روايات

رواية يناديها عائش الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الخامس والأربعون 45 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الخامس والأربعون

رواية يناديها عائش البارت الخامس والأربعون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الخامسة والأربعون

كلما ابتعدت عن الله ازدادت آلامك.
*******
مرت الدقائق متثاقلة كالساعات، رأس بدر مائلة على صدرها دون أن يصدر منه صوت أو أي حركة أو حتى رمشة عين تدل أنه مازال على قيد الحياة، كانت تبكي و تنتحب بشدة و تأخذ أنفاسها بصعوبة كأنها تتنفس من ثُقب إبرة، شعرت بأن عقلها توقف عن التفكير حين رأت الدماء تتدفق من يده أكثر من جرح قدمه.. من كثرة الدموع التي جعلت الرؤية لديها غير واضحة؛ ظنت أن الزجاج قطع شريان يده.. لثوانِ فكرت أنه فقد حياته، ولعدم تركيزها جهلت أن قطع شرايين اليد لا يؤدي إلى الموت ولكن النزيف الشديد دون انقطاع يؤدي إلى عدم انضباط ضربات القلب ويؤدي عدم انضباط ضربات القلب إلي السكتة القلبية مما يؤدي للوفاة؛ لذا عليها أن تتحرى الدقة سريعًا وتحاول أن تساعده بأي شكل كان.
مسحت دموعها بوهن، وفتحت كف يده لتنظر بتمعن تتفحص مصدر الدماء الصحيح وبعد دقيقة من الاستيعاب وجدت أن الزجاجة قطعت كف يده بالطول، والحمدلله أنه لم يتأذى أي وريد أو شريان من يده.. إذًا الموضوع بسيط لم يصل للموت !.. لماذا لم تصدر له أي ردة فعل ؟ لماذا لم يتأثر بنداءاتي.؟ لِمَ لا يجيبني؟ هل.. هل فقد الوعي ؟ هل أُصيب بالإغماء ؟ أم.. أم أنه فقط أصابه الدوار من عصبيته المفرطة، فخارت قواه لذلك لا يتحرك ؟؟
كانت تلك الأسئلة تنصب فوق رأسها المترنح بقلة حيلة، و ضعف لا تدرِ ما الشيء الصواب الذي عليها فعله، لأول مرة توضع في مثل هذا الموقف العصيب، ولأول مرة أيضًا تشعر بأن قطعة من قلبها تأذت.. عندما علمت بوفاة والدتها لم تبكي ولم تتأثر فقدت اعتادت بقاءها بعيدة عنها، وعندما توفي والدها حزنت وبكت ولكن لم يدوم حزنها عليه طويلًا.. أما الآن تشعر بأنها تريد أن تنزع روحها و تُهديها للشخص الوحيد الذي أحبها بحق.
نهضت ببصيص أمل على أنه سيكون بخير وهي تردد بهمس
–يارب ساعدني.. يارب يبقى كويس
جاءت بعلبة الإسعافات الأولية و زجاجة عطر، ثم دنت برأسها عند قلبه تستمع لدقاته وجدتها ضعيفة و بطيئة وذلك أرعبها جدًا.
عندما يوضع الإنسان في موقف صعب يشعر بأنه غبي تمامًا ولا يعرف كيف يتصرف وربما يظن من دقاق قلبه الضعيفة جدًا أنه على وشك الموت.
و هذا حال الشخص فاقد الوعي، يكون بلا حركة، ومرتخيًا، ويكون جلدُ الساقين والذراعين باردًا عادةً، مع نبض ضعيف، وتنفُّس سطحي بالضبط كحال “بـدر”.
تحسست عائشة وجهه برفق وهي تعود للنُوَاح وتضمه إليها بخوف عندما استشعرت برودة جلده، تذكرت ملمس والدها البارد عندما مات، فدب الإِرْتِعَاب في جسدها ، لتتوسله قائلة
” متعملش فيا كده.. قوم يابدر عشان خاطري”
نثرت الكثير من العطر على كفها وقربته من أنفه وعينيها تلمع آمالًا أنه سيكون بخير و يفيق ثم وضعت رأسه برفق على وسادة عالية ونهضت سريعًا تقرب المروحة منه.. فعلت ما تعرفه عن الإغماء، وعادت تجلس بجانبه وهي تحدثه
–أنا عارفة إنك مش هتسيبني لوحدي.. عارفة إنك بتحبني.. أنا متأكدة كويس يا بدر إنك مش هيهون عليك تسيبني.. أنت هتبقى كويس.. والله هتفوق وتبقى كويس
كانت تحدثه وكلها يقين أنه سيكون في أحسن حال و على أحسن ما يُرجى ويُتوقع كأنها تطمئن نفسها وتعطيها القليل من التفاؤل والصبر.
بدأت في مسح الدماء من يده وقدمه بقطن نظيف لتضع المطهر وربطت قدمه وأثناء ربط كفه لاحظت جفنه يتحرك ببطء.. فورًا ارتسمت أمارات الفرح على وجهها ورفعت رأسه على صدرها وهي تحملق فيه بلهفة وسعادة..فتح بدر عينيه لتتضح الرؤية أمامه فكان أول ما يراه بعد أن رجع لوعيه هو وجهها الحسن و ابتسامتها التي لطالما نجحت في الاستحواذ على قلبه وعقله.
ابتسم لها نصف ابتسامة محاولًا أن يلتقط أنفاسه، بينما عائشة وقد ملأ كيانها فرح فريد لم تعرفه من قبل لتقول وهي تبتسم بدموع
— كنت هموت من الخوف عليك
“بعيد الشر”
قالها بصعوبة وهو يحاول النهوض فارتكز على كفه المجروح بدون وعي مما جعله يتأوه بألم.. انتفضت عائشة لصوته المتألم.. قالت وهي تساعده في النهوض
–ألف سلامه عليك.. تعالى أدخلك الأوضه ترتاح
–لأ
قالها بنبرة يبدو عليها الحزن وهو يتحاشى النظر في عينيها ثم ذهب من تلقاء نفسه وجلس على الأريكة بالصالة وهو ينظر للفوضى التي فعلها والزجاج المتناثر على الأرض في كل مكان.
جلست عائشة بجانبه وهي تحاول التقرب إليه وملامسة يده المجروحة للتعبير عن أسفها لما حدث .. فقالت
–أنا آسفة.. آسفة عشان وصلتك للمرحلة دي.. أنا آسفة عشان خليتك تتعصب.. بس.. بس عايزه أقولك…
قاطعها دون أن ينظر لها
–أنا مش عايز أسمع اعتذارات
رمقته مستفهمة عن تحاشيه النظر لها والتحدث معها بنبرة القسوة تلك.. أخبرها قلبها أن تلك المرة ليست كأي مرة سابقة.. يبدو أنه لن يرضى عنها بسهولة.. غمغمت وهي تحني رأسها بـ إحباط
–كنت عايزه أقولك إن كان كل همي أصالحك فمكنتش أقصد خالص أطلع من البيت كده.. أنا عارفة إن غلطاتي زادت عن حدها.. والمرة دي صعب تسامحني.. بس أنا فعلًا مكنتش أقصد
ثم قامت لتنظف تلك الفوضى، ولكنه سحبها من يدها برفق قبل أن تبتعد عنه ليضمها إليه في عناقٍ حار دام لدقائق، يُعبر من خلاله عن شدة اسفه وبالغ حزنه وندمه على ما قاله لها و مافعله.
ابتسمت بخفة عندما شدها ليعانقها، ثم ابتعد وهو ينظر في عينيها مباشرة بنظرات معبرة عن الندم، لم يكن بحاجة للإعتذار فقد تفهمت عائشة أنه يتأسف عن كل ما صدر منه ولكنه قال بـ حُرْقَة
–أنا مش عارف أنا عملت كده ازاي.. مش قادر استوعب اللي قولته
نظر للصالة المقلوبة رأس على عقب ليضحك بحسرة
–عُمري ما غضبت بالطريقة دي.. لما كنت أتعصب وأزعل كنت أقعد في أوضتي أفضل استغفر لحد ما أهدى أو اشغل نفسي بأي حاجة.. لأول مرة أعمل كده.. لأول مرة افقد أعصابي بالشكل ده
كانت تتابعه بشفقة وتأثر تستمع لصوت ضميره العالي دون أن تنطق بشيء، وهو يكمل
–أنا.. أنا حاسس إني تايه.. حياتي اتشقلبت ميه وتمانين درجة..
قاطعته عائشة بحزن
–يمكن أنا السبب ! يمكن وجودي في حياتك هو اللي حولك كده !.. يمكن أنا وشي وحش عليك !
من يوم ما دخلت حياتك وهي بتدمر
هز رأسه بنفي قائلًا وهو يتحسس خداها بلُطف
–بالعكس.. أنا مقدرش أتخلى عنك لأنك كل الحاجات الحلوة اللى فى حياتى
— طيب ليه علاقتنا بعد ما بدأت تتحسن رجعت أسوأ من الأول ؟..
–مش يمكن السبب مني أنا !
ضحكت بقلة حيلة معترضة على كلامه
–أنت بتقول كده بس عشان متزعلنيش.. بس الجملة دي وجعت قلبي أكتر.. أنا مش هبلة ولا عيلة صغيرة يا بدر عشان تضحك عليا بكلمتين.. أنا عارفة كويس إن حياتك اتشقلبت لما أنا دخلت فيها.. بس أنا بحاول ابقى كويس وأصلح كل اللي فات.. معرفش إن عدم تفكيري للحاجة قبل ما أعملها هتبوظ حياتنا أكتر
تنهد بتعب قبل أن يردف
–عائشـة.. أنتِ مشكورة إنك صبرتي وعديتي حجات كتير أوي.. أي بنت غيرك مستحيل توافق عليها.. أنا فعلًا ممتن ليكِ على كل اللي عملتيه عشاني
قالت بعدم فهم
–بس.. بس أنا معملتش حاجة أتشكر عليها !
رد باسمًا وهو يشدّ على يدها بحنو
–لأ عملتي.. وعملتي كتير أوي..موافقتك على الجواز مني رغم إني لا جهزتلك شقة ولا عملتلك فرح ولا جبتلك دهب ده في حد ذاته تضحية.. أنتِ ممكن متكونيش مدركة للأمور دي.. بس بجد أنا لو قعدت أشكرك عمري كله مش هيكفي.. وبرضه أنك توافقي تتجوزي واحد أقل منك في التعليم أو معهوش شهادة تتشرفي بيها ده يخليني أشيلك جزمتك على راسي طول حياتي
نهرته بلُطف و وبخته هاتفة
–ايه اللي أنت بتقوله ده.. متقولش الكلام ده تاني لو سمحت.. أنت تشرف أي واحدة والله.. أنت مش قليل يا بدر.. بالعكس.. أنت كتير عليا أوي.. أنا اللي فخورة إني مراتك والله
كلامها الذي وقع أثاره كالبلسم عليه جعله يتأملها بُحب وغضب من نفسه.. كلما تذكر كلماته الجارحة والمهينة لها يشعر بأن شيء ما انكسر في قلبه لن يعود أبدًا.. يتساءل بينه وبين نفسه لماذا تعامله بكل هذا اللطف وهو جرح كرامتها منذ قليل ؟ لماذا لم تغضب منه وتعاتبه كباقي النساء؟ إنها عائشة، سليطة اللسان التي لا تدع حقها يذهب سُدى هكذا.. لماذا تحاول اظهار حبها وخوفها عليه متناسية ما قاله ؟
كيف اصطنعت تلك الإبتسامة اللطيفة بالرغم من قلبها الذي يحترق لكلماته ؟
نعم هو مُربيها ويعرفها أكثر من نفسه، يعرف كيف تفكر وفيما تفكر ولكن لأول مرة يعجز عن قراءة ما في قلبها !
تساءل..
–هتبطلي تمثيل امتى ؟
قطبت حاجبيها بعدم فهم
–قصدك ايه ؟
–قصدي أنك مستحيل تسامحيني بالسهولة دي.. عائشة.. أنا بدر.. يعني اعرفك أكتر من نفسك.. بس للأسف أول مرة مبقاش عارف أنتِ بتفكري في ايه وناوية تنتقمي مني ازاي
” أنتقـم ! ”
قالتها وهي تطالعه بحيرة، لا تدرِ لِمَ يقول ذلك وهي بالفعل تغاضت عما قاله وسامحته من قلبها
أومأ قائلا
–ايوه.. أنا عارف أنك مش هتعديلي بسهولة اللي حصل
قالت ساخرة
–مستنية بس أما تفوق كده، والجرح اللي في ايدك ده يخف وتقدر تقف على رجل كويس
صمتت لثوانِ و أردفت بجدية
–أنت فعلًا الكلام اللي قولته ده يهد جبل.. حسيت إني قلبي بيتحرق أو زي ما يكون حد رمى جمرة نار عليا.. الكلام اللي قولته صعب ومفيش واحدة تتحمله..
أحنى رأسه بخجل من نفسه فرفعتها بلين لتنظر في عينيها مُكملة
–بس أنا فكرت مع نفسي لقيت إني قولتلك أسوأ من كده كتير وكل مرة كُنت بتسامحني وتعديلي عشان بتحبني رغم إن كلامي صعب ومفيش راجل يتحمله برضه.. إن جينا للحق أنا هينتك كتير.. و أذيتك بكلامي كتير رغم إني كنت عارفة بحبك ليا بس كنت بتعمد استفزازك عشان تبعد عني وتسيبني في حالي.. وفي كل مرة كنت بغلط غلط ميتغفرش كنت أنت أول واحد تقف جنبي وتغفرلي وتسامحني.. أنا عذبتك وغلبتك معايا كتير بس أنت ولا مرة مليت مني.. وكنت ببقى أنا اللي غلطانه وأنت تيجي تصالحني برضو.. عايزني بعد ده كله ابعد عنك وأحاول انتقم ومسامحش ؟
.. لا يابدر.. أنا مش وحشة للدرجادي ولا قلبي أسود كده عشان يوم ما تغلط اعلقلك المشنقة !
اللي بيحب حد لازم يستحمله في أسوأ حالاته.. وعشان دي كانت أسوأ حالة أشوفك فيها، كان لازم استحملك و اسامحك.. لأني متأكدة كويس أنك مش مستوعب اللي قولته أصلا وأن مستحيل الكلام ده يطلع منك.. ده غير اللي أنت قولته قدام الورشة
–أنا قولت ايه !!
تساءل بقلق.. فقالت وهي تكتم الضحك
–قولت لفظ عيب أول مرة اسمعه منك..
–حد سمعني ؟
–لأ.. اللي شغالين معاك بس
صفع جبهته ليقول بغضب من نفسه
–أنا ايه اللي حصلي بس.. اوف.. استغفر الله العظيم
ابتسمت برقة وهي تميل لتضع قبلة صغيرة على يده المجروحة قائلة
–متزعلش نفسك… المهم أنك بخير دلوقت.. اللي حصل حصل بس بعد كده بالله عليك حاول تتحكم في أعصابك عشان أنا خفت منك بجد
تنهد بحزن مشمئزًا من أخلاقه التي فقدها.. قالت عائشة في محاولة للتخفيف عنه
–لما أغمى عليك كنت حاسة إني هتجنن.. أنت مش متخيل أنا كنت مرعوبة عليك ازاي.. أنا مليش غيرك في الدنيا كلها.. و دي حقيقة.. أنت فعلًا بقيت كل حاجة بالنسبالي.. أب وأخ وصديق وحبيب وزوج.. أنت عيلتي يا بدر.. فـ بالله عليك لو أنا غالية عندك وبتحبني متتعصبش تاني ولا تأذي نفسك.. وأنا والله هاخد بالي من كل تصرفاتي اللي بتضايقك..
صمتت لبرهة تتأمل ردود فعله على ما قالته وجدته شارد الذهن ينظر للفراغ بشرود غير منتبه معها.. مسدت على شعره بحنان للفت انتباهه و قالت بنبرة دافئة
“أنا بحبك يا بدر.. بقيت في قلبي أعمق من مجرد كلمة بحبك”
أغمض عينيه يستنشق الهواء بعمق ثم أحاطها من كتفيها يضمها إليه ونظر لها ليقول بصوتٍ منكسر
–أنا مش قادر أبص في عينيكِ وأطلب منك تنسي اللي قولته وتسامحيني.. مش قادر ومش عارف.. أنا أستاهل كل حاجة وحشة.. لحد دلوقت مش مستوعب اللي حصل.. هو أنا اتغيرت كده ليه؟ أنا بقيت وحش كده ليه يا عائشة ؟
تأثرت بكلماته و ندمه فأدمعت عيناها قائلة
–بس والله أنا مسمحاك.. أنت اعتذرت وعرفت غلطك وأنا قبلت اعتذارك.. انسى بقى يا بدر.. و متقولش على نفسك كده تاني.. كلنا بنتعصب ووارد نقول أكتر من كده
صاح منفعلًا
–بس أنا عمري ما كنت كده.. ده مش أنا.. فاهمة.. مش أنااا
خافت عليه أن يفقد صوابه ثانية فحاولت تهدئته وهي تحتوي يديه تمنحه الشعور بالطمأنينة
–وعمرك ما هتبقى كده تاني.. كانت ساعة شيطان.. أنت قولتلي إن أي حاجة تحصلنا نتعلم منها.. اتعلم بقى من اللي حصل ده وحاول تسيطر على أعصابك بعد كده.. وإن كان عليا أنا نسيت أصلا اللي أنت قولته.. أنا يهمني أنك بخير يا بدر.. متفكرش بقى في اللي فات
لم يجيبها.. فقالت لتمازحه وهي تتحسس خديه
–القلم لسه بيوجعك ؟
سؤالها الغبي هذا جاء على غير محله، سألته بعفوية شديدة فأجابها على عكس ما كانت تتوقعه
–أنا أستاهله فعلًا
انكمشت جبهتها وضحكت ظنًا بأنه يسخر منها ولكنه أعاد القول بنبرة صادقة
–و أستاهل أكتر من كده كمان.. يمكن القلم ده هو اللي فوقني ووقفني عند حدي.. ولولا كده كنت زماني قلت كلام كتير مش عارف عواقبه هتودينا لفين.. فـ اتمنى بجد إنك تكوني سامحتيني من قلبك..برغم إن من حق قلبك مايصفاش ولا يسامح.
مرت دقائق خيم الصمت عليهما.. هو عاد لشروده وانطفاء وجهه بحزن وهي لا يعجبها حاله وتريد أن تستعيد بدر البشوش المرح ولا تعرف كيف.
قامت لتنوي تنظيف المكان.. فسألته
–تحب أعملك حاجة تاكلها ؟
–لأ.. شكرًا.. هتذاكري ؟
–لأ.. هنضف الصالة الأول
–متنضفيش حاجة.. روحي ذاكري
–واسيبها كده ! مينفعش.. هلم الازاز المتكسر ده عشان ميعورش حد مننا تاني.. كفاية اللي حصلك
–سيبي الصالة وروحي ذاكري
قالها بلهجة صارمة قليلًا مما جعله تعود لتجلس بجانبه حتى تمتص غضبه ولا ينفعل عليها فقالت بهدوء
–أنت مش عايزني أنضف الكركبة دي ليه ؟
–عشان ملكيش ذنب.. مش أنتِ السبب فيها
–أنا وأنت ايه يا بدر.. وبعدين أنت مش هتقدر تعمل حاجة.. فسيبني اشيل حتى الازاز المتكسر ده وبكره لما اجي من الامتحان ابقى اكمل تنضيف الباقي
–أنا قلت لأ.. عائشة بالله عليكِ أنا فيا اللي مكفيني مش ناقص مناهدة.. اسمعي الكلام وروحي ذاكري
أطاعته مستسلمة متجنبة أي نقاش قد يصل للحدة بينهما.. ولكنها قبل أن تذهب لتذاكر قامت بإعداد عصير الليمون له وأعطته كوبًا وهي تقول باسمة
–عملتلك لمون.. عارفة إنك بتحبه
بادلها الإبتسامة ثم قبْل يدها وهو يشكرها بلُطف، يعلم أنها تحاول إرضاءه بأي طريقة، ولكنه لا يريدها أن تتحمل الذنب كله وحدها وهو وحده المُلام على ما حدث.. كان من الممكن أن يتحدث معها بتفاهم وعقلانية كما كان يفعل سابقًا، لا يعلم لماذا تعقدت الأمور معه وصارت حياته بائسة وكئيبة هكذا.. و كأن البركة التي كانت في ايامه سُلبت منه وحلّ محلها الألم والتعاسة.
–لو احتجت أي حاجة أنا موجوده.. نادي عليا وهتلاقيني عندك
أومأ دون أن يُعلق بشيء، أما هي ذهبت لغرفتها وحاولت أن تنفض أي افكار عن رأسها لتستطيع التركيز في المادة التي ستُختبر فيها غد.
مرت ساعة تليها الأخرى حتى أذن مؤذن لصلاة العصر.. وجدها تخرج وبيدها سجادة الصلاة واسدال الصلاة خاصتها.. قالت وهي تبتسم برقة
–يلا عشان تصلي بيا
انشرح صدره بسعادة حين رآها تواظب على الصلاة في موعدها وكأنها حققت له حلمًا كان يراوده دائمًا فصار واقعيًا.. هذا ما كان يريده اغراسه في قلبها.. المواظبة على الصلاة والتقرب لله بمختلف الطاعات وهاهو يحصد ما زرعه فيها من نُصح وتوعية.. ولكن في الوقت الخطأ
يشعر بأن هناك شيء ثقيل على قلبه، فكلما تتقدم هي خطوة للأمام وتتقرب من الله.. يبتعد هو عشرات الخطوات للوراء ولا يعلم لماذا .. لماذا بدأ يشعر مؤخرا بثقل الصلاة على قلبه ؟
هتف بحسرة
–نفسي أرجع اصلي في المسجد زي زمان
ردت بمواساة
–كنت هقولك تصلي في الجامع بس حسيت إنك مش هتقدر تدوس على رجلك ولو حد شافك بتعرج هيدخلك في سين وجيم وأنا مش عاوزه أي حد يعرف باللي بيحصل بينا عشان الناس بتشمت يا بدر..
لم يُعلق على كلامها أيضًا واستند على الوسادة لينهض.. فهرولت سريعا لتساعده.. أخبرها بأن تتوجه به للمرحاض ليتوضأ.. بعد أن انتهى من وضوئه.. توضأت عائشة هي الأخرى.. و صلت خلف زوجها.. أخبرته أن يجلس على كرسي ولكنه رفض بشدة معللًا أنه مجرد خدش بسيط حتى لو كان جرح عميق سيخجل الجلوس أمام في حضرة ربه؛ لذا سيتحمله ويقف ليصلي..محدثًا نفسه أن يستحق أن يشعر بالألم الشديد من ثقل جسده على قدمه لكي يفكر مرارًا قبل أن يقدم على فعل شيء أو قول كلمة تهدم مودة أو تجرح صاحبها.. دعت عائشة في سجودها كثيرًا أن يهدي الله زوجها ويرده اليه ردًا جميلًا و يثبتها على صلاتها في وقتها.. حيث أن المسلم الذي يُصلي الصلوات على غير وقتها أو يتكاسل عنها فيصليها متأخرًا.. مصيره النار تحديدًا وادي “ويل”
وهو لمؤخر الصلوات بدون عذر، و هو وادي مليء بالعقارب والحيات لقوله تعالى ” ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.”
هذا جزاء من يُصلي ولكن يتأخر في صلاته لا يصليها في وقتها.. فما بالك بالذي لا يُصلي ؟
وماذا يكون جوابك لربك حين يسألك عن الصلاة؟

ساعدته في النهوض بعد الانتهاء من الصلاة.. أخبرها بأن تحضر كتابها وكراستها والآلة الحاسبة ليدربها على بعض المسائل الفزيائية التي تكررت في كل الامتحانات السابقة.. يعشق بدر الفزياء كثيرًا؛ لذا لم يكن صعب عليه أن يشرح لها كما لو أنه أستاذ بالجامعة.. وبينما كان يشرح كيف تحل بالقوانين كانت منشغلة بالتحديق في ملامحه القمحية الجميلة وتتخيل عندما تنجب أطفالًا هل سيشبهون لون وملامح وشعر والدهم أو يشبهون جمالها المُلفت أو يأخذون الملامح من الاثنين ؟
المسكين يكلف نفسه بالارهاق والشرح لها بضمير، وهي في كوكب زمردة للأحلام الوردية.
مرت الساعتين وهو مازال يعطيها أصعب المسائل ويعملها كيف تقوم بحلها.. ثم يتركها تحل لوحدها.. حتى رنّ جرس الباب.
نظرا الاثنين لبعضهمها بتوتر.. فالشقة تعج بالكراكيب و الشاش الملفوف على يده وقدمه واضح.. ابتلعت عائشة ريقها بتوتر لتقول بهمس
–حد سمعنا واحنا بنتخانق ولاايه ؟
نظر لها بشك ليقول
–ادخلي أنتِ جوا وأنا هشوف مين
–هتفتح ؟
–مش عارف.. برأيك افتح ولا لأ ؟
–طب شوف مين الأول
مين ؟؟
تساءل وهو يقترب من الباب.. أتاه صوت زياد المرح
–ايه يا عم جيت في وقت غير مناسب ولاايه
تبادل بدر وعائشة النظرات بتوتر.. مازالوا مرتبكين من أن يدخل زياد ويرى كل تلك الفوضى
جاء صوت زياد ثانية
–شكلك مش فاضي.. اجيلك وقت تاني بقى
–لأ.. استنى
لا يعلم بدر لماذا لم يدعه يذهب، ولكنه يريد أن يفضفض معه قليلًا فهو صديقه الوحيد الذي يرتاح في الحديث معه.
دلفت عائشة لغرفتها سريعًا وارتدت اسدالها.. فتح بدر الباب وتفاجئ أن زياد لم يأتي وحده.. بل اصطحب نورا شقيقته معه
نظر له بدر مستفسرًا فكان يريد ألا يدخله للشقة، بل يأخذ ليتحدثون في مكان آخر.. ولكنه لم يتوقع قدوم نورا.
قبل أن يتحدث زياد لاحظ الضمادة البيضاء الكبيرة التي تحتوي كف بدر وقدمه.. ووقع بصره خلسة على الصالة التي تدمرت نصفها من منضدة مقلوبة واطباق مكسرة وزجاج متناثر هنا وهناك وتلفزيون مقلوب على وجهه.
شعر بدر بالاحراج والتوتر من نظرات زياد وشقيقته العفوية والمستفهمة والتي بدا عليها القلق قليلًا..
تساءلت نورا بخوف حقيقي لأول مرة تشعر به على عائشة
–عائشة فين ؟. هي كويسة ؟؟
أومأ بدر ولم ينطق بشيء.. تابعت نورا متغاضية عن كل تلك الكركبة التي أمامها
–طب هي فين.. ممكن أدخلها ؟
–في الأوضه جوا.. ادخللها
قبل أن تدخل قدمت اعتذارها منه
–أنا جايه عشان اعتذرلكم على اللي حصل مني..
هز بدر رأسه ليقول بلامبالاة
–حصل خير
دلفت نورا لغرفة عائشة فوجدتها تقف على الباب.. يبدو أنها سمعت الحوار الصغير الذي دار بالخارج فتفهمت الأمر وهذا ما جعلها تستقبل نورا بابتسامة لطيفة..
سلمت نورا عليها وقالت بخجل
–ازيك يا عائشة.. عامله ايه
–الحمدلله.. أنتِ عامله ايه
–الحمدلله
ساد الصمت للحظات كانت نورا تحاول استجماع شجاعتها لتتأسف لها وبداخلها تتمنى ألا تحرجها عائشة وتسامحها
–أنا.. أنا بصراحة جايه أتاسفلك على كل حاجة وحشة عملتها فيكِ.. أنا عارفة إني كنت بعاملك وحشة وبتعمد اضايقك دايما وكنت عاوزه بدر يكرهك بأي طريقة.. بس طلعت أنا اللي وحشة ومش كويسه.. مش عارفه هتقدري تسامحيني ولا لأ.. بس بجد أنا آسفة.. و وعد مني افضل بعيدة عنكم
كان رد فعل عائشة جميل للغاية.. عانقتها بحُب ومودة وقالت مبتسمة
— إحنا هنعيش كم مرة عشان نفضل زعلانين ومبنكلمش بعض.. خلاص يانورا.. حصل خير.. وأنا مش زعلانه منك ياستي
هتفت نورا بعدم تصديق وهي تبتسم بسعادة
–بجد مش زعلانه !! يعني خلاص مسمحاني ؟
–اه والله مسمحاكِ.. شوفتي أنا حلوة ازاي
قالتها بمزاح ثم ضحكت.. شاركتها نورا الضحك لتقول بأسف
–أنا غبية اوي اني ضيعت السنين اللي فاتت من حياتي وأنا مبكلمكيش.. كان ممكن نكون أحلى صحبة
قاطعتها عائشة بمرح
–أنتِ محسساني اننا عجزنا.. محنا لسه فيها أهو.. خلاص اللي فات ننساه بقى.. وبجد أنا كمان كنت غبية إني مكنتش بعامل أهلنا كويس
تساءلت نورا بعفوية
–هي مالها الصالة مقلوب حالها كده ليه ومالها ايد بدر ورجليه ؟
كان ذلك السؤال هو نفس السؤال الذي سأله زياد لبدر عندما أخذه ليجلسان فوق سطح المنزل
وكانت إجابة بدر نفس إجابة عائشة.. حيث تحمل كل واحد الذنب كله على نفسه ولم يمس الآخر بسوء..
فأجابت عائشة على نورا
— أنا السبب.. أنا اللي عصبته ووصلته للمرحلة دي.. قولتله كلام يضايقه فاتعصب وقلب الترابيزة روحت أنا كمان متعصبه وطلعت نص اللي في النيش كسرته.. ساعة شيطان
بينما بدر قال
–أنا السبب يا زياد.. عائشة بقت بتحبني أكتر من نفسها وبتحاول تراضيني بأي شكل وأنا زي الغبي بسمعها كلام زي السم.. حصل تاتش بسيط منا كده رغم أنا اللي غلطان بس زي ماتقول شيطان وركبني.. فضلت اهينها بالكلام وشقلبت حال الصالة زي ما شوفت كده.. مش عارف أنا بقيت عامل كده ليه ؟
…..
ربتت نورا على ظهر عائشة تواسيه بعقلانية
–حاولي تمسكي أعصابك بعد كده.. بدر بيحبك بجد.. متفرطيش فيه يا عائشة
هزت عائشة رأسها توافقها الكلام
–وعشان عارفه أنه بيحبني.. بحاول اغير من نفسي للأحسن… لأنه يستاهل واحدة أحسن مني ميت مرة
–تقدري تكوني أنتِ الواحدة دي يا عائشة.. جاهدي نفسك وقربي من ربنا.. صدقيني علاج أي حاجة القُرب من ربنا.. أنا متعالجتش من الغل اللي جوايا للناس غير لما بدأت انضبط في صلاتي واستغفر كتير وأقرأ قرآن كتير
–إن شاء الله ربنا يعيني واتغير للأحسن
–طب قومي يلا نروق الكركبة اللي سيادتك عملتيها دي
اعترضت عائشة متحججة
–لأ.. بدر منبه عليا مجيش جنبها
–ليه ؟
–قالي خلصي مذاكرتك الأول
–قومي ياختي نروق الصالة عشان الازاز ده ميعورش حد فيكم..
تابعت مازحة
–احمدي ربنا إن أنا موجودة عشان أساعدك
بالفعل انتهزت عائشة فرصة وجودها وعدم وجود بدر وبدأت الفتاتان في تنظيف تلك الفوضى.
يتمتع زياد بذكاء جعله يحلل كل شيء بالمنطق، علم أن بدر يريد اخفاء الحقيقة عليه.. فكيف للزجاج سيقطع كفه بالطول إلا إذا كان هو من قام بتكسير “النيش” !
لم يجادله زياد في كلامه وفضل الاستماع إليه، فهو بطبيعته لا يحب التدخل في شؤون غيره ولكن إذا احتاج أحد مساعدته يكون أول الحاضرين..
تحدث بدر بكل حزن وألم
–هو أنا اتغيرت كده ليه يا زياد ؟
رد زياد بمنطقية
–البُعد عن ربنا يعمل أكتر من كده يا بدر
ابتسم بدر بحسرة وهز رأسه يوافقه
–عندك حق.. وأنا الفترة دي بعيد عن ربنا جدًا.. بس ليه ؟ ليه بيحصلي كده.. ليه بقيت حاسس إن العبادة تقيله على قلبي.. رغم إني نفسي أوي ارجع بدر بتاع زمان.. دا.. ده أنا كنت إمام الناس في المسجد.. حالي يتشقلب من إمام مسجد لواحد بيصلي بالعافية ؟؟ ليه! ايه السبب ؟
هموت وأعرف ايه السبب اللي مخليني مشغول عن ربنا وطاعته كده
–أنت انشغلت بالعبد عشان كده سيبت الرب
–يعني ايه ! تقصد إن حبي لعائشة هو السبب !!
–لأ طبعًا.. مقصدش الحُب نفسه.. الرسول عليه الصلاة والسلام كان بيحب السيدة عائشة جدًا وكان بيدللها.. بس هل مراعاته لزوجته شغله عن طاعة ربنا ؟ المفروض نقتدي بأفعاله الجميلة.. لكن منفضلش حُب العبد عن حُب الرب.. أنا معرفش ايه اللي بينك وبين ربنا.. بس أنت اخويا ولو لقيتك بتغرق لازم الحقك.. وأنا بصراحه شايف أنك مقصر جدًا في حق ربنا..أنت مبقتش تصلي في الجامع زي الأول..فاكر اما كنت تيجي تخبط عليا نص الليل عشان نصلي الفجر!
ده العيال اللي كنت بتحفظهم قرآن كل اما يقابلوني يسألوني عليك..حتى الشيخ عمار مقابلني امبارح يقولي أومال بدر الشباب معتش بيصلي بينا ليه ده أنا بحب صوته أوي..الواحد المقصر في حق الله بيبان عليه..بتلاقيه مش في المود دايما..وعلطول متنرفز وعصبي..أنا كنت كده برضه بسبب ذنب وحش بدعي ربنا مرجعلوش تاني..
باختصار يابدر تقصيرك مع ربنا بسبب انشغالك بحاجة تانية.. كان ممكن اقول بسبب مثلًا اتلميت على شلة مش كويسة أو بتسمع حجات مش كويسة أو بتشرب مخدرات.. بس أنا عارفك كويس وعارف اخلاقك.. فالحاجة الوحيدة اللي أنا متأكد منها هي إن الحُب احتل قلبك فوق المعقول.. لازم تشوف لنفسك حل قبل ما تهلك بجد
صاح بيأس
–يعني أعمل ايه ؟؟ اكرها ! اطلقها !
–هو أنت غبي !! هو يا كده يا كده ؟.. متعرفش تقتدي بسيدنا النبي زي ما كنت بتعمل الأول ؟
يعني حب وعشق وعيش حياتك عادي بس متبقيش الحب عن طاعة ربنا.. الواحد اللي بيفقد مراعاة ربنا ليه في حياته.. من الآخر بيعيش أسوأ حياة.. تخيل إن ربنا غضبان عليك ووقعت في مصيبة ! هتلجأ لمين؟ للحُب ولا للرب القادر على كل شيء ؟
كان كلام زياد موزون وفي محله ولم يستدع الجدال أو النقاش.. انهى بدر الحديث في هذا الأمر قائلا
–أنا مقدرش ابعد عن عائشة لحظة ومقدرش اقاوم عشقي ليها بس هعمل زي ما قولتلي.. هجاهد ارضي ربنا وارجع انتظم في العبادة تاني
مرّت ساعة أخرى وهما يتحدثان في مختلف الأمور وبدر مازال الحزن يخيم عليه.. لم يكن قد حدث بعد الشجار الذي دب بين زياد وقصي.. كان لدى زياد الكثير من المهام القضائية التي عليه انجازها فاستأذن للرحيل.
انتهت نورا وعائشة من ترتيب الصالة واعادتها نظيفة ثم ذهبت مع أخيها..
تأمل بدر الصالة بتعجب متسائلا
–مش أنا قولتلك متعمليش حاجة ؟
–نورا ساعدتني
–عرفت اللي حصل ؟
–لا مش التفاصيل.. قولتلها أي حاجة وخلاص بس هي قالت ولا كأنها شافت حاجة.. مش هتقول لحد
–طيب.. تعالي اكملك مذاكرة
______________
على الجهة الأخرى بمحافظة المنصورة في تلك الشقة التي استأجرها كريم للمكوث بها.. في الشقة التي تجاوره والتي استأجرتها رودينا لتقوم بغرضها..
بعد أن صورت نفسها معه وهو فاقد الوعي اثر المخدر.. في فعل فاضح.. قام الرجلان اللذان دفعت لهما المال ليساعدوها.. بحمل كريم بعد ما البسوه ملابسه.. إلى شقته ووضعوه على الاريكة التي كان جالسا عليها ثم خرجوا من البناية بأكملها.. هاتفت رودينا اصدقائها لتدعوهم لحفلة عيد ميلادها بشقتها حتى تمسح أي آثار للشكوك عندما يستعيد كريم وعيه.. فقد خططت لتلك الجريمة بذكاء وجعلتها في نفس يوم ميلادها..
استعاد كريم وعيه بعد ساعات وهو يتأوه ويتحسس رأسه بألم.. شعر بأنه تعرض لضرب مبرح بسبب جسده الذي يؤلمه بشدة ورأسه من الخلف.. ذهب ليصب الماء البارد على رأسه وهو يستعيد في ذاكرته ما حدث..
آخر ما يتذكره هو مجيء رودينا اليه وطلب المساعدة منه في اطفاء الحريق بمطبخها وعندما دخل لشقتها نال ضربة مؤلمة على رأسه افقدته الوعي حتى أنه لم يشعر بالرجال وهم يخدرونه.
–يابنت الـ….
قالها بغضب وركض لشقتها وهو ينوي أن يسجنها لتلاعبها به.. ولكنه وجد شقتها تمتلئ بالفتية والفتيات يرقصون على بعض الأغاني والشقة مزينة بزينة العيد ميلاد والمنضدة ممتلئة بالحلويات تتوسطها تورتة كبيرة عليها صورة رودينا..
عندما رأته ابتسمت بخبث وذهبت اليه وهي تحمل طبق فيه قطع من الحلويات لتقول بمياعة
–كنت عاوزه اعزمك بس حسيت انك مش هتيجي وهتكسفني.. مكنتش اعرف انك هتفاجئني وتيجي
تساءل ببرود يحاول كبح غضبه
–اللي أنتي عملتيه ده ؟
ردت ببراءة
–عملت ايه ؟
–بت أنتي.. أنا مش عايز استعباط.. أنتي مش جيتي قولتيلي فيه حريقة في المطبخ !!
رمشت ببراءة مزيفة لتقول
–أنا !! سلامة عقلك يا حضرة الظابط.. أنا كنت برا بشتري الزينة والجاتوه.. حتى اسأل البواب
بالفعل خرجت رودينا تشتري مستلزمات العيد ميلاد وحرصت على اخبار البواب بذلك وعند رجوعها ومعها الرجلان.. تقدمت هي واعطت للبواب المال ليحمل معها الأشياء ويصعد بها للأعلى بينما يتخفى الرجلان.
–هتفضل واقف كده.. اتفضل ادخل
–لا شكرًا.. كل سنة وانتي طيبة
قالها بلامبالاة وتركها عائدًا لشقته
ابتسمت رودينا بخبث على نجاح خطتها..جاءت صديقتها من خلفها لتسألها بنظرة اعجاب
–مين القمر اللي كنتِ واقفة معاه ده ؟
–ده جاري في العمارة..بيقولي وطي صوت الاغاني شوية عشان مش عارف ينام.
جلس كريم يفكر هل كان ذلك كابوسًا أم ماذا ؟ ولو كان حُلمًا بشعًا لماذا تؤلمه رأسه ؟؟
عندما لم يجد الاجابة استسلم للنوم.
________________
حل الليل سريعًا والناس نيام كعادتهم إلا الطُلاب من هم لديهم امتحانات غد.. بالأخص طلاب الثانوية العامة..
أشرقت الأرض بشمس الصباح معلنة يوم جديد ومرعب في نفوس من يتلقون العلم داعيين الله أن يمرّ ذلك اليوم بسلام.
لم تنم عائشة الا ساعتين بعد اقناع بدر أن عليها النوم لكي تستطيع التركيز في الإجابة..
عرج على قدمه وأعد لها الفطور ثم ذهب ليوقظها.. تفاجئت بما فعله فعاتبته قائلة
–ليه تعبت نفسك.. أنا مبيجليش نفس أكل وانا رايحة امتحن
كان يطعمها الطعام في فمها رغمًا عنها وهو يقول
–لازم تفطري عشان متدوخيش.. صحتك أهم من أي حاجة.
انهت فطورها وارتدت ملابسها الواسعة وقامت بجعل وشاحها كالخمار يغطي لأسفل صدرها وهي تنظر لنفسها مبتسمة برّضا على شكلها المحتشم والأنيق في المرآة.. لاحظ بدر ذلك فجاء من وراءها واحتضنها بلُطف قائلًا
–بعد ما تطلعي من الامتحان هاخد ونشتري أَخْمِرَةٌ بالالوان اللي تحبيها
هتفت بسعادة
–بجد يا بدر !
قبْلها من جبينها وهو يقول
–بجد يا روح بدر
كان يحاول جاهدًا أن يعوضها بأي شكل عن ما قاله لها أمس واوجع قلبها.. ابتسامتها الجميلة التي يحبها يريد أن يجعلها لا تفارق شفتاها.
تركها وذهب لسيف كي يساعده في ارتداء ملابسه ويأخذه لامتحانه هو الآخر.. وكذلك استيقظت هاجر بعد أن غفت لساعات قليلة وجدت أن زياد قد جهز الافطار لهم جميعًا.. لشقيقتها ولحبيبته ولوالديه..
جلست تتناول الطعام بجانبه فكان يريد اطعامها لكنها خجلت من والديه.. فقالت بهمس
–بالله عليك تسكت.. أنا ليا ايد واعرف أكل نفسي
ضحك على خجلها وبادلها الهمس
–لينا شقة تلمنا
وبعد الانتهاء من الإفطار.. ذهب كل واحد ليرتدي ملابسه استعدادًا لعمله..
وبالطبع أوصلها زياد لجامعتها بعد أن ذهب معها لبيتها كي تقبل والدتها وتوصيها بكثرة الدعاء لها ولم تنسى معانقة سيف شقيقها..
بعد أن أوصلها زياد للجامعة أخبرها أنه سيأتي لأخذها حين تنتهي.
….
ايقظ سيف ذلك المشاغب الذي لم يستطيع التركيز في مذاكرته بسبب التخاريف التي يقولها وهو نائم… فكان يضرب الهواء بيده ويصيح
“بتاخدوا البيبسي بتاعي ليه من التلاجه يا ولاد الكلب”
لم يستطيع سيف تمالك نفسه وانفجر ضحكًا عليه.. وبعد ان تمر نصف ساعة وهو نائم بهدوء يقوم بقول تخاريف أخرى أو عمل اشياء مجنونة.. فيتخيل نفسه وهو نائم أنه الرجل العنكبوت “سبايدر مان” ثم يقوم بعمل يده مثله كأنه يخرج الخيوط منها.. فيراه سيف ويضحك عليه.
نهض قصي وهو يفرك عينيها قائلا
–أنت صحتني من أحلى حلم
–ياشيخ اتنيل.. أنت طول الليل بتحلم واحلامك كلها متخلفة شكلك.. قوم يلا عشان تلحق امتحانك
–مش هتفطروني الأول
قالها وهو يفرك عينيها و يتثاءب.. رد سيف ضاحكًا
–ماما بتحضر الفطار اصلا
نهض ليغسل وجهه ثم جاء وتأمل سيف قليلا فتعجب سيف من تحديقه له وتساءل
–ايه يالاه.. بتبحلقلي كده ليه ؟؟
تركه وذهب تلقاء نفسه ليفتح خزانة ملابسه ثم اخرج له قميصًا انيقا و بنطال ليلتفت له ويقول
–البس الطقم ده هيبقى حلو عليك
بهت وجه سيف وقال بحزن حاول تداركه
–معدتش فارقة.. هلبس أي حاجه عادي
–لأ مش عادي.. أنت دكتور وشكلك وسيم زي أو يمكن أنا احلى بس لازم تلبس حاجة تليق بيك
قالها ليمازحه فقد شعر بحزنه.. أراد قصي أن يجعل سيف يتأقلم مع وضعه دون خجل منه فقرر مساعدته دون أن يخبره بذلك.. يملك قصي قلبًا لين يحب الجميع ولا يحب أن يرى أحد حزين خاصة لو شخص عزيز عليه مثل سيف.
استسلم سيف له أخيرًا بعد عدة محاولة من قصي في مساعدته لارتداء ملابسه..
بعد ما انتهى..انحنى قصي ليلبسه الحذاء فدفعه سيف بيده برفق قائلا
— لأ.. بدر هيجي عشان يوديني الامتحان يبقى يلبسهولي
رفض قصي معللًا
–ليه وانا روحت فين ؟ بص من انهارده أنا مسؤول عنك.. بدر اتجوزك وبقى ليه حياته.. وأنا فاضيلك بقى..
ابتسم سيف بخفة على هذا الاهتمام الذي كان يفتقده حقًا.
ألبسه الحذاء ونثر له العطر ثم صفف شعره وأخذ يتأمله ليقول ضاحكًا
–والله لو كنت بنت مكنتش سيبتك
–اخرس يا جذمه
–هي دي كلمة شكرًا !
ظل الاثنان يضحكان بمرح.. حتى جاءت مفيدة واحضرت لهم الطعام.. نظرت لهيئة سيف المرتبة وقالت
–ماشاء الله.. زي العسل يا سيف.. ربنا يحميك وينجحك يابني
هتف قصي بغيرة مصطنعة
–أنا اللي مظبطة يا عمتي.. مفيش أي كلمة حلوة ليا ؟
–بكره تتجوز وتلاقي الكلام الحلو كله ياقصي
قالتها وهي تضحك قاصده استفزازه.. شاركها سيف الضحك بينما قصي أخذ يقول بتذمر
–يادي النيلة عليا.. كل اما حد يشوف خلقتي يجبلي سيرة الجواز.. هو اللي بنعمله في الناس هيطلع علينا ولا اايه.
سمعت مفيدة صوت صرير الباب فعرفت أنه بدر. القى عليها التحية ثم انحنى على يدها يقبلها فربتت على ظهره بحنو داعية الله أن يباركلها فيه.. ثم تساءلت عن عائشة فأخبرها أنها بخير.. ولم تغفل عن الجرح بيده وقدمه.. فاضطر للكذب واخبارها بأن هذ جرح من عمله بالورشة وبالطبع صدقته لأنه يحدث معه هذا أحيانًا اثناء العمل.
تفاجئ بوجود قصي.. ادعت والدته سريعًا الكذب حتى لا تسوء الأوضاع اذا علم بمبيت هاجر في بيت زياد على الرغم أنها تثق في ابنتها كثيرًا وهي الآن ليست غريبة عنه، ولكن بدر أخبرها بألا تذهب لهناك حتى يتم الزفاف.
–قصي لسه جاي وهاجر لسه ماشية من شوية زياد خدها يوصلها
أومأ بتفاهم والتفت يتفحص سيف ليقول باسمًا
–حلو الطقم ده عليك يا سيف
–شكرا.. قصي اللي ساعدني البسه
–زوقك حلو يا قصي
–منا عارف
–دبش
قالها بدر ضاحكًا.. ثم أخذ شقيقه بمساعدة قصي بسبب عدم قدرته على المشي جيدًا والارتكاز على قدمه اليسرى.
ودعهم قصي.. وذهب ليستعد هو الآخر لامتحانه بالسفارة.
لزوقه العالي في الملابس.. ارتدي قميصا وبنطال أسود اللون وحزام بلون الهافان كلون الحذاء ونضارة سوداء.. كان يشبه زعماء المافيا.. أنيق.. وسيم وغامض.. لكن في الحقيقة وسيم وأحمق تافه..
انتظره والده أمام المنزل بالسيارة ليقوم بايصاله مع أشقائه الفتيات..
خرج يمشي بغرور وتباهِ ويضع يده في جيبه لتعطيه فخامة أكثر وهيبة تناسبت مع نظارته السوداء.. لتصطدم قدمه في حجرة متوسطة جعلته يقع كالبغل أمام اخوته ووالده مما جعلهم يضحكون بشدة عليه
“الهيبة: طائر النورس حلق.. حلق حلق”
——–
ألقت عائشة التحية على سيف فحياها مبتسمًا وأخرج كتابه يسترجع ما ذاكره وكذلك فعلت هي.
لأن جامعة سيف قبل عائشة فوصل هو أولا.. أدخله بدر بمساعدة صديق لسيف للدور الذي سيمتحن فيه ثم عاد ليصل عائشة..
توقف بالسيارة أمام جامعتها وقبل أن تفتح الباب وتترجل منها.. شدّ الباب بتعصب أغلقه وهو يقول بنبرة غاضبة
–استني
تساءلت بقلق
–في ايه ؟
وجدته ينظر لشخص ما بغل وغضب يريد أن يذهب ليهشم رأسه.. نظرت لما ينظر اليه وجدته ذلك الوقح “أمير”
لم ينتبه لنظرات بدر المشتعلة بالغضب ولم ينتبه لعائشة فقد كان منشغلًا باشعال السجائر والضحك مع اصدقائه أمام بوابة الجامعة.
لاحظت عائشة يد بدر السليمة تقبض على عجلة القيادة بقوة حتى بدت أنها ستنكسر من قوة يده.. تسارعت دقات قلب عائشة خوفًا من أن يتهور ويفعل شيء أو يراه أمير فيقوم باستفزازه بكل شجاعة لعلمه أنه لا يستطيع ضربه أمام الجامعة فيقع اللوم عليه.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى