روايات

رواية يناديها عائش الفصل الخمسون 50 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الخمسون 50 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الخمسون

رواية يناديها عائش البارت الخمسون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الخمسون

ما يختاره الله لك هو خير لك، حتى لو كان خارج رغبتك.
***********
المشكلة ليست في الرحيل و الفراق، المشكلة في الاشتياق الذي يبقى ملازمًا للقلب حتى يفقده رونقه، و التفاصيل بحُلوها و مُرها التي تترك أثرًا غائرًا في عمق الوتين يُصعب ازالتها مهما حاولت.
أحيانًا يكون فراق الأحبة هو القرار الصحيح عندما يتم اتخاذه في الوقت المناسب، و لكنه مؤلم.. أثره مؤلم بشدة أكثر ألمًا من الصداع المزمن الذي يأتيك بفعل كثرة التفكير في أمرًا ما، فبدلًا من أن يكون صداع في الرأس يُصبح صداع في القلب فيزيده انهاكًا و تعبًا لا شفاء منه؛ إلا بعناقٍ حار يزيل عمق الشوق و كثرة الاشتياق للحبيب.
جمعت عائشة ملابسها و اغراضها في حقيبة سفر ذات عجلات كبيرة تتسع لأشيائها، و هي تحاول جاهدة ألا تضعف و تنهار أمامهم.
أرادت أن تظهر بصلابة و قوة لا بأس بها قبل وداعها الأخير لهم، مهما حدث ستبقى عائلتها التي تربت في كنفها، و لكن وجودها معهم و وسط هذه الحارة أصبح يخنقها بشدة منذ معرفتها الحقيقة، قررت الرحيل من حياتهم للأبد و من حياة مُدللها، لم يعد مدللها أصبح في خبر كان، كل التفاصيل الجميلة التي حدثت بينهما أصبحت من الماضي، ستبقى ذكريات تُعذب القلوب فقط.
سقطت من عينيها دمعة منكسرة حزينة و هي تغلق حقيبة السفر، وقبل أن تخرج من الغرفة استدارت لتلقي نظرة أخيرة عليها وهي تبتسم بخفوت، كأن كل ما حدث بينهما في ذلك المكان يعرض أمامها الآن بالعرض البطيء…أثناء تفحصها للغرفة لمحت عيناها قميص لبدر خلعه مؤخرًا و القاه على الفراش.. نظرت خلفها بحذر تتأكد من أنها غير مراقبة ثم ذهبت وأخذت القميص لتقربه من أنفها تشتمه بعمق حتى بكت رغمًا عنها، حمل القميص رائحته الجذابة فقررت أخذه دون أن تفصح بذلك لأي حد، حتى إذا اشتاقت له و أرادت رؤيته يكون القميص بديلًا عن تهورها و الذهاب لمُلاقاته.
” خلصتي ؟ ”
كان السائل بدر بصوته الرخيم و المفعم بالحزن، أومأت له وهي تخفض بصرها دون أن تتكلم.. قامت بجرّ الحقيبة خلفها و هي تخرج من المنزل الذي وُلدت فيه تاركها خلفها كل ذكريات سنواتها العشرون.
” هوصلك ”
قالها وهو يشيح النظر عنها، فردت بنبرة ضعيفة
” لأ.. مش حابه اتعبك معايا ”
” بلاش عناد.. هوصلك ”
” متزعلش مني.. بس أنا مش محتاجة مساعدة من أي شخص كان بعد كده.. من انهارده أنا في خدمة نفسي و أقدر اشق طريقي الجديد لوحدي”
قالتها وهي تنظر له تلك المرة نظرات قوية غير مبالية بقلبها الذي يتوسلها أن تبقى، رفضت أمر القلب و انصاعت لكلام العقل؛ لتثبت للجميع أنها قوية بدون مساندة أحد.
هز بدر رأسه بلا مبالاة مصطنعة
” تمام.. براحتك.. زي ما تحبي يابنت عمي ”
لاحت على شفتيها ابتسامة ساخرة من آخر جملة قالها، ثم ولت ظهرها له لتكمل جر الحقيبة للخارج.
كانوا جميعهم ينظرون لها بحزن شديد خيم على وجوههم، و بتأنيب ضمير أكل قلبهم..ليأتيها صوت عمها مصطفى يقول
” عائشة.. استني يا بنتي.. أنا هوصلك ”
التفتت له لتقول بنبرة حادة بعض الشيء
” قلت لأ يا عمي.. أنا مش صغيرة.. شكرا لحضرتك ”
تقدمت نورا وهي تبكي في صمت، ثم عانقتها بقوة فبادلتها عائشة العناق سامحة لدموعها بالانهمار.. قالت نورا ببكاء و توسل
“عائشة بالله عليكِ متمشيش.. خليكِ عشان خاطري.. طيب عيشي في بيتنا احنا و ملكيش دعوة بأي حد..بس متمشيش”
ردت عائشة وهي تبتعد عنها و تمسح دموعها التي ما أن رآها بدر نظر في اتجاه آخر في الحال؛ لئلا يضعف أمامها.
“هبقى اكلمك يا نورا.. بس أرجوكِ سيبيني امشي.. القرار اللي خدناه صائب و في مصلحتنا و مش هنتراجع عنه.. أنا هرتاح في البُعد”
أومأت نورا بقلة حيلة، بينما بنات عمها مجاهد ودعونها بالعناق الحار أيضًا و كذلك زوجات أعمامها، بالأخص والدة بدر التي راحت تنتحب بكثرة على حالتهما الميؤوس منها، و ترجت عائشة كثيرا ألا ترحل، و لكن عائشة رفضت مصرة على الرحيل.
وهكذا هو فراق الأحبة، قاتل و مجرم بغيض لا أحد يسلم منه.
لم يتركها عمها مصطفى ترحل وحدها، أخذ حقيبتها رغمًا عنها و وضعها في صندوق سيارته، فاستسلمت عائشة لالحاحه أخيرًا و قبل أن تركب السيارة نظرت للحارة و لعائلتها نظرة أخيرة و الدموع لا زالت تمطر بغزارة، صوبت عيناها على بدر للحظات و بادلها هو النظرات بحزن أكبر من حزنها أفتك بقلبه ببطء، ثم غادرت عائشة محطمة القلب.
********
‏”أولئك الذين يتركون كل شيء في يد الله، سوف يرون في النهاية أيدي الله في كل شيء”
بينما الحزن يخيم على عائلة، فالسعادة رفرفت بأجنحتها على عائلة أخرى.
هاتفت رُميساء “روان” لتقول بصدمة شديدة خيمت عليها
” الحقيني يا روان…
تساءلت الأخرى بقلق من نبرة صديقتها، فردت بتلعثم من شدة دهشتها
” كريم.. الظابط.. اللي.. اللي انقذني لما عملت حادثة.. اللي… اللي شوفناه في الحديقة ”
” ماله.. انطقي يا رُميساء في ايه ؟؟ ”
استجمعت رُميساء شتاتها و تنفست بعمق لتقول بسرعة
” قاعد في الصالون مع بابا ”
” يابنتي مش وقته هزار.. اخلصي في ايه ؟ ”
قالتها روان وهي غير مصدقة تمامًا ما تفوهت به رُميساء.. أجابت الأخيرة بصوت خافض
” والله ما بهزر.. أنا بكلمك بجد.. أنا أصلا مصدومة و مش مصدقة.. حاسة إني في حلم.”
استوعبت روان الأمر أخيرا فقالت بهدوء
” طب اهدي كده وخدي نفسك.. و احكيلي ”
تنفست رُميساء الصعداء مردفة
“بابا لقيته امبارح بالليل بيقولي حضري نفسك بكره بعد صلاة العشاء عشان فيه عريس جاي يتقدم.. قولتله أنا لسه صغيرة و مش في دماغي وكده.. قالي أنا عارف و عمري مهجبرك على حاجة.. بس منرفضش من الباب للطاق كده.. اقعدي معاه القاعدة الشرعية جايز يكون ده نصيبك ولو رفضتي دي حاجة ترجعلك.. أنا بس محبتش ارفضه من برا برا .. بيقول إن هو اتحرج لما لاقاه مصمم يجي..سألته إذا كنت تعرفه أو لا قالي ولا عمري شفته بس باين عليه شاب محترم.. نهيت الحوار معاه إن هشوفه في الرؤية الشرعية و بعد ما يمشي اقولهم مرتاحتش و ارفض.. بس المفاجأة اللي حصلت و اللي مكنتش متوقعاها أبدًا.. إن العريس ده هو كريم.. اختي الصغيرة سمعته بيقول لبابا” أنا رائد شرطة و سمعت عن اخلاقكم العالية وليا الشرف أناسب حضرتك”
ردت روان باستنكار
” و أنتِ ايه اللي يخليكِ متأكده إن ده يبقى كريم ؟ مش يمكن حد تاني يا بنتي.. البلد مليانه ضباط.. موترة نفسك عالفاضي ليه ! ”
أجابت رُميساء باصرار
” لأ.. أنا متأكده إن العريس ده كريم.. مسألتش بابا على اسمه وهو لما لقاني مش مهتمة طنش يقولي.. بس والله العظيم أنا قلبي حاسس إنه هو.. قلبي مبيخيبش ظني أبدًا ”
” يا خبر أبيض يا بت يا رُميساء لو طلع فعلًا كلامك صح و العريس ده يبقى كريم.. ده احنا هنهيص في الجاتوه ”
” اتنيلي أنتِ كمان.. أنا هموت من الكسوف.. مش عارفة هدخل ازاي.. عايزة أهرب.. تعالي يا روان بالله عليكِ ”
” كان على عيني ياختي بس عندنا تنضيف في الشقة و مينفعش اسيب مرات ابويا لوحدها.. أنتِ عارفة انها حامل و الحمل تاعبها.. روحي أنتِ بقى البسي أحسن طقم عندك وحطي احمر و اخضر ولا اقولك لأ.. خليكِ على طبيعتك أحسن.. أنت حلو في كل حالاتك يا باشا.. يوه.. قصدي يا مرات حضرة الظابط ”
قالتها روان بلهجتها المرحة قاصدة التخفيف من حدة الخجل و التوتر عند رُميساء، فنهرتها الأخيرة بلُطف
” اهمدي كده و اتمسي.. هاه اهمدي.. لا كريم و لا غير كريم.. أنا مش متجوزة غير اما اخلص كُلية ”
هتفت روان بنبرة مستفزة
” هتقعدوا كاتبين كتابكم أربع سنين ! ”
“صدقي يا بت أنا غلطانه إني كلمتك.. الصحاب
وقت الضيق فعلًا”
سمعت طرقات على باب غرفتها، فأنهت المكالمة مع روان وهي تحدثها بهمس
” أنا رايحه.. سلام.. هبقى اكلمك احكيلك اللي حصل بعد ما يمشي ”
” تحكيلي بالتفصيل الممل.. رُميساء استني ”
” ايه ؟ ”
“متخلي أختك تصوركم من خرم الباب بث مباشر.. مش عايزه حاجة تفوتني في قصة الحب العظيمة دي”
” اتريقي ياختي.. الهي يارب يا روان يجيلك عريس و تفضلي متوترة زي ما أنا هموت من التوتر كده ”
ضحكت روان لتقول بثقة
“لا ياحبيبتي.. أنا عنوان حياتي الارتباط احباط و السنجلة چنتلة ”
” طب سلام يا مستفزة ”
دلفت والدة رُميساء تستعجلها، فما كان منها إلا أن تستسلم للأمر الواقع وترتدي ملابسها استعدادًا لخوض الحرب مع عقلها و قلبها، عقلها الذى أخبرها ألا توافق على الارتباط من أي شخص حتى تنهي تعليمها، وقلبها الذي يهمس في أذنيها أن كريم غير باقي الرجال، فهو أول رجل دق قلبها له.
وجدت يدها تمتد في خزانة ملابسها؛ لتخرج أكثر الملابس رقة و أناقة، فارتدتها و ارتدت نقابها ولم تضع أي شيء من مساحيق التجميل على وجهها.
أخذت صينية العصير من والدتها وهي تكاد تبكي من التوتر و الخجل ثم دلفت لتقول بصوت منخفض جدًا
” السلام عليكم ”
رد والدها و كريم التحية بصوت واضح.
الرجل الذي طلب الزواج منها هو بالفعل ” الضابط كريم” لقد صدق ظنها و ربح قلبها أول نقطة في المعركة، أما هو فقد وفى بوعده لنفسه عندما عزم أن يتقدم لخطبتها بعدما تنتهي رحلتها في الثانوية العامة.
جاء كريم وحده دون أن يرافقه والده أو أي شخص من عائلته، أخبرهم فاعترض والده بشدة كعادته، و لثقته بنفسه و حبه الشديد لتلك المنتقبة العفيفة، التي لم يرى وجهها إلا مرة واحدة خارج إرادته، قرر الوفاء بوعده دون مساعدة أحد، وقبل أن يراها من الأساس كان معجب بها، وعندما وقعت عيناه عليها في المشفى وقع قلبه في عشقها و سلمَ.
وضعت رُميساء صينية العصير، ثم جلست بجانب والدها تفرك يديها بخجل وتوتر شديد.. ضحك والدها بخفة وهو يوجه حديثه لكريم و يربت على ظهر ابنته
“رُميساء تبقى أول العين ما رأت.. أنا عندي أربع بنات هي الكبيرة بتاعتهم..”
“ربنا يباركلك فيهم”
قالها كريم وهو يطالعها باختلاس بين الحين و الآخر مبتسمًا..مرت بضع لحظات على ثلاثتهم فنهض والدها تاركًا لهما مساحة كافية للتعارف قائلا بخجل قليلا
” هشوف الجماعة كده و راجعلكم ”
نظرت رُميساء بتوسل لوالدها حتى لا يتركها وحدها في هذا الموقف العصيب، ولكنه ابتسم ليطمئنها ثم ذهب و جلس بالقرب من الغرفة تاركًا الباب مفتوح عليهما.
ظلت رُميساء لبضع ثوانِ تفرك اصابعها بتوتر و ارتباك ملحوظ مما تبسم كريم من خجلها الزائد الذي راق له كثيرًا، ليقطع هذا الصمت بنبرة دافئة
“متتصوريش قد ايه أنا فرحان إنك قاعدة قدامي دلوقت و أنا موجود في بيتكم ”
زادها كلامه خجلًا فلم ترد بشيء.. ناداها برّقة
” رُميساء.. أنتِ معايا ؟ ”
هزت رأسها بدون أن تتكلم، فقال مداعبًا
” هو مينفعش أشوفك ؟ اعتقد دي رؤية شرعية و مش حرام اشوف وشك صح ؟ ”
تنهدت بعمق ثم رفعت نقابها وهي لا زالت صامتة، ظل يطالعها مبتسمًا بحُب للحظات و قال
“اتمنى الملامح الجميلة دي أفضل شايفها علطول و متغبش عني لحظة ”
وجدت نفسها تتحدث أخيرًا متسائلة بغباء
” ممكن أعرف حضرتك عايز مني ايه ؟ ”
رد ضاحكًا بخفة
” مش عايز غير إنك تكوني معايا دايمًا.. عايزك شريكة حياتي.. ياريت تدي لنفسك فرصة تعرفيني قبل ما ترفضي ”
قالت بجراءة مصطنعة
” بس أنا مش في دماغي الارتباط دلوقت ”
“طب اعمل ايه في قلبي اللي حبك.. ذنبه ايه يتعذب ؟ ”
قالها وهو يغرق بالتأمل في ملامحها مما أخجلها ذلك جدًا لتتساءل بتلعثم
“حبتني ازاي.. و أنت.. و أنت متعرفنيش ؟”
هز اكتافه باستسلام و اتسعت ابتسامته الساحرة ليقول
“معرفش ده حصل ازاي.. بس اللي أعرفه و متأكد منه.. إن قلبي مفيهوش غيرك..متسألنيش حبيتك ازاي بس اسأليني أنت بتحبني بجد.. هرد أقولك والله اللي خلقني و خلقك ما في بنت قدرت تعمل فيا اللي أنتِ عملتيه.. من ساعة اللي حصل في المستشفى و شوفت حُبك لربنا و خوفك منه رغم أنك كنتِ في وضع لا يسُر..قلبي بقى متعلق بيكِ أكتر..أنا كُلي يقين أنك الشخص الصح اللي اقدر أستأمنه على قلبي و حياتي..يمكن وقوعي في حُبك صدفة.. ‏بس متأكد إنك أنقى الصُدف وأحبها إليّ”
أغمضت عينيها تسترد أنفاسها بقوة، من اعترافاته التي احتلت قلبها بلا رحمة و حديثه الناعم الذي أضاء جوفها بنور الحُب و الهوى..لم تدرِ ماذا تقول، فاكتفت بابتسامة خجولة خافتة دون أن تنظر له..لحظات و دلف والدها يبتسم بعفوية ليعطي لكريم كوب العصير قائلا
” اشرب عصيرك يا حضرة الظابط..نورتنا والله يا كريم بيه ”
” البيت منور بأهله يا أستاذ مصطفى ”
نهض كريم ليصافح والدها وهو يقول ناظرًا بخلسة لـها
” هنتظر رد حضرتك.. سعيد جدًا بمعرفتك ”
” أنا اسعد والله.. إن شاء الله خير ”
أراد مطمئنة والدها، فاستدار قائلا قبل أن يذهب
” إن شاء الله لو فيه نصيب..هجيب أهلي معايا المرة الجاية عشان الاتفاقات وكده ”
“ربنا يسهل إن شاء الله.. فرصة سعيدة”
أقبل والدها ووالدتها و اشقائها عليها يتسائلون بفضول عن رأيها فيه، ففرت هاربة لغرفتها منهم وعلى فاهها ترتسم ابتسامة عذبة خجولة.
ولكن هل ستكتمل قصة الحُب العظيمة هذه و أنا و أبو كريم موجودين ؟
*********
هُنا المسائل تسُأل، هُنا الأحزان تُغسل، هُنا الهموم تتبدل، إنها مكة يا سادة.
بعد وصول زياد و هاجر للأراضي المقدسة، حجز زياد إقامة لمدة أسبوع بفندق من أرقى الفنادق في المدينة المنورة أولًا.
تكون المدينة ” مدينة الرسول عليه الصلاة و السلام” هي نقطة الانطلاق، حيث يقضي المعتمر الاسبوع الأول من رحلته هناك، فيكون لديه الفرصة لزيارة المسجد النبوي والصلاة فيه و زيارة عدة معالم كالبقيع، مسجد قبا، أحد والمسجد ذو القبلتين.. مجرد تخيل نفسك واقف في تلك الأماكن؛ يجعل قلبك يفيض بالراحة و السعادة، فماذا لو كان الخيال حقيقة و رزقك الله بزيارة أطهر بقاع الأرض !
كانت هاجر تشعر بأنها أسعد مخلوق على وجه الأرض، ولم تكن فرحة زياد أقل من فرحتها.
بعد الارتياح من عناء السفر، اصطحبها زياد في يده برّقة متجهين نحو أحد المطاعم لتناول الطعام.
سحب زياد الكرسي من أمام الطاولة الأنيقة؛ ليُجلس هاجر عليه ثم جلس قبالتها بعد أن طلب مختلف أصناف الطعام؛ فكلاهما يتضوَّران جوعًا.
ابتسم لها بحُب متسائلا
” مبسوطة يا وردتي ؟ ”
أومأت هاجر بسعادة طغت على ملامحها هاتفة بنبرة صوت وامق خارج من الأعماق صادق تصحبه دموع الفرحة
” مبسوطة ! مبسوطة بس ! زياد أنا في أحسن مكان في العالم أنا في مدينة حبيبنا النبي.. حاسة.. حاسة إن من كتر الفرحة هيطلعلي جناحات زي الفراشة.. مش قادرة أوصف فرحتي.. عايزه أعيط.. و قلبي بيدق جامد.. أنا.. أنا في منتهى السعادة يا زياد ”
وضع زياد كفه الرجولي على يديها التي تفركها في بعضها من شدة السعادة و عدم استيعابها للأمر بعد، ليشدد عليها و يداعبها بحنو قائلًا
“فرحتك و ابتسامتك الجميلة دي.. عندي بالدنيا و باللي فيها”
بادلها الابتسامة الدافئة للحظات، ثم تابع بسعادة حقيقية
” أنا كمان مش مستوعب إن احنا دلوقت قريبين من قبر الرسول و الصحابة الكرام.. العُمرة مع حد بتحبه ليها طعم مختلف.. لو كنت جيت لوحدي كنت هبقى في قمة سعادتي برضه يكفي إني في أراضي طاهرة.. بس وجودك جنبي و معايا مخليني زي ما يكون سعادة البشر كلهم اجتمعت في قلبي.. في كل ثانية و كل دقيقة بتمر عليا.. بشكر ربنا إنه رزقني بيكِ.. أنتِ من أفضل و أحسن النعم اللي رُزقت بيها ”
بللت شفتيها بلسانها وهي تنظر في اتجاه آخر بخجل وتوتر وفرحة عارمة، مما اضحكه ذلك فقال مازحًا
” لحد امتى هتفضلي كل إما اعبرلك عن مشاعري وشك يحمر وتتوتري كده ! أقسم بالله أنتِ مراتي.. استوعبي بقى ”
ضحكت بخفة وهي تقول
“بحاول استوعب إن كل اللي دعيت بيه بيتحقق دلوقت ”
” و ايه بقى اللي كُنتِ بتدعي بيه ؟ ”
” كل الحاجات الحلوة اللي حصلت.. إن أخف و إننا نتجوز و نزور المدينة و مكة.. باقي بقى إن ربنا يرزقنا ذرية صالحة ”
قبل أن يرد زياد، أقبل الجرسون ومعه أطباق الطعام.. شكره زياد بلُطف و بدأ الاثنان في تناول طعامهما بتلذذ.. استدرج زياد حديثه بابتسامته الصافية
“عايزين نجهز الدعوات اللي هندعيها.. عشان الواحد من ساعة ما رجله خطت المدينة المنورة وهو مش قادر يتلم على نفسه.. فرحة لا توصف بجد ”
تركت الشوكة من يدها وهي تهتف بسعادة طفولية
” أنا هدعي لكل الناس هدعي للمسلمين كلهم ربنا يغفرلهم و يرحمهم و هدعي ربنا يرزقنا شفاعة سيدنا النبي و هدعى لكل واحد في عيلتنا و عيلة ماما و هدعي سيف أخويا يخف و بدر و عائشة ربنا يصلح حالهم و يرزقهم ذرية صالحة و هدعي لبابا وعمي محمود و كل أموات المسلمين ”
اتسعت ابتسامة زياد العاشقة وهو يتأمل ثرثرتها ليقطع كلامها مكملا هو
” و هتدعيلنا بإيه بقى ؟ ”
صمتت للحظات تطالعه بعشق، و أخذت نفسا عميق ثم قالت
“نفضل مع بعض لآخر يوم من عمرنا و نكون في الجنة سوا.. و.. و تفضل تحبني بنفس اللهفة اللي في صوتك أول اما تشوفني و بنفس نظرات الحُب اللي بتابعني لما اتكلم.. و بنفس الشغف لما تشتاقلي.. تفضل تحبني بنفس الطريقة اللي بتحبني بيها دلوقت.. بنفس انبهارك بيا و بحماسك أول اما ادخل معاك نقاش..و مهما حصل متبطلش تحبني.. و متملش مني أبدًا ”
” وهل يمل الرجل من إمرأة هام بها عشقًا ؟ ”
قالها بنظرات حُب صادقة و ابتسامة حنونة عاشقة، فلم ترد بشيء و اكتفت بمبادلته الابتسامة الدافئة.. تابع كلامه الشبيه بنسمات الهواء المنعشة، و كأن كلامه ينعش قلبها بعد غيبوبة أصابته إثر تغزله الساحر مثل المخدر.
“لو كانت حياتي كلها أخطاء، فأنتِ الصواب الوحيد بها..”
صمت لوهلة، ثم تنفس بهدوء قائلا بصدق
“‏ سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيقول عن السيدة فاطمة “وما رأيتها يومًا إلا وذهب الهم الذي كان في قلبي.” عُمري ما هقارن نفسي بسيدنا علي، لكن أقسم برب المسلمين و برب فاطمة و علي إني ما رأيتك يومًا إلا و ذهب الهم الذي كان في قلبي ”
شعرت بأنها ستدخل في غيبوبة فورًا من كثرة كلامه المعسول و الذي ينجح دائمًا في الاستحواذ عليها و جعلها كالمغيبة بسحر حُبه الشغوف بها.. غيرت مجرى الحديث لتقول وهي تتحاشى النظر عن عينيه؛ حتى لا تغيب عن الوعي بالفعل
” أنا شبعت.. الحمدلله.. نقوم نتمشى شوية ”
أومأ مبتسمًا ثم دفع الفاتورة وهو ينهض و يصطحبها معه؛ لزيارة مسجد الرسول “صلى الله عليه وسلم” في المدينة المنورة وذلك ليس له علاقة بالحج والعمرة، حيث يتوجه المعتمر إلى المدينة قبل أداء المناسك أو بعدها، بنية زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه، لأنها خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
قال زياد مازحًا بخفة قبل الاقتراب من المسجد و الصلاة فيه
“متنسيش تدعي في كل سجدة ربنا يرزقنا مزرعة بنات ”
رمقته بدهشة هاتفة
” مزرعة ! و بنات !! ”
“ايوه.. أنا عايز أجيب منك أطفال كتير أوي.. و يكونوا كلهم بنات”
“بغض النظر عن مزرعة دي و لو إن يعني لو متجوز أرنبة مش هتطلب منها كده.. بس اشمعنا عاوزهم كلهم بنات ؟ ”
رد بمشاعر غيرة بدت حقيقية
” مجرد تخيُل واد شحط يجي ينام على رجلك و تلعبيله في شعره و أنا مقدرش اتكلم عشان ده ابنك.. بتخليني قايد نار من قلبي.. بصي هي أنانية و أنا عارف و تصرف أطفالي شوية.. بس بجد أنا عايز اخلف بنات بس ”
ضحكت مما قاله غير مصدقة
” أنا مش مصدقة.. أنت بتتكلم بجد ! لو خلفت صبيان هتغير منهم ؟ ”
أومأ بنظرات صادقة غيورة
” ايوه و احتمال غيرتي توصل أنك مترضعهمش كمان.. هجبلهم مرضعة أحسن ”
” مش معقول اللي بتقوله ده ”
قالتها وهي تنظر لملامحه التي بدت عليها الغيرة الحقيقة و أخذت تضحك بشدة عليه، لتنهي تلك الغيرة بمزاحها المشاكس
” طيب ادعي أنت ربنا يرزقنا بنات بس و أنا ادعي ربنا يرزقنا صبيان بس و نشوف دعوة مين اللي هتستجاب ”
نظر لها ضاحكًا ليقول
” طب اياكِ تدعي الدعوة دي ”
ظلت تضحك عليه بخفة دون أن تجيبه، فبماذا ستجيب، وهي تدرك أن جميعنا في الحب نملك أنانية الأطفال ..!
وصلا للمسجد فصلوا فيه ركعتين تحية المسجد أو صلاة الفريضة حسب توقيتهما إن كانت قد أقيمت، ثم ذهبا إلى قبر الرسول “صلّ الله عليه وسلم”
فور أن وطئت أقدامهما بالقرب من قبر حبيبنا “مُحمد” اقشعر أجسادهما و سارت فيهما رعشة لأول مرة يشعرون بها، و فاضت الأعين بدموع الفرحة و الإجلال، و الشعور بالعزة و الفخر أنهما يقفان أمام قبر خير خلق الله و أطهرهم يحف قلبيهما، شعور لا يستطيع أمهر الشعراء و صفه، شعور جميل رائع خاص بالقلب فقط.
ثم سلما عليه و على صاحبيه سلامًا ملؤه الإكبار والتعظيم
“السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”.
قالها الاثنان و لم يستطيعان التوقف عن البكاء لحظة.. تزحزحا قليلا و خطا زياد عن يمينه خطوتين و تبعته هاجر؛ ليقفان أمام قبر أبي بكر الصديق “رضي الله عنه”
قالا “السلام عليك يا أبا بكر خليفة رسول الله ورحمة الله وبركاته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيرا”.
ثم خطا خطوتين و وقفا أمام قبر الفاروق عمر بن الخطاب “رضي الله عنه”
قالا “السلام عليك يا عمر أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، رضي الله عنك وجزاك عن أمة محمد خيرا”.
و بعد الانتهاء من زيارة قبور الأحبة الكرام و قبر أشرف الخلق أجمعين، توجها للفندق ليستريحان قبل القيام بأولى خطوات العُمرة ألا وهي
” الإحرام”
__________________♡
قلب يثق بالله .. لن تفارقه الإِبتسامة أبدًا.
منذ بداية الإجازة و سيف أصبح يؤدي الخمس فروض في المسجد، أحيانًا يستغرق قصي في النوم ولا يأتِ ليأخذه لصلاة الفجر، فيصليه في البيت بوالدته.
جدد سيف العهد و التوبة مع الله، فيوميًا يُصلي ركعتين بنية التوبة لله من أي ذنب فعله عن عمد أو بدون، و أيضًا يحافظ على صلاة الحاجة باستمرار، فبعد أن يصلي قيام الليل و يقرأ ما تيسر من القرآن، يصلي ركعتين بنية أن يقضي الله حاجته وهي أن يرد له قدمه.
وكما علمنا المصطفى صل الله عليه وسلم خطوات صلاة قضاء الحاجة هي :
1-تتوضأ وضوءك للصلاة.
-2 النية.. لابد من النية لصلاة قضاء الحاجة قبل الشروع فيها.
-3 تصلي ركعتين.. والسنة أن تقرأ بالركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ»، وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة بسورة «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، ومن الجائز أن تصلي أكثر من ركعتين، من 4 ركات حتى 12 ركعة.
-4 في آخر الصلاة تسلم.
-5 بعد السلام من الصلاة ترفع يديك متضرعًا إلى الله ومستحضرًا عظمته وقدرته ومتدبرًا بالدعاء.
-6 في أول الدعاء تحمد وتثني على الله عز وجل بالدعاء.. ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، و الأفضل الصلاة الإبراهيمية التي تقال بالتشهد.
«اللّهُمَّ صَلّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحمَّدٍ كمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبْرَاهيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحمَّدٍ كمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهيمَ في العالمينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » أو بأي صيغة تحفظ.
-7 تم تقرأ دعاء قضاء الحاجة: «لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك مُوجِبات رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمة من كل برّ، والسلامة من كل إثم، لا تدع لى ذنباً إلا غفرته، ولا همَّاً إلا فرَّجته، ولا حاجة هى لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين»، ثم تدعو حاجتك إلى الله.
-8 ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.. كما فعلت بالمرة الأولى الصلاة الإبراهيمية التي تقال بالتشهد.
-9 بعد الانتهاء من صلاة قضاء الحاجة.. اترك أمرك إلى الله متوكلًا عليه.. واسعى في طلبك واسعى في أمرك إلى آخر ماتصل إليه.
” عليك المداومة عليه إذا أردت حاجة معينة من الله، و الله أنا عندما يتعسر علي أمر من أمور الحياة و أصلي تلك الصلاة ينفرج همي و تُقضى حاجتي.. و عليكم العلم متابعيني أنك إذا دعيت بشيء و كان شرا لك سيبعده الله عنك و يبدلك خيرًا منه، عليك فهم ذلك جيدًا ولا تقول أن الله لم يستجيب لي في هذا الأمر بالذات..
الله ربي جل جلاله قال
“وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ”
عندما كان يذهب سيف للصلاة في المسجد، كان قصي يرافقه في كل فرض و هذا ما أراده سيف، أن يأخذ بيد أخيه و صديقه للجنة.
بعد الانتهاء من صلاة العصر استدار قصي ليخرج فأوقفه سيف قائلا بابتسامة صافية
“رايح فين.. في شيخ بيجي يدي دروس دينية بعد العصر.. أنا هقعد أحضر الدرس و أنت هتقعد معايا ”
رد قصي ضاحكًا بخفة
” ده أمر و لا تهديد ؟ ”
ضم سيف السبابة و الوسطى معًا ليرفعهما في وجه قصي هاتفًا بمرح
” الاتنين يا حبيب أخوك ”
” أمرنا لله ”
قالها قصي وهو يتنهد بقلة حيلة، ثم جلس بجانب سيف ليتابع كلامه تلك المرة بتوتر
” سيف.. ممكن أقولك على حاجة بس متزعقش ؟ ”
نظر له سيف بشك ليحثه على الحديث.. تحمحم قصي و قال
” بصراحة.. أنا بكلم كارمن البنت اللي اتعرفت عليها في السفارة و… ”
” ايـــــه !! ”
هتف بها سيف وهو يرمقه بغضب مردفًا
” هو أنا مش قولتلك تبعد عن السكة دي ! ”
ابتلع قصي ريقه وهو يحاول جاهدًا كتم الضحك الذي يأتيه في أوقات غريبة و غير مناسبة بالمرة، و كأنه وُلد بمرض الضحك في الأوقات الخطأ والمواقف الجدية .
تنهد قصي تنهيدة رجل عاشق بدت مصطنعة و مضحكة قبل أن يردف
“بس المرادي غير أي مرة.. البنت فعلًا عجبتني ودخلت دماغي وبفكر أعمل زي ما أمك قالتلي و اتجوز.. يمكن الجواز يلمني ولا أنت ايه رأيك ؟
مسح سيف على وجهه بنرفزة و زفر بضيق قائلًا
” يابني أنت لحقت تحبها ؟ ده مجرد اعجاب و هيروح لحاله و بعد فترة هتعجب بغيرها ”
” ايه ياعم سيف.. أنت مش بتؤمن بمقولة الحب من أول نظرة و لا ايه ! ”
” ماشي.. بس أنت في بداية العشرينات و المرحلة دي الواحد مشاعره بتبقى متلغبطة و مش عارف ياخد قرار صح في حياته ”
” يعني أنت حُبك لروان مجرد مشاعر متلغبطة ! ”
طالعه سيف للحظات بدهشة من سؤالها، ثم أشاح بوجهه ليتنهد بعمق و غمغم
“روان حاجة تانية.. قصتي أنا و روان مختلفة”
نفض شعور الاشتياق لها من قلبه و رأسه، و التفت لقصي زاجرًا اياه بنبرة ساخطة
“قصي..أنا مش مرتاح للبنت دي بجد..ايوه عمري ما شفتها ولا اعرفها بس فيه حاجة في الموضوع مش داخلة دماغي و مش مظبوطة..حاسس إن البنت دي مش ساهلة و وراها حاجة كبيرة..تقدر تفسرلي اشمعنا أنت الوحيد اللي جات اتعرفت عليك و طلعت شبهك في حجات كتير !
و بلاش تقولي في الآخر صدفة ! كل صدفة مُرتبة.. خلينا واقعيين شوية يا قصي.. مفيش حاجة اسمها صُدف.. بالله عليك ابعد عن البنت دي”
صمت قصي قليلا ينظر أمامه بشرود غير مباليا بكلام سيف رغم أن هناك صوت في عقله يخبره أنه على حق، و لكن حماقة القلب في الحب لابد منها لتكتمل المهزلة.
هز قصي رأسه بعدم اهتمام ليقول
” بس أنا حبيتها بجد يا سيف.. و هخطبها و بعد اما نتخرج السنة الجاية نتجوز علطول ”
اطلق سيف ضحكة ساخرة هاتفًا
“ده أنت مرتب كل حاجة كمان أهو.. ! ما شاء الله.. برافو.. و على كده بقى أبوك موافق ؟
يابني مش بعيد لو قولتله يكرشك برا البيت ”
شعر قصي بالاستياء من حديث سيف الهازئ منه، ولأول مرة يشعر تجاهه بالغضب و الحزن منه فانفعل بصوت عالي و عندما أدرك انهما بالمسجد أخفض صوته قليلا و قال
” يكرشني ليه ؟ ويرفض ليه ! حرام أحب واحدة و اتجوزها ! كفرت أنا ولا خرجت عن الملة ولا يكونش بهدم عادات و تقاليد المجتمع.. أظن كل واحد حر في اختيار شريك حياته ”
قال ذلك بغضب ثم أشاح بوجهه عن سيف، فأخذ الأخير نفس عميق و هزه من كتفه بخفة مازحًا
” متزعلش مني.. والله العظيم أنا بقولك كده من خوفي عليك.. بقولك اللي قلبي حاسه و مش مطمنله من ناحية الموضوع ده.. أصل بص يا قصي.. البنت مش شبهنا خالص.. هي عايشة في مجتمع منفتح بتلبس لبس معين بتسهر في أماكن معينة بالنسبة لمجتمعهم شيء عادي جدًا أما بالنسبالنا عيب وحرام و ميصحش.. ولو حاولت تغير فيها حاجة مش هتقبل لأن من شب على شيء شاب عليه.. و أظن أنت واعي وفاهم كويس إن الحياة الزوجية مش لعب و هزار.. الزواج يعني اتنين ناضجين يتشاركوا أمور الحياة مع بعض بمودة و رحمة.. و أنت كراجل شرقي غيور و بتحبها فعلا مش هتقبل أنها تخرج بلبس غير محتشم أو تصاحب شباب أو تروح نوادي و ديسكو والكلام ده.. صح ؟ ”
أومأ قصي ليرد بهدوء
“عندك حق بس أنا هقدر أنتشلها من المجتمع ده و أغيرها للأحسن.. يهدي من يشاء مش كده ! ”
” أنا معاك في كلامك.. بس لو هي بتحبك بجد هتقبل منك كل حاجة.. ولو عندها قابلية تغير من نفسها للأحسن و تحسن العلاقة ما بينها و بين ربنا باتباع أوامره و طاعته يبقى أنت أخترت صح و مبارك عليكم و أنا بنفسي اللي هقف معاك في الجوازة دي لو أبوك رفض.. و هقنعه يوافق ”
هز رأسه بتجاوب مع كلامه دون أن يقول شيء، فعقله شرد الآن في إجابة سؤال واحد فقط
” هل تُحبني حقًا ؟ ”
اعتدل الاثنان في مكانهما فور بدء الدرس، و لم يكونا الحاضرين فقط، بل إن المسجد كان به ما يقارب الخمسة عشر فرد..
انتهى الدرس بعد ساعة، و نهض قصي مصطحبًا سيف معه باتجاه البيت، لم يكونا على علم بعد بطلاق عائشة و بدر.
***
بعد رحيل عائشة أغلق بدر منزل عمه، وهو يتجاهل الرد على أسئلة أفراد العائلة المنصبة فوق رأسه سؤال يمزق قلبه يليه الآخر بقسوة
” أنت كنت بتحبها ! ايه اللي حصل؟ ”
“ليه سمحت للشيطان يدخل ما بينكم ؟”
“عائشة هانت عليك يا بدر ؟ ”
“هو معقول الحُب يروح بسهولة كده ؟ ”
“هتعيش حياتك من غيرها ازاي ده أنت مصدقت اتجوزتها ؟ ”
تركهم واقفون ينظرون له بصدمة و ذهول من بروده الغير معتاد، ثم اتجه لبيته وصعد لغرفته بعد أن أغلق الباب على نفسه، و أرسل دموعا في صمت على خديه ظهرت خلفها نظرة حزينة منكسرة، بدا و كأن فراقها يبتر جزءً من روحه، و أخذت ذكرياته معها تثقب قلبه، لقد تحول قلبه العاشق مقبرة لأحزانه.
وصل سيف للبيت ومعه قصي، فوجد والدته تجلس على الأريكة مستندة بوجهها على كفها، وملامحها منطفئة و حزينة للغاية.. قلق سيف حيالها فتساءل بخوف
” ماما.. مالك.. أنتِ كويسه ؟ ”
قالت بنبرة منكسرة بعد لحظات من الصمت
” أخوك طلق مراته ”
تبادل سيف و قصي النظرات بصدمة و دهشة مما قالته مفيدة.. ليهتف سيف بذهول وهو غير مصدق
” يعني ايه طلقها !!! ”
وهتف الآخر بنفس صدمة سيف
” بدر طلق عائـشة !! ”
ظلت والدته عاكفة على نفسها بحزن في صمت، فعاد سيف بسؤال آخر كالمصعوق
” فين بدر.. أخويا فين دلوقت ؟؟ ”
أشارت مفيدة للغرفة بعجز و أسى
” قافل على نفسه الأوضه ”
” طب ايه اللي حصل ياماما.. طلقها ليه ؟؟ ”
“محدش عارف السبب”
توجه سيف بكرسيه لغرفة بدر و ظل يطرق على الباب بقلق وهو يناديه
” بدر افتح.. افتح بالله عليك ”
لم يأبه بدر للطرقات الصادرة من الخارج، وظل ينظر للسقف بشرود نظرات مهمومة.. فعاد سيف يطرق بقوة و بخوف عليه
” افتح عشان خاطري.. عشان خاطر سيف أخوك.. ابنك ”
عندما لم يجيبه بدر، وضع سيف رأسه على الباب وكاد أن يبكي ليعيد الكرّه
” بالله عليك افتح ”
نهض بدر أخيرًا متأثرًا بكلام و توسلات سيف ليفتح له.. أشارت مفيدة لقصي بأن يجلس بجانبها تاركا سيف يتعامل مع شقيقه.. دلف سيف و أغلق الباب وراءه، ثم نظر لبدر بحزن عليه فبادله الآخر النظرات بضعف و ارتمى في أحضانه يعانقه بشدة و يستمد منه الصمود والقوة وكان سيف خير أخ عندما استطاع احتواء شقيقه دون أن يلقي عليه الأسئلة القاسية و يتعبه في مناقشة الموضوع.. تركه أولًا يخرج كل ما في قلبه من هم و غم في البكاء و النحيب وكان دوره أن يمسد على ظهره بحنان يمنحه السكينة و الطمأنينة، كما كان يفعل بدر معه عندما كان يخفق سيف و يتعسر عليه أمر ما.
بعد أن هدأ أخيرًا و جلس على فراشه يكفكف دموعه بضعف.. سأله سيف بهدوء
” طلقتها ليه يا بدر ؟ ”
“ما أكرمهنّ إلا كريم، وما أهانهنّ إلا لئيم، و أنا معرفتش أكون كريم معاها عشان كده سيبتها”
قالها بابتسامة منكسرة أخفت حزنًا يُصعب وصفه.
هتف سيف بدهشة
” ازاي.. أنا مش قادر استوعب.. دي البنت الوحيدة اللي حبتها !! ”
رد بدر بضعف
” و البنت الوحيدة اللي كسرت قلبها و خيبت ظنها فيا.. ”
تنفس الصعداء بعمق ثم قال
” مش حابب حد يسألني عن السبب الأساسي.. ده شيء يخصني لوحدي.. بس كل اللي أقدر اقولهولك إني خدت القرار الصح.. عشان بحبها و مقدرش أأذيها أكتر من كده.. طلقتها ”
” يعني ايه متقدرش تأذيها أكتر من كده !! ليه بتتكلم بالألغاز ! بدر أنا أخوك.. يعني لو مخلتنيش أساعدك و أقف جنبك و تعرفني في ايه بالظبط.. هتفضل محلك سر و مش هتعرف تخرج من المتاهة دي ”
” أنا ضيعت خلاص يا سيف.. معتش ينفع أرجع بدر بتاع زمان ”
قالها ساخرا مت نفسه، فنهره سيف
” متقولش كده.. طول ما فينا النفس لازم نعافر و نقوم بعد كل وقعة.. احنا جينا الحياة نحارب عشان ننتصر.. مفيش مؤمن بالله الحياة بتهزمه يا بدر.. هو أنا برضو اللي هقولك الكلام ده ! ”
زفر بدر بضيق هاتفًا
” أنت مش فاهم.. ولا هتفهم.. و لا هينفع أفهمك.. خلاص علاقتي بعائشة انتهت بالله عليك ما تفتح الموضوع ده تاني ولا تجبلي سيرتها.. أنا عايز انساها ”
أومأ سيف بحزن على حالته ثم تساءل
” طيب.. أنا هروح اتكلم معاها شوية ”
” مع مين !! ”
” مع عائشة يا بدر في ايه ؟ ”
نهض بدر ليصرخ في وجه شقيقه بغضب ادهش سيف من سرعة تحوله
“قولتلك ما تجبش سيرتها تاني.. مش عــايز اسـمع اسمها خـــــالص.. انتــوا مبتفهموش ليــه.. ؟؟ أنا و عائشة بـح… انتهينا.. افهموا بقـى.. و عالعموم هي مشت من الحارة خالص.. هتعيش مع أهل امها.. و ده أحسن ليا و ليها”
هز سيف رأسه بتفاهم وهو يشير له أن يهدأ
” طيب.. اهدى.. اهدى.. خلاص مفيش حاجة.. مش هجبلك سيرتها تاني.. بس أنا مش مطمن لحالتك دي.. العصبية مش هتفيدك بحاجة.. اهدى عشان نفسك.. صحتك أهم من كل حاجة ”
ضحك بدر بسخرية ليقول
” صحتي !! هو أنت متعرفش !.. مش أنا معتش فيا لا صحة ولا عقل.. حتى قلبي بقى أقسى من الحجر ”
اقترب سيف منه بخوف من حدة انفعاله، ليجلسه قائلا بهدوء
” اللي بيخليك تقول الكلام ده.. شيطان.. و الله شيطان و عايز يدمرلك حياتك..ده حتى ربنا بيقول في القرآن ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } ”
” اهدى كده و وحد الله في قلبك و استعيذ بالله من الشيطان الرجيم.. واسمع الشيخ قال ايه في درس انهارده..
جلس بدر وهو يطالع شقيقه بخجل من نفسه و حزن عليها لما وصل له.. تابع سيف بنبرة لينة و وجهه مبتسمًا يحاول أن يستعيد بدر أخيه الهادئ و الطيب الحنون
” الشيخ كان بيتكلم عن تربص الشيطان بالانسان في كل خطواته.. فبيقول إن الرسول صلّ الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
يعني ده بيزيد المعركة اللي بينه و بين الإنسان صعوبة، فقدرته على الغواية تجري مجرى الدم، و بما إن الإنسان لا يحس بجريان الدم، فكذلك لا يشعر أنها وسوسة الشيطان، و زي ما الدم بيصل إلى أجزاء الجسم كلها، فإن الشيطان كذلك… و كمان اتكلم عن السبب الرئيسي للفراق بين الزوجين في حديث للنبي بيقول «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نِعمَ أنت»
يعني ابليس الملعون أكتر حاجة بتبسطه و تخليه قاعد متكيف على عرشه كده فراق الأحبة خاصة الأزواج.. و الإنسان مننا لو ضعف قدام وساوس الشيطان بيهلك.. و أنا مش عاوزك تهلك يا بدر ”
قال جملته الأخيرة و هو ينظر له بدموع، بينما بدر كان يتأمله بفخر من تبدل حاله للأفضل، و في نفس الوقت يشعر بالخزي من نفسه.. كل ما يقوله شقيقه صحيح.. سبب هلاكه أنه ترك نفسه للشيطان يلعب به كما يشاء.. كان بدر يشعر كما لو أنه طفل صغير يستمع لنصائح معلمه، منذ أشهر كانا يجلسان نفس الجلسة ولكن الناصح و الواعظ هو بدر، والآن تغير الحال وأصبح الصغير ينصح الكبير ولا بأس بذلك طالما أن الكبير وجد مأوى يحتويه و يد سخية تبسط راحتها للمساعدة.
علق بدر بحسرة على أخر جملة قالها سيف
” بس أنا هلكت فعلا يا سيف ”
” لأ.. طول ما فيك النفس تقدر تحارب و تقاوم وتقوم من تاني.. بالعزيمة والاصرار تقدر تبقى أحسن من الأول.. لازم يكون عندك العزيمة و تصر على مواجهة أي حاجة صعبة تقف قدامك.. أنت بدر الشباب اللي كل الناس بتحبه و يتمنوا عيالهم يبقوا زيه.. أنت بدر الشباب اللي قلبه متعلق بربنا.. أنت بدر اللي عمرك ما عرفت للخسارة طريقة ولا بتقبل بالهزيمة ”
قال سيف ذلك وهو يشدد على يد شقيقه بدعم و تحفيز و مواساة أخوية حنونة.. و بالفعل ترك هذا الكلام المحفز الجميل آثاره على قلب بدر، فشعر بأنه عليه المقاومة بالفعل واستعادة نفسه وألا يقبل بالهزيمة مهما كانت صعوبة المعركة.
عندما وجد قصي أن سيف تأخر عند أخيه، سحب نفسه و استأذن عائدًا لبيته.
و في تلك الليلة لم يهدئ لسيف بال حتى جعل بدر يأخذه لصلاة العشاء.
لم تكن صلاة بدر تلك المرة صلاة عادية كباقي الصلوات، صلى بندم و تأنيب ضمير و بكاء لم يستطيع كتمه.. بكى وهو يتوسل لله و يترجاه أن يرده اليه و ينتشله من المتاهة التي فيها، توسله كثيرًا أن يغفر له و يسامحه و يصلح حاله المحطمة.
بعد الانتهاء من الصلاة.. وقعت عين بدر على شيخ ضرير يتكئ على عكازه معظمنا نعرفه جيدًا، فهو الشيخ الطيب المحب لله الذي لا يتحدث إلا بلغة القرآن، إنه الشيخ ” عمار عبد الهادي”
يحب بدر هذا الرجل كثيرًا لعدة اسباب، منها أنه يذكره بالشيخ محمد والده، و أيضا يرتاح في الحديث معه، فكلامه مطمئن للقلب نتائجه أفضل من أفضل دواء، رجل قلبه عامر بحب الله فماذا سيكون كلامه ؟
شعر بدر شعور غريب انتابه عندما رأى الشيخ عمار، وجد قدميه تسوقانه في الحال ليوقف الشيخ قبل خروجه من المسجد قائلا بلهفة كالذي وجد طوق النجاة
” شيخ عمار.. أنا.. أنا بدر.. عايز.. عايز أتكلم مع حضرتك شوية.. ممكن ؟ ”
ابتسم الشيخ بعفوية و قال
” بالطبع بني.. كيف حالك يا بدر الشباب لم أسمع صوتك منذ مدة ؟ ”
عندما رأى سيف شقيقه يتحدث مع الشيخ عمار، تهللت أساريره و ترك له المجال ليتحدث معه بأريحية، واتجه بعيدا عنهم يقرأ في المصحف.. بينما بدر أخذ الشيخ من يده و أجلسه برفق ليجلس قبالته و بدأت عيناه تمطر الدموع ليقول بصوت متهدج
” مبقاش فيه بدر الشباب يا شيخ عمار ”
تعجب الشيخ من نبرة بدر الحزينة ثم صمت للحظات ليأخذ نفسًا طويلًا وقال وهو يربت على فخذه
” سيبقى الخير فينا طالما لا زلنا نتنفس.. أخبرني ماذا حل بك.. ماذا حدث لك يابني ليجعلك تفقد الأمل في نفسك هكذا ؟ هل أغلق الله باب التوبة في وجهك لكي تحزن ؟ بالطبع لا.. إذًا لِمَ كل هذا الحزن في صوتك ؟؟ ”
تنهد بدر بعمق و حكي له كل شيء، كل شيء بالتفصيل.. منذ ولادة عائشة و توليه رعايتها و وقوعه في حبها حتى تزوجها.. حكي له كل شيء مر به و أخبره عن مرات انتكاسه وعن اصابته بالاضطراب.. أفرغ كل ما في قلبه لهذا الشيخ سمح الوجه عفيف القلب و اللسان..
قال الشيخ بهدوء
” الطلاق هو أبغض الحلال عند الله، ولكن في بعض الحالات يكون هو الحل الأمثل، وهذا ما حدث معك و مع ابنة عمك.. كان الفراق هو الحل الصحيح و القرار الصائب لانهاء تلك العلاقة الخاطئة.. نعم بني.. زواجك منها بهذا الشكل كان قرار خاطئ منذ البداية.. ما شأنك أنت بما تفعله ابنة عمك ؟ من الذي أمرك بمراقبتها و محاسبتها على كل شيء ؟ ألم يكن لها أب يراعيها و مسؤولة منه.. ما شأنك أنت ؟ ”
تلعثم بدر مردفًا
” عشان.. عشان كنت بحبها.. و.. و خايف عليها ”
“تلك الإجابة الصحيحة التي كنت تهرب منها بينك و بين نفسك.. لأنك عشقتها كنت تتبعها في كل مكان تذهب اليه، لأنك أحببتها كلفت نفسك بمراقبة كل خطواتها.. لأنك أردتها لنفسك فأردت اصلاحها.. لكنك لم تفعل ذلك لوجه الله.. أنت فرضت نفسك عليها كأنك ولي أمرها لتكون لك وحدك.. لو ما كنت وقعت في حبها لما فكرت لحظة أن ترشدها للصواب.. عليك الاعتراف بالحقيقة.. أنت كنت تنصح عائشة و تحاول اصلاحها لك.. لأجلك فقط ليس لأجل أن تتقرب من الله.. ظللت تفعل ذلك حتى تماديت في الخطأ أكثر من مرة لتجعلها تحبك.. أصبح قلبك متيم بحبها حتى صرت كالمجنون من شدة تعلقك بها..
وعندما يتعلق المرء بقلب أحدًا غير الله تصبح حياته مكدرة و بلا معنى.. إن الله يغار عليك من التعلق بغيره.. فيصدك عنه ويذيقك مراراة الفقد حتي ترجع اليه.. و حان الوقت للرجوع لربك يا بدر”
برغم أن كلام الشيخ صحيح مائة بالمائة، ولكنه كان قاسيًا على بدر..فقال بضعف
” و هل يعقل يا شيخ عمار أن الله تعالى يكسر قلوب عباده على أحبتهم، لمجرد التعلق ! ”
” لا يابني.. حاشاه.. إن الله يبتلي عباده بما يشاء. لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.. و تعلق القلب يا بدر بغير الله قد يبلغ أن يكون معصية قلبية تستوجب العقوبة، وهذه العقوبة قد تكون خيرا للعبد من وجه آخر، فتُكفَّر بها من سيئاته، وقد تكون سببًا في رجوع قلبه إلى الله.. أحيانًا يكون الفراق هو نقطة البداية لحياة جديدة صحيحة يملؤها حُب الله..يقول ابن القيم رحمه الله: وإذا أراد الله بعبده خيرًا سلط على قلبه إذا أعرض عنه و اشتغل بحب غيره أنواع العذاب حتى يرجع قلبه إليه .. وهذا ما يحدث لك الآن.. تشعر بأنك في غمة و كرب و النور من حياتك انطفأ؛ لأنك انشغلت بابنة عمك عن طاعة الله.. فأنتكست أكثر من مرة و شعرت بأن حياتك معها كئيبة رغم ما كنت تحاول فعله لتعيش معها حياة زوجية سعيدة..لا توجد حياة سعيدة بالبعد عن الله يا ولدي ”
” أنا..أنا حاسس إني تايه يا شيخ..مش عارف أبدأ منين..و خايف من موضوع مرضي محدش يتقبله من أهلي ”
قالها بدر وهو يفرك وجهه بتيه و ضياع..عاد الشيخ يصب كلامه اللطيف عليه قائلا
“هذا خطأ أخر ارتكبته في حق نفسك..لماذا لم تستكمل علاجك ؟ لماذا أخفيت على عائلتك أمرًا كهذا ؟ يا ولدي أراح الله قلبك جميعنا مرضى نفسيون و لكن بتفاوت..كل واحد منا لديه مرض نفسي يعاني منه..هناك مرض يلزم العلاج و مرض يستطيع صاحبه التغلب عليه بنفسه.. لماذا تخشى الاعتراف بما اصابك ؟ ”
” عشان.. عشان مشوفش نظرات الشفقة في عنيهم.. عشان مبقاش ضعيف قدامهم.. عشان محرج من منظري قدامهم ”
“العائلة الحقيقية و التي تعتبر الأمان و السند لأولادها هي التي تقف معهم في كل تعثراتهم و تساندهم عند الوقوع في مرض أو خطأ أو غيره.. إذا كنت لا تريد اخبارهم لا بأس.. ولكن عليك استكمال علاجك النفسي.. و إذا أردت الشفاء للأبد فعليك بالصلاة على وقتها و المداومة على قراءة القرآن.. يقول الله عزّ وجلّ( وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ”
” صدق الله العظيم.. طيب يا شيخ أنا بحبها أوي و مش هقدر أنساها.. أعمل ايه ؟ ”
“اشغل وقتك بأي شيء يعود عليك بالنفع.. اذهب لممارسة الرياضة فهي تقوي الأبدان و تذهب البأس منها.. بدلا من أن يكون لديك عمل واحد، ابحث عن عمل آخر.. استمع للدروس الدينية بكثرة.. اقرأ القرآن كثيرا.. لا تترك عقلك فارغًا.. اشغله بأي شيء نافع ”
صمت بدر للحظات وهو يشعر بأن السكينة بدأت تبعث أشعتها في قلبه.. أخرجه من صمته سؤال الشيخ
“أخبرني الحقيقة يا بدر.. لماذا تركتها ؟”
” عشان عايز أرجع لربنا تاني.. عشان استعيد حياتي اللي خسرتها.. هي ملهاش ذنب في أي حاجة.. أنا اللي انشغلت بحبها و حبيتها بطريقة غلط ضيعت حياتي و ضيعتها معايا”
” و من ترك شيئًا لله عوضه.. هنيئًا لك بعوض الله القريب.. أما هي لها رب كريم لن ينساها.. الله أرحم من الأم على ولدها”
قالها الشيخ باسمًا وهو يربت على كتفه بمواساة.. تساءل بدر بنظرات حائرة
” هل سيسامحني الله بعد كل زلاتي ؟ ”
“نعم، ‏الله ينظر إلى قلبك وهذه أكثر حقيقة مريحة في التاريخ”
” و هل سأستطيع استعادة بدر الشباب ؟ ”
“أتعلم يا بدر ما هو الأجمل ! أن رغم إزدحام هذا الكوكب، إلا أن الله جل جلاله يعلم ما في قلبك جيدًا قبل أن يبوح به لسانك، اطمئن”
” من أين أبدأ يا شيخ عمار ؟ ”
” من هنا يا بني.. انهض و صلي ركعتين بنية أن يصلح الله حياتك ”
” و كده أبقى بدأت حياة جديدة مع الله ؟ ”
أومأ الشيخ باسمًا
” نعم، لكن عندما يمنحك الله بداية جديدة، لا تكرر الأخطاء القديمة .. و ضع تلك الآية نصب عينيك ” وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ”
أحس بدر بالراحة تغمر قلبه، و شكر الشيخ كثيرًا و أراد أن يقوم بتوصيله لبيته ولكنه رفض، فهو لمداومته على الصلاة في المسجد يحفظ الطريق لبيته جيدًا.
ووقف بدر يصلي بخشوع بنية بدء حياة جديدة مع الله.
كان سيف يراقبه من بعيد دون أن يسمع حديثه مع الشيخ، و لكن ملامح وجه أخيه التي تبدلت من الحزن للراحة و البشاشة جعلته في قمة سعادته و أخذ يدعو الله أن يعوض شقيقه خيرًا.
انتهى بدر من حديثه مع الله الذي امتد لنصف ساعة لم يشعر بمرورها، ثم أخذ سيف متجهين للبيت..
رأتهما مفيدة عائدين من المسجد و البسمة البسيطة تزين ملامحهما.. ارتاح قلبها قليلا و أزيحت الغمة من عليها ولكنها لازالت حزينة على تلك المسكينة يتيمة الأبوين.. تُرى ماذا يحدث معها الآن
______________
لا تخش العقبات الكبيرة ، فخلفها تقع الفرص العظيمة. ” لقائلها ”
****
أبت عائشة أن يصلها عمها لباب المنزل، فقالت له باصرار بعد أن توقفت السيارة على أول القرية
” نزلني هنا يا عمي لو سمحت.. أنا حابه أروحلهم لوحدي ”
” مينفعش يابنتي.. أنا هاجي معاكِ و بعد ما اطمن عليكِ في وسطهم همشي ”
نزلت عائشة رغمًا عنه وهي تقول
” ده طريقي لوحدي.. و هبتديه لوحدي.. أنا آسفة يا عمي”
استسلم عمها أمام اصرارها وأخرج ظرف به خمسة الآف جنيهًا قائلا
“خلي دول معاكِ.. و معاش أبوكِ أنا هجبهولك لحد عندك كل شهر”
رفضت عائشة أخذه معللة
” شكرًا يا عمي.. مش محتاجة فلوس ”
وضع عمها الظرف في حقيبتها دون أن يأبه لها ليقول
“خلي بالك على نفسك ولو احتاجتي أي حاجة متتردديش تكلميني.. بيت أبوكِ في الحفظ و الصون.. وبيوتنا مفتوحالك في أي وقت”
هزت رأسها بلا مبالاة و تمتمت قبل أن تذهب
“ماشي يا عمي..كتر خيرك”
سارت عائشة باتجاه طريق القرية، وهي تجر حقيبتها وراءها.
كان طريقًا محفوفًا بأشجار مختلفة الأحجام كتلك التي يتم زرعها في القُرى؛ لتمد المزارعون بالظل الوفير.
أرضية هذا الطريق ترابية وعرة نوعًا ما، مليئة بالأحجار الصغيرة التي تتوزع بين الطينية و الحصى يفضي في النهاية لمنزل لا بأس به لكنه يبدو عليه آثار الزمان، مكون من طابقين وبه حديقة خلفية صغيرة و على سطحه برجين من أبراج الحمام البيضاء ذات الثقوب متوسطة الحجم.
بالطبع عرفت مواصفات البيت والطريق من مذكرات أبيها، بالإضافة إلى أنها سألت أحد المارة عن البيت فدلها عليه.
وقفت عائشة تأخذ أنفاسها ببطء و تستجمع شجاعتها قبل أن ترن الجرس و تواجههم بماهيتها.. بعد لحظات فتحت لها إمرأة عجوز في منتصف العقد السادس من عمرها، ذات وجه بشوش رغم التجاعيد التي ملأته، قصيرة القامة نحيفة، ولكنها ما زالت محتفظة بقوتها الجسدية قليلًا.
ازدادت دقات قلب عائشة و تسارعت بقوة وهي تطالعها بتوتر و دموع على وشك الهبوط، بينما المرأة أخذت تتأملها بنظرات مستفسرة ثم دعتها للداخل.
دلفت عائشة و معها حقيبة الأمتعة لتجلس على أحد المقاعد البالية في الصالة البسيطة بعد أن سمحت لها السيدة بذلك.. ثم تساءلت بابتسامة بشوشة
” تشربي ايه يا بنتي ؟ ”
تفاجئت عائشة من اهتمامها المبالغ و استقبالها اللطيف، فردت بتلعثم
” لأ.. شكرا.. مش عاوزه حاجة ”
” مينفعش لازم تشربي حاجة تبل ريقك في الجو الحر ده.. شكلك جاية من سفر طويل.. أنا عندي عصير لمون في التلاجة هاجبلك كوباية ”
قالتها وهي تتوجه نحو ثلاجتها لتخرج العصير و تصب كوبا لعائشة التي انتابتها حالة من الدهشة من طيبة المرأة الزائدة
جاءت و بيدها العصير لتعطيه لعائشة قائلة
” ناوية بقى تأجريها كام شهر ؟ ”
قطبت عائشة حاجبيها بعدم فهم و تساءلت
” هي ايه دي اللي أأجرها ؟ ”
“مش أنتِ طالبة و جاية عشان تأجري أوضة في الدور التاني لأجل السكن ؟ ”
وضعت عائشة كوب العصير لتقول بخجل و توتر شديد
” لأ.. حضرتك فهمتيني غلط.. أنا مش جاية لكده ”
تحولت ملامح السيدة لعدم الفهم متسائلة
” اومال جاية ليه ؟ ”
” هو مش حضرتك يبقى اسمك زينب الخولي. !
” ايوه.. في حاجة ؟ ”
شعرت عائشة بالتوتر الشديد و الارتباك من نظراتها الجامدة.. فأردفت
” أنا عائشة..بنت بنتك ”
صمتت المرأة للحظات تنظر لعائشة بدهشة لترد
” بنت بنتي مين ؟؟ ”
زفرت بهدوء تحاول الحفاظ على ثباتها فقالت بصوت مهزوز رغمًا عنها
” نـ… ناهد ”
نهضت السيدة على الفور وهي تتطالع عائشة بصدمة شديدة غير متوقعة ولم تكن في الحسبان.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى