رواية يناديها عائش الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الخامس والثلاثون
رواية يناديها عائش البارت الخامس والثلاثون
رواية يناديها عائش الحلقة الخامسة والثلاثون
أنَا بخَير ؛ مَآ دُمتْ أستَطيعُ أنْ أسجُد لله.2
***
اقترب بـدر من غرفة شقيقه بهدوء وهو يسمع صوت همهمات.. حاول أن يسترق السمع خوفـًا من أن يكون حدث شيء لأخيـه.. وبعد لحظات من وضوح الصوت، اتسعت عين بـدر بذهول.. طرق على الباب بفزع هاتفًا1
–سيف.. سيف افتح الباب… سيـــــف1
كان سيف في أصعب حالاته المزاجية، لقد وصلت به المرحلة أن يُفكر في الانتحار، أدت حالته الصعبة لإنهياره تمامًا وفقدانه الأمل في كل شيء؛ لذا طوعت له نفسه وساقته لارتكاب حماقة سيندم عليها فيما بعد.1
لم تصل نداءات بدر المُترجية لآذانه؛ لضياع عقله وفقدانه السيطرة على نفسه، فأخذ يُحطم كل شيء في غرفته بجنون وهو يصرخ “روان” وتارة يصيح ببكاء ” ليـه يارب ليــــه ” ظل في صراع مع نفسه حتى انزلق جسده من جنونه وتهوره ووقع مغشيًا عليه.1
لم تكن مفاتيح جميع الأبواب مثل بعضها، كما في بيت عائشة؛ لذلك لم يستطيع بدر فتح الباب فلجأ لصلابة جسده وظل يدفع بأكتافه الباب أكثر من مرة، واستخدم قدميه في الدفع بقوة وكانت عائشة تقف بالقرب منه تتابعه بخوف وقلق شديد على هيئة بدر المذرية، لقد ضاقت به الأرض من كل شيء وأشفقت عليه من كم المصائب التي تتوالى على رأسه، فمرّ من أمام عينيها شريط افعالها السوداء واستهزائها به، مما انهارت باكية هي الأخرى حزنًا عليها وغضبًا من معاملتها له، الآن أجبرت عنادها وكبريائها للخضوع والاعتراف بالهزيمة أمام الحُب، اعترفت لنفسها أن بدر لا يستحق كل ما يحدث له، لا يستحق سوى الرأفة بحاله والمعاملة الحسنة.2
اقتربت منه ولامست يديه بخوف من عصبيته البالغه، ولأن بدر لم يكن في موقف جيد أو لم يكن متزن العقل حينها، قام بدفعها عنه دون وعي منه، فانزلقت قدم عائشة ووقعت على الأرضة متألمة، انتبه بدر لما فعله وبلهفة وخوف عليها انحنى ليحملها ويضعها على الأريكة المقابلة له وهو يهتف بأسف2
“عائش.. حبيبتي.. آسف.. مكنش قصدي.. والله مكان قصدي”4
طمأنته عائشة باحتوائها لوجه برفق هامسةً
“مفيش حاجة.. أنا كويسة.. شوف سيف”
أومأ بدر متجهًا؛ للبحث عن أي شيء يكسر به الباب.. قالت عائشة بعد تفكير
–بدر.. أنت ممكن تطلع فوق السطح وتنط في بلكونة سيف هيبقى سهل تدخل من باب البلكونة
تأملها بدر للحظات يحاول استيعاب الأمر، و هرول للسطح لتنفيذ فكرتها فتبعته عائشة خوفًا عليه.. تفحص بدر الأمر من فوق السطح تحديدًا الموقع الذي يطل على غرفة سيف، وجد أنه من السهل عليه بمرونة جسده أن يقفز لشرفة الغرفة، كانت عائشة ترتعد من الخوف وتدعي الله سرًا بأن تجري الأمور على خير، قفز بدر للشرفة واستطاع بسهولة فتح النافذة، والتي لم يتم اغلاقها جيدًا.. صعق من رؤية شقيقه مُلقي على الأرض والغرفة منقلبة رأس على عقب.. قام بدر في الحال بحمل سيف ووضعه على الفراش ثم جاء بالماء ليوقظه وهو يبتلع ريقه بخوف وقلق شديد انتبانه.. لحظات وفاق سيف وبدأ يعود لحالة الصرع والجنون فأخذ يضرب بدر بحركات طائشة وهو يصرخ كالأطفال ويبكي مرددًا
“ابعد عني.. ابعد عني.. عايز أموت.. تعبت.. والله تعبت”2
أخذه بدر في أحضانه مُربتًا على ظهره بحنان لتهدئته، فلف سيف ذراعيه حول بدر يضم نفسه اليه أكثر كأنه وجد ضالته، كان مشهد مأسوي وحزين للغاية.. قال بدر بعجز والدموع تملأ عينيه
“عايز تموت و تسيبني يا سيف.. عايز تكسر ضهري يا قلب أخوك.. ده أنا فداك.. والله العظيم فداك..”3
عاد سيف لانهياره فدفع أخيه بضعف صائحًا
–أنت لو بتحبني مكنتش روحت اتجوزت وسيبتني.. أنت فضلت عائشة عليا.. أنت بتحبها أكتر مني.. وهاجر هتجوز وتسيبني عشان بتحب زياد أكتر مني.. و روان.. روان هتروح لغيري.. و.. وتسيبني.. أنا لوحدي.. هعيش و أموت لوحدي.. حتى الحُب مليش نصيب فيه.. أنا هموت نفسي وارتاح.. عـــــايز ارتــــــــــــاح.1
بدا بدر مشتت العقل تمامًا، لا يدرِ ماذا يفعل، كأن عقله وتفكيره سُلب منه فلم يعد باستطاعته التفكير بعلاج لما يحدث حتى المواساة لا يقدر عليها.. ظل واقفًا يشاهد اخاه وهو يهذي ويبكي و ينتحب كأنه يلفظ انفاسه الآخيرة.
كانت عائشة تقف عند الباب تراقب كل ما يحدث بحزن شديد خيم على ملامحها الجميلة، رغم عنادها وكبريائها إلا أنها تمتلك قلب عاطفي حنون جدًا، لم يظهر إلا بعد أن انتصرت على عجرفتها.. المثل يقول فاقد الشيء لا يعطيه، والحقيقة أن تلك المقولة ليست صحيحة مائة بالمائة ولكل قاعدة شواذ أحيانا نتعامل مع مقولات كأنها أبجديات نحكم بها خطأ على الكثيرين، أو قوانين نبني عليها قراراتنا فنخطأ أحيانا بحق من نطبقها عليه، من هذه المقولات “فاقد الشئ لا يعطيه ” فقد توارثنا هذه المقولة، واعتدنا أن نكررها دائمًا و تجاهلنا أن لكل قاعدة شواذ، ففاقد الشيء قد يكون هو أفضل من يعطيه، يعطيه ببذخ .. لأنه أدرى البشر بمرارة فقدانه. فمن فقدوا الحنان والعاطفة هم أقدر الناس على منحها، وعائشة فقدت الحنان من والديها من صغرها؛ لذا ستجبرها الظروف ألا تتعامل بقسوة مع أحد وإن كان الأمر يخص بدر، فلنعتبر الأمر تصرف طائش ناتج عن رفقة السوء والانخداع بالمظاهر دون الانغماس في الأصل والجوهر، والآن ظهر الحق وتلاشت تلك الغمة التي أعمت قلبها، لتعترف لنفسها أنها تُحب بدر، نعم هي تحبه وتحب رقته وحنانه معه ولا يستطيع قلبها انكار ذلك..2
أشفقت على ما وصل اليه سيف رغم أنها تعلم مدى كُره لها، ولكن لا الوقت ولا التوقيت يسمحان للتدلل مثل الصغار والغضب مما قاله لبدر؛ لذلك تدخلت لتقول بعقلانية وتفكير صائب حين رأت بدر واقف يطالع أخيه بعجز وقلة حيلة
“سيف..”
نظر لها بدر بعدم توقع لما ستقوله وكذلك سيف، تابعت
–مش معنى إن بدر بقى مرتبط ببيت تاني وكذلك هاجر إنهم مبقوش يحبوك.. بالعكس اخواتك لو طالو يجبولك نجمة من السما مش هيتأخروا.. اخواتك قلبهم عليك وخايفين عليك جدًا و بيحبوك.. بدر مش بيحبني أكتر منك ولا حاجة.. بس لو نيجي للكلام بعقل.. أنت ما شاء الله عندك أم وعندك اخوات.. أنا يتيمة يا سيف مليش حد.. مليش غير بدر هو الوحيد اللي حسسني إني اتحب وإني مش وحيدة هو اللي انتشلني من صحابي اللي مش كويسين.. الحقيقة أنا مليش غيرو.. لكن والله هو بيحبك أكتر مني.. هو اللي مربيك.. بيعتبرك ابنه مش اخوه.3
رقّ قلب سيف لكلماتها وأخفق قلب بدر عشقًا لها، فابتسم في نفسه لانقاذه من موقفه العسير مع شقيقه، ودّ لو أن يأخذ لعناقًا طويل يزيل به كل ما خلفته عواقب الأيام والمواقف الصعبة في نفسه.
غمغم سيف بيأس
–حالتي ميؤوس منها يا عائشة.. فكرت في الانتحار كذا مرة.. أنا عاوز أموت.. عاوز ارتاح1
تنفست عائشة بعمق ثم قالت بهدوء كأنها تحدث نفسها، فهي أيضًا داهمتها تلك الفكرة السوداوية أكثر من مرة.
— عايزه تنتحر ليه يا سيف ؟
–مش شايفه حالتي يا عائشة !
–اديني سبب مُقنع أرجوك
–حالتي مش كفايا ! إن ابقى عاجز مش كفايا !
–عايز تعترف بالهزيمة ؟ بتحب الخسارة يا سيف؟
–مين فينا بيحب يبقى ضعيف.. مين بيحب يخسر
–قاوم.. اتحمل.. خوض الحرب وانتصر.. اصبر.. أنت قد اختبار ربنا ليك.. مش هكلمك عن مصير المُنتحر ولا عن الجنة والنار.. بس جاهد يا سيف.. الحياة تستحق اننا نعافر لحد ما نحقق حلمنا وطموحاتنا ونثبت للكل ولنفسنا أولًا اننا مش ضعاف.. قاوم.. أنت قد البلاء.. ادخل تحدي مع نفسك.. و اطلع منه كسبان.. بايدك تخلي حياتك جنة وبإيدك تخليها جحيم.. ربنا اداك عقل وحطك في اختبار.. شوف بقى هتخوض الاختبار وتنجح فيه ازاي.. قبل ما تفكر في أيّ حاجة فكر في العواقب.. هتكون النتيجة ايه.5
ساد الصمت لدقائق كانت عائشة تتنفس بهدوء راضية عما قالته لسيف ولنفسها في ذات الوقت، بينما بدر لم يرفع عينه من عليها وهي تتحدث، كان يتأملها بدهشة وحُب، اندهش من عقلانيتها ومنطقيتها في الحديث وكلامها المقنع والمحفز لأي شخص، أما عن نظراته الحُب لها فهو دائمًا هكذا، يطالعها بحُب.
استطاعت كلمات عائشة التي وقعت آثارها كالبلسم على مسامع سيف أن تعيده لرشده وتعطيه دافعًا للمواجهة والتحدي كما ذكرت له.1
عاودت عائشة سؤاله بمداعبة تود أن تشاكسه لتخرج مما فيه
–أظن بعد اللي قولتهولك ده انت معتش بتكرهني.. !1
بإيماءة وابتسامة صافية قال
–سامحيني يا عائشة أنا آسف
قالت باسمة
_أنت في مقام اخويا يا سيف و اتربينا مع بعض من صغرنا على اننا اخوات.. المهم قولي مين بقى روان دي ؟
شعر سيف بغصة في حلقة فسكت قليلًا قبل أن يقول
–البنت اللي بسببها أنا بقيت عاجز
فتحت عائشة عينيها بصدمة متسائلة
–هي السبب ازاي ؟؟
قصّ لها كل ما حدث بينه وبين روان فصمتت لدقيقة تذكرت فيها هجوم أمير واصدقاءه عليها، فأدمعت عيناها وقالت بصوت خافت
–أنت غلطان يا سيف.. بنات الناس مش لعبة ولا تسلية في ايديكم
هتف سيف بمدافعة
–عارف اني استاهل بس والله ندمان.. أنا محستش بقيمة روان غير اما اختفت من حياتي.. مكنتش اعرف اني هحبها و هحتاجلها كده.. أنا عايزها يا عائشة عايزها بأي طريقة.. ساعديني2
تدخل بدر متسائلًا
–لما اخدت كراسة الرسم منك لقيت فيها شخابيط و حرف السين والراء.. الحروف دي بتشير لأساميكم صح ؟1
بنفي أجاب سيف
–لأ.. كنت بكتب أول حرف من اسمها وأول حرف من كلمة سامحيني.. عارف هي لو قالتلي مسمحاك يا سيف والله العظيم قلبي هيرتاح وهقاوم مرضي وهتحدى أي حاجة صعبة هتقف في طريقي عشان اكمل حياتي.. بس هي تسامحني1
تبادلا بدر وعائشة النظرات للحظات كأنهما يفكرانِ في نفس الأمر.
تساءلت عائشة
–عارف عنوان بيتها أو رقمها ؟
أومأ سيف وقال بحزن طاغي
–أنا.. أنا عرفت انها هتتخطب
“عرفت منين وازاي ؟”
سأله بدر، فأجاب
–هو.. الصراحة.. لما استأذنت منك أنا وقصي انهارده عشان نُخرج.. كنت عاوز اعدي من قدام بيتها لعل وعسى تشوفني واقدر اتكلم معاها واخليها تسامحني.. بس مكنتش اتوقع إن الاقي شاب نازل من عندهم.. شكله حلو ومتشيك زي ميكون رايح يتقدم لواحدة.. ايه اللي هيجيب واحد زي ده لبيت روان.. إلا اذا كان جاي يخطبها !1
أردفت عائشة
–وهي وافقت ؟
هز رأسه بنفي
–معرفش
قالت
–أنت ليه بتسبق الأحداث.. الله أعلم الشاب ده كان بيعمل عندهم ايه.. مش يمكن مثلا قريبهم وبيزورهم.. سيف خليك متفاءل وتوقع الخير
تنهد بدر قائلًا بأسى
–سيف.. اسمع الكلام اللي هقولهولك ده وافهمه كويس.. حياتك مش هتتغير للأحسن غير لما أنت تقرر ده.. لازم يكون عندك ارادة تكمل حياتك بشكل أحسن زي ما قالت عائشة… العجز الحقيقي هو الكسل.. اللي يبقى متاح عنده كل حاجة وقاعد محله سر مبياخدش خطوة واحدة لقدام.. أنت مش عاجز أنت مُبتلي واللي بيصبر على الابتلاء أجره عظيم عند الله.. اذنبت استغفر وتوب وارجع لربك.. واللي فيه الخير ربنا يقدمه دايمـًا.. سيطر على قلبك وعقلك وطلعها من حياتك وبص لنفسك.1
“هو في حد بيحب حد، يعرف ينساه ! ”
عجز بدر عن الرد، فبماذا سيجيبه وهو حاول مرارًا اخراج صغيرته عائش من قلبه ولم يستطيع !
ولكن هذا حال العاشق، قد يصل به الأمر لاضطراب في العقل يدعى “التدلية” حتى ينتهي بالهيوم أعلى مراحل الحُب، حيث يهيم المحب على وجهه كالمجانين، وهُنا لا يستطيع النجاة.
“آه تقدر تنساها”
جذبت عائشة الانتباه ثانية بعقلانيتها وانقذت بدر للمرة الثانية، مردفة
“لو حطيت ربنا قدام اي حاجه في حياتك، هتنسى الدنيا باللي فيها وهيبقى ذهنك صافي ومرتاح البالي وهتعرف تعيش الحياة صح، متستغربش إن أنا اللي بنصحك، بس دي الحقيقة اللي العاصي والتائب والمستقيم مؤمنين بيها، احنا ولا حاجة من غير رحمة ربنا بينا ورضاه وستره علينا”1
للمرة الثانية ايضـًا يبتسم بدر من قلبه ويزداد اعجابه ودهشته بحديثها الغير متوقعة بالمرة.
أخفضت سيف رأسه بخزي من نفسه، فربت بدر على فخذه ليقول
–أنا هبيع الورشة واستلف واسفرك تعمل العملية
“لأ.. مش مسافر ولا عامل حاجة”
قالها سيف بنفي شديد وتصميم، فسأله بدر عن السبب.. أجاب
–مش عاوز احملكم فوق طاقتكم.. ارجوك يا بدر سيبني على راحتي.. أنا هفضل هنا و امارس حياتي بشكل طبيعي وهتحدى اي حاجة.. أنا.. أنا الدكتور سيف الإسلام محمد الخياط مفيش حاجة في الدنيا تقدر تهزمني.. طول.. طول ما ربنا معايا.. وأنا هجاهد معصيش ربنا تاني2
اتسعت ابتسامة بدر وتلاشى حزنه وبدأ قلبه بالانشراح من قول اخيه والفضل يرجع لعائشة بسبب كلماتها المحفزة والداعمة له.2
****
انصرف جميع المدعون في كتب كتاب هاجر وزياد؛ لبيوتهم.. بعد تلك الضجة التي احدثتها نورا فتسببت بصدمة للجميع جعلتهم ينظرون اليها باحتقار و تقزز.1
صاح مصطفى والغضب يعج عينيه
–البت دي متقعدش في البيت ثانية واحدة.. غوري من بيتي مشوفش وشك مدى الحياة1
هتفت والدتها بترجي وبكاء
–لا يا مصطفى عشان خاطري.. هي غلطانه وتستاهل قطم رقبتها بس دي بنتنا برضو.. الضنا غالي يا مصطفى
صرخ مصطفى وهو يوزع نظراته المنزعجة والغاضبة عليهم
–واللي عملته في عيال اخويا ده ايـــــه ؟؟ دي فضحتنا وجابتلنا العار2
صاحت نورا بغيرة وهي تبكي
–العار ده هما اللي جابوه للعيلة.. انا مضربتهمش على ايديهم وقولتلهم امشوا في الحرام2
“صفعة أخرى اخترقت خدها من والدها اخرستها على الفور، ليقول بنبرة تحذير قاتلة1
–أنتِ ليكِ عين تتكلمي.. اما أنتِ بجحة صحيح.. والله والله يا نورا لو لسانك جاب سيرة بدر ومراته ولا أي حد من ولاد عمك بالغلط؛ لأكون قاطعهولك.. سمعتي
نظرت لهم نورا باستشاطة واغتياظ ثم هرعت لغرفتها و صفقت الباب وراءها بقوة، فبصق والدها بغضب قائلًا
–تربية ناقصة..1
ثم التفت و صاح بالبقية
–البت دي تسيبوها زي الكلبة كده في الاوضة.. لحد يخش عندها ولا تكلموها.. خلوها تحس بالوحدة و تعرف إن مفيش واحد فينا هيقف معاها في الغلط.. خلوها تتعلم الأدب اللي أنا معرفتش اعلموهلها.. منها لله سمعتنا بقت زي الزفت قدام الناس1
كانت زوجته تبكي بحسرة على ما اصابهم في فرحتهم التي لم تكتمل، بينما والدة بدر جلست على المقعدة تطلع على العدم بشرود والدموع تنساب من عينيها كأنها عجزت عن الكلام وكذلك هاجر التي ظل جسدها يرتعد ويهتز بخفة من شدة حزنها ولأول مرة لم تبكي، كان الحزن يأكل قلبها كالنار التي تأكل البيوت من الحريق دون أن تبدي أي ردة فعل خارجية، ولم يشعر بذلك الحزن العميق إلا والدتها التي خافت عليها من أن يحدث لها شيء يصيبها فوق علتها ولكن قلبها اطمئن حين رأت اهتمام وخوف زياد الشديد على ابنتها.
جلس قصي على الدرج بالخارج، والحزن والصمت يخيمان عليه، كان يجاهد في محاولة التحكم بالصوت والملامح لإخفاء مشاعر الحزن والألم الذي يكاد يطغى ويطفو على قلبه لتجسده الملامح.2
“مالك.. مبوز ليه مش عادتك يعني تقعد لوحدك حزين كده ؟”
قالها أُبي وهو يهم بالجلوس بجانبه
رد قصي بخفوت
–مفيش
“على اخوك ؟ اتكلم في ايه؟”
تنهد قصي ليردف
–أنا زعلان اوي على سيف.. مكنتش اتوقع يوصل للحالة دي.. مش قادر اشوفه كده.. أنا بهزر واضحك قدامه عشان احسسه انه طبيعي ومش مختلف عننا واصابة وهيشفى منها.. بس أنا بجد مهموم عشانه.. نفسي اساعده بأي شكل1
تأمله أُبي مبتسمـًا بصفاء، فهو يعلم أن شقيقه يمتلك قلب رحيم حنون بالجميع رغم جنانه الذي لا ولن يستطيع التخلي عنه.
قال أُبي في محاولة منه ليواسيه
–هيبقى كويس بإذن الله.. هي مسألة وقت.. ربنا يشفيه.. شيء جميل منك إنك تكون زعلان عليه وشاغل بالك بيه.. ادعيله يبقى كويس
بإيماء أجاب قصي
–هيبقى بخير.. ربنا لطيف
لحظات ورن هاتف قصي، فستأذن من شقيقه ليجيب
“ايه يا مزة قلبي ومزة البلاد المجاورة”5
فتح أُبي فمه بصدمة واتسعت عينيه بذهول من تحول قصي المفاجئ.. هتف وهو يضرب كفـًا بكف
–انفصام.. وربنا عنده انفصام1
_____________♡
كان نَزار قباني مُحقًا حيّن قال:
“إذا لم يزيدك البُعد حُبًا فأنتَ لَم تحِب حقًا1
****
أجلس زياد” هاجر” في مكان هادئ بالحديقة بعيدًا عن العراك والضوضاء، ثم ناولها كوب المياه فارتشفت القليل و مسكت الكوب بيدها لتقول بنبرة يتخللها الغُمَّة وهي تنظر امامها بشرود
–بدر ايوه غلط.. بس بينه وبين ربنا.. ليه العبد اللي ربنا ساتره شياطين الإنس بتتعمد تفضحه.. هو احنا ملايكه ! كلنا بنغلط.. ربنا وحده اللي هيحاسبنا.. احنا علينا النصح بس.. بدر ميستاهلش كل ده.. ولا عائشة.. عائشة مش وحشة.. هي يتيمة ملهاش حد يوجها صح.. احنا اللي غلطانين.. انتم جيتوا عليها جامد من غير متفهموها غلطها.. من صغرها لما بتغلط كنتوا بتعقبوها وتشتموها وتسمعوها كلام زي السم من غير متفهموها الغلط براحة.. وهي طفلة كنتم بتعاملوها بقسوة.. ليها حق تتمرد وتعمل اكتر من كده.. جربتوا تعاملوها بحب..! جربتوا تحتوها !1
–هاجر.. أنا ..
–أنت ايه يا زياد !!.. عمي مصطفى وعمي مجاهد كانوا بيعاملوا عمي محمود الله يرحمه وحش بعد ما اجدادنا ماتوا عشان كده اتمرد على العيلة.. كذلك عائشة.. انتوا السبب وأنت كمان يا زياد معاملتك ليها كانت وحشة جدًا.. ربنا هيحاسبكم على كل ده
جث زياد على ركبتيه بضعف أمامها بعد أن أخذ منها كوب الماء ووضعه جانبـًا، قال بأسف
–أنتِ معاكِ حق في كل كلمة قولتيها.. أنا مش مستوعب نورا ازاي جاتلها الجرأة تعمل كده
“عشان اتربت على كده.. جات الدنيا لقت ابوها بيعامل عمها وبنته كده.. مش ده الصح يا زياد !”1
قالتها هاجر بنبرة ساخرة، لقد طفح بها الكيل هي الأخرى فلم تستطيع منع لسانها من قول كل ما يملأ قلبها غضبًا تجاههم.
مسح زياد على وجه بتوتر وغمغم
–حقكم عليا أنا.. بس.. بس بالله عليكِ متخلي اللي حصل ده يأثر على علاقتنا.. هاجر أنا بموت لو بعدتي عني.. بالله عليكِ متفكري في البُعد
“أنا بحبك يا زياد”2
قالتها بصدق وتابعت
–أنا مش هسمح لأي حاجة تمس علاقتنا.. المشاكل بتحصل وهتفضل تحصل.. دي حال الدنيا.. الحُب بيقوي ويخلينا نتخطى المشاكل دي مع بعض..الفراق للحب اللي اتبنى على الخداع والغش.. واحنا حُبنا مُقدس يا زياد
قبْلها زياد من باطن كفيها بعمق ونهض ليجلس جانبها قائلًا
–يا أغلى حاجة امتلكها زياد.. زياد يهون عليه الموت ولا إنه يبعد عنك ثانية.. أنا مجنون بيكِ يا بنت عمي1
ابتسمت بخجل و نهضت قائلة
–أنا هاخد ماما ونمشي بقى.. الوقت اتأخر ومحتاجين نرتاح شوية
–زعلانه مني ؟
–طول محنا متفاهمين..الزعل هيختفي مع أول ضحكة منك
تأملها زياد للحظات مبتسمـًا بعشق ثم اقترب و قبْلها من جبينها ليبتعد قليلًا وهو يحتوي وجهها بحنان هامسـًا
— في كُل مرة ببص لعيونك فيها، بحس إن الدنيا بخير.
صمتت لبرهة تبادله النظرات بمُصَافَاة و هُيـام، قطع تلك النظرات العاشقة صوت والدتها يستدعيها للذهاب.
–هروح بقى.. تصبح على خير
— وأنتِ من أهلي يا كُل أهلي4
قالها زياد وهو يتبعها بعيونه التي تكاد تأكلها من الشغف والجنون بها.
________________♡
أنتَ الصديق المُختلف الناسُ للناسٌ وأنتَ كَتِف .
***
كأي أصدقاء يحادثون بعضهما في الهاتف، هاتفت روان “رُميساء” في البداية ترددت رُميساء في الرد حتى لا تقلقها.. ومع اصرار روان على الاتصال أجابت رُميساء وكان صوتها باديًا عليه الوعكة والتعب.
–السلام عليكم.. ازيك يا روني
–وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. ايه يا بنتي.. مبترديش ليه.. طمنيني عنك؟
–بخير الحمدلله
–مالو صوتك ؟
–مفيش بس…
–مالو صوتك يا رُميساء.. بالله عليكِ تقولي
–عملت حادثة بس الحمدلله أنا بخير
–ايـــــــــــه !!!
قفزت روان من فراشها بهلع وخوف كأن جزء من جسدها فُقد، أو كأنها هي التي أُصيبت بالحادثة وليست صديقتها.. في الحال ارتدت إدناءها وخِمارها و استئذنت والدها لزيارة رُميساء بعد أن اخبرته بالأمر.
كانت روان في حالة ذعر وخوف على رُميساء، فظلت تدعو الله سرًا طيلة الطريق أن تكون على ما يرام.
وصلت لبيتها وفتحت لها والدة رُميساء، ألقت روان عليهم التحية ثم دلفت لغرفة صديقتها، ما إن وجدتها تتسطح على الفراش في حالة يُرثي لها، اندفعت روان تجاهها واخذت تحتضنها وتُقبلها منفجرة في البكاء
— أنتِ كويسة دلوقت.. حاسة بايه.. ايه اللي حصل.. روحتِ لدكتور ؟؟2
انهالت روان بتلك الأسئلة على رُميساء وهي تتفحصها بخوف وقلق، أجابت الأخيرة باسمة لتطمئنها
–متقلقيش والله كويسه.. الحمدلله إنها جات على كده.. قدر الله وما شاء فعل1
تنهّدت روان بارتياح وقالت بدموع
–حسيت إن قلبي وقع لما قولتيلي انك عملتي حادثة.. أنتِ بالنسبالي اكتر من مجرد صديقة أنتِ اختي يا رُميساء..وأنا مبقاش ليا حد غيرك
احتضنتها رُميساء بسعادة من خوفها عليها وقالت
–أنا معاكِ لأخر عمري.. أنتِ كمان بقيتي صحبتي وأختي و بإذن الله مفيش حاجة هتفرقنا عن بعض
–أنا هكلم بابا وابات معاكِ انهارده
–اعملي حسابك تروحي بكره تجيبي كتبك عشان نزاكر سوا.. الامتحانات الاسبوع الجاي
–صحيح.. عملتِ الحادثة ازاي ؟
–سيبك من عملتها ازاي.. تعالي احكيلك مين انقذني ووداني المستشفى وجابني لهنا.. ده اللي حصل معايا ولا في الروايات1
______________♡
حاول بدر أن يسعد سيف بأي شيء فقال
–ايه رأيك انام معاك الليله ونسهر أنا وأنت نصلي ونقرأ قرآن لحد الشروق زي ما كنا بنعمل زمان ؟
ابتسم سيف مردفًا
— أنا فعلًا هسهر أقرأ قرآن واصلي.. بس محتاج اقعد مع ربنا لوحدي.. روح نام مع مراتك.. متقلقش عليا
كاد أن يعترض بدر ولكن سيف صمم على قراره.
قبْله بدر من جبينه ليقول بمداعبة قبل أن يأخذ عائشة ويذهبان
— تيجي نبدأ صفحة جديدة مع بعض و كل لما تلاقي نفسك زهقان تيجي ترخم عليا زي زمان.. بس متكتمش في قلبك حاجة1
أومأ سيف وتعانقا بسعادة لأول مرة بعد عنادٍ ومكابرة و بغض من سيف تجاه بدر، يبدو أن عائشة ستكون الدواء لعلِة العائلة.
أثناء نزول بدر وعائشة من الدرج قابلا والدته وشقيقته.. تساءلت والدته بلهفة
–بدر.. أنت كويس !.. عائشة أنتِ بخير يا بنتي ؟
أومأ كلاهما وهما يبتسمان، فقالت هاجر بمشاكسة
–الحُب عامل عمايله
ضحكت عائشة مردفة
–من بعض ما عندكم.. مفيش حاجة تستاهل نحزن عليها.. اللي بيغلط بياخد جزاءه
بعد ذلك أخذ بدر عائشة واتجها لبيتها بعد أن قبْل يد والدته وجبهة شقيقته و اوصاهم على سيف لحين أن يأتي له غدًا.
****
دلفت عائشة لبيتها ونزعت وشاحها وهي تقول بتذمر
–الجو حر اوي.. الواحد حاسس إنه هيتخنق
–البسي حاجة خفيفة
قالها بدر وهو يبتسم بخبث، فلم تعي عائشة نواياه.. هتفت بعفوية2
–فكرة برضو
لحظات والتفتت نحوه شاهقة1
–قليل الأدب.. أنت مالك أنت البس خفيف ولا ملبس
قال وهو يقترب منها
–الحق عليا إن عاوزك تقعدي مرتاحة
لف يديه حول خصرها وأردف وهو يغوص في عينيها الكحيلة
— فاجئتني بالكلام الجميل اللي قولتيه لسيف .. وانقذتيني بصراحة
هتفت عائشة وهي تعقد ذراعيها على صدرها بمياعة
–أنا عارفة كل حاجة بس مدكنـه1
ضحك بدر وانحنى ليحملها ويدلف بها لغرفتها وهو ما زال يضحك قائلًا
— أنتِ أجمل هدية ربنا منّ عليا بيها
ثم أنزلها على فراشها وتسطح بجانبها.. نهضت عائشة لتقول بخجل ممزوج بالغضب المزيف
–أنت مين سمحلك تدخل اوضتي وتنام على سريري
–تحبي أخرج
قالها ببراءة مصطنعة وكاد أن يخرج بالفعل ليرى ردة فعلها، ولكنها أسرعت بسحبه من يديه والارتماء باحضانه، ظلت تعانقه بشدة ورغمـًا عنها بكت، بينما بدر بادلها العناق ولكنه دهش من بكاءها الشديد.1
ابعدها عنه برفق متسائلًا بلهفة وقلق
— أنا زعلتك في حاجة ؟
هزت رأسها بالنفي وهي تبكي وتقول
–كل إما افتكر اللي عملته فيك بستحقر نفسي اوي.. سامحيني يا بدر
“يا عيون بدر.. عائش.. حبيبت قلبي.. أنا لا يمكن ازعل منك.. أنا اللي مربيكِ يا عائشة.. كنتِ في اللفة على دراعاتي وفي حضني أول ما جيتي الدنيا.. أنتِ بنتي قبل ما تكوني روحي وحبيبتي وسيدة قلبي ومراتي.. أنا بزعل من افعالك.. إنما ازعل منك شخصيًا.. مستحيل يا روح بدر..
يا عائش أنا بحبك للحد اللي ببقى عاوز فيه أن أسجنك بين أضلعُي”6
قال بدر ذلك وهو يعتصرها بين ذراعيه بعشقٍ ممزوجٍ بالحنان، كانت عائشة تستمد القوة منه وهي تدفن وجهها في رقبته وتلف يديها حوله بشدة.
همست بخفوت بعد أن هدأت تمامًا
–اطلع برا.. احنا اتفقنا كل واحد ينام في اوضه
“وعهد الله مهتنامي غير وأنتِ في حضني انهارده”
قالها بدر بعناد طفولي كأنه يتفنن في تقليدها.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)