روايات

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والعشرون 21 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الحادي والعشرون

رواية يناديها عائش البارت الحادي والعشرون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الحادية والعشرون

منذ أن أحببتك وأنا أُضيء، كأني إبتلعت القمر في قلبي.♥
_____
ظل الرائـد كـريم واقف مع الضُباط المبتدئين أو أنه يتحجج بالوقوف معهم، حتـى لا يضايقون روميسـاء ثانيـةً، التـي أخذت عقل وقلب كريـم بعفتها وحياءها منذ أول مرة رآها فيها، تذكر عندما رآها ثالث مرة وقد كان حينها يقود سيارته عائدًا للبيت وتعطلت السيارة فجأة، فتوقف ليرى مابـها وفي تلك الأثنـاء شاهدها تدلف لأحد البيوت التي حفظ مدخلها وطريقها جيدًا بينما هي لم تنتبـه له، أمـا عن أول مرة رآها فيها ونالت إعجـابه كثيـرًا عندما شاهدها تقف بعيدًا عن الدرس حين رأت الكثير من الشباب يدلفون لحجرة الدرس وهم يضحكون ويتحدثون مع الفتيات اللواتي يدرسون معهم، كانت هي الوحيدة المنتقبـة بينهم والتي انتـظرت لحين دلف الجميع للحجرة ثم دخلت هيّ، ولأن قسـم الشرطة قريب جدًا من الدرس ومن بيت روميساء فكان سهـلًا على كريم ألا يخطئ بها وفي كل مرة يراها يعرف أنها هي تلك الفتاة التي راقت له ولم يعرف اسمـها ولا أي شيء عنهـا سوى أنهـا طالبة في الصـف الثـالث الـثانوي.
انتظـر كريم لحين انتهـاء الدرس وخروج جميع الطُـلاب حتى جميـلته التي قرر أن يعرف من هي ويتقدم للزواج منـها، ثم دلف لحجرة الدرس، فنهض المُدرس سريعـًا حين رآهُ وقد كان وحده في الحجرة.
قال المدرس بتوتر
–خيـر ياباشـا ؟

كان سهـلًا على المدرس أن يعرف أنه ضابط؛ لأن كريم وقتها كان يرتدي زيّ الشرطة الرسمـي.
أجـاب كريم باسـمًا
–خيـر متقلقش.. أنا كنت عاوز أعرف بس عنوان البنت المنتقبه اللي لسه خارجه من عندك
تعجب المدرس وظن أن روميسـاء فعلت شيء خاطئ، فقال بصدق
–روميسـاء مُـصطفى !.. دي طالبه محترمه جدًا وفي حالها ومن افضل الطلبه عندي.. خير عملت إيه ؟
اتسعت ابتسامة كريم قائلًا بلُطـف
–عايز بس أعرف عنوان بيتها.. عايز أتقدملها
انفرجت شفتي المعلم وقال بإطمئنـان
— ربنا يقدم اللي فيه الخير وييسرلك الأمر.. روميساء بصراحه قمة في الأخلاق ومن عيله محترمه وتشرف
برغم معرفة كريم عنوان منزلها، إلا أنه أصـر أن يتأكد من أن هذا منزلها وليس منزل أقاربها مثـلًا، وأيضـًا أراد ان يستفسر من مُعلـمها حتى يعرف اسمها.
أملاه المعلم العنوان وشكره كريم ثم ذهب لمكتبه في الشُرطة، جلس كريم بأريحيـة بعد أن طلب كوبـًا من القهوة حتى يستطيع التفكير بسلاسة فيمـا سيفعله.
ارتشف القليل من القهوة ثم تنهد بإرتيـاح وهو يفكر بها،ولكن عبس وجهُ حين راودته تلك الأسئلة وغزت عقله.
تُرى هل ستوافق عليه أم ستتحجج بالتعليم وترفض؟
هل من الممكن أن تكون على علاقة غرامية بشخص آخر؟.. لا لا مستحيل الفتيات في مثل أخلاقها لا يختلطون بالشباب أو يتعرفون عليهم دون معرفة الأهل أو ارتبـاط رسمي، إذًا فلنستبعد هذا السؤال.
ماشكلُها؟.. فتاة مثلها لا تغضب الله في ملابسها، من المؤكد أنها تحافظ على الصلاة لذا ستكون جميلة بلا شك.

إلـهي كُن معي.. أحببتها ولم أراها فإكتـبها زوجةً لي.
حدث كريم نفسه بحيرة وتفكيـر
–بس أنا عاوزها تعرف أي حاجه عني وإن أنا حاببها وعاوز أتجوزها عشان ما أروحش أتقدم وأترفض من الباب للطاق كده.. وفي نفس الوقت متأكد إنها مستحيل تقبل تتعرف عليا من ورا أهلها وأنا اخلاقي متسمحليش أطـلب منها كده.. لو أعرف بس حد يعرفها أو يسـاعدني إنها مترفضنيش مره واحدة
مسـح على وجهُ لتهدئـة ذاته، ثم صاح بلهفة بعد أن جالـت تلك الفكرة خاطـره
— بـدر.. ايوه هو الوحيد اللي هيقدر يسـاعدني.. أنا ساعدته في موضوع اخوه لما اتمسك في الشقه مع صحابه، فأكيد مش هيرفضلي طلب..
توقف لينهر نفسـه بغباء
–إيه اللي بقول ده.. بدر أعرفه من صغرنا وبيحب يساعد أي حد سواء ساعدته أو لأ..
صمت مُفكـرًا ليـُردف
— بدر عيلته كلها متدينين وتقريبًا عنده اخته أو حد قريبه في الثانوي وبتوع الثانوي كلهم عارفين بعض.. هكلمه وأقابله اعرفه موضوعي ويخلي حد من قرايبه البنات يفهم روميساء الموضوع.
تنهد بإرتيـاح هامسـًا
–يارب توافق يارب

*اطمئن ..*
‏و إن ضاقت عليك الأرض بما رحُبت؛ فأخرج وانظر إلى السماء كيف رُفعِت، أما علمت أن رافعها قادر على تفريج الكروب، و إن عظمت إن الله على كل شيء قدير.

أخذت والدة بـدر تجوب الصالة ذهـابـًا وإيـابـًا وهي تفرك يديها وتدعو الله بقلق شديد،لقد تأخر الوقت كثيـرًا وذهب الناعيين بيوتهم وانتـهى العزاء وولديها لم يأتيان بعد!
من المستـحيل أن يتـأخر بدر عن المجيء للبيت إلا بعد أن يخبر والدته ويطمأنها، شيء ما في صدرها يجعلها تشعر بالقلق كأي أم تشعر بمـا يحدث لأبناءها، وما زاد الأمر سوءًا أنها هاتفته كثيرًا ولكنه لم يجب وكذلك الأمر مع سيـف.
بعد لحظـات أقبلت عليها هاجر وعائشة، فهرعت بالسؤال لهن في خوف
–مشفتوش بدر وسيف؟
نظرت الفتاتان لبعضهما بعدم فهم،وقالت هاجر بعفوية
–سيف مهو خرج من الصبح وتلاقيه لسه ميعرفش إن عمه اتوفى، وبدر أكيد عند عمو مصطفى
هزت والدتها رأسها بنفي وهي تجلس على الأريكه وتقول بقلق
–لأ.. قلبي مش مطمني.. بدر مش عادته يتأخر كده غير لما يقولي.. وسيف من ساعة مخرج زعلان الصبح وأنا برن عليه مبيردش.. وبدر هو كمان تليفون مره يديني غير متـاح ومره….
قاطع حديثها صوت رنات صادرة من هاتفها، هرعت لترى من المُتـصل، ثوانِ وتحول وجهها للبشاشة وهي تجيب
–بدر.. حبيبي.. إنت فين يابني ؟
أجـابها بهدوء مزيف
–متقلقيش ياأمي.. كنت في مشوار أنا وزياد وجايين
سألته بدهشة
–مكلمتش سيف ؟
ابتلع بدر ريقه ليقول بكذب رغمـًا عنه

–كلمته وهو مع صحابه بس تليفونه كان على وشك يفصل شحن وزمانه فصل
تنهـدت بإرتيـاح وهي تضع يدها على صدرها قائلة
–الحمد للـه.. ربنـا يسلم طريقكم.
أغلقت الهاتف وعادت لطبيعتها الهادئة مُردفة بحنان لهن
–خدي عائشة ياهاجر وادخلوا ريحوا على السرير وأنا هجبلكم تاكلوا.. من الصبح وإنتوا على لحم بطنكم
قالت عائشة بنفي وبإبتسـامة بسيطة
–لا ياطنط.. مش جعانه شُكـرًا
“الأكل ملوش دعوة بأي حاجة بتحصل.. هتيجي بعد كده تدوخي وتتعبي.. كُلي على قد نفسك.. متزعليش أبوكِ منك ياعائـشة”
قالتـها والدة بـدر وهي تتـجه للمطبـخ لتعدّ الطعـام.
ابتسمت عائشة بتهكم مردفة
–هو فين بابا بس عشان يزعل مني
أحاطتـها هاجر من كتفيها بحنان وقالت بلُطف
–الميت بيحس بأقرب الناس ليه..عمو محمود مات من عالمنا بس عايش في قلوبنا.. بيفرح لما حد بيحبه يدعيله.. يرضيكِ توصليلوا دعواتك وإنت مقهورة وحزينة وهاملة نفسك.. شايفه إن كده هيفرح ؟
تنهدت عائشة بحزن وهي تدلف لغرفة هاجر وتتسطح على الفراش بتعب مغمغمة
–أنا عايزه أنام
أجابتها هاجر بمزاح خفيف وهي تجلس بجانبها على الفراش
–كُلي الأول وبعدين نامي.. وعلفكره أنا جعانه ومش هاكل غير معاكِ.. إيه رأيك بقا
أومأت مبتسمة ببساطة
–ماشي ياهاجر.. هاكل على قد نفسي
صمتت لتتساءل بعد لحظات
–هو أبيـه بدر إتأخر ليه صحيح؟.. ده الساعة عدت إتنـاشر ؟!
مطـت هاجر شفتاها قائلة
–علمي علمك.. ربنا يجيبوا بالسلامة
أمنـت عائشة على دعاءها، ثم أردفت بتساؤل وهي تضع يدها تحت خدها وتبتسم بمداعبة
— هترجعوا لبعض إمتـى ؟
في البداية لم تتفهم هاجر مجرى السؤال، ولكن بعد ثوانِ رفعت حاجبيها بدهشة قائلة مُدعية عدم الفهم
–هما مين دول ؟.. مش فاهمة تقصدي إيه ؟
أجابت عائشة ضاحكة، وكأنها تبحث عن أي شيء يخرجها من حزنها وينسيها مرارة فقدان والدها التي تحاول استيعابها تدريجيـًا..
–يابت.. على شوشو برضو..!
تلجلجت هاجر قليلًا؛ فتابعت عائشة بمرح

–علفكرة.. زياد بيموت فيكِ.. والدليل على كده.. إن في مره قابلني وأنا رايحه الجامعة وقعد يديني محاضرة عشان لبسي بس اللي ضايقني وقتها إنه قارني بيكِ.. وقال ياريت كل البنات زي هاجر.. قولتله لما إنت بتحبها أوي كده سيبتها ليه.. زعقلي وقالي ميخصكيش.. بس من طريقة كلامه عليكِ يقول إنه دايب فيكِ دوب كده.. ياحلو إنت ياأبو شعر أحمريكـا
ضحكت هاجر بخفة على آخر جملة قالتـها، وتعمدت أن تتجاهل كلامها لتنزع خِمارها وتظهر شعرها الأحمر الذي أصبح خفيفـًا جدًا وهشـًا للغاية، إثـر جرعات الكيماوي حتى أن رموشها لم تعد موجودة وآثار المرض نال من وجهـها حقـًا.
قالت مشيرة لشعرها بضحكة مزيفة
–خلاص بقا لا بقا أحمر ولا أخضـر.. معتش فيا شعر
حزنت عائشة لأجلها كثيـرًا؛ فقـالت بأسـى
–ليه وقفتِ علاج ياهاجر.. كده بتموتي نفسك بالبطيء
أجابت هاجر بعجز وحزن
–لله الأمر من قبل ومن بعد.. كده كده أجلي قرب.. مريض الكانسر بيموت في الدقيقة ميت مرة.. الكيماوي والعلاج كانو بيخلوني أصرخ من الوجع.. والدكتورة بتقول إني خلاص مفيش علاج جايب نتيجة وبقيت في آخر مرحلة.. فـ ليه افضل أخد في علاج وأوجع نفسي على الفاضي..أنا كده أحسن.. الحمدلله أنا راضية أصـلًا ونفسي يجي اليوم اللي أقابل فيه ربـنا بأسرع وقت.
صمتت لتشير لشعرها ووجهها مردفة بصوت متهدج
–شايفة وشي وشعري بقوا عاملين ازاي .. أنا مبقتش هاجر اللي تعرفوها ياعائشة.. أنا بقيت واحدة تانية.. شعر راسي يتعد على الصوابع.. شكلي بقا بشع
قالت آخر جملة بقلب مكسور وانفطرت في البكاء
–ازاي تبقي قريبه من ربنا وقلبك جميل وطيب وتقولي على نفسك كده !.. يارتني ياهاجر كنت زيك.. كانسر كانسر مش مشكله.. على الأقل هتبقى علاقتي بربنا كويسه وهقابله وأنا مش خايفه
قالتها عائشـة وهي تُطأطأ رأسها بخزي وحزن
مسحت هاجر دموعها بوهن، مغمضة عينيها بقوة، داعية الله في نفسها أن يغفر لها حماقتها وتهورها فيما تفوهت به..
تمتمت بخفوت وندم يصحبه الدموع المُرهقة
–استغفر الله العظيم.. سامحني يارب.. بحاول أصبر على قد ماأقدر بس طاقتي نفدت.. كل واحد ليه طاقة.. وأنا مبقتش قادره أتحمل الوجع والتعب أكتر من كده.. سامحني يارب.
صمتت كلتاهما لدقائق معدودة؛ لتشرد كل واحدة منهن في همها وابتلاءها.
عائشة.. تلك الفتاة الجميلة، سارقة قلوب جميع شُبان الحيّ الذي تسكنه بالإضافة لشباب جامعتها، كل من رأها منهم ودّ لو أنه استلذ بجسدها وجمالها قليلًا، الجميع يريد ذلك، بإستنثاء هذا العاشق المتيم لها منذ الصِغر، بـإستثناء مُربيـها ووالدها الثـاني، ذلك المسكين الذي عشقها وأحبها لذاتها حُبًا جمـًا ولم ينل منها قطرة حُـب، ولـعزة نفسها وغرورها الزائد، ظنـت بأنها تستطيع نيل كل ماتريده بجمالها ورقتها، مثلما فكرت في الزواج من أمير ذلك الذي ينظر لجسدها كما ينظر الذئب لفريسته؛ لكي تنعم بالعيش في رفاهية والغوص في مجتمعهِ الراقي، ولم تفكر فيما سيحدث لها كُلما أشاحت وجهها عن النصيحة وفضلت السير على نهج العُـصاه، إلا أن ‏بات كل شيءٍ في عينيها ليس له أهمية، لقد عرفت وفاقت مؤخرًا وأدركت أن لا شيء سيؤنس وحدتها في القبر، سوى عملها الصالح، والعمل الصالح لا يأتي إلا بالقرب من الله والنفور من كل ما يغضبه.

“الكمال لله وحده”
انطبقت تلك الجُملة على “هاجـر” تلك الفتاة التي أحبها الصغير والكبير وتمنى لو أنهم في مثل خُلقها وتدينها، الجميع يحسدونها على جمال علاقتها مع حبيبها، اعتادت أن تنادي ربها بـ”حبيبي” منذ أن كانت طفلة وأدركت من هو الخالق البارئ، لم تجد أفضل من الله يستحق لقب “حبيبها” هو صديقها وملجأها ونور دربـها، كانت ومازالت علاقتها مع الله جميلة لم تمسسها أي معصية، حتى ولو أذنبت كانت تسرع بالوضوء والوقوف بين يدي الرحمن لتصلي ركعتان توبه من ذنبها، فهي لاتطيق أن تغضب الله أو تأوي لفراشها وهي على ذنب حتى تستغفر آلاف المرات دون يأس أو تعب، ولكن هذا المرض اللعين أخذ يذيب في طاقتها وجعلها لاتستطيع الصبر أو مقاومة الألم أكثر من ذلك، تود أن تصعد روحها لخالقها، حتى تستريح من عناء السقم .
اختلف نوع البلاء عند هاتان الفتاتانِ، واحدة أُبتليت بالغرور حتى غرتها الدنيا وابتعدت عن الله،فكان ابتلاءها نقمة عليها حتى خسرت أبيها دون حتى أن تودعه، والثانية ماكان ابتلاءها إلا محبة من الله، فكلما صبُرت، زاد الله من عِلتها؛ لكي يختبر مدى قوة صبرها ورضاها، والله لا يضع الإختبار والبلاء العظيم إلا للمؤمن القوي المُحب لله.
قطـع شرودهم الشديد، دخول والدة هاجر عليهم وهي تحمل صينية الطعام لهن.
قالت بإبتسامة حنونه
–يلا ياحبايبي.. سموا الله وكُلوا.. إنتوا من الصبح على لحم بطنكم
إنصاعت الفتاتان لكلام تلك السيدة الطيبة، وشرعتَ في الأكل، فقد كانتا جائعتان بالفعل، ولكن أكلَ في صمت، فعقلهما مازال يفكر في أمورهُنّ وهمِهنّ.
تذكرت هاجر شيء أحزنها كثيرًا من نفسها، فقررت مصارحة عائشة به بعد تناول الطعام؛ لتطلب منها المسامحة على مااقترفته من ذنب تجاهها.
___________
– الحروبُ التي لن يفهمها أحد إطلاقـًا ، حروبُ الإنسان الداخلية، أن تشعر بأن داخلك يتشبع بالحيرة والتيه، وأن ذاتك انتثرت في الفراغ ضائعة بلا مأوى، هذا أسوء شعور على الإطلاق جعل “سـيف الإسلام مُحمد الخيـاط” في حالة يُرثي لها تمامـًا، وهو السبب والمُلام على كل مايحدث له، لقد تجرع كأس الحقد على شقيقه الأكبر بتلذذ، فإنسكب الكأس على رأسه، وحرق قلبه وحياته، ماذا سيفعل الآن وهو من وضع نفسه في هذا المأزق المُميت، لقد شُلت قدماه وتكبل لسانه داخل فاه.. ماذا سيفعل؟!
ظل سيف يرمقهم بعيون بدت الدموع تتجمع بها دون أن يتكلم، حاول الطبيب معه مرارًا ولكنه لم يتفوه بكلمة .
نظر ثلاثتهم لبعضهم البعض في دهشة وبدأ الشك يدخل قلب بدر والخوف يمزقه، فقال مُتلجلجًـا وهو يتحسس وجه أخيه بأنامله
–سيف.. حبيبي.. حاسس بإيه؟.. قول أي حاجه بالله عليك.. سيف ؟.. سيف رُد ؟
فتح زياد فمه بصدمه غير مصدق أن إبن عمه فقد النطق.. قال الطبيب بحزن موجهـًا حديثه لبدر وزياد
–محتاج اتكلم معاكم على إنفراد
أومأ بدر والدموع تتجمع في عينيه بحسرة على أخيه.

في غرفة الطبيب الخاصة، جلس بدر صامتـًا حزينـًا يستمع لِمَ يخبرهم به الطبيب.
فقال آسفـًا
–الحالة اللي سيف فيها، بنسميها صدمة مابعد الإصابة، لما المريض بيفوق ويعرف باللي حصله، بيصاب بصدمة تفقده النطق.. جايز تكون مؤقتة وجايز لقدر الله يفضل عاجز عن الكلام لحد ماحالته تتحسن.. ومقدرش أحدد هل ده فقدان نطق مؤقت أو دائم إلا لما يتحط تحت المراقبة في المركز عندي لمدة إسبوع.
تحدث زياد نيابة عن بدر الذي ألجم العجز لسانه
فقال متفهمـًا الموقف
–شُكرًا لحضرتك يادكتور.. اسمح لنا بعد إذنك نودع سيف ونعرفه إننا هنزوره يوميـًا لحد مايرجع البيت
بنفي أجاب الطبيب
–للأسف الزيارة مش مسموح بيها؛ لأن ده بيعوق عملنا
تنهد زياد متمتم
–ربنا يشفيه ويقدم اللي فيه الخير
ودع زياد وبدر” سيف ” وبكى بدر كثيرًا وهو يعانق شقيقه بحرارة، حتى لاحظ انسياب الدموع من عيون سيف التي انطفئ لونها الأخضر الجميع واختفى بريقها من شدة الحزن والخوف مما أصابه.

في الطريق للبيت، قطع زياد الصمت الذي اجتاح بدر منذ رؤية شقيقه في تلك الحالة..
” برأيك نقول لعمتي الحقيقة ولا نسكت.. أصل بصراحة قلبها هيحس إن حاجة حصلت.. دي أُم برضو ”
أجاب بدر في ضعف
–مش عارف
صمت زياد ليردف مُحاولًا إخراجه من صمته بأي طريقة
–طيب إنت لسه عند قرارك إنك تسفره يتعالج برا ؟
_ مش عارف
قلق زياد حياله، فهو لم يراه ضعيفـًا هكذا من قبل.. تساءل في تعجب
–إنت ليه مستسلم كده !.. فين بدر اللي عقله يوزن بلد ؟..
ابتسم بدر بتهكم دون أن يتفوه بكلمة، يشعر بخيبة شديدة كخيبة ذلك السجين الذي سمحوا له بالزيارة مرة واحدة في السنة، ولم يأتِ أحد.
***
وصلا للبيت والصمت مازال سيد الموقف، صمت يسبقه الحسرة والإنكسار والحُزن.
دخل بدر أولـًا بعد أن رن الجرس ثم تبعه زياد قائلًا
–تحب أدخل معاك؟
_لاء روح إنت
–لو إحتجت أي حاجه اتصل عليا وهجيلك
–إن شاء الله
ذهب زياد لبيته آسفـًا مُنطفئ بسبب ما يحدث للعائلة، بينما بدر دلف لبيته مُنكس الرأس لايعلم ماذا سيقول لوالدته وهو بحياته لم يكذب عليها.
في ذلك الوقت كانت الفتاتان قد انتهيتَ من أكلهم وهمت الإثنتان للنوم بعد أن غلبهم النُعاس وترددت هاجر في الإعتراف لعائشة بخطأها، غفت هاجر ونامت بالفعل بينما عائشة ظلت تتقلب بأرق محاولة النوم ولكن لم تستطيع بسبب الإشتياق لوالدها الذي لازمها منذ أن رحل.
أقبلت أم بدر تسأله في لهفة
–بدر.. كنت فين يابني كل ده.. وأخوك فين من الصبح مجاش ليه؟
أجاب بدر وهو يحاول تصنع الثبات
–سيف.. سيف كلمني من تليفون واحد صاحبه وقال إن تليفون وقع منه وهو مسافر في رحلة تبع الكُلية عشان أبحاث وحجات من دي واحتمال يرجع بعد أسبوع
تنهدت والدته بحزن وقالت
–ربنا يهديه.. طيب قولتله إن عمك مات؟
_ لاء.. مكنش فيه مجال.. أصل روحت مع زياد مشوار ضروري خاص بيه
تأملته والدته بشك فإرتبك بدر وأشاح بصره مردفًا
–البنات فين ؟
— مالو وشك مخطوف كده يابدر.. إيه اللي مخبيه عليا ياابن بطني ؟
قالتها والدته وهي تتطلع له بقلق
تنهد بدر مجيبًا
–مفيش ياأُمي.. بس موضوع الفديو ده شاغل دماغي ومخوفني أوي.. مش عارف لما عائشة تعرف هيكون رد فعلها إيه.. وأنا سمعتي بقت في الطين قدام أهل الحارة
ربتت والدته على كتفه بحنو هامسة
–متشيلش نفسك فوق طاقتها يابدر.. ربك رب قلوب يابني.. ربك يعدلها.. اهدى إنت كده عشان فيه موضوع مهم لازم تعرفه
_ موضوع إيه ؟
_تتجوز عائشة

فهم بدر مايدور في رأس والدته فأردف سريعًا
–لو هتجوز عائشة.. فأنا هتجوزها عشان بحبها مش عشان أخرس ألسنة الناس.. أنا عارف ياأمي إن عائشة هي الوريثة الوحيدة لأبوها والعيون عليها هتكتر وأي واحد هيطلبها للجواز هيبقى عشان الورث.. وأنا مش هسيب بنت عمي للغريب
“اه.. فقولت بقا إنت أولى بالورث.. لاء براڤو بتعرف تفكر.. مثلت عليا الحُب عشان الورث.. بس الحمدلله إن كنت دايمًا شاكه في حُبك المزيف ده وإن موقعتش في شباكك وحبيتك يابدر.. وأنا لسه عند كلمتي.. إنت متستاهلش إنك تتحب.. أنا بكرهك وهفضل أكرهك طول عمري يابدر.. بكرهك”
قالتها عائشة وهي في شدة إنهيارها مما جعلت بدر يفتح فمه من الصدمة وكذلك والدته التي شهقت بدهشة، ثم وقعت عائشة على الأرض مغشية عليها، لقد سمعت آخر حديثه ولم تفهم نواياه الحسنة، لقدر دمر سوء الظن علاقتها به بعد أن بدأت تتحسن قليلًا وتشعر بالحُب تجاهُ، اللعنة على الأوقات الخاطئة، اللعنة على سوء الظن.
هتف بدر بخوف شديد
_عائــــش !
هرع نحوها مُتناسيـًا كل شيء ونزل على ركبتيه تجاهها ليحملها، ولكن قبل أن تمسس يداه جسدها أوقفته والدته لتنهره بلُطف
–لاء يابدر.. بلاش تكرر الغلط مرتين… دي أمانة من عمك.. صون الأمانة يابني ومتلمسهاش لحد ماربنا يصلح حالكم ويجمعكم بالحلال
قال بدر بضعف وهو يقف مبتعدًا عنها
–مش قادر أشوفها كده.. هي ليه غبية.. ليه دايمًا فهماني غلط.. ليه مصممة تبعد عني؟.. ياأمي والله العظيم أنا صادق في حبي ليها.. ياأمي صدقيني أنا بخاف عليها من شكة دبوس ازاي هبقى طمعان في ورثها ولا عاوز ءأذيها ؟ ده أنا لو أطول أديها عُمري والله مهتأخر ثانية.. هي ليه كده ؟؟؟
أدركت الأم أن ابنها وصل لأعلى مراحل الإنهيار والضعف، لقد أُبتلي بالعشق ولا منجا للعُُشاق.
قالت بمواساة
–أنا هفوقها.. أنا معاها أهو.. روح غير هدومك واتوضى وصلي ركعتين لله.. تماسك يابدر.. إنت عمرك ماكنت ضعيف كده يابني
أجاب دامعـًا وهو يشير لعائشة
–قوللها الغبيه دي إن مستحيل أطمع فيها.. فهميها إني بحبها ولو هتفضل مفكرة إني طمعان في الورث وإني بمثل الحُب عليها فأنا هشيل فكرة الجواز من دماغي خالص.. بس برضو هفضل أحميها من أي حد.. دي وصية ميت والوصية لازم تتنفذ.
أومأت والدته وهي تبكي على ذلك الشتات الذي فرق شمل العائلة، استطاعت أن تُرجع عائشة لوعيها، نهضت الآخيرة واضعة يدها على رأسها بتألم قائلة
–أنا مصدعه أوي.. أنا تعبانه.. أنا عاوزه أعيط.. عاوزه أعيط أوي.. عاوزه أصرخ بصوت عالي.. أنا تعبانه..
أخفت عائشة وجهها بين كفيها وأخذت تبكي بشدة وتشهق بصوت عالي ووالدة بدر بجانبها تحاول أن تجعلها تهدئ، وصل صوتها العالي لآذان بدر الذي جنّ جنونه حين سمعها تبكي بقوة هكذا، فجلس على فراشه واضعًا يده على رأسه وأخذ يردد بضعف شديد
–يارب ساعدني.. أنا تايه.. مش عارف أعمل إيه..عيلتي بتضيع مني ومش عارف أعمل إيه.. يارب ساعدني

أبعدت عائشة يد والدة بدر من على كتفيها لتنهض وهي تمسح دموعها بغضب، مُتجهَ لغرفة بدر، قامت بزج الباب فإنتفض بدر من مكانه بدهشة.. لم تنتظر عائشة أن يبدأ بالحديث، فصاحت بغضب أعمى قلبها
–مش معنى إن أبويا مات يبقى أنا لعبة سهلة في ايديكم..اللي هيقرب لحقي هقتله.. سامع يابدر.. مش هيكفيني موته.. أنا مش ضعيفة أنا أقدر أحمي نفسي كويس.. وإنت بالذات مش هيهدالي بال غير لما أنتقم منك على اللي عملته فيا
_أنا عملت إيه ياعائش ؟
قالها بدر وهو مازال جالسـًا على فراشه، ينظر أمامه بإنكسار
ردت عائشة بغيظ
–متقوليش عائش.. بطل كدب بقا.. إنت بتدارى بكدبك ده تحت القناع البريء اللي انت لابسه.. إنت شيطان يابدر.. شيطان
صمت بدر ولم يجيبها واكتفى بنظرة ساخرة جعلتها تستشيط غضبـًا
قالت والدته
–استهدي بالله ياعائشة.. انتِ فاهمة غلط والله
تجاهلتها عائشة، ثم تقدمت نحو بدر لتقف أمامه مباشرة عاقده يديها على صدرها مردفة

–أنا موافقة اتجوزك يابدر
رمقها بإبتسامة ساخرة ليقول
–بجد ؟.. تمام.. وأنا مش موافق ياعائش.. قصدي ياعائشة
“هتجوزني يابدر.. يإما والله العظيم هعمل اللي مكنتش تتخيله في حياتك”
قالتها عائشة وهي تنظر له بتحدي ووجهها محتنق من الغضب
هبّ بدر واقفـًا، فتراجعت هي للوراء بخوف انتابها للحظة
قال مُحذرًا
— أنا مسامحك على سوء ظنك فيا.. بس لو فكرتي إنك تإذي نفسك هتشوفي مني وش متحبيش إنك تشوفيه ياعائش
صاحت بغيظ
–تاني زفت عائش.. إنت مبتزهقش من تمثيلك ده..علفكرة أنا مبهزرش.. أنا قد كلامي
تنهد بدر مشيرًا للباب برأسه
–اتفضلي اطلعي عشان عاوز أنام
تمتمت بصوت وصل لمسامعه
_نامت عليك حيطه يابعيد
قال بلهجة آمره متجاهلًا لسانها السليط
–نامي مع هاجر.. بيت أبوك ميندخلش غير لما تعرفيني
رمقته بغيظ شديد ثم أخذت تلك الفازة على الكومود بجانب الباب وألقتها في الحائط فصارت حطامًا وصرخت
–تطلع مين إنت عشان تديني أوامر !
ابتسم بتحدي بعد أن أعاد التفكير فيما قالته
–اتعودي من هنا ورايح تسمعي الكلام.. عشان تبقي زوجة مطيعة وأجبلك بونبوني زي زمان
كزت عائشة على أسنانها من استفزازه لها وتركت الغرفة لتدلف لغرفة هاجر والغيظ يشعل قلبها تجاهه.
تُرى مالذي تنوي فعله تلك المشاغبة؟ وماذا سيفعل هذا المسكين في كل الهموم التي انكبت فوق رأسه؟
____
‏”ليس هناك ما يؤلم الإنسان، أكثر من كونه يعيش حالة حزن خامدة، حتى البوح لا يستطيعه.”
هبّت زوجة والد روان صائحة بدهشة
–إيه؟.. قتلتي!.. يعني ايه.. ازاي ؟؟.. عملتي إيه ياروان..؟؟!
صمتت روان تبكي بخوف شديد، فأعادت الزوجة السؤال
–انطقي عملتي إيه.؟

قالت روان بصوت مهزوز من الخوف
–وا.. واحد.. كان.. كان بيحاول.. يتحرش بيا.. وأنا.. وأنا
لم تستطيع الإكمال بسبب شدة بكاءها الذي كبل لسانها وقلبها الذي امتلاء بالرعب مما فعلته.
أمسكتها زوجة والدها من كتفيها وهزتها بقوة هاتفة
–يابنتي قولي عملتي إيه.. خليني أفكر في حل للمصيبة دي بسرعة.. انطقي
“لقيت حتة حديدة على الأرض.. فضربته بيها على دماغه وأغمى عليه وسبته وجريت”
قالتها روان وهي ترتعد خوفًا وادعت ذلك حتى لا يكبر الموضوع ويبدأ التساؤل عن ماهية سيف وكم هائل من الأسئلة التي ستطرحها عليها إذا عرفت العلاقة بين سيف وروان.
جلست الزوجة بجانبها وزفرت طويلًا تحاول التفكير في أي شيء.. فقالت بهدوء
–إنتِ معملتيش حاجة غلط.. أي بنت لو اتعرضت للموقف ده هتعمل أي حاجه عشان تدافع عن نفسها
غمغمت روان بحيرة
–بس.. بس.. ممكن يموت بسببي.. وأكون كده مجرمة وقتلت
_احتمال كبير إن حد أنقذه.. أصل إنتِ مش بالقوه يعني إنك تضربيه ضربة تموته.. هو أكيد نزف من تقل الحديده وأغمى عليه.. بس مماتش.. وإنتِ معملتيش حاجة غلط.. ده جزاته.

أومأت روان بتفكير في سيف خوفًا عليه وقررت في نفسها أن تعرف بأي طريقة ماذا حدث له، تركتها زوجة أبيها ترتاح قليلًا بعد أن طمأنتها أنها ليست مذنبة.
___
دخل زياد بيته وعلى مشارف الباب توقف لينزع حذائه، فلاحظ انزلاق حجرة صغيرة من سطح البيت.. نظر لأعلى فإنتبهت حواسه لوجود أحد فوق..
أخذه الفضول ليعرف من من الممكن أن يتواجد فوق السطح في هذا الوقت المتأخر من الليل،صعد لأعلى بحذر وتفاجئ بوجود نورا شقيقته تتحدث في الهاتف بخفوت وتقول
–أنا خايفه ليعرفوا إني ورا الفديو ده

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى