت اللي مر وأنا بجاهد نفسي ابعد عنه وتوبت امتى.. كتبت كل ده عشان افكر نفسي إن معصيش ربنا تاني واللي مكنتش اتوقعه إن هاجر شافت الكلام ده وحسيت وقتها إن نزلت من نظرها وبقيت ولا حاجه بالنسبالها.. واللي خوفني إنها قطعت الورق واخدته.. مش عارف ناويه على إيه
ضحك بـدر ليقـول
— خايف من هاجر !.. لا متخافش يا زياد.. هاجر عاقله وناضجه وعارفه هي بتعمل إيه وكويس ان الورق ده وقع في ايديها هيّ.. هاجر بتحبك يا زياد واللي بيحب حد بيستر عليه ومتأكد انها هتفهم الموضوع وهتسامحك.. كلنا بنغلط بس محتاجين أوقات نقع فيها عشان نفوق ونرجع أقوى
أومـأ زياد متنهدًا بهدوء ليتمتم عن اقتناع
— عندك حق.. ربنا يستر وتسامحني
” هتسامحك.. هتيجي امتى بقى عشان تطلبها مني”
قالها بدر ضاحكـًا، فأجاب زياد مبتسمـًا بحُب وهو يتخيلها بين أحضانه بعد كل هذا الصبر
— إن شاء الله أخر الأسبوع أكون دبرت أموري إيه رأيك ؟
أردف بدر بتفكير
— بفكر أخلي كتب كتابي معاك بإذن الله.. بس عاوز اجيب سيف بكره وشايل هم أمي لما تعرف.. متأكد انها هتزعل مني عشان خبيت عليها.. بس خايف من ردة فعلها يحصلها حاجه لما تشوف سيف كده
ربت زياد على فخذه مهدئـًا إياه ليقول
— متقلقش.. ربك كبير وهيدبرها.. إن شاء الله مفيش حاجه وحشه تحصل
تذكر بدر الشيء الأساسي الذي جاء من أجله فقال وهو يخرج من جيبه دفتر رسم ثُني عدة مرات
— كراسة الرسم دي بتاعة سيف كان بيرسم فيها في المركز الطبي.. في رموز وحاجات غامضه مش فاهمها.. حاسس ان الرسومات دي وراها حاجه.. قلبي مش مطمن.. خايف عليه أوي.. اتمنى تلاقي حل بما إنك وكيل نيابة شاطر
كاد أن يجيبـه ولكنهم انتبوا لوجود قصي قادم نحوهم ويحك شعره بتثاءُب.. لم يستطيـع قُـصي النوم وخرج للإستراحة؛ ليكمل اللعب على هاتفه.. لاحظ وجود زياد وبدر يتبـادلون أطـراف الحديث بينهم، فتقدم نحوهم ليجلس معهم وعندما لاحظوا اقترابه منهم.. غيروا مجرى الحديث ليتحمحم زيـاد قائلًا
–بس فعلـًا يابـدر.. اللي تفتكروا موسى يطلع فرعون.. مش كل الناس اللي بنعاشرهم في حياتنا كويسين زي ما إحنا شايفينهم
جلس قُصي بينهم ليحاوط أكتافهم هاتفـًا
–هتقابل ناس صح في الوقت الغلط.. هتسيبهم وتقابل نـاس غلط في الوقت الصح.. هتكمل علطول هتلاقي بتاع شاورما.. هاتلي واحد فراخ بالتومية
ضحك بدر وزيـاد ليقول بـدر وهو ما زال يضحك
— لسه تـافه زي ما إنت ياقصي
أكـد زيـاد على قوله ضاحكـًا
— ديـل الكلب عمره ما يتعدل.. واللي فيه طبع ما بيتغيرش
شهق قصي بصدمة مزيفة
— قصدك إن أنـا كلب !
” لا إنت الديـل”
قالـها زياد وهو يضربه بخفة على رقبته ويشاركـه بـدر الضحك فما كان من قُصـي إلا أن يضحك هاتفـًا بمـشاكسـة اعتاد عليـها منذ الطفـولة
— هو إنت يازيزو من نوعية الناس اللي ماشيـه بمبدأ كل ما زاد حبي لشخص زادت قلة أدبي معاه
عاود زياد ضربه ثانيـةً وهو يقول
— طب قوم يا ابو لسان كمل لعبتك التافهه دي
— لأ أنا قاعد شويه.. الشمس هنا حلوه وطالعه مشعشعه كده
قالها وهو يتظاهر الجلوس بينهم بأريحيه.. بينما زياد وبدر هتفوا بدهشه سويـًا
— مشعشعه !
قال بدر مستنكـرًا
— إنت يا بني كنت عايش في بلاد برا ولا عزبـة الصعايده!
ضحك زياد مردفـًا
— علميـًا هو كان مسافر وعاش حياته برا.. عمليـًا اللي يسمعه وهو بيتكلم يقول هربان من الزريبـه لا مؤاخذه
ضحك الثلاثة ليقول قصي بخفة
–المنطقة اللي كنت عايش فيها معظمها مصريين فاللغه كانت شغاله تمام..خلينـا في المهم..هي عوزاني أعزمها في كنتاكي و متعرفش إني بعمل كيس النسكافيه علي مرتين … اقولها إيـه بما إنكم خاطبين وخبرة وداخلين على منعطف تاريخي.. هتدبسوا يعني.. قصدي هتتجوزوا
رمقه بدر بدهشة بينما زياد تساءل في تعجب
— هي مين دي ؟
قال قصي بتلقائية
— سلـمى
هتف زياد مندهشـًا
— سلمى مين؟.. يخربيت شكلك إنت لحقت تعرف واحده؟.. ده إنت لسه نازل من السفر انهارده.. عرفتها إمتـى دي وفين وازاي؟؟
أجاب بثقة وفخـر
— كانت مسافره على نفس الطياره غمزتلها وغمزتلي روحت معلقها وواخد رقمهـا وعشان أنا جذاب ووسيم ووسامتي مفرطة قالتلي لازم نتقابل انهارده
ضحك بـدر رغمـًا عنه محوقـلًا
— لا حول ولاقوة إلا بالله..جيل أخر زمن.. ربـنا يهديكم
“لأ بقولك ايه يا بدوره.. إنهارده مش الجمعه عشان تقلبهالي خطبه.. أريد حلـًا يا أرجوك”
قالـها قصي وهو يعتدل ويضع قدم فوق الأخرى بطريقة مضحكة تعجب لها بدر وهتـف بإنزعاج
— إيه بدوره دي؟؟ لأ هزار من النوعيه دي مبحبش
لوى قصي شفتيه بحزن مصطنع وغمغم
— من إمتى وإنت بتحب الهزار أصـلًا.. ده إنت طول عمرك قفـل
صمت لثوانِ ليعود بسؤال بطريقة مرحة هاتفـًا
— تعرفوا إيه عن الحُب ؟.. أقولكم أنا..
حاجتين لازم نعرفهم عن الحب
١-الحب مش وحش الحب حلو مع الشخص الصح
٢-مفيش شخص صح.
كان زياد يضحك بشده عليه وعلى طريقته الفكاهية في الحديث ليقول
— قوم يا قصي شوف إنت رايح فين.. روح كمل لعب عشان مش فاضيين لهبلك ده
قال بمزاح وهو ينهض ليكمل اللعب في هاتفه
— هقـوم أهو.. أنا عارف إنكم بتدعوا افضل قاعد معاكم بس هعمل إيه مبحبش أبقى تقيل على حد.. يلا اسيبكم بقى تفكروا تأجروا بدلة فرحكم منين….. ثم استدار ليكمل بمرح
— بلاش تأجير.. اشتروها أحسن.. هتنفعكم لما تجوزوا تاني أو وانت بتخون مراتك مثلًا وعاوز تقابل المزه بلبس شيك.. شيك بدون رصيد ههه
“قصـــــي.. غور”
قالها بـدر وهو يرمقه بحده، فأومـأ قصي مصطنعـًا الخوف وهو يذهب متمتمًا
— جاك غاره وانت ابن عم قفل كده..
كان زياد مازال يضحك على ما حدث للتو ولم يستطيع بدر منع نفسـه من الضحك هو الآخر وبعد لحظات تحدث زياد بجدية وهو يأخذ دفتر الرسم ليرى ما يحمله
— معرفتش لسه سيف عور ايده ليه وكتب على الحيطه كده ليـه ؟
زفر بدر بحيرة وحزن على شقيقه متمتمًا
— الدكتور نفسه مش عارف.. أنا قولتله متسيبش آله حادة قدامه تاني.. قالي إحنا مبندخلش آلات حاده لأي مريض بس هو طلب مقص عشان يعمل حاجه خاصه بالرسم وكده… مش عارف والله يا زياد ايه اللي حصل لسيف.. بس إن جيت للحق أنا السبب في اللي هو فيه
رمقه زياد بإستخفاف مما يقوله لينهره بلُـطف
— بطل تبقى انت الشماعه اللي يرموا عليها كل مشاكلهم.. فوق لنفسك ولحياتك بقى وبطل تشيل هم غيرك.. إنت مش السبب ولا حاجه.. سيف اللي بقاله كذا شهر مش مزبوط وهو اللي جابه لنفسه
قال بدر بهدوء
— اخواتي وصية ابويا الله يرحمه يا زياد.. يعني مسؤولين مني لحد ما أموت.. مينفعش أفرط فيهم.. سيف بالنسبالي عيل.. مش عشان عنده واحد وعشرين سنه يبقى فاهم الدنيا.. لأ.. ما يمكن مضحوك عليه من الشله اللي مصاحبها أو حد لاعب في عقله.. لكن سيف أصله طيب وبيحب أهله.. أكيد في دافع خلاه يبقى بالشكل ده
“سيف بيغير من اهتمامك الزياده بهاجر وعائشة يا بدر.. ده اللي انا شايفه”
— عارف يا زياد.. سيف من صغره وهو متعلق بيا جامد.. لدرجة لما ابونا مات كان بيناديلي يا بابا.. لما كبر ولقى الأب الحنين المهتم بكل تفاصيله الصغيره قبل الكبير اتجه لحد تاني بدأت الغيرة تخش قلبه لحد ما تحولت لحقد على اخواته وعيلته.
فكر زياد للحظات وقال بشك
–بس اللي ورا الحادثة دي بنت..
أومأ بدر مؤكدًا على ما قاله
— أنا برضو قُلـت كده… المهم أسيبك انت بقى تشوف موضوع الرسومات دي عشان ورايا شغل في الورشه بعد المغرب.. عندي شغل زباين متراكم كتير
— انهارده العيد يابني.. ريح انهارده على الأقل يا بدر
بنفي أجاب بدر
— للأسف مش هينفع.. الناس ملهاش ذنب أأجلها شغلها.. يلا أشوفك على خير
ودعه زياد قائلًا
— هنروح بعربيتي بكره نجيب سيف.. اعمل حسابك على كده
أومأ بدر مبتسمـًا وهو يخرج من باحة المنزل
— إن شاء اللـه
***
استيقظت عائشة فجأة لتصدر منها شهقة خفيفة كأن كابوسـًا ما راودها.. وضعت يدها على صدرها وأخذت تتنفس بسرعة حتى هدئت قليلًا.. نظرت بجانبه؛ فوجدت هاجر مستغرقة في النـوم.. يبدو أنها من كثرة التفكير غلبها النوم هي الأخرى فإستسلمت له.. تذكرت عائشة تلك الرسالة التي أرسلها لها ” أميـر” ففتحتها لتقرأها مرة أخرى ولأنها دائمـًا متسرعة في اتخاذ القرارات..عزمت على الذهاب إليه؛ لتتأكد بنفسها إذا كان يحبها حقـًا أم يتلاعب بها..
تسحبت ببطء بعد أن اخذت الملابس التي سترتديها ودخلت لغرفة أخرى دون أن تلاحظ أن تلك الغرفة هي غرفة ” بـدر الشباب” خلعت ثيابها وبدلتها ببلوزة طويلة تصل للركبة وبنطال چينز يبدو ضيقـًا قليلًا ولم تظهر شعرها من الحجاب ولم تضع أي من مساحيق التجميل.. نظرت لنفسها برضـا في المرآة لتقول
— كده محدش ليه عندي حجه.. اللبس طويل وشعري مش باين ومش حاطه زفت ميكب اب على وشي.. اياك حد يقولي
كلمه كده ولا كده بقى والله أشقه نصين
اخذت حقيبتها وهاتفها وانطلقت متسحبة للخارج حتى خرجت من البيت وأخذت تنظر يمينـًا ويسارًا تتأكد من عدم وجود أحد من افراد العائلة ثم ذهبت لتستقل تاكسي وأملت السائق العنوان الذي أخبرها أمير به.
لم تنتبـه عائشـة لتلك الأعين الزرقاء الجميلة التي راقبتها لحين اختفاءها عن الأنظـار.
…
رأيكم في الأحداث وتوقعاتكم للبارت اللي جاي ايه؟
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)