روايات

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الحادي والأربعون

رواية يناديها عائش البارت الحادي والأربعون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الحادية والأربعون

“براءتها تكفي بأن تجعل الصلب يذوب و كأن خالقها سواها بدون عيوب” لـ نرمينا ♡
*****
ظل “زياد” جالسًا في مكتبه قرابة الثلاث ساعات، يتصفح أوراق يبدو من تدقيقه لها أنها قضية في غاية الأهمية.. شعر بالتعب و أدمعت عينيه لشدة تركيزه في تلك الأوراق المبعثرة على مكتبه، ففرك جفنيه بملل وهو يتثاءب بيأس، يبدو من ملامحه التي تغيرت فجأة لعدم الرضا والتذمر أن هناك أمر ما شديدة الصعوبة يُصعب عليه فك شفراته في القضية التي يتولاها.
زفر بضيق محدثًا نفسه
–استغفر الله العظيم.. طب دي تتحل ازاي
نظر في ورقة أخرى ثم الثانية دون جدوى، وضعهم بعنف على مكتبه ونهض ليقف في شرفته يستنشق نسمات الهواء الضئيلة بفعل الطقس الحار.
عدة أمور تشغل بال زياد، أولهما نتيجة التحاليل الخاصة بوردته و حُب حياته، يشغل هذا الأمر حيز ضخم من مساحة عقله وقلبه، رغم أنه يتفائل بالخير دومًا، لكن في بعض الأحيان يشعر بوخز في قلبه عندما يتخيل الحياة بدونها؛ حتى مجرد ذلك الشعور ينفضه من رأسه في الحال إذا جاءه، و أيضًا اقتراب موعد زواجه وانشغاله بالتحضيرات وتوالي القضايا عليه.. كل ذلك يملأ رأسه فلا يستطيع التفكير بسلاسة؛ لذا يتخبط عقله كلما فكر في حل تلك القضية التي ستُعرض أمام المحكمة بعد غد.
أثناء استغراقه في التفكير لمحت عيناه هاجر تقف في شرفة بيتهم المقابل لغرفته وتقوم بنشر الملابس، لم تلاحظ هاجر وجوده بينما هو نمت جانب شفتيه ابتسامة ماكرة و دلف للداخل ليحضر عدة أوراق ليس لها أهمية ثم كورهم ليصبحوا في حجم كرة صغيرة وعاد ليلقيها باتجاه شُرفتها بكل قوة، ثم توارى سريعًا خلف الحائط وأخذ يضحك ساخرًا من نفسه على فعلته الطفولية الشقية، بينما كرة الورق اصطدمت بكتف هاجر فأخذت تبحث عن الفاعل ببراءة، وفي ذلك الوقت كان أطفال حارتهم يلعبون أسفل البيت.. ظنت أنه ربما يكون ذلك من فعل طفل شقي فلم تهتم وعادت لتكمل عملها في نشر الملابس.. اختلست النظرات على شرفة زياد ولكنها كانت فارغة، تذكرت ما كان يفعله عندما كانت في الخامسة من عمرها وهو في الثامنة عشر.. في ذلك الوقت كانت مصابة بتسوس الأسنان لحبها الشديد للحلوى؛ فمنعها الطبيب عن تناولها ولكنها كانت طفلة لا تفهم ذلك.. فطلبت من بدر أكثر من مرة الحلوى وفي كل مرة يرفض معللًا أنها مضرة لها، فتذهب لزياد لتخبره وهو كالأحمق يلبي لها طلبها في الحال، وحتى لا يعرف بدر بالأمر.. يقوم بوضع الحلوى في كرة من الورق و يلقيها في شرفتها كما فعل منذ قليل؛ حتى في مرة من المرات ألقي بكرة الورق وكان بدر حينها يذاكر لهاجر فعلم بما فعله، و كانت ليلة لن ينساها زياد في عمره.. كادت أن تقع أسنانه من كثرة الحلوى التي أمره بدر بأن يتناولها كلها في وقت قصير؛ حتى يشعر بالألم الذي تشعر به هاجر عند تناولها للحلويات، ومنذ ذلك الحين يكره شيء اسمه “حلوى” .
وضعت هاجر يدها على فمها؛ لتكتم صوت ضحكها الشديد وهي تتذكر ذلك الموقف الصعب و المخجل الذي وقع فيه زياد تحت يد بـدر والفضل يرجع لها.
خرج زياد من مخبأه متأملًا إياها بنظرات عاشقة ككل مرة تقع عيناه عليها، لاحظت هاجر وجوده فتوقفت عن الضحك للحظة، ثم ابتسمت له فبادلها الإبتسامة.. انحنت هاجر لتحضر الكرة الورقية التي صنعها و القتها عليه وهي تعود للضحك بكثرة عن ذي قبل وفي عينيها تظهر نظرة الانتصار كأنها تخبره بأن كل حركاته الطفولية باتت مكشوفة لديها بل محفوظة في قلبها منذ الصِغر.. تلقى زياد الكرة في صدره فأخذها وهو يضحك ويهز رأسه بمعنى أنه يعترف بالهزيمة.. أتاه صوت من داخل غرفته يقول بنبرة هازئة
“مش عيب أما تبقى شحط في التلاتينات وتلعب بكورة ورق !”
استدار في الحال ليجد أن الواقف ما هو إلا “قُصي” دفع زياد بالكرة تجاهه ليقول غاضبًا
–أنت بتهبب ايه في مكتبي ؟؟
رد قصي ببراءة
–بقالي ساعة بخبط وأنت ولا هنا.. قلقت عليك لتكون نطيت من فوق المكتب و انتحرت فدخلت ألحقك
–ولاه بقولك ايه.. أنا مش ناقصك.. اطلع برا ومشوفش وشك هنا تاني
قالها زياد بحدة مغتاظًا من رده البارد، فاصطنع قصي أنه لم يسمع شيء وجلس بمنتهى الهدوء على الكرسي بجانب المكتب مردفًا
–اعتبرني زبون عندك واسمع الحوار اللي جايلك فيه
هتف زياد بغيظ وهو يخلع نعاله
–زبون !! حد قالك إن ببيع بوكسرات على الناصية
عندما رأى قصي النعل في يد زياد قفز في الحال ليفر بالهروب، فلحق به زياد و احتجزه في احدى زوايا الغرفة ووضع النعل بصمته على أماكن متفرقة من جسد قصي و الأخير يصرخ من التألم ويضحك في نفس الوقت، تركه زياد عندما رآه يضحك بشدة غير مباليًا للألم الذي يتركه النعل على جسده.. قال زياد ضاحكًا رغمًا عنه وهو يعود ليجلس أمام مكتبه
” جبلة اقسم بالله.. معندكش دم”
نهض قصي كأن شيئًا لم يكن، وجلس هو الآخر قبالته ليقول بترجي
–متساعدني بالله عليك بدل ما أنت واقف في الشباك للمعاكسة ليل ونهار كده
نهره زياد بحدة
–ميخصكش
–طب هتساعدني ؟
–اساعدك في ايه.. أنت مش شايف الدنيا ملخبطة ازاي.. قومي ياحبيبي العب بعيد أنا مش فاضي لتفاهتك
–لأ فاضي بس للست هاجر
قالها قصي مازحًا، بينما زياد احتقن وجه بغيرة و رمقه بتحذير هاتفًا
–قصـي.. لحد هاجر و تتخرس متجبش سيرتها.. أنا مبهزرش.. المرة الجاية لو اسمها جه على لسانك هقطعهولك.. أنا حذرتك قبل كده وبحذرك تاني أهو.. التالتة…..
قاطعه قصي بخوف قليلًا من نظرات زياد الحادة
–ياعم خلاص أنا مقصدتش حاجة أصلًا.. وبعدين دي زي أختي أنت دماغك راحت لفين
هدأ زياد ليقول دون أن يرفع عينيه عنه
–تتكلم معايا بحدود بعد كده.. ايه ياعم دي !
ناسي إن فرق السن بيني وبينك اتناشر سنة يا تافه
أومأ في صمت و التمعت عينيه الزرقاء بالدموع من لهجة زياد الحادة معه متناسيًا ما قد جاء لأجله، هذا هو قصي منذ أن كان طفلًا بريئًا و يتأثر بسرعة باللهجة الحادة؛ حتى بعد أن صارا في مقتبل الشباب و لازال يتسم بتلك الصفات الطفولية رغم خفة ظله، و روح الدعابة التي يتمتع بها.
نهض قصي في هدوء قائلًا وهو يذهب
–أنا ماشي.. عاوز حاجة
شعر زياد بالذنب لعلو صوته عليه و تهديده، فقام و ربت على ظهره بحنو ثم عانقه آسفًا
–طيب أنا آسف متزعلش مني.. معرفش إنك حساس أوي كده
رد قصي وهو يعانقه بقوة كالصغار
–دي أكتر حاجة بكرها فيا.. إن حد يزعقلي وعنيا تدمع قدامه.. بحس إني قليل أوي في نظره.. بس غصب عني بتأثر بسرعة
في ذلك الوقت دخل “أُبيّ” عندما وجد الباب مفتوح قليلًا.. اتسعت عينيه بصدمة عندما رآهم يعانقون بعضهم البعض و صاح كأنه أمسك بهما متلبسين في موقف حرج
–ايه اللي يتعملوه ده !!
ابتعد الأثنين عن بعضهما في فزع ليقول قصي رافعًا يديه للأعلى باستسلام
–هو اللي اتهجم عليا الأول
بادر زياد القول هو الآخر بمدافعة
–والله حضنته عشان بيعيط
“أعيط !! ”
قالها قصي متعجبًا كأن عينيه لم تدمع أساسًا، ثم انفجر ضاحكًا عندما تمتم زياد بسبه و أسرع بالتوارى خلف أخيه
قال زياد وهو يعِده بالعقاب
–ماشي يا أبو عيوطه.. هتروح مني فين مسيرك هتقع في ايدي زي ما حصل من شوية وساعتها مش هرحمك
ضحك” أُبي”عليهما و تساءل عن تلك الفوضى على مكتب زياد وكثرة الأوراق المبعثرة هنا وهناك.. فأجاب زياد زافرًا بضيق
–والله يا أُبي مش عارف في ايه.. مش قادر أركز خالص.. أول مرة قضية تقف قدامي و معرفش أحلها.. وخلاص مفيش وقت.. الجسلة بعد بكرة
“في برضه واحد قدامه كام يوم و هيبقى في عش الزوجية و يركز !”
كان ذلك صوت قصي ثانيةً متناسيًا تحذير زياد من التدخل في شؤونه الخاصة، ضرب زياد كفا بكف و قال بنفاذ صبر
–اللهم طولك يا روح.. الواد ده مش هيجبها البر انهارده..أُبي.. شوفلك صرفة مع أخوك.. عشان أنا مستحلفله لو وقع تحت ايدي هو عارف كويس هعمل فيه ايه
أمر أُبي شقيقه بأن يتأدب في الحديث مع زياد فانصاع قصي لأوامره احترامًا له وجلس معهما..
أردف زياد محدثًا أُبي و أمارات الحيرة على وجهه
–القضية دي فيها لغز محيراني..
أخذ أُبي الورق يحاول أن يفهم أي شيء ليساعده، وبعد دقائق فشل في فهم القضية.. طلب منه شرحها باختصار.. فقال زياد وهو يحك جبينه بيأس
— فادي و أسامة، سياسيان مشهورين ..اتفقوا انهم يتجمعوا في مطعم لمناقشة خططهم.. طلب كل منهما عصير مانجا ، أسامة بعد ما شرب عصيره وقع فجأة و مات فورًا ، اتضح بعد كده إن فادي و أسامة كانوا متعرضين للاغتيال من رئيس الحزب المعارض ليهم.. بس اللغز المحير هنا..ليه فادي عاش و أسامة مات رغم إن الكوبيتين كان فيهم سم ؟
قال قصي بعد تفكير لم يأخذ ثوانِ
–العصير كان فيه مكعبات تلج ؟
نهره شقيقه بغضب حتى لا ينزعج زياد
–قصي.. مش وقت هزار
–أنا مبهزرش.. أنا بتكلم بجد.. العصير كان فيه مكعبات تلج
أومأ زياد بتركيز فيما قاله قصي
–أعتقد في الجو الحر ده العصير هيبقى فيه مكعبات تلج
تابع قصي حديثه محاولا أن يحل لغز القضية في ذهنه
–كده بقت واضحة زي الشمس.. مكعبات التلج هي اللي فيها السم مش العصير نفسه..
فادي شرب عصيره مرة واحدة مستناش لما مكعبات التلج تسيح و بكده السم مش هيختلط بالعصير أما أسامة كان بيشرب عصيره على مَهله.. عشان كده التلج ساح و السم اختلط بالعصير وده أدى لموته
تبادل زياد و أُبي النظرات بدهشة مما قاله قصي و كأن نظراتهما تدلان على الإنبهار من الحل المقنع والتفكير الذكي.
تساءل زياد بشك
–وايه اللي يخليك متأكد كده.. يعني افرض توقعك غلط !
رد قصي بلامبالاة
–ما غلط غلط حد قالكم إني محامي يعني.. أنا بقول وجهة نظري.. أنا بصراحة شايف إن اللغز في مكعبات التلج
تأمله زياد للحظات مفكرًا فيما قاله، وجد أن حله للغز مقنع جدًا.. أعاد دراسة القضية في ذهنه لدقائق وجد أن الحل بالفعل في مكعبات الثلج.. تعجب من نفسه لعجزه عن فك شفرات القضية رغم الإتضاح من سهولتها، كيف لم يخطر على باله أن اللغز في مكعبات الثلج كما قال “قصي” هل قصي يتمتع بهذا الذكاء الخارق أم أن القضية أصلًا سهلة ولا تحتاج لتفكير، و انشغاله بهاجر و التحضيرات لحفل زفافه جعلت ذهنه مشتت، وهو معروف وسط رجال القانون أنه أذكاهم !
تنهد زياد ببطء و نهض ليهاتف صديق له معروف أيضًا أنه يتمتع بدهاء في حل القضايا
بعد إلقاء التحية شرح له زياد ما في الأمر و أخبره بتوقع ابن عمه، فرجح صديقه ذلك أيضًا و أخبره أن الحل في مكعبات الثلج، لم يهدأ بال زياد و قرر أن يهاتف الضابط الذي قبض على الجرسون و رئيس الحزب؛ ليسأله عن صحة ما قاله قصي.. فأخبره الضابط أن كوبان العصير كان بهما بالفعل مكعبات ثلج مسممة كما أعترف النادل.. شكره زياد بعد أن أغلق معه المكالمة و نظر لقصي للحظات منبهرًا من ذكائه ليقول
— طلعت بتفهم.. يجي منك برضه
ثم نظر لـ أُبي و تابع
— أخوك طلع ذكي و احنا مش واخدين بالنا.. العصير فعلا كان فيه مكعبات تلج مسممة.. أنا كنت للحظة هتهم فادي أنه مشترك في قتـل صاحبه لأنه مماتش زيه رغم إن عصيره مسمم.. بس طلع اللغز فعلًا زي ما قال قصي
أردف قصي بغرور معتزًا بنفسه
–اومال انتوا فاكرين ايه.. البلد دي مجابتش غير اتنين.. قصي الخياط و نجلاء
–يادي النيلة على نجلاء واللي جابوا نجلاء
قالها زياد ضاحكًا و تبعه أُبي
–نجلاء مين اللي أنت فالقنا بيها دي ؟
–متشغلوش بالكم.. موضوع كده محدش فاهمه غيري
أبدى زياد إعجابه الشديد بذكاء قصي بالإضافة لسرعة البديهة التي يتمتع بها، بصرف النظر عن حماقة و سذاجة قصي إلا أنه يتمتع بعدة صفات وهبها الله له ولكنه لا يستغلها بشكل صحيح.. مثلًا كصفة الجمال، صوره الخالق في أحسن صورة فأنعم عليه بعينان زرقاوتان في غاية الجمال ورموش سوداء كثيفة من رآها ظن أن عينيه مزينة بالكُحل الأسود، كذلك فمه الصغير كأنفه و شعره البني كلون القهوة الفاتحة.. ملامحه الغربية الجميلة تذهب هباءًا إذا تصرف بحماقة كالصبية، ذكاءه و سرعة تحليله للأمور و استنتاجاته الصحيحة أضافت لشخصيته نقاط إيجابية، فلما لا يضع الكرة في مرماها الصحيح و يفوز بالهدف !
كان زياد يحدث نفسه وهو يتأمل قصي بإعجاب لأول مرة.. فقال الآخير مازحًا
–بتبصلي كده ليه ؟ أنت صرفت نظر عن الحريم ؟؟
–اخرس يا حيوان
“أهو.. اتخرست”
قالها ثم وضع يده على فمه رافعًا راية الإستسلام، فضحك شقيقه قائلًا لزياد
–علفكرة أنا مستغربتش من ذكاء قصي.. الحق يتقال أنه أذكى واحد فينا.. بس أنا استغربت أنه لأول مرة يتكلم بجدية.. زي ما أنت شايف هو علطول تافه كده واخد كل حاجة بهزار.. قصي الوحيد اللي فينا اللي كان بيروح الامتحانات من غير مذاكرة و تلاقيه في النتيجة طالع من الأوائل.. المدرسين بتوعه بيقولوا إنه سابق زمايله في معدل الذكاء بمراحل.. الدرس يتشرحله مرة واحدة بس.. ولو طلبت منه يعيد الشرح..يشرحه أحسن من الأستاذ نفسه.. بس طيشه وجنونه هما اللي بيخلوا أي حد يقولوا عليه مش نافع في حاجة.
زاد قصي على كلام شقيقه بفخر
–ده غير إني وسامتي مقوية قلبي.. عشان كده كل البنات بتعاكسني
طالعه زياد بإستنكار
–اممم… هما برضه اللي بيعاكسوك ! ..
فكر زياد في ضم قصي للعمل معه طالما يمتلك تلك المميزات المغرية فقال
–ايه رأيك تشتغل معايا ؟
–امسحلك المكتب و أرش ماية قدامه كل يوم !
— لا يا ظريف.. هتشتغل معايا في القضايا اللي بتجيلي
تدخل أُبي متسائلًا بدهشة
–قصي في كلية علوم ايه اللي فهمه في القانون !!
–ياخد كورسات في القانون.. أنا هفهمه كل حاجة.. هو أكيد مش هيترافع في القضايا مكاني يعني.. أنا عايزه بس يساعدني.. أنت عارف إن خلاص هتجوز و هسيب المكتب فاضي كام أسبوع فعاوز قصي يبقى موجود.. يتكلم مع الموكلين بتوعي مثلًا.. يساعدني في حل أي قضية وده هيعتمد على ذكائه.. ولا أنت ايه رأيك ؟
رد أُبي بعدم اقتناع
–أنا من رأيي بلاش قصي.. قصي مخه نضيف أه بس مش بتاع مسؤولية ولا يحب يشغل نفسه بحاجة.. هيتعبك معاه.. ده أخويا وأنا عارفه
هز قصي رأسه يوافق شقيقه فهو بالفعل لا يحب اشغال نفسه بأي شيء سوى الأكل و النوم..
تذكر ما قد جاء لأجله فانتهز وجود أُبي وقرر أن يفجر المفاجأة فهتف بحماس
–أنا عاوز أتجوز
رمقه الاثنان بدهشة فتابع بجدية
–في بنت شفتها هنا في الحارة و عجبتني.. و سيف قالي حرام أكلم أي بنت وهي متخصنيش في حاجة.. فلما أتجوزها هتكون حلالي.. وبصراحة هي عجباني أوي وكمان عمتي مفيدة حماتك يا زياد قالتلي أنت ملكش غير الجواز
رد أُبي ساخرًا منه
–قالتلك أنت ملكش غير الجواز عشان البنات اللي أنت بتعاكسهم في الرايحة و الجاية.. قصدها إن الجواز هيلمك
أومأ زياد بموافقة على كلام ابن عمه
–أخوك بيتكلم صح.. ثُم أنك مبتعرفش تشيل مسؤولية لسه.. و بتاخد مصروفك من أبوك.. هتجوز ازاي وتفتح بيت و تبقى مسؤول عن زوجة و أطفال !
تغاضى قصي عن كلامهما ليقول
–سيبكم من الكلام ده دلوقت.. أنا كنت بتكلم مع بابا في الموضوع ده و كان على سبيل الهزار.. لقيته واخده بجد وبيقولي أنت فعلًا ملكش غير الجواز هو اللي هيلمك ومعرفش ايه و عروستك عندي !!..
ضحك شقيقه قائلًا
–طب يا بختك يا سيدي.. أبوك هيتكفل بكل حاجة أهو.. لأ وكمان شافلك العروسة
ظل يضحك هو و زياد عليه، بينما قصي تملك الخوف والقلق منه و أخذ يفكر كيف سيكون شكل زوجته التي يرى والده أنها مناسبة له.
بعد قليل استُدعي زياد من قِبل والده، فنهض على الفور ملبيًا النداء..
قال مصطفى بحزن قليلًا
–أختك طلعت تقعد في الجنينة.. بقالها يجي أربع ساعات ولسه مجاتش روح شوفها
–و حضرتك يا بابا مش ناوي تكلمها ؟.. حتى ماما مقطعاها
تنهد والده قبل أن يردف
— اللي عملته أختك مش شوية.. دي شمتت اللي يسوى وميسواش فينا.. أنا اللي الكل بيعملي ألف حساب.. بقيت أمشي في الشارع موطي راسي من نظرات الناس ليا و أنا متخيل كل واحد بيقول علينا إيه.. أختك الحقد والسواد ملا قلبها و اللي عملته في حق عيال عمها ميتغفرش
بإيماءة رأس بسيطة رد زياد بحزن
–عندك حق اللي حصل ده صعب علينا كلنا.. بس في الأول و الآخر دي بنتك مش معقول هتفضل مخاصمها العمر كله !!
— روح بس يا زياد شوفها.. اتكلم معاها و فهمها غلطها براحة.. و أنا هخلي أمك تحضرلها الأكل.. أنا واخد بالي إنها مكالتش من الصبح
ابتسم زياد لوالده بحنان، فبرغم غضبه من ابنته إلا أنه لا يستطيع أن ينكر خوفه عليها، فمهما يحدث ستبقى دمه و طفلته التي حملها بين كفيه حين كانت قطعة لحم صغير بحجم نصف الذراع.
ذهب إليها ليجدها تجلس على الأرجوحة و تتأمل بصمت النجوم المتناثرة في السماء، تشعر بأن ثقل من جبال الحزن والهم يتربع فوق صدرها، كلما تذكرت كم كانت قاسية و سيئة مع أولاد عمها خاصة فتاة يتيمة الأبوين كعائشة، تبغض نفسها كثيرًا و تمقت أسلوبها الوقح معها، بدلًا من أن تعتبرها أخت لها وتساعدها في التقرب من الله كانت تسخر من أفعالها و ملابسها ولا تعلم بذلك أنها أسوأ منها، لقد رأت المنكر بعينيها ولم تحاول حتى تغيير ولو جزء بسيط منه، بل زادت الوضع سوءًا بالإستهزاء والسخرية منها كلما رأتها.
أغمضت نورا عينيها بغضب من نفسها لتوبخ ذاتها..
“كان من الأفضل أن تأخذي بيدها نحو الطريق الصحيح، لماذا السخرية منها و أنت أيضًا لا تلتزمين بما قاله الله لكِ ولا تعملين بما تعلمتيه من القرآن ومن وصايا رسول الله حول اليتيم والأقارب، فلنقل أن عائشة في غفلة وسيطر أصدقاء السوء عليها لماذا لم تسعي لإنقاذها منهم ؟ أم أنكِ أمتنعتِ عن ذلك و فضلت فضحها حين علمتِ بحُب بدر لها و اهتمامه الشديد بها ؟
آه.. يا لكِ من مغفلة كنتِ تظنين أنه يهتم بها فقط؛ لأنها وحيدة ! لسوء فهمك لم تعلمي أن ذلك الإهتمام ما هو إلا عشق نما معه منذ ولادتها.
تمتمت وهي تتنهد بحزن
— لو أعرف إنك بتحبها يا بدر مكنتش فكرت فيك أصلًا.. بس أعمل إيه في قلبي اللي متعلق بيك
لم يصل لمسامع زياد ما قالته؛ نظرًا لبعد المسافة بينهما.. فاقترب منها وجلس بمحاذاتها متسائلًا بهدوء
— عامله إيـه ؟
أجابت بصوت منخفض
— زي ما أنت شايف
وضع يده على كتفها ليضمها اليه بحنان قائلًا
–أنتِ أختي يا نورا.. من لحمي و دمي.. مهما حصل أمرك يهمني.. إحنا ملناش غير بعض
–لأ ليك.. عندك هاجر بالدنيا كلها
صمت لبرهة و أردف بعقلانية
— أنتِ في كفة و هاجر في كفة.. حبي ليكم يخلي الكفتين قد بعض.. أنا مبحبش واحدة أكتر من التانية.. بس أنتِ غلطتي يا نورا
أومأت لتقول
–بعترف إني غلطت.. و ندمانه كمان.. بس لحد امتى هتفضلوا مقاطعني ؟
قالت آخر جملة ثم بكت.. ربت زياد على ظهرها بحنو لتهدئ
— احنا مش مقاطعينك يا نورا. الموقف اللي حطتينا فيه صعب شوية.. مش بالسهولة يتنسي
مسحت دموعهها لتقول بندم
— أنا حبيت بدر يا زياد.. لما عرفت انه بيحب عائشة و هيتجوزها.. اتجننت قلت ازاي يحب واحدة زي دي وهو متدين.. ليه محبنيش أنا !!
منا لابسة خمار و حافظة القرآن و مبسيبش ولا فرض .. ايه الحلو اللي فيها عشان يحبها هي و أنا لأ ؟؟!
صُدم زياد باعترافات شقيقته و التي يسمعها لأول مرة.. ظل للحظات صامت لا يدرِ ماذا يقول.. تابعت نورا بحسرة
— للأسف.. أنا لسه بحبه
تنفس زياد بعمق قبل أن يدخل في نقاش علم أنه سيمتد لساعات طالما الأمر وصل لدرجة من الصعوبة و اتضح له أن نورا تحمل الكراهية في قلبها تجاه عائشة بسبب وقوعها في حُب بـدر.
— ده مش مبرر برضه يخليكِ تأذيه أو تأذي عائشة.. اللي بيحب حد بيتمناله الخير حتى لو مع غيره.. المُحب لا يؤذي يا نورا
–عارفه.. عارفه والله يا زياد.. بس الشيطان سيطر عليا و الحقد ملا قلبي نحيتهم.. أنا ندمانه والله.. أنا بخوض حرب بيني وبين نفسي محدش عالم بيها.. بحاول أمحيه من قلبي بس مش عارفة.. غصب عني والله يا زياد
شعر زياد بالأسف و الحزن على الحالة التي وصلت لها شقيقته ولم يعلم بها إلا الآن..
–بدر دلوقت بقى متجوز.. يعني لازم تنسيه.. لازم تعرفي تسيطري على مشاعرك..
مش أي حد نعجب بيه ياخد كل مشاعرنا و اهتمامنا و يستحوذ على قلبنا.. الحب من طرف واحد هلاك لصاحبه مؤذي جدًا يا نورا.. هو بيحب عائشة من صغره.. في حياته قلبه ما دق لواحدة غيرها.. عُمره ما عينه جات على غيرها.. هي الوحيدة اللي حبها ومش هيحب…
قاطعته بحدة و بغيرة استشعرها زياد
–عارفه.. و للأسف الشديد مكنتش أعرف أنه دايب فيها للدرجادي.. بس.. بس اشمعنا هي ؟؟
ابتسم و أجاب بهدوء
— لما بيجي الحُب مبنقولش اشمعنا الشخص ده.. الحاجة الوحيدة اللي قلبنا بيختارها وملناش سلطان عليها.. هو الحُب.. الحُب ده عبارة عن مجموعة مشاعر، المشاعر دي بتكوُن مخلوقة عشان شخص واحد بس ومستحيل حد ياخد مكانه، حتى ولو كان أحسن منه , كأنّ مشاعرنا لما شافت الشخص ده رفعت الراية وسلمت
— طب تفتكر هيسامحوني على اللي عملته فيهم؟
اتسعت ابتسامته الصافية، فقد أدرك أن أخته نادمة بالفعل على ما ارتكبته في حقهم و تريد أن تصحح خطأها
— أكيد هيسامحوكِ.. متنسيش إننا عيلة واحدة ومش هنسمح لأي حاجة انها تفرقنا.. غلطنا نعتذر ونتعلم من غلطنا و منكرروش..
— و ربنا ! .. هيسامحني ؟
— ربنا اسمه الغفور الرحيم.. يقبل العفو
–طب اتعافى ازاي ؟
–بالقرآن يا نورا..ربنا في كتابه الكريم بينهينا عن الحجات اللي بتدمر حياتنا.. ربنا بيقول
لاتقنطوا ، لاتحزنوا ، لاتهنوا ، لاتيأسوا
القرآن بيدعونا للرضا و التفاؤل بيجدد فينا الأمل بيزرع فينا النجاح في حياتنا.. نسيب القرآن و نشغل بالنا بالحاجة اللي هتتعبنا !!
الإنسان مسؤول تمامًا عن سعادته و حزنه.. ربنا رزقنا العقل اللي نختار بيه سعادتنا.. القرب من ربنا جنة والبعد عنه تعب في الدنيا و جحيم في الآخرة
‏ㅤㅤ
برغم أن نورا تعرف جيدًا صحة حديث زياد، و لكنها كانت بحاجة لمن يحتويها بالقول اللين.. دائمًا ينجح الحوار الهادئ السلس في راحة و طمأنة القلوب، خاصة لو مليء بذكر عفو و رحمة الله وجمال القرب منه.. قالت
— خايفة ربنا ميقبلش توبتي
أجابها مستلذًا بالحديث عن رحمة الله
–هقولك آية حلوة أوي.. أنتِ حافظة القرآن و أكيد عارفاها.. الآية بتقُول “يا عِبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفرُ الذنوب جميعًا، فاستغفرونِي أغفر لكم” إحنا مِش معصُومين من الخطأ، لكن الخطَأ الأكبر إنّنا منرجعش لربّنا و نستغفرُه
تنهدت بإرتيـاح قليلًا ثم أردفت بعد لحظات بنبرة كلها ندم و توبيخ
— ندمانه أوي إني رغم حفظي للقرآن و مواظبتي على الصلاة.. روحت زي الغبية وضيعت كل ده بعمايلي .. كنت فاكرة إني طالما بصلي وبقرأ قرآن يبقى كده أنا أحسن واحدة في الدنيا.. لكن كل ده يروح في الهوا لو معملتش بيه.. نفسي ربنا يسامحني.. وبابا وماما وبدر و عائشة.. كلهم نفسي يسامحوني.. أنا أستاهل انهم يقاطعوني العمر كله والله.. أنا ازاي سمحت لنفسي أعمل كده.. ازاي سمحت لشيطاني أنه يلعب بعقلي.. ازاي !!!
ربت زياد على كتفها قائلًا
— هتلوا عليكِ بعض الآيات و اسمعيهم بقلبك.. ركزي فيهم كويس.. كأنك بتسمعيهم لأول مرة
أومـأت في صمت فـ تلا قوله عز وجل
” ﴿وَآخَرونَ اعتَرَفوا بِذُنوبِهِم خَلَطوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ .
– { ‏لا تَخَف وَلا تَحزَن إِنّا مُنَجّوكَ.. }
_ ‏﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾
_ {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ}
— {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
_ ﴿مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوٓءًۢا بِجَهَالَةٍۢ ثُمَّ تَابَ مِنۢ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
_ ‏﴿ يُدَبّر الأمرَ منَ السّمَاء إلىٰ الأرض ﴾
صدق الله العظيـم.
شعرت نورا أنها تستمع لأول مرة لتلك الآيات، التي وقعت أثارها في قلبها وقوع الغيث على أرض قاحلة لم يرويها الماء منذ سنوات، أحست بفيض من السعادة تغمرها و تجدد الأمل فيها، كأنها لم تتذوق طعم الإيمان منذ مدة، وكأن تلك الآيات بثت حلاوة القرب من الله بداخلـها.
ارتسمت أمارات السعادة و الإرتياح على وجهها لاحظها زياد فابتسم برّضا وقال
— بقيتي أحسن شوية ؟
أومأت باسمة لتقول
— حاسة إن ربنا بيبعتلي رسايل من القرآن بتبشرني إنه هيقبل توبتي ويعفو عني.. آيات بتخليني أندم على كل لحظة عدت وأنا قلبي منشغل بحد تاني غير ربنا.. شكرًا يا زياد.. شكرًا أنك متخلتش عني.. أنت أحسن أخ ربنا رزقني بيه
قالت جملتها الآخيرة بحب و عانقته بحنان أخوي، فبادلها العناق بسعادة ثم تساءل مازحًا
–أظن دلوقتي جه الوقت تبدئي صفحة جديدة مع ربنا وتنسي كل اللي فات.. حتى بدر
تلاشت ابتسامتها لتردف
— هحاول
— لأ.. مش هتحاولي.. هعتبر انك نستيه أصلا وبقى بالنسبالك ابن عم مش أكتر.. اعتبريه زيّ.. مينفعش يكون غير أخ و بس
هزت رأسها دون أن تتفوه بشيء.. فتابع
— عارفه أنتِ مكتوبلك الشخص اللي يشبهك في كل حالاتك.. متتعبيش نفسك يا نورا وتدوري عليه.. مسيره الشخص ده هيقابلك ف طريقك و هيكون رزق وهدية من ربنا ليكِ على صبرك.. خلي عندك ثقة و حسن ظن بالله.
” حاضـر”
عاودت معانقته ثانيةً كأنها تستمد القوة والصبر منه، فهو شقيقها الحنون والشخص الوحيد الذي لم يتخلى عنها في أي مأزق و دائمًا ينصحها و يطمئنها، فاعتبرته أمانها و مأواهـا، و بالفعل لم يخفق زياد في مرة من المرات أن يكون السند و الأمان لـها.. و كذلك يخبرنا القرآن عن الأخ بالأخص فقال تعالى
‏‎( إِنِّي أَنا أَخوكَ فَلا تَبْتَئِسْ )*( سنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيك )
في الآياتان، لم يختر الله من اﻷقارب
لشد العضد إلا الأخ، و في وصفٍ بليغ قيل عن الأخ: أنت عكّازي لو كسرتنِي الحياة و قيل هو ضِلعْ و استقامة ظهر.
خرج والدهما ليرى ماذا فعل زياد مع شقيقته ولماذا تأخرا هكذا، وقعت عيناه عليهما فوجدهما يتعانقان بحنان، كأنهما غصنان شجر يلتفان حول بعضهما بقوة فيصعب فصلهما.
ابتسم “مصطفى” خلسة داعيًا الله في قلبه أن يحفظ له أبناءه و يهديهما، ثم تركهما وعاد للداخل.
بكت نورا في صمت وهي تحتضن أخيها بقوة، فشعر ببكائها.. قام بابعادها عنه قليلًا ليمسح لها دموعها ثم قبْلها من جبينها و أردف
“أنا اللي مربيكِ.. أنتِ مش أختي و بس أنتِ بنتي.. اللي يزعلك يزعلني.. و دموعك دي غالية عليا أوي.. بس لأول مرة أفرح أنك بكيتي.. دموع الندم و التوبة هي أكتر دليل إن الواحد ندمان من قلبه على الغلط اللي عمله.. صدقيني ربنا هيسامحك و العيلة كلها هتسامحك.. كل اللي بيحصل لينا خير.. ده درس و أنتِ اتعلمتِ منه و متأكد إنك مش هتكرريه.. و متخافيش مش معنى إني هتجوز يبقى هنساكِ و ههملك.. لأ يا نورا.. أنتِ هتفضلي في عنيا لحد ما أموت حتى بعد ما اجوزك.. أنا واثق إن ربنا هيرزقك الزوج الحنون الصالح بس الصبر ياحبيبتي”
ابتسمت برّضا، فأخذها من يدها وضمها من كتفها له ذاهبان للداخل؛ ليحثها على طلب السماح من والديهما و عندما يأتِ بدر و عائشة سيذهب معها للاعتذار منهما.
_________________♡
صديق واحد حقيقي يعيدك مجددًا للحياة حين تشعر بأن قلبك قريب للإنكسار، كفيل بأن يكون كل الأصدقاء في العالم.” لقائلها ”
*****
خطرت ببال روان فكرة علها تحسن من حالة رُميساء النفسية قليلًا قبل البدء في الإمتحانات، فعرضت عليها أن يأخذان كتبهم و يذهبان للمذاكرة في أي حديقة قريبة منهما.. أعجبت رُميساء بالفكرة فهي بحاجة حقًا لإستنشاق بعض الهواء النظيف و الجلوس تحت أي شجرة بإصطحاب المواد الصعبة التي يصعب عليهن التركيز فيها، فاللجوء لتغيير جو ومكان المذاكرة قد يساعد في إثبات المعلومات في الذاكرة.
لم تخطو قدم روان للخارج أو أي مكان دون علم والدها؛ لذا هاتفته و أخبرته بخروجها مع رُميساء للحديقة ولم يعترض “حافظ” لعلمه بأخلاق صديقتها وعائلتها جيدًا، فلا يوجد خوف من بقاء روان مع ابنة “مصطفى صديق” أو حتى المكوث مع في منزلها عدة أيام، ولم تكن روان ستترك رُميساء بعد تلك الحادثة حتى تتأكد أنها تعافت تمامًا.. لم تتوقع روان أن تصبح علاقتها بـ رُميساء أشبه بالعقدة صعبة الفك، أصبحت أنيسُ لها أي أنها ذلك الصاحب الذي يطمئن قلبك بوجوده، الصاحب الذي يدخل السعادة على قلب رفيقه ويذهب الشعور بالوحدة و الخوف، بينما رُميساء لم تعتقد أن تصل درجة حبها لروان لاتخاذها أخت ورفيقة لها لا تفارقها أبدًا، من فرط الراحة التي تجدها مع روان تود لو تضيفها لسجل العائلة لتصبح شقيقتها أمام الجميع، فسبحان مغير القلوب.
ارتدت روان ملابسها الواسعة المحتشمة و خمارها ثم ساعدت رُميساء في ارتداء إدناءها ونقابها؛ لأن تلك الجبيرة الملفوفة حول ذراعهها المكسور تمنعها من ممارسة يومها بشكل عادي.
خرجت الفتاتان متجهتان نحو حديقة تحفها الأشجار الخضراء الكبيرة والصغيرة والورود الرائعة ذات الروائح الجميلة.. جلست الأثنتان و بدلًا من أن يبدأن المذاكرة بجد، أخذت كل واحدة تقص على الأخرى كيف كانت طفولتها ثم ينتقلان من الحديث عن الطفولة للعب الفوازير أو القاء الدعابات السخيفة متناسيان امتحانتهما التي ستبدأ بعد غد.
على الناحية الأخرى من شمال الحديقة يوجد مبنى مكون من سبع طوابق كل طابق به شقتان بكامل الأثاث المطلوب للعيش بها، يؤجرهم صاحبها أو يبيعهم… في الدور الرابع الشقة الثامنة اشتراها “الضابط كريم” بعد تركه لفيلا والده عندما رفض زواجه من فتاة منتقبة.
شقة رائعة بكل المقاييس، الشيء الملفت فيها أن كل الأثاث أسود اللون إلا من بعض الألوان المتداخلة البسيطة جدًا كالفراش مثلًا به دوائر فضية صغيرة لامعة.. لم يكن ذلك اختيار صاحب المبنى بل ذوق و اختيار كريم، شغفه باللون الأسود جعله يتخطى الملابس ليضع بصمته على كل شيء في المكان الذي يعيش فيه.
خرج من المرحاض بعد أن أخذ حمامًا باردًا، وأخذ يجفف شعره وهو ينظر لعضلات جسده التي خف وزنها وهو يزفر بضيق مستاءًا من معاملة والده له و حزينًا على مفارقة المنزل الذي نشأ فيه و أيضًا يشتاق لوالدته و أشقائه الفتيات كثيرًا، ولكنه رأى أن استقالته عن العائلة لعدة أيام وربما تكون أشهر سيكون من مصلحته و يحقق النتائج المرجوة.. الحالة النفسية التي وصل لها بسبب والده و معتقداته هي من أوصلته للتعاسة التي يشعر بها بالإضافة لضغوطات عمله في الشُرطة، كل ذلك كان سببًا في عدم ذهابه للصالة الرياضية كما كان معتاد مما أدى لخسارة في وزنه و ظهور هالات سوداء تحت عيناه؛ بسبب السهر في العمل و التفكير في تلك الفتاة التي سرقت قلبه وعقله معًا.
كان يلف منشفه حوله خصره حين رنّ جرس الباب، فذهب ليرى الطارق غير مباليًا بنصف جسده العاري ظنًا أنه “الدليفري” فقد طلب الطعام قبل دخوله للمرحاض..
فتح الباب ليأخذ الطعام، ولكن ما رآه جعله يتصلب مكانه بصدمة.
فتاة في العشرينات من عمرها، أقل ما يقال عنها أنها أيقونة في الجمال.. ترتدي بنطال من الچينز الأبيض الضيق و بلوزة تكشف ذراعيها بالكامل بالكاد تصل لأسفل صدرها..
ارتسمت على وجهها ابتسامة ساحرة وحركت بيدها شعرها للوراء كنوع من الإثارة أو لفت الانتباه لتقول بصوتها الناعم
–هاي.. كريم مش كده
أغلق كريم الباب بقوة في وجهها وهو يتنفس بسرعة وعيناه متسعتان بدهشة ليقول في نفسه
“ايه ده !! مين دي !!”
قالت الفتاة متذمرة من ردة فعله الغير متوقعة بالنسبة لها
— هتسيبني واقفة كده كتير ؟
استعاد كريم وعيه و أجابها بنبرة حادة
–ثواني معلش
ذهب ليرتدي ملابسه وهو في حالة اندهاش، لا يعلم من تلك الفتاة ولم يسبق له أن رآها.. فكيف عرفت اسمه وماذا تريد منه يا ترى ؟؟
___________________
سَامحوا بـِ غَزارة .. فَـ الجَّنه تَحتاج قَلبـًا سَليم ..
“يَوم لا يَنفع مَالٌ وَلا بَنون إلَّا مَن أتى الله بِقَلبٍ سَليم”
******
ظل “علي” يترجى ” بـدر” أن يسـامحه و يعفو عنه و أخذ يقسم باللـه أنه لم يقصد إيذاء زوجته و كان يظنها “أمـل” خطيبته و حبيبته التي تركته و ارتبطت من صديق طفولته؛ لأجل المـال.
حزن بدر على ما وصله إليه هذا الشاب و على ما فعله بنفسه للجوئه لشرب الخمر ولو لم يسترجع وعيه في الوقت المناسب كان سيقع في مصيبة لا مفر منها أو سيفقد بدر زوجته و حينها لن يغفر له مهما فعله بل كان سيقتله فورًا.
“الحمد لله إنها جات على قد كده ”
قالها بدر شاكرًا الله في نفسه، ثم ربت على كتف “علي” قائلًا بهدوء
–أنا حابب اتكلم معاك شوية.. اهدى و اسمعني
هتف “علي” بحيرة و قلق
–يعني.. يعني حضرتك مسامحني يا أستاذ ؟؟
— أنت مسامح نفسك !
هز رأسه بنفي و ندم ليعود للبكاء بصمت والتحسر على ما أصابه و ما كان سيفعله.. أردف بنظرة انكسار
–أنا مش وحش زي ما حضرتك مفكر.. الدنيا هي اللي عملت فيا كده.. أنا حظي قليل يا أستاذ بدر.. ده أنا بخاف أأذي طير.. هأذي بني آدم !!
والله العظيم غصب عني.. يارتني ما اتهببت شربت
صمت بدر لبرهة ثم تأمل علامات الندم والأسف على وجهه.. تخيل أن الجالس أمامه ما هو إلا سيف، تذكر أفعاله السيئة و المشابهة لما فعله ذلك الشاب “علي” يعلم أن مقتبل العشرينات لدى الشباب بالذات حافلًا بالعديد من الأخطاء و المصائب التي يفعلونها دون حساب للنتائج، في ذلك السن يحتاج الشباب لمن يوجههم نحو الصواب، يحتاجون للصديق الصالح والشخص العاقل الذي يأخذ بيدهم ليرشدهم نحو النور.
قرر بـدر أن يفعل ذلك لأجل الله.. سيلقن هذا الشاب درسًا لن ينسى طوال حياته.. سيعلمه أن الصبر عن المصائب من شيم أصحاب الجنة.. سيفطن عقله على اللجوء لله في كل الأوقات العسيرة التي يمرّ بها و إذا صادفته مشكلة ما فعليه الإستعانة بالله فورًا والتفكير بعقلانية حتى لا يلقي بنفسه للتهلكة..
أخذه بـدر بعيدًا عن المدير حتى يستطيع خوض الحوار معه بإرتيـاح.. فـ ذهبا سويًا للتمشي بالقرب من الفندق..
ذهب شعور الخوف من قلبي “علي” كلما ابتسم له بدر بعفوية و تحدث بهدوء.. انسجم الشاب معه في الحوار.. قدم له بدر النصائح بلُطـف ليقول
–لنفترض إن خطيبتك كانت مكان مراتي.. كنت هتقتلها فعلًا ؟
رد بغضب و بدون تفكير
–ايوه.. كنت هنتقم لنفسي.. لكرامتي
–و بعد ما تنتقم لنفسك مفكرتش ايه اللي هيحصلك ؟
–هتعدم !
–ده في الدنيا.. أما في الآخرة مفيش مهرب من جهنم.. احنا لما بنتلسع لسعة بسيطة بنروح جري نحط ايدنا تحت الماية و نحط مراهم و ممكن متعملش أي حاجة بايدك خالص لحد ما تخف.. ما بالك بنـار جهنم ! أنت قدها ؟
تنهد بحزن وهو يهز رأسه بنفي.. تابع بـدر
— أنت شكلك شاب محترم و كويس.. ليه ملجأتش لربنا.. ليه جريت على الخمرة والقرف ده.. ليه عملت في نفسك كده ؟؟
— كنت عاوز أنسى.. أنت مش مستوعب أنا حبيتها قد ايه و كنت بكافح ازاي عشان نتجوز
— ليه مفكرتش إن ده خير ليك.. مش يمكن بعدها عنك ده مكسب و راحة ليك !.. لو كانت خير ليك مكنتش راحت يا علي.. اللي راح مننا مش مكتوبلنا ولا كان بتاعنا أصلًا.. ربك لما يختار يبقى ترضى باختياراته و أنت ساكت و راضي و مقتنع.. ربنا مبيجبش غير الخير بس الإنسان لازم يشتكي من كل حاجة مش على هواه.. مش يمكن لو كنتوا اتجوزتوا مكنتوش هتبقوا مبسوطين مع بعض أو تحصل أي حاجة تفرقكم !.. احمد ربنا يا علي.. قول الحمدلله دايمًا.. وخليك فاكر إن الخير فيما اختاره الله.. و لو كان خيرًا لبقى
شعر علي بتشويش في عقله فتسائل بحيرة
–طب ليه بنقابلهم من الأول لما هما مش لينا ؟
–عشان أنت كنت عاوز كده.. أنت اللي اختارتها ربنا سابك تختار في الأول عشان لما تكتشف انها مش مناسبة ليك يبقى ده اختيارك أنت.. لكن اللي حصل ده ارادة ربنا عشان يعرفك إن مش كل حاجة بنعوزها بتبقى كويسه.. لازم نخوض التجربة ونقع ونقوم كذا مرة.. اومال هيبقى عندنا خبرات ازاي و نتعلم الدروس ازاي ؟ مش لازم نمر بتجارب الأول.. هي دي الحياة عبارة عن دروس والشاطر اللي يتعلم من أول مرة..
صمت بدر للحظات كي يعطيه مساحة يراجع كلامه في ذهنه.. قال علي معاتبًا نفسه
–أنت عندك حق.. أنا غلطان و بعترف بغلطتي و ندمان عليها.. لو كنت روحت لربنا من الأول مكنش حصل كل ده.. بس أنا ضعفت قدام نفسي و شيطاني و سمحتله يوجهني زي ما هو عايز لغاية كا كنت هضيع نفسي ومستقبلي
أومأ بدر يوافقه القول فأردف بـإطراء عليه
–كده أنت بتفكر صح.. مستقبلك و حياتك أهم من أي حد.. هي الله يسهلها و أنت ركز في نفسك وفي اخواتك و أمك.. افرض كنت وديت نفسك في مصيبة عشان خاطر البنت دي.. اهلك ذنبهم ايه.. مفكرتش فيهم ؟
كان يستمع فقط دون إجابة و كأن كلام بدر كالبلسم يدوي مُرّ الصدمة التي عاشها، بالتأكيد لقد كان بحاجة لشخص عاقل و ناضج و له علاقة جيدة مع الله يغمر قلبه بتلك النصائح التي أضفت على حياته الأمل من جديد.
تابع بدر حديثه المريح والذي يؤنب ضمير علي ليجعله يفيق
–اصبر و ارضى بنصيبك وربنا هيجبر بخاطرك.. خلق سبع سماوات و رفعهم بدون أعمدة، أيصعب عليه أن يحمل ما ضاق من صدرك… حاشاه أن يراك حزينًا و صابرًا و راضيًا ولا يجبرك.. ثق بالله يا علي.
توقفا بعد دقائق من التمشي ليشكره علي قائلًا بإبتسامة صافية
— شكرًا يا أستاذ بدر.. واحد غيرك كان زمانه موديني في ستين داهية
ضحك بدر و قال
–أنا فعلا كنت هوديك في ستين داهية و مكنش هيكفيني موتك.. بس أنا سامحتك لأنك ندمان.. غير كده اللي حصل غصب عنك و احمد ربنا انها جات سليمة.. بس مش معنى كده كل اما تحصلك مشكلة تروح تعصي ربنا و تشرب و تعملي بلاوي
هتف بنفي و صدق
–آخر مرة والله.. عايز أبدأ مع ربنا صفحة جديدة تنصحني بـ إيه ؟
–بـ الصلاة.. الصلاة هي الحل لكل حاجة.. هي الدواء.. مهما تعمل متبطلش صلاة هي الحبل اللي بينك و بين ربنا هي الفاصل اللي بينك و بين الكافر.. مينفعش تبقى مسلم و مبتصليش.. لأن الصلاة دي أول حاجة هنتحاسب عليها.. لو كل واحد يعرف أهمية الصلاة في حياته مش هيسيب فرض
قال بدر ذلك بشيء من اللوم على نفسه لعدم انتظامه و انتكاسه في الصلاة، حتى أن يتعجب من نفسه كيف أصبحت الصلاة ثقيلة على قلبه وهو لم يترك فرض يومـًا !
انشرح قلبي علي ليقول
–أنا بصراحه مكنتش بنتظم في الصلاة بس من هنا و رايح مش هسيب ولا فرض و ده وعد مني قدام ربنا.. بس أحيانـًا بنفعل بسرعة و مبعرفش اضبط نفسي و مش عارف اعالج موضوع العصبية ده ازاي
— ‏اللي يعاني من سرعة الإنفعال عليه بضبط صلاته ربنا بيقول “إن الإنسان خلق هلوعًا، إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسهالخير منوعًا.. إلا المصلين… طالما منتظم في الصلاة و بتصلي أول الآذان ما يأذن يبقى إن شاء الله حالك هينصلح.
شكره علي للمرة الثانية كثيرًا و أعطاه بدر رقمه إذا احتاج لأي شيء عليه أن يهاتفه في الحال..
انصرف بدر و قبل أن يدلف لغرفته استوقفه المدير قائلًا
— أستاذ بدر.. أنا بشكر حضرتك جدًا على الواجب والجميل اللي عملته معانا.. واحد غيرك كان اتحجج وطلب تعويض أو أذانا بأي حاجة.. فأنا بشكرك لتفهمك الموقف
رد بدر باسمًا
–علي شاب مهذب و كويس و زي أخويا الصغير
–هو بيشتغل هنا من خمس سنين و عمري ما سمعت عنه كلمة وحشة.. هو فعلا شاب محترم عشان كده كنت عاوز أنك تكلم معاه و تسمعه الأول
–و اهو حصل و عدت على خير..
كاد أن يذهب ولكنه فوجئ بمدير الفندق يعطيه ظرف مقفول وهو يقول بامتنان
–اعتبر إن زيارة حضرتك لينا على حسابنا.. اعتبرها هدية مني ليك.. اتفضل فلوس الحجز بتاعتك رد للجميل اللي عملته معانا وشكرا تاني مرة
رفض بدر أخذ المال معللًا
–أنا عملت كده لله.. و اللي بيعمل لله مبياخدش أجر من حد.. محصلش حاجة وخلي الفلوس عشان مش هاخدها
وضع المدير الظرف في يده وهو يقول بإصرار
–والله هتاخد الفلوس.. أنا حلفت.. متوقعش يميني بقى أنا راجل كبير ومش هقدر أصوم.. اعتبر نفسك جاي فندق أخوك أو اعتبرني عازمك يا سيدي..
بعد كثرة الإلحاح على بدر أن يأخذ مال الحجز، وافق بدر.. اتسعت ابتسامة المدير متسائلًا
–أنت هتمشي انهارده صح ؟
أومأ بدر فتابع الآخر
— طيب ده رقم تليفوني لو حابب تشرفني في أي وقت أنت أو أي حد من عيلتك أنا تحت أمركم
ربت بدر على كتفه شاكرًا اياه ثم انصرف.
كانت عائشة ما زالت تبكي منذ أن تركها بدر.. مسحت دموعها بسرعة عندما انتبهت لصوت صرير الباب و هو يُفتح..
أقبل بدر عليها و هو يبتسم بعفوية سرعان ما تلاشت تلك البسمة عندما رأى آثار البكاء على وجهها المنتفخ و عينيها الحمراوتين.. كانت جالسة على طرف الفراش ترمقه بحزن شديد خيم على ملامحها.. آلمت تلك النظرات قلبه فذهب سريعًا إليها ليمد يده يتحسس وجهها بأسف، دفعت بيده بعيدًا و صاحت بحدة
–متلمسنيش… ابعد عني
دُهش بدر من حدتها و بدت عليه الحيرة فقال محاولًا فهم ما يغضبها منه
–في إيه يا حبيبتي
زادت تلك الكلمة من عصبيتها مما جعلها تصرخ في انفعال
— حبيبتـــك !!! متنطقش الكلمة دي على لسانك تاني لما تحسها فعلًا.. لما ابقى حبيبتك بجد
بدر بهدوء وهو لا يفهم أي شيء
— ممكن تهدي و تفهميني أنا عملت ايـه ؟؟
نهضت من أمامه و ابتعدت عنه و أخذت تبكي بشدة و تشهق بين كل كلمة و الثانية
لما أنت بتشك فيا اتجوزتني ليه.. لو عاوز تنتقم مني كنت اعمل أي حاجة غير أنك تخليني أحبك
.. ليــــــه بعد ما علقتني بيـك جرحتني كده.. كنت عارفـه… و الله كنت عارفه أن عمرك ما هتسامحني.. عشان.. عشان كده.. لازم… لازم نتطـلـ…..
وضع بدر ابهامه سريعًا على فمها قبل أن تكمل الكلمة و ضمها لصدره بقوة، ليقول بنبرة غاضبة مما كانت ستهتف به بغباء
“بس.. بس يا عائشة بس.. إلا الكلمة دي.. كل حاجة تهون إلا أننا نفترق.. اطلبي مني أي حاجة لكن البُعد.. لأ بالله عليـكِ ”
أردف يترجاها وهو يحتوي وجهها بحنان و ينظر في عينيها بحُب ممزوج بالعتاب
–لو زعلتك بقصد أو بدون.. تعاليلي قوليلي.. عرفيني.. خدي على خاطرك مني.. عاقبيني زي ما تحبي.. و أنا هراضيكِ أصل زعلك ميهونش عليا يا ست البنات.. لكن تطلبي مني اسيبك و نبعد عن بعض.. لأ يا عائش.. مش هقدر
لم تتفوه عائشـة بأي كلمة، كانت تستمع إليـه و الدموع تنساب من مُقلتيـها و تنحدر على خديها المنتفخين فيمسحهم لها بدر برقة، ولكنها ابتعدت في آخر لحظة كاد أن يُقبلها و قالت بسخرية
–مش هتعرف تضحك عليا تاني بالشويتين بتوعك دول.. احنا حياتنا مع بعض مش مستقرة و أنا مش هقدر أكمل كده.. مش هقدر أعيش مع واحد عمره ما هينسى الماضي و أي حاجة هتحصل يربطها بيه.. أنت عاوز تنتقم لرجولتك اللي أنا سويتها بتراب الأرض لما كنت بكلم أمير.. عشان كده اتجوزتني..
استدارت لتواجهه بقسوة نابعة من قلبها المنفطر؛ بسبب تلك الظنون و التهيؤات التي تحدث في عقلها و تخبرها بأنها على حق
–أنت بتشك فيا يا بدر.. بس السؤال هنا.. لنفترض اننا هنكمل مع بعض.. لحد امتى هتفضل تشك فيا ؟؟ ها ! لحد امتى يا بدر ؟
أخذ يتأملها للحظات مندهشًا من حديثها الذي لم يتوقعه ولم يكن يظن أن الأمور ستصل لتلك الدرجة من القساوة بينهما، ما الذي يجعلها تفكر في أنه يظن بها السوء ؟
اقترب منها بضع خطوات، فرجعت للوراء وهي ترمقه بتحذير ألا يقترب.. لم يبالي لنظراتها و اقترب أكثر حتى احتجزها بين ذراعيه مُلصقـًا ظهرها في الحائط مما جعلها ترتبك من قربه منه، كان قاصدًا أن يفعل ذلك؛ لكي يترك تأثيره عليها فتكفْ عن الصياح وتجاوب على سؤاله الذي طرحه عليها بلهجة حنونة ضيعت المتبقي من حدتها..
–متأكده إن أنا اتجوزتك عشان أنتقم منك ؟.. بصي في عنيا و قولي شايفة ايه ؟..
فشلت في ابعاده عنه و بدون وعي منها تأملت عينيه المصوبة تجاهها بعشق واضح.. تابعت التأمل في انعكاس صورتها لتهمس بعد أن هدأت ثائرتها تمامًا و تجاوبت مع نظراته
“شايفاني”
ابتسم ليقول بصدق وهو يداعب وجنتيها برقة
–في اللحظة اللي أنتِ شايفة نفسك في عيني.. أنا ببقى شايفك كل ثانية حتى لو أنتِ بعيدة عني.. من اليوم اللي حبيتك فيه و أنتِ في عنيا..من يوم ما جيتي للدنيا و شيلتك في كفوفي و أنتِ في اللفة خدت عهد على نفسي أصونك و أحافظ عليكِ زي أختي..لما حسيت إن حبي ليكِ أكبر من مسمى الأخوات جددت العهد بيني وبين نفسي إن أحميكِ من أي أذى يمسك حتى لو مكنتيش ليا كنت هحافظ على العهد ده.. تفتكري واحد قلبه اختارك أنتِ من بين بنات الدنيا عشان يحبك.. هيفكر يأذيكِ ؟؟
صمت تام بين الاثنين بعد ما قاله بدر… قبْلها من خدها ثم قال وهو يبتعد و يتسطح على الفراش
— أنا هنام.. تصبحي على خير
شعرت عائشة من نبرة صوته أنه حزين و غاضب منها، لامت نفسها على انفعالها الشديد عليه ففكرت سريعًا كيف ترضيه.. ذهبت إليه و جلست بجانبه، ثم أخذت تفرك يديها بتوتر و لم تستطيع أن تقول أي شيء.. لاحظ بدر توترها فأخذ يديها ليقربهما إلى فمه و طبع عليهما قبلة دافئة ليقول باسمًا
–ميهونش عليا أنام و أسيبك زعلانه
تنهدت بنصف ابتسامة قائلة
–يعني أنت مش بتشك فيا ؟
رد بدر وهو يزفر بضيق
–أنتِ ايه يخليكِ تفكري كده أصلًا ؟؟ عائشة أنتِ مستوعبة اللي بتقوليه !
أخفضت رأسها بخجل من نفسها و غمغمت
–حسيت كده.. بدر أنت مشفتش نفسك كنت عامل ازاي لما خرجت بدون اذنك..
–عائش.. اسمعيني.. أنا مش عيل صغير ولا شاب مراهق عشان أربط كل حاجة بالماضي.. اللي فات مات.. اللي ضايقني منك أنك اتصرفتي بدون متعرفيني.. و النتيجة شوفتي اللي حصل.. و الحمد لله أنها جات على قد كده
شعرت بالأسف فقالت
–عندك حق.. بس والله العظيم صعبت عليا مرضتش اصحيك.. بدر أنا كنت بموت من الوجع.. ملقتش قدامي حل غير اني اكلم حد يجبلي حاجة سخنة تهديني شوية..
صاح بدر منفعلًا
–وأنا فين ؟؟ أنا روحت فيــــن عشان متصحنيش ؟؟
أصبح دورها تلك المرة لتهدئته.. فمسدت بظهر يدها على خده مُعللة
–محبتش اتعبك معايا.. كان باين عليك تعب السفر.. راحتك أهم بالنسبالي
أغمض عينيه يتنفس بهدوء بعد أن استطاع كبح انفعاله.. سحبها لصدره و احتضنها بعد أن قبْلها من جبينها بعمق ليقول
–أنا آسف إني اتعصبت عليكِ.. أنا غلطان سامحيني.. وغلطي الأكبر إني مقدرتش أحس بتعبك.. النوم فعلًا سرقني منك.. الغلط عليا أنا مش عليكِ.. متزعليش مني.. بس بعد كده متتصرفيش من دماغك
أومأت وهي ما زالت تحتضنه و بعد دقائق هتفت متسائلة
–عملت ايه صحيح مع الجرسون ده ؟
–عفوت عنه
رفعت حاجبيها بدهشة لتقول
–بعد مكسرته ميت حتة !!.. ده أنت مخلتش فيه مكان سليم
ضحك مردفًا ولكن عينيه التمعت بحزن مما فعله بـ “علي”
–أنا اتسرعت و مقدرتش اتحكم في غضبي.. الواد كان هيروح في ايدي.. بصي هو أنا غلطان بس في نفس الوقت معذور.. مقدرتش اتحمل اشوفك و أنتِ مغمى عليكِ والكل واقف يتفرج… الحمدلله إني مموتوش في ايدي
تساءلت عائشة عما حدث بينهما بعد ما تركها لنصف ساعة.. اخبرها بكل شيء فشهقت بتعجب
— أما قصة عبرة بصحيح
ضحك و ضمها اليه مستندًا بها على الوسادة خلفه.. عادت بسؤال آخر
–رغم إن الضربة اللي ضربهالي وجعتي راسي بس صُعب عليا.. ربنا يسامحها خطيبته دي والله ويرزقها بواحدة طيبة زي
ضحك بدر بشدة على جملتها الآخيرة فوكزته بكوعها في قلبه هاتفة بغضب مصطنع
–عند شك ولا ايه !!
–لا ياحبيبتي.. لا سمح الله
–بقولك يا بدر
–نعم يا حبيبة بدر
اتسعت ابتسامتها عندما قال لها “حبيبة بدر” و اعترفت لقلبها أن ذاك اللقب تحبه أكثر من عندما “يناديها عائـش”.. تساءلت و البسمة لا تفارق شفتاها
— أنا فخورة إن عندي زوج مسامح و حنين بس هو أي حد يعترف بالذنب ويقول انه ندمان حتى لو عمل جريمة بشعة يبقى نسامحه..؟
–الدين بتاعنا دين سماحة وعفو.. لكن مش كل حاجة بنسامح عليها.. يعني مثلا واحد يقتـ،ل واحد ونسامحه ؟؟ لأ طبعـًا.. بس فيه قت،ل بدون قصد.. مثلًا اتنين بيلعبوا مع بعض واحد خبط التاني غصب عنه فوقع على آلة حادة مات.. ده مش قاصد انه يموته.. لكن لو واحد قاصد و متعمد الأذية بيتعاقب علطول.. و علي مكنش قاصد يأذيكِ بس هو غلطان غلط كبير انه شرب وبقى سكران.. الولد باين عليه محترم وأول مرة يعمل كده.. اللي زي علي وغيره محتاجين مساعدة.. محتاجين اللي ياخد بايديهم لطريق ربنا لأنهم عايزين كده.. عايزين يقربوا من ربنا بس محتاجين اللي يوصلهم.. عشان كده سامحته و عفوت عنه..
ظلت تراقبه بفخر و حُب وهو يتحدث حتى لاحظها و ابتسم لها مُقبًلا يدها.. بادلته الإبتسامة قائلة
–أنت فيك صفات حلوة أوي مكنتش واخدة بالي منها.. أنا محظوظة بيك بجد
هتف ممازحًا
–حافظي عليا بقى.. عشان أنا آخر نسخة من أشباهي الأربعين..
ضحك الاثنان سويًا.. أراد بدر أن يعطيها درسًا في التسامح، فتابع
” ﴿ادفَع بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ السَّيِّئَةَ نَحنُ أَعلَمُ بِما يَصِفونَ﴾؛
ربنا يا عائشة أمرنا بالتسامح.. المُعاملة مش بالمثل أبدًا وإنَّما المُعاملة بالفضل..
كان رسولنا ﷺ رقيق القلب، حسن العشرة، يَترفَّق بأصحابه، ولا يهينُ أحدًا، من رآهُ هابهُ، ومن عرفهُ أحبَّه، يألفُ الناس ويألفونهُ، لا ينطقُ بفحش ولا يَعيبُ على أحدٍ، ليّنُ الجانب، لا يرُد سائلًا وليس بِفظٍ ولا غليظ… هحكيلك قصة حلوة معظمنا عارفينها بس قليل اللي ياخد الدرس و العبرة منها
اعتدلت لتضع رأسها على صدره و تستعد للنوم فهذه هي أجمل لحظات يومها.. كم تحبه وهو يروي لها القصص المفيدة كما كان يفعل معها وهي طفلة..
قال بدر..
كان يعقوب عليه السلام يحب ابنه يوسف عليه السلام – أكثر من إخوته، فحسده إخوته على هذا الحب، فقرروا أن يتخلصوا من يوسف، فاستأذنوا أباهم في أن يأخذوا يوسف معهم إلى المرعى ليلعب ويمرح، فوافق، وأوصاهم به، فأخذوه معهم، وهناك ألقوه في بئر .
ثم رجعوا إلى أبيهم في المساء يبكون، وأخبروه أن الذئب قد أكله، فحزن الأب على فراق يوسف حزنا شديدا، ومرت قافلة، فوجدوا يوسف، فأخرجوه وأخذوه معهم، وباعوه لعزيز مصر .
وتربى يوسف في قصر العزيز، ونتيجة لأخلاقه الحسنة، وعلمه الواسع، صار وزيرا لملك مصر، وفي أثناء ذلك، جاء إليه إخوته ليشتروا من مصر لأهلهم بعض الغذاء، فلما دخلوا عليه عرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، وترددوا عليه أكثر من مرة، وكانت فرصة ليوسف لينتقم من إخوته، لكنه عفا عنهم، وقال لهم :
” قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ” ( يوسف: 92 ) .
العفو من أعظم الصفات اللي لازم يتحلى بها المسلم، و وصف الله نفسه بالعفو وأمر عباده أن يتصفوا به، قال تعالى : ” خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ” ( الأعراف: 199 )
اللي يصل لمرتبة العفو يا عائش يبقى يستاهل الجنة و نعيمها.. ربنا يجعلنا من أصحابها
–آمين.. يلا تصبح على خير يا بدوري
–بدوري !!
قالها مستنكرًا ثم ضحك ليردف
–عائش
أجابت بصوت ناعس
–اممم
–ممكن تخلي علاقتنا غير اي علاقة تانية.. يعني خلينا نتخانق براحتنا.. بس مفيش حاجة اسمها نسيب بعض عشان مينفعش حد مننا يكمل من غير التاني… ولا أنتِ ايه رأيك ؟
“بحبك”
اتسعت ابتسامته الجميلة عند سماعه لتلك الكلمة التي تخرج من شفتاها لتلصق في قلبه…
شددّ من ضمها إليه هامسًا في أذنيها
–نامي كويس عشان آخر اليوم عندي ليكِ مفاجأة مخطرتش على بالك
ذهب النوم من عينيها في الحال و نهضت من على صدره لتقول بترجي
–لا بالله عليك.. كفايا مفاجآت

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى