رواية يناديها عائش الفصل الخامس والسبعون 75 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الخامس والسبعون
رواية يناديها عائش البارت الخامس والسبعون
رواية يناديها عائش الحلقة الخامسة والسبعون
اللهم انصر عبادك المرابطين في المسجد الأقصى الشريف على عدوك وعدوهم، اللهم ثبّت أقدامهم واقذف الرعب في قلوب المعتدين، وأيقظ الأمة من غفلتها عن نصرته، يا حي يا قيوم.
_____________
إني لأسألُ نفسي، كما يسألُ كل عربي نفسه: “إلى أين يسار بنا تحت لواء هذه الحضارة البربرية الحديثة؟” «لقائــلهـا»
~~~~~~~~~~~~~~~~~
كان جميع أفراد الكتيبة في حالة صدمة و ذهول تام؛ مما سمعته آذانهم من الحقائق التي قالها لهم ” قُصي”
ظل قُصي لدقائق يفكر في الخطة الجديدة التي سيتبعونها جميعهم لتحقيق الانتصار على أعدائهم
، ليقطع حبل أفكاره صوت كريم الذي ما زال مصدومًا.. يقول
” أنا كنت ملاحظ في الفترة الأخيرة، إن اللواء عزمي تصرفاته بقت غريبة.. زي ما يكون بقى واحد تاني.. بس قلت يمكن من ضغط الشغل.. أنا لما بكون في مأمورية أو مهمة برا البلد بكون واحد تاني خالص بسبب قلة النوم و الضغط و التوتر.. فطبيعي يكون تصرفاته متغيرة.. لكن لما أنت يا قُصي دلوقت صدمتنا بالكلام ده.. افتكرت في مرة كنت داخل مكتب اللواء و سمعته بيكلم حد في التليفون يقوله هقابلك في الهرم قريب.. بصراحة مهتمتش لأن قلت ممكن عاوز يروق على نفسه و يروح شارع الهرم.. ”
قال آخر جملة و ملامحه تبدو عليها السخرية، بينما الجميع كانوا يستمعون له باستغراب.. أما قُصي شهق بدهشة هاتفًا
” الهرم !! ”
أومأ كريم ساخرًا
” عادي يعني الراجل حب يروق على نفسه ”
رد قُصي و عيناه تعكسان خطرًا كبير كالموج قادم ليغرق الجميع..
” أقصد الهرم نفسه.. أهرامات الجيزة الثلاثة ”
تساءل رحيم في تعجب
” و إيه اللي دخل الأهرامات في الموضوع ! ”
أجاب قُصي وهو يستدعي النادل ليحضر له ورقة أو كراس..
” كده كل حاجة بقت واضحة زي الشمس ”
أخذ قُصي ورقة بيضاء كبيرة، ثم بدأ برسم مخطط وهو يشرح لهم بدقة و مهارة..
” اللواء عزمي و الماسونية و النجمة اللي على كتفه و الرهائن و الريس الكبير و الهرم.. دول كام نقطة عندنا نعتبرهم جوا متاهة لكن في آخر المتاهة مخرج بيوصلهم لحاجة واحدة بس.. يعني كل النقاط دي مشتركين في حاجة واحدة وهدف واحد عاوزين يوصلوا ليه.. و الهدف ده هنعرفه دلوقت.. ”
كان يشرح و يتكلم بالورقة و القلم أمام أعينهم جميعًا، و هم يستمعون باهتمام شديد لما يقوله، ليردف وهو يرسم مربع كبير يضع فيه أكثر من دائرة صغيرة و يكتب داخل كل دائرة كلمة..
” نبدأ الأول بالبافوميت.. البافوميت .. رمز عبدة الشيطان الموضح قدامكم ده..
كان يرسمه أمامهم و يكمل شرحه..
“أشهر رموز عبدة الشيطان ، وهي دائرة بداخلها نجمة خماسية زي ما أنتم شايفين كده و غالبًا دي نفس النجمة اللي على كتف اللواء..
بيظهر داخلها رأس كبش وهي ترمز إلى الشيطان و إلوهيته.. معنى كده إنهم مش جماعة خيرية بتنشر التعاون و الأخوة زي ما بيدعوا.. دول بيعتبروا الشيطان هو الإله بتاعهم..
قاطعه أحد الضباط متسائلًا
“عشان كده أخدوا رهائن بشرية عشان تتقدم قرابين للشيطان زي ما اللواء قال ؟!”
” بالضبط.. و دي نقطة حلوة في صالح اللواء إنه ساعدنا فيها..”
تساءلت الضابطة نيرة بتعجب
“يعني اللواء ساعدنا أهو ! اومال إيه بقى ؟!”
رد قُصي بهدوء
“اصبروا و هتفهموا كل حاجة..اللواء ساعدنا آه لكن ضلل عننا الجزء الأهم و ده اللي هنكتشفه دلوقت..”
تابع وهو يشرح على الورقة بدقة
” رجال الماسونية اشتهروا بالكفر والشذوذ الجنسي.. اللواء كانوا عنده حق لما قال إن أحد مساعدين الريس بتاعهم و اللي يعتبر دراعه اليمين بيميل للمثلية و بيدور على شاب وسيم يقضي معاه ليلة الاحتفال بتاعهم
.. نيجي للكبش اللي داخل النجمة.. ركزوا معايا هنا بالتحديد..
من الجدير بالذكر أن الكبش كان مقدس عند الفراعنة، حتى أنهم اتخذوه إلهًا يُعبد..
أشهرهم كبش منديس، وكبش خنوم، اللي الفراعنة اتخذوهم إلهين وكان رأس الكبش يعني عندهم القوة والهيبة ، و تتألف من قرونها بعض التيجان السحرية التي كان يلبسها ملوكهم…
وده معناه أن عبدة الشيطان أرادوا بذلك أن يجعلوا لهم جذورًا قديمة ، وإن كانت تلك الجذور وثنية.. ”
وضع القلم من يده ليوزع بصره على تعابير وجههم المصدومة، ليقول..
” لو ربطنا الهرم اللي اللواء قال عليه بالكلام ده هنلاقي إن الأهرامات كان بيُمارس فيها الطقوس الماسونية.. ”
هتف إبراهيم بدهشة غير مُصدقًا
” يعني اللواء ماسوني !! أحمس ! ”
رد قُصي ضاحكًا
” هو أحمس فعلًا كان من الفراعنة اللي ممكن يكونوا ليهم علاقة بالكلام ده.. بس مش ده موضوعنا.. اللواء لو كان ماسوني مكنش بقى في الجيش المصري.. لأن الماسونية مرتبطة بالصهيونية و الصهاينة أعدائنا من زمن الزمان.. يعني أستبعد إن يكون ماسوني..
قاطعته ” منة” قائلة بلا مبالاة دون أن تنظر له
” ممكن يكون بيساعد الماسونية تدخل مصر تاني عن طريق الأهرامات.. أو ممكن بيكون بيساعد حد و مضطر يعمل كده لأنه ماسكه من الإيد اللي بتوجعه… ”
تأملها قُصي للحظات بنصف ابتسامة ليقول
” لأ طلعتِ بتفهمي.. ”
نظرت له بحنق، فتجاهل نظراتها ليستطرد حديثه بجدية
” نيجي للماسونية و علاقتها بالمصريين.. هل الماسونية دخلت مصر ؟ آيوه..
في الحقيقة يا سادة..
عرفت مصر الماسونية العامة المتبعة فى المحافل الماسونية عند وصول نابليون بونابرت و أسطوله لمصر فى سنة 1798، و كان من مشاهير الماسونيين، وبمساعدة قائد جيشه «كليبر»، أسسا أول محافل الماسونية فى مصر.. و اتعرف بمحفل «ايزيس»، مش بس لتكريم الألهة المصرية، انما لبث رسالة من الماسونيين فى العالم أن الماسونية نفسها من آثار المصريين القدماء.. ”
تساءل كريم وهو يحك شعره حائرًا
” بما إنك عندك معلومات عن الموضوع ده يا قُصي.. تفتكر لسه الماسونية موجودة في مصر؟ ”
برم قُصي شفتيه غير مُتأكدًا، ليقول
” يمكن.. بس فى النصف التانى من القرن الـ20 بعد ثورة يوليو، ابتدا الهدوء يسود المحافل الماسونية المصرية، وبدأ الأعضاء ينسحبون لتوتر أحوال البلاد، الا أن المحفل الوطنى المصرى ظل على نشاطه لغاية ماتوقف نهائى واختفى معه كل ما يمت للماسونية بشكل ظاهر للشعب والسلطة سنة 1964، بعد ما رفضت السلطات المصرية تسجيل المحفل فى وزارة الشؤون الاجتماعية لعدم تقديمهم سجل بأهداف ونشاط المحفل، و علشان كده خروجهم من مظلة قانون الجمعيات الأهلية.. ”
قال كريم رافعًا حاجبه بدهشة
” يعني كان فيه محافل ماسونية في مصر !! ”
أومأ قُصي قائلًا..
” طبعًا كان فيه.. و كان فيه مجموعة من المناضلين و المشاهير بيرعوا الماسونية جوا مصر.. زي سعد زغلول و يوسف وهبي ”
هتف إبرهيم ثانيةً بصدمة
” أحمس تاني مرة.. يوسف وهبي بتاع إشاعة حُب !! ”
“بالضبط.. الفيلم اللي كان فيه سي لوسي..”
قالها ضاحكًا بقلة حيلة ثم أردف..
” دول أبرز الأسامي اللي كانت بتمثل الماسونية في مصر.. مش بس دول.. بعد رفض الناس الماسونية في مصر و بعد مدة من الزمن على سقوط الحملة الفرنسية.. بدأت الماسونية تعود لمصر من تاني و أنشأت كثير من المحافل الماسونية في مصر لتضم كثيرًا من الشخصيات الشهيرة وأعضاء العائلة المالكة والنخبة الاجتماعية والطبقة السياسية والمثقفين والفنانين، ومن أبرز هؤلاء.. كان الخديو توفيق، جمال الدين الأفغاني، إدريس راغب باشا رئيس مجلس شورى النواب في عهد إسماعيل وعدد من الزعماء السياسيين الكبار مثل سعد زغلول و عبدالخالق ثروت وعدلي يكن وأحمد ماهر وفؤاد سراج الدين، ومن الفنانين يوسف وهبي وفريد شوقي ومحمود المليجي، ومن علماء الدين الشيخ المعروف محمد أبو زهرة.. ”
تساءلت الطبيبة شمس و التي بدت في حالة من الذهول و عدم الاستيعاب..
” تقصد من كل الكلام ده.. إن في حد كبير بيحاول يدخل الماسونية مصر تاني لأن الهرم هو المكان الوحيد اللي من خلاله بياخدوا كل الطاقة الإيجابية لاستمرارية نشر عقائدهم.. حد أكبر من اللواء عزمي ليه علاقة بالموضوع ؟! ”
أومأ قُصي بتأكيد
” كده بدأتوا تفهموا اللعبة صح.. إحنا بخروجنا من مصر سهلنا على كبير الماسونية الدخول لمصر و منطقة الأهرامات.. وبدل المهمة بقى في عندنا ثلاث مهمات أهم من بعض.. انقاذ الرهائن و تأمين الاهرامات و القبض على الشخص اللي ورا الليلة دي كلها و تسليمه للسلطات المصرية.. اعتقادي الشخصي إن اللواء عزمي مُسير مش مُخير.. يعني حد هو اللي ماسكه زي العروسة اللعبة و بيحركه زي ما هو عاوز ولو قبضنا على اللواء ممكن يتقتل قبل حتى ما نفكر نوصله عشان ما نعرفش نوصل لحاجة.. و في نفس الوقت لو قبضنا على الريس الكبير اللي عامل الليلة دي كلها وعرفنا مين هو.. احتمال احنا اللي نروح في داهية لأن ده مش في صالح بلدنا.. دول قوة أكبر مما إحنا متخيلين.. قبضنا عليه و على أتباعه هيدخل بلدنا في مشاكل و مش مسموح لينا حتى إننا نعمل كده عشان مفيش تصريح معانا أو إذن من الدولة.. حماية بلدنا تقتضي بإننا نوقف وصولهم للهرم و نقوم بتأمين الأهرامات كويس.. لكن القبض عليهم مش مهمتنا.. ”
قال رحيم في يأس
” أنا مبقتش فاهم حاجة.. يعني إيه المطلوب مننا دلوقت ؟! ”
رد كريم بهدوء
” المطلوب مننا.. إن فريق مننا ينقذ الرهائن و هنستخدم فيها الخطة بتاعت اللواء عزمي.. و فريق تاني ينزل على مصر يأمن مداخل الأهرامات كويس بشكل سري عشان الخبر ميتسربش و يعرفوا بخطتنا.. ”
قال قُصي بموافقة
” كلام كريم مضبوط.. باختلاف حاجة واحدة بس.. ”
رد الجميع بانتباه في صوت واحد عدا منة التي كانت تستمع دون التعليق
” إيـه هي ؟! ”
” إني أحضر المحفل الكبير في لندن مع زعماء الماسونية نفسهم ”
هتف كريم بنفي شديد
” أنت بتهزر !! مستحيل نسيبك تروح هناك لوحدك ”
” أنا هعرف أتصرف.. منة و إياد هيبقوا معايا ”
رد إياد باسمًا
” نحنا ما بنخاف غير من الله يا زلمة ”
أما منة قالت باستخفاف
” رغم إني مش بطيقك بس كله يهون لأجل بلدنا”
” يعني أنا اللي ميت فيكِ.. أنا أقبل العمى و لا أقبلك ”
قالها قُصي بملامح غاضبة، فردت ببرود
” المشاعر متبادلة ”
تساءلت شمس في محاولة منها لتلطيف الأمور
” منة زكية و هتساعدك كويس يا قُصي.. بس عندي سؤال أنا أعرف إن الماسونية جمعية سرية.. طيب ازاي و كل الناس عارفين بيها و عارفين بيعملوا ايه ؟! ”
رد قُصي مُتفهمًا..
” بصي يا دكتورة.. الماسونية معروفة عند الناس، إنها جماعة سرية زي ما قولتِ، بس بيتظاهرون بالمواساة وكرم الأخلاق، والإحسان إلى الفقير، والمسكين، وهم في الباطن يدعون إلى نبذ الأديان، ونبذ الأوامر، والنواهي، و إن الناس يفضلوا على حالهم الأولى، لا إله، ولا رب، ولا نبي، ولا شريعة، ولا شيء، يعني في الباطن هم يحاربون الشرائع، والأوامر، والنواهي، ويبقى الإنسان أخو الإنسان بأنه ابن آدم وبس، مثل البهيمة يأكل، ويشرب معه، ويتعاون معه في هواه بلا شريعة، ولا أوامر، ولا نواهي، هذا في السر، وأما في الظاهر فهم يدعون إلى الأخوة، والتعاون فقط.. عشان كده في ناس كتير بينخدعوا فيهم و ينضموا ليهم.. لكن هما كل شغلهم الشمال في السر.. ”
” هو صحيح الأهرامات ليها فايدة كبيرة عندهم؟ ”
تساءلت بها الضابطة نيرة، فأجاب قُصي بتأكيد
” طبعًا.. أكدت نتائج التجارب اللي عملوها من وجهة نظرهم العقيمة.. أن للهرم قوة خارقة على منح الطاقة ومعالجة عدد كبير من المشكلات الصحية للإنسان، المعتقدات دي ثابتة لدى 90% من الأمريكان الماسونيين، الذين يحرصون بشدة على إقامة الطقوس الماسونية داخل أهرامات الجيزة في غفلة من أفراد أمن وزارة الآثار والمفتش الأثرى المرافق لهم…
صمت قليلًا، ليُتابع..
“من الآخر.. الماسونية هي من نتاج غواية الشيطان وكيده، بل هي تقدس الشيطان في بعض رموزها وطقوس التابعين لها؛ ولكن هذا الشيطان وصف الله سبحانه وتعالى كيده في سورة النساء فقال –جل وعلا-: “إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا.. إحنا بإذن الله أقوى منهم و هيجي اليوم اللي مش هيكون فيه ماسوني واحد على الأرض..”
صمت خيم عليهم جميعًا لدقائق، يفكر كل منهم في الخطر المتجهين نحوه، ليقطع هذا الصمت قُصي قائلًا..
” المحفل التابع للمحفل الكبير في لندن هيقام طقوسه في جبل طريق الموت بعد بكره عند الفجر.. مع بداية شروق الشمس هيتم تقديم جثمان الرهائن الأربعة للشيطان و في نفس اليوم في المحفل الكبير نفسه اللي موجود في لندن هيتم ترسيم زعيم جديد للماسونية اللي بعدها بتكون الخطوة التانية هي ذهاب زعيم الماسونية للأهرامات متخفي في سائح عادي جاي يزور الهرم و معاه مجموعة من التابعين ليه و اللي هيساعدهم في دخول الهرم هو بالتأكيد اللواء عزمي.. و متنسوش إن والدة اللواء ضمن القرابين الأربعة.. يعني بالبلدي كده.. خطفوها عشان تبقى حاجة قصاد حاجة.. لو عزمي منفذش اللي هما عاوزينه هيقتلوا والدته.. لكن لو وافق على التنفيذ.. هتفضل كرهينة عندهم لحد ما زعيم الماسونية يخلص طقوسه في الهرم و يرجع لندن.. يعني إحنا إما ندخل جبل طريق الموت بعد بكره.. لو لقينا والدة اللواء موجودة مع القرابين يبقى اللواء موافقش على التنفيذ، ولو حصل العكس يبقى الجماعة دول في طريقهم لمصر.. فهمتم اللعبة ! ”
أومأ الجميع، ليقول كريم بتوعد
” آه يا ولاد الـ *** ”
قال قُصي وهو ينهض
” حاولوا تناموا شوية، لأن اللي جاي كله خبط و دوشة.. ”
هتف رحيم بسخرية
” هو. حد يجي له نوم بعد اللي سمعوا ده ! ”
“قُصي لازم ينام عشان يعرف يلعب دور سي لوسي كويس”
قالها إبراهيم ضاحكًا، فضربه قُصي بخفة على رقبته قائلًا
” اتلم عشان أنا بغير رأيي في آخر لحظة ”
“يا باشا أعمل أنت سي لوسي و أنا أعمل آراش و نروح نهبلهم هناك..”
” طيب أنت خدت على الشغلانة المهينة دي.. أنا مال أمي أنا !! ”
قالها قُصي في تعصب، فبدا مظهره مضحك، ليضحك الجميع عليه عدا منة التي نهضت قائلة
” طالما خلصنا الاجتماع… أنا طالعة ”
سألتها شمس بعفوية
” طالعة فين؟ ”
نظرت لها منة بلا مبالاة ثم قالت وهي تدير لهم ظهرها و تتجه للمصعد
” هنام ”
قال قُصي في خفوت بنفاذ صبر
” نامت عليكِ حيطة ”
” و أنت الحيطة ”
قالها إبراهيم الذي كان يجلس بجانبه و يرمي بأذنيه معه، فشده قُصي من شعره هاتفًا
” ما تحترم نفسك بقى ”
“و الله أنت و هي شكلكوا هتبقوا من نصيب بعض.. اسمعي مني.. أنا قلبي حاسس”
“ده انتحر قبل ما أكتب عليها.. أنت عبيط”
قالها بضيق، ثم تركهم و اتجه للمصعد هو الآخر ليأخذ قسطًا وفيرًا من الراحة؛ استعدادًا للأيام القادمة..
__________________
“التّناسبُ بينَ الأَروَاح مِن أَقوى أَسباب المحَبَّة، فَكُل امرئٍ يصْبُو إلىٰ مَا يُناسِبُه”
~~~~~~~~~~~~~
بعد أن أوصلت عائشة ” روان و إيناس زوجة والدها ” عادت للبيت و في قلبها مسرة غير طبيعية، شعور أنها فعلت الصواب يسعدها كثيرًا، رغم خجل روان الذي التهم ملامحها السمراء الجميلة و التوتر الذي أحاط بها، لكن الفرحة في عينيها عند ذكر حُب ” سيف ” الشديد و عدم نسيانه لها رغم الأشهر الطويلة التي انقضت في فراقهما، لم تفارق عينيها لحظة، و قد لاحظت عائشة ذلك، بل و أصرت أن تخبر حماتها و زوجة والدها ليصبح الجميع على علم بأمر قصة الحُب تلك، التي ستنتهي بالزواج قريبًا كما خططت تلك المجنونة عائش..
كان ” بدر ” في انتظارها عند الباب و عندما طرقته، فتحه للتو وهو يسحبها كالمجرمين في حركة مضحكة ليدخلها غرفتهما متسائلًا في تعجب
” أنتِ كنتِ بتعملي إيه كل ده ! و ليه أمي من ساعة ما جات.. قاعدة مع سيف و كل إما أجي أدخل تقولي خليك دلوقت بتكلم مع أخوك في موضوع خصوصي ! أنتم مخبيين عني إيه ؟! ”
ضحكت عائشة وهي تنزع عنها إسدال الصلاة التي خرجت به، ثم ألقت بجسدها على الفراش قائلة بنظرات فخر
“ياه يا بدر.. لو تعرف قد إيه الشغلانة بتاعتنا متعبة”
” شغلانة ! ليه هو أنتِ بتشتغلي ؟ ”
اعتدلت مكانها وهي تستند بذقنها على يدها قائلة
” آه طبعًا.. هو أنت فاكرني عاطلة عن العمل ولا إيه.. أول يوم كان في الشغلانة انهارده.. هشتغل خاطبة بإذن الله.. ”
قالتها، ثم انخرطت في الضحك مما أثارت استفزاز بدر، فهم بضربها بخفة، و لكنها هربت منه قاصدة الصالة، فأمسك بها من خصرها قبل أن تخرج ثم ألقاها على الفراش قائلًا بغضب مصطنع
“هحبسك في الأوضة يا عائشة لو مقولتيش أمي و سيف بيقولوا إيه جوا”
ظلت تضحك بشدة وهي تقول
” الله.. و أنا مالي بس يا لمبي.. أدخل اسألهم ”
هتف بتعصب
” أنا كل إما أجي أدخل أمي تطردني.. في إيه بيحصل من ورايا ”
“صدق صعبت عليا.. تعالى أنا هحكيلك.. تعالى متعيطش”
قالتها وهي تشير لها بالجلوس بجانبها، وتضحك رغمًا عنها.. فقال في ضجر
” أنتِ بتعامليني أكن أنا عيل صغير ! الله يرحم لما كُنتِ بتقولي لي يا أبيـه ”
قال آخر جملة وهو يقوم بتقليدها بسخرية، فازدادت ضحكاتها السكرية هاتفة
“طيب والله شكلك في اللحظة دي شبه الطفل فعلًا”
همس بقلة حيلة وهي يجلس بجانبها
” طيب اعتبريني طفلك و احكيلي اللي حصل ”
داعبت وجنتيه برقة ضاحكة وهي تقول
“ماما جوا عند سيف بتحكيله اللي حصل و اللي روان قالته، و إن شاء الله هيعمل العملية عشان يروح يتقدم لروان حتى لو محلتوش حاجة دلوقت بس مينفعش يضيعها من ايده.. هو بيحبها و هي بتحبه جدًا و أعتقد والدها هيتفهم الموضوع لما سيف يروح و يشرح ليه ظروفه و يعرفه إنه بيحب بنته و مستحيل يفرط فيها..”
أومأ بدر مُتفهمًا الأمر ليقول
” طيب ليه قافلين الباب ! ”
ضحكت عائشة قائلة
” عشان سيف محروج منك.. عاوز يفضفض مع أمك براحته.. ”
” محروج مني ! امم ماشي.. بس البنت دي شكلها كويسة ”
أومأت عائشة باسمة..
” كويسة جدًا و بنت بميت راجل والله.. وقفت جنبي لما كانت تيته في المستشفى.. لما كنا مطلقين أنا و أنت.. ساعتها كنت حاسة بالوحدة و كنت خايفة و مرعوبة من مواجهة العالم لوحدي.. قابلتها في المستشفى و خدت رقمي بقت تطمن عليا كل يوم.. حتى كان فيه ظابط رخم هناك جار تيته اسمه رحيم بس والدته ست كويسة جدًا، كان بيحاول يساعدني بس أنا مكنتش قبلاه خالص رغم إن والدته ساعدتنا كتير وفضلت جنب تيته في المستشفى، لحد ما جات روان حسيت إن ليا أخت و مش محتاجة لمساعدة أي حد طالما هي جنبي.. ”
تجاهل بدر كل ما قالته، ليلفت انتباه ذكر شخص يعرفه جيدًا..
” قولتِ ظابط اسمه رحيم ! ”
أومأت بتلقائية، فتابع في تعجب
” رحيم عساف ! ”
هزت كتفيها بلا مبالاة
” تقريبًا.. أنت تعرفه ؟ ”
رد مبتسمًا..
“كان معايا في دروس الثانوي هو و كريم”
” كريم مين ؟ ”
“ظابط برضو.. بس ابن أكابر.. كريم اللي أنقذك من اللي ما يتسمى في اليوم اللي خطفك فيه للفيلا.. كريم أبوه كان بيجيب له مدرسين خصوصي في البيت وهو يصمم يجي معانا.. بغض النظر عن إن أبوه كان متسلط لكن كريم شخصيته قوية، بينفذ اللي في دماغه غصب عن أي حد، أما رحيم ده كان واد نكتة… دايمًا بيتظاهر بالغرور لكن من جواه شخص طيب و سهل ينضحك عليه.. واللي يشوفه هو وكريم يقول عليهم توأم من كتر تعلقهم ببعض.. كانوا صحاب جدًا و الاتنين دخلوا نفس الكلية.. بس الأيام بقى قليل لما تجمعنا.. و زي ما أنتِ عارفة.. الدنيا تلاهي”
رفعت حاجبيها في دهشة متسائلة
” يعني أنت تعرف رحيم.. ؟! ”
” بس بقالي زمان مشفتوش.. أقول لك على سر مأنب ضميري لحد دلوقت ”
أومأت بفضول، فقال مُتنهدًا…
” كريم و رحيم أخوات من أب واحد ”
اتسعت عين عائشة بذهول هاتفة
” بتهزر ! ”
“اللواء رياض يبقى أبوهم.. كان بيحب والدة رحيم و تزوجها في السر في السنة اللي أم كريم حملت فيه، والدة رحيم حملت فيه هي كمان.. اللواء وقتها كان ليه صيته و سمعته، و خاف مراته تعرف تفضحه.. جاب واحد صاحبه كان على وشك الموت لأنه مريض قلب.. اشترط عليه يكتب رحيم بإسمه مقابل إنه هيبعت لأسرته وولاده مرتب شهري.. الراجل وافق لأن عياله و مراته كانوا في حاجة الفلوس.. انكتب رحيم بإسم فهمي عساف و مات فهمي بعد ما رحيم تم السنة.. اللواء رياض كان بيزور رحيم و والدته باعتبار إنها زوجة صاحبة و ده ابنه و صاحبه وصى عليهم.. عشان كده كريم ورحيم أكتر من صحاب و اتربوا سوا و دخلوا نفس الكلية.. لكن الاتنين ميعرفوش أنهم من أب واحد..”
تساءلت عائشة في حيرة
” طيب و أنت عرفت الكلام ده منين ؟! ”
“رحيم كان نسى الآلة الحاسبة بتاعته معايا.. و فوت كام حصة في الدرس من غير ما يحضر.. روحت له البيت و كان الباب مفتوح كنت لسه هنادي لكن سمعت صوت زعيق و والدة رحيم بتقول لراجل.. إنه لازم يقول لرحيم الحقيقة لأنه كبر و من حقه يعرف إنه مش أبوه يبقى فهمي عساف و إن هو أبوه و رمت بشوية كلام فهمت منه التفاصيل اللي قولت لك عليها دي.. لكن اللواء رياض وافق بحجة إن مراته خالها يبقى وزير الداخلية و ممكن تسجنهم كلهم.. ساعتها أم رحيم خافت عليه و نفضت الفكرة دي من دماغها.. أنا غصب عني وقفت اسمع كل ده و عملت ذنب و اتجسست بس في نفس الوقت حزنت على رحيم من اللي سمعته و إنه هيفضل محروم من أبوه الحقيقي طول عمره.. و أخوه جنبه طول الوقت و مش عارف إنه أخوه.. في اليوم ده أول ما الراجل اللي كان بيزعق مع أم رحيم خارج.. استخبيت ورا سور البيت.. و يوم ما شفته اتصدمت، لأنه طلع اللواء رياض أبو كريم صحبي.. ده السر الوحيد اللي في حياتي يا عائشة و مأنب ضميري.. مش عارف أروح أقول لهم و يحصل اللي يحصل و لا أسكت و خلاص و يا دار ما دخلت شر.. !”
تحول وجه عائشة للحزن قليلًا لتقول
” الموضوع يزعل فعلًا يا بدر.. بس أنا مش عارفة إيه اللي المفروض تعمله.. لكن رحيم لازم يعرف الحقيقة.. بس مش منك أنت عشان متجبش لنفسك مشاكل من الراجل أبو كريم ده.. خلي حد تاني يعرفه.. ”
فكر بدر للحظات في كلامها، ليقول بأسف
” أنتِ عندك حق.. ”
________________
استخدم ” قُصي ” المصعد متجهًا لغرفته بالطابق العلوي، وعندما خرج منه وجد ” منة ” ترفع هاتف للأعلى في كل الجهات، يبدو أنها تحاول الحصول على إشارة للهاتف..
تساءل قُصي في استغراب
” أنتِ مسلمتيش الموبايل بتاعك ! ”
قالت بنبرة تجاهل وهي ما زالت تحاول التقاط إشارة..
” ما أنت كان معاك موبايل تاني و محدش كلمك.. خليك في حالك أحسن لك.. ”
” أحسن لي ! ”
قالها ضاحكًا بسخرية وهو يقترب منها هاتفًا
” هتعملي إيه يعني !! ”
أنزلت الهاتف من يدها، ثم وضعته في جيبها لتشهر سبابتها الصغيرة أمامه قائلة بغضب
” أبعد عني أحسن لك.. ”
” هو أنتِ معندكيش كلمة غيرها.. يلا على قدك برضو.. شبر و نص.. ”
قالها وهو ييتسم بمشاكسة و يقترب أكثر منها، حتى بدت عليها علامات التوتر، فكورت قبضة يدها لتلكمه مما انتبه لها سريعًا و أنزل قبضتها بسهولة هامسًا..
“ايدك لو اترفعت عليا تاني هكسرها لك..”
دفعته في صدره بقوة هاتفة
” ابعد عني يا *** ”
اتسعت عيناه الجميلة بدهشة ثم دفعها من كتفها ببساطة الصق ظهرها الضعيف في نظره بالحائط، ليقول غاضبًا..
” قصري لسانك معايا و احترمي نفسك ”
تمتم فمها بضيق وهي تحاول الفرار من أمامه
” و أنت تعرف إيه عن الاحترام ”
أمسكها من ذراعها بقوة جعلتها تتألم في صمت، خيفةً أن يشمت بها و بضعف جسدها أمامه، فهو الآن قد تغير جسده كليًا بسبب التدريبات الشاقة التي حرص إياد على جعله يقوم بها باستمرار، فأصبح قوي البُنية و العصب، مفتول العضلات مع قامته الطويلة، بات يشكل رعبًا لأي شخص ضعيف الجسد مثل منة رغم مهارتها القتالية، و لكنها في النهاية أنثى و لا تستطيع مقاومة طرزان الغاب هذا..
” بت اتعدلي كده معايا عشان منزلش بكف ايدي على وشك ”
قالها وهو ينظر في عينيها بصرامة، فلاحظ بضعة دموع تتلألأ فيهما، مما تعجب قائلًا في سخرية
” ما أنتِ عندك دم أهو.. أومال عاملة فيها المرأة الحديدية ليه ! ”
نزعت ذراعها منه، أو هو من قام بافلاته أولًا عندما شعر بضعفها أمامه.. هتفت وهي تفر منه متجهة لغرفتها
” حيوان.. ”
” لو جيت لك هتسعر عليكِ ”
قالها في غضب، فدخلت الغرفة و صفقت الباب وراءه مرددة في خفوت وهي تحاول منع دموعها من الانسياب..
” اهدي يا منة.. اهدي.. اوعي تضعفي قدامه.. أنتِ قوية.. مينفعش أي حد يشوفك ضعيفة.. ”
بينما هو توسط فراشه هامسًا في نعاس
” عاملة نفسها راجل الأوزعة.. ”
_______________
مر يوم بسلام على عائلة الخياط، و عاد الصباح من جديد ليستعد الجميع لعمله..
و في هذا اليوم قرر مُجاهد الذهاب للواء عزمي و عرف أُبَيِّ بالأمر و لم يتردد لحظة في مرافقة والده، بعد رفض تام من والدته، و لكن مع الالحاح الشديد وافق مُجاهد أخيرًا في اصطحاب أُبَيِّ معه..
وصل مُجاهد و معه ابنه للممر السري الذي أصبح اللواء عزمي لا يفارقه و لا أحد يعلم السبب.. قام مجاهد بتقديم نفسه لبوابة الدخول السرية، فقرأت البوابة هويته و أدخلته، فذلك الممر كان يعتبر مكانه يومًا ما، دخل أُبَيِّ برفقة والده وهو يوزع بصره على الممر بدهشة فلأول مرة يكون في نفق تحت الأرض..!
كان اللواء في انتظار مجاهد بصدر رحب و كأنه يعلم بأمر مجيئه.. رحب به في البداية و بولده قائلًا..
” أهلًا مجاهد.. أخيرًا اتجمعنا يا راجل ! ”
رد مجاهد بصرامة..
” ابني فين يا باشا ؟ ”
ضحك عزمي بشدة ثم قال باستخفاف
“واقف جنبك أهو”
هتف مجاهد بنفاذ صبر..
” أنا قصدي على قُصي ”
” قُصي ! لا انسى قُصي.. قُصي بقى بتاعنا خلاص ”
” يعني إيه ! ”
قالها أُبَيِّ في دهشة، فرد عزمي بعدم اهتمام
“قُصي مكانه معاهم.. مش في مصر يا مجاهد”
قال آخر جملة وهو ينظر لمجاهد نظرات ذات مغزى، فانهار الأخير أمامه هابطًا على ركبتيه يتوسله بحسرة..
“بلاش هو يا باشا.. ده مكنش الاتفاق اللي بينا.. خدني أنا و رجعه.. أنا مستعد أعملكم اللي عاوزينه بس رجع قُصي ابوس ايدك..”
نهض اللواء ليقول بلا مبالاة..
” أنت عجزت و راحت عليك خلاص يا مجاهد.. قصي أذكى و أقوى منك بكتير.. و الزعماء هيعجبوا بيه جدًا.. قُصي اتخلق لشيء أعظم مني و منك.. يلا يا مجاهد خد ابنك و امشي قبل ما أغضب.. ”
اقترب أُبَيِّ منه وهو يشهر مسدسه في وجهه هاتفًا بغضب
” فين.. فين.. مكان.. أ.. أخويا ”
نظر اللواء للمسدس بسخرية ثم نظر لـ أُبَيِّ و قال
“كان غيرك أشطر.. يلا يا حبيبي خد بابا و امشوا من هنا..”
في لحظات جاء أمن الممر، فأوقفهم مجاهد قائلًا بقلة حيلة وهو يسحب أُبَيِّ رغمًا عنه
” مفيش داعي.. إحنا طالعين.. يلا يا أُبَيِّ ”
هتف أُبَيِّ في تعصب
” و.. و قُصي !! ”
” متخافش يا بني.. أخوك في أمانة الله.. هعرف أوصل له إن شاء الله.. ”
~~~~~~~~~~~
كان بدر قد ذهب للشركة، و بدل ملابسه بملابس العمل، و بدأ يعمل بجِد و تركيز رغم تشتيت ذهنه في بعض الأوقات بالتفكير في السر الذي أخفاه طيلة تلك السنون التي مضت..
جاء العم عبده من خلفه يثني عليه في العمل و يخبره أن المهندس مرتضى يستدعيه..
اتجه بدر لمكتب المهندس، ليجد المهندس سامح في طريقه يرمقه بنظرات حقد و كراهية لا يعلم بدر ما سببها، و كالعادة تجاهله ليطرق الباب، ثم دخل بعد أن آتاه إذن الدخول..
قابله المهندس بابتسامة بشوشه قائلًا
” عامل إيه في الشغل يا هندسة ”
” الحمدلله يا باشمهندس.. كله تمام ”
” الحمدلله.. حضر نفسك عشان بعد ساعة إن شاء الله جاي لنا وفد فرنسي عاوزين يشوفوا دقة إعادة الصيانة و الفك و التركيب عشان لو عجبهم الشغل هيبقوا شركاء لينا في شركتنا اللي في فرنسا.. ”
تساءل بدر في اعجاب
” حضرتك عندك شركة في فرنسا.. ! ”
“ايوه.. ربنا أكرمني و أنعم عليا بفتح فرع هناك و زوج بنتي اللي بيديره.. هو فرنسي مسلم اسمه مُحمد بس أمين جدًا.. تقدر تقول أكتر شخص بثق فيه.. مش زي البأف سامح.. ياريت ما زوجته بنتي.. بس بتحبه أعمل إيه”
” هو الباشمهندس سامح يبقى زوج بنت حضرتك ؟ ”
أومأ مرتضى بأسف
“للأسف.. بس لو أطول اطرده من الشركة هعملها.. لكن خايف على رد فعل بنتي.. أصلها مريضة سكر زي أبوها”
قال آخر جملة ضاحكًا بقلة حيلة، ثم أردف
” عاوزك تجهز نفسك عشان اللي هيشتغل في الصيانة قدامهم هو أنت.. أنا اخترتك أنت من بين خمسة و عشرون مهندس عندي في الشركة دي عشان أنا واثق إنك هتشرفني قدامهم ”
ابتسم بدر بهدوء قائلًا
” إن شاء الله أكون عند حُسن ظن حضرتك ”
” ماشي يا بدر.. اتفضل أنت ولو لقيت سامح برا ابعتهولي.. ”
خرج بدر ليجد سامح ما زال واقفًا كأنه ينتظر خروجه، بادر سامح بالقول بنبرة غرور
” شايف إن رجلك بقت واخدة على مكتب الباشمهندس ! ”
رد بدر بهدوء
” الباشمهندس عاوزك.. ”
قالها ليَهُم بالذهاب، فاستوقفه سامح و هتف مُتغطرسًا
” الغرور بتاعك ده هيخلي عمرك قصير في الشركة ”
” قول لنفسك ”
قالها بدر وهو يولي له ظهره مُتجهًا لمكان عمله دون الاهتمام به، مما شعر سامح بالإهانة و قرر تنفيذ المخطط الشيطاني الذي دار في رأسه.. قام بالاتصال على السكرتيرة ” سُهى” و هتف في ضيق
” عملتي اللي قولت لك عليه ؟ ”
ردت مع ابتسامة شيطانية
” زي ما طلبت بالضبط يا بيبي.. ”
” طيب يلا دلوقت.. أنا داخل للباشمهندس أشوفه عاوز إيه ده هو كمان ”
” هتيجي انهارده ؟ ”
قالتها بنبرة دلال، فقال ضاحكًا
” ولو مجتش هرتاح عند مين.. يلا سلام عشان محدش ياخد باله.. ”
دلف سامح لمكتب مُرتضى، ليقول الأخير بابتسامة ماكرة
” أنا قررت أرقي زوج بنتي المخلص و انقله فرع القاهرة ”
اتسعت عين سامح بصدمة هاتفًا
” يعني إيه !.. لأ مش ممكن.. أنا مش موافق ”
يعلم سامح جيدًا أنه إذا تم نقله لفرع القاهرة، فهذا يعني أنه جُرد من جميع الترقيات التي حصل عليها سابقًا و أنه سيعمل هناك مجرد مهندس مثله كمثل غيره؛ لذلك رفض و بشدة الانتقال لهناك..
” أنت عارف إن قراري سيف على رقبتي ”
جز سامح على أسنانه بغيظ متوعدًا في ذاته
” هو هيكون فعلًا سيف على رقبتك.. ”
بعد ساعة و نصف وصل الوفد القادم من فرنسا لشركة العبد للسيارات، و بدأ الجميع في حالة تأهب و على أتم الاستعدادات لعرض مهاراتهم في صيانة السيارات الحديثة..
اتجه الوفد برفقة الباشمهندس مرتضى لقسم الصيانة، ليقوم العم عبده بالترحاب بهم، ثم عرض عملهم من قبل العمال و المهندسون عليهم ليتساءل أحد المهندسون الفرنسيون
” هل من أحد هنا لديه أفكار جديدة ؟ ”
كان المترجم يقوم بترجمة كل كلمة يقولها الرجل أو أي شخص من الوفد، فقال بدر بابتسامة هادئة
” إحنا نقدر نجمع بقايا سيارات من أنواع مختلفة و نصنع سيارة جديدة تكون ماركة جديدة و فريدة من نوعها مع شوية امكانيات و تطويرات ندخلها فيها و نطلق عليها اسم و تنزل السوق.. ”
ترجم الرجل كل كلمة للمهندس الفرنسي، فأعجب بالفكرة جدًا، بل زاد اعجابًا بشخصية بدر الواثقة و هو يشرح لهم كيفية عمل ذلك على إحدى النماذج، حتى مرتضى و سامح و جميع الواقفين انبهروا بالفكرة، ليقول مرتضى
” الفكرة جميلة يا باشمهندس بدر، لكن إحنا معندناش إمكانية التصنيع.. ”
قال بدر وهو يقوم بالشرح على النموذج الذي أمامهم..
” أنا أقدر أنفذ الفكرة دي لكن هتاخد مني وقت ”
تساءل مرتضى باهتمام
” قد إيه يعني ؟ ”
” ممكن شهرين إن شاء الله و تستلم مني أول سيارة تم تجميعها من بقايا سيارات الحوادث و السيارات العاطلة عشان تبقى أحدث موديل سيارات في السنة دي و هتفضل محافظة على مستوى الحداثة بتاعتها لسنين قدام.. ”
” موافق ”
قالها مرتضى، ثم قال المهندس الفرنسي باعجاب
” حسنًا، بعد شهرين من الآن سنقوم بزيارة ثانية لنرى ما وصلت له.. ”
أومأ بدر باسمًا..
” إن شاء الله ”
ابدى جميع من في القسم اعجابه بفكرة بدر، ليتساءل أحد العاملون معه..
” أنتِ هتقدر تنفذ الفكرة دي يا باشمهندس ؟ ”
” أنا كنت نفسي أنفذ الفكرة دي من زمان بس مكنش عندي الإمكانيات و الشركة هتوفر لي كل ده، فلازم اثبت إن قد كلامي.. ”
ربت العم عبده على كتفه بثناء
” ربنا معاك يا بني.. أنت قدها و إحنا كلنا في ضهرك لو احتاجت حاجة ”
“طبعًا هحتاجك معايا يا عم عبده”
قالها بدر ثم عاد لعمله الأساسي بعد أن ذهب الوفد و ذهب معه المهندس مرتضى، ليعود كل عامل لعمله الدؤوب..
مرت دقائق على بدر وهو منهمك في عمله، ليتفاجأ بصعود دخان بكثرة من السيارة التي أنهى العمل بها و التي تعود لأحد رجال الأعمال من أصدقاء مرتضى، و لأن تلك السيارة تعتبر هدية ثمينة بالنسبة لصاحبها فعندما تعطلت أحضرها لشركة صاحبه سامح ليقوم أمهر المهندسون بمعرفة العُطل الذي بها، و الذي أشرف بدر بنفسه على صيانتها، حتى أن الجميع يعلم أن تلك السيارة تعز على صاحبها جدًا، و إذا أصابها أي شيء قد يمنع من قيادتها ثانيةً؛ من الممكن أن يصاب بنوبة قلبية، لذلك اعتمد مرتضى على بدر في صيانتها..
______________
صباح اليوم الثاني الذي مر أوله على الكتيبة في فندق سكاي داون..
تجمعوا ثانيةً، ولكن تلك المرة لتناول الطعام علة منضدة كبيرة أمام الغابة خارج المطعم، كما أراد إبراهيم و رحيم و شاركتهما نيرة الرأي..
كانت شمس تجلس بعد تناول الطعام، تنظر بشوق و اشتياق لصورة شخص ما في محفظتها و عينيها ينساب منها الدموع في صمت..
اقترب منها رحيم ليقول بعد أن تعرف على الشخص..
” أنتِ لسه مش قادرة تنسيه يا شمس ! ”
ردت باكية
“مفيش حد بينسى حد حبه بقوة من قلبه يا رحيم”
تبادل كريم و رحيم النظرات المفهومة بينهما أمام الجميع، ليقول رحيم بهدوء
” شمس.. إحنا خبينا عليكِ حقيقة البراء.. ”
رمقته شمس بدهشة و كذلك منة، لتهتف شمس بعدم فهم
” تقصد إيـه ؟! ”
نظر رحيم لكريم ثانيةً، ليحثه الأخير على الحديث..
قال رحيم..
“البراء كان جاسوس بيشتغل لحساب الصهاينة”
تأملته شمس للحظات غير مصدقة ما يقوله، بينما الجميع ينظرون له بعدم فهم يسبقها الدهشة من كم الخونة في مصر.. تابع رحيم
“جثة الشاب اللي عمل حادثة مكنتش للبراء.. إحنا اللي عملنا كده و جبنا جثة متشوهة الملامح عشان متقدريش تتعرفي عليه.. كنا عارفين إنك مخلصة في حبك ليه.. خفت عليكِ لما عرفنا حقيقته عشان كده أقنعت كريم و اللواء نصر اللي كنا ماسكين قضية خطيبك، إننا نخبي عنك الحقيقة.. أنا معايا سي دي عليه كل حقيقته موجود في قسم الشرطة اللي بشتغل فيه في مصر لما نرجع ابقي شوفيه.. البراء للأسف هرب عن طريق باخرة مسافرة الصومال و محدش يعرف عنه أي حاجة لكن لو رجع مصر هيتعدم لأنه صدر فيه حكم الاعدام..”
” أنا.. أنا مش مستوعبة ! ”
قالتها و بكائها يزاد بدهشة و صدمة انتابت ملامحها، فأخذت نيرة تهدئها، بينما منة قالت في تعصب
” كل الرجالة عاوزين الحـرق ”
“و أنتِ منهم”
قالها قُصي ببرود، ثم وجه سؤالًا لرحيم
” هو مش البراء ده باين أخو المرحوم أمير اللي كان عاوز يقتل بنت عمي ! ”
رد رحيم بصمت وهو يواسي شمس التي انهارت من الصدمة
” ايوه.. شمس أرجوكِ اهدي.. ميستاهلش تنزلي دمعة واحدة عشانه.. ”
قالت بحسرة
” ياريتك كنت عرفتني الحقيقة وقتها.. مكنتش هحس بالعذاب اللي حسيته في بعده عني و لا كنت هحس بكل التعب ده.. أنا محبتش حد قده.. ليه كده.. ليه ”
” واحد كان بلطجي و أخوه جاسوس أكيد أبوهم شغال في الموساد.. ده اللي ناقص ”
قالها قُصي قاصدًا السخرية، رد كريم بصدق
” لأ فايز بيه راجل محترم.. بس خيبته التقيلة في عياله.. ”
” اللي بيشيل الليلة كلها في النهاية الأبناء، للأسف كل الآباء فاسدون.. ”
قالتها منة بغيظ حاولت اخفائه، فلاحظه قُصي مما هتف بلا مبالاة
“هو عشان أبوكِ راجل مش كويس يبقى كلهم زي بعض ! لا يا أم لسان أنا أبويا راجل زي الفل”
لأول مرة تشعر منة بجرح كبير في كرامتها و لم تستطيع الرد، فقط اكتفت بنظرات حزينة دامعة ثم انصرفت عندما وجدت أعين الجميع مرتكزة عليها..
نظرت شمس لقُصي بحزن ثم قالت
” قصي مكنش ينفع تقول كده.. منة اتحرمت من أبوها وهو اللي حرمها مِنه، أبو منة اللي هو طليق ماما كانت سكته وحشة.. الخمور و المخدرات كلت دماغه.. القمار خلص على كل فلوسه.. مخلفش غير منة و مامتها كانت علطول في الشغل مش بتروح غير بالليل.. أبو منة كان بيصب كامل غضبه عليها و بيعاملها بقسوة لدرجة ساعات كان بيحبسها ويفضل يعذب فيها عشان يحس بنشوة التعذيب.. أمها هربت منه و بعدها رفعت عليه خلع وبعد سنة تزوجت والدي.. ”
تساءل قُصي في استغراب
” ازاي و منة أصغر منك ؟! ”
” الحقيقة إحنا مش أخوات.. إحنا زي الأخوات.. والدة منة عاملتني زي بنتها و أكتر، لأن ماما توفت بعد ولادتي بشهر، و دادة يسرية هي اللي ربتني و توفقت بعد ما كملت تسع سنين.. بابا مرضاش يتزوج.. خاف عليا يتزوج واحدة تطلع مش كويسة.. بس لما كبرت أصريت عليه بالزواج و اتعرف على أم منة و كانت خير الأم لنا احنا الاتنين، فكل الناس فكرونا أخوات.. منة للأسف عاشت طفولة سيئة جدًا بسبب والدها حتى أنه..
قاطعتها منة سريعًا و هي قادمة نحوهم ثانيةً، فقد أخبرها قلبها أن شمس ستبوح لهم بالسر الكبير..
” شمس ممكن تيجي شوية ؟ ”
نهضت شمس وهي تمسح دموعها قائلة
” استأذن دلوقت.. قُصي لو سمحت اعتذر لمنة و متحاولش تجيب سيرة أبوها تاني ”
أومأ قُصي بندم حقيقي و تأثر لما سمعه، فقال إبراهيم وهو يصطنع التأثر
” أبوس ايديك كفاية.. منديلي مش معايا ”
دفعه قُصي بالكرسي فوقع من عليه مما ضحك الجميع بعد أن خيم الحزن عليهم لدقائق..
التفت قُصي لنيرة ليقول وهو يتأمل جمالها
” تشربي ايه ؟ ”
قالت ضاحكة منه، فقد بدا يروق لها كثيرًا رغم أنه يصغرها بثمان سنوات..
“فرابيه ميكاتو سكيمد ميلك ستافت كراست ”
نظر لها قُصي ببلاهة للحظات، ثم قال
“لا والله لازم تشربي حاجة ”
“منا قلت.. فرابيه ميـ…
قاطعها بتعصب مصطنع
” نيرة.. قلة أدب مش عاوز ”
” أنت بتقول ايه ؟ أنت عارف الأول أنا طلبت ايه ؟! ”
” ما تقولي من الآخر إنك نفسك في شاي باللبن ”
هتفت بدهشة
” أنا طلبت شاي باللبن ! ”
غمز لها بغرور
” عيب.. ده أنا أفهمها وهي طايرة ”
” لا أنا هقوم أحسن أقعد مع منة و شمس ”
قالتها ثم نهضت ضاحكة منصرفة من أمامهم، ليقول إبراهيم وهو يأخذ كوب العصير من أمام إياد و يشربه..
” بما إن انهارده يوم الأسرار العالمي و كلكم اتفضحتوا.. فأنا هقول لكم سر عني..
و أنا صغير كنت لما بدخل الحمام بقول اللهم إني أعوذ بك من الخبز و الخبائز ومكنتش فاهم هما بتوع أفران العيش عملوا إيه في حياتهم علشان نستعيذ منهم.. ”
نظروا له جميعًا وعلى وجوههم علامات الضحك المكتوم فكل شخص يفكر في أمر ما و هَم ما، لينفجروا جميعًا ضحكًا رغمًا عنه.. هتف كريم وهو ينظر لهم بسخرية
” أنا بقول نلم نفسنا و نروح مصر بدل ما نجيب لها العار ”
في تلك اللحظة وصلت لهاتف قُصي رسالة من مجهول بها رقم ستة مكتوب ثلاث مرات بالإنجليزية..
تأمل قُصي محتوى الرسالة الذي لم يوجد به سوى هذا الرقم، ليسأل نفسه بعدم فهم
” يعني إيه !.. لأ.. أكيد مش اللي في بالي ! “
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)