روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الثاني والخمسون

رواية يناديها عائش البارت الثاني والخمسون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثانية والخمسون

استعن بالله، ولا تعجز.
********
” خدي حاجتك و ادخلي الأوضه بسرعة و اقفلي على نفسك”
فور أن سمعت عائشة تلك الجملة من جدتها التي بدت عليها معالم الخوف و آثار الذعر، قامت في الحال، و أخذت حقيبتها لتتوارى خلف باب إحدى الغُرف بعد أن أغلقته بإحكام، و وضعت أذنها على الباب تسترق السمع.
دخل عصام يترنح بثمالة باحثًا بعينيه المحمرة هنا و هناك كأنه تائه شريد، ثم نظر لجدته بعدم اهتمام، و جلس على المقعد واضعًا قدم فوق الأخرى بقلة حياء و هو يحك أنفه عدة مرات رغمًا عنه، ثم يدعك عينيه و يعود ليحك أنفه قائلًا بخمول
” أنتِ هتفضلي و اقفة تبحلقي فيا كده !.. روحي هاتيلي فلوس”
زفرت جدته بقلة حيلة لتجلس بجانبه في محاولة بائسة منها، لتجعله يفيق لحياته و يخرج من هذا المستنقع القذر الذي يحويه
” يا ابني يا حبيبي فوق لنفسك بقى.. اللي قدك بيشتغل و بيتعلم و عايش حياة كويسة.. افرح بشبابك يا ضنايا و ابعد بقى عن السكة اللي أنت ماشي فيها دي.. أنت لسه صغير و العُمر بيجري زي القطر.. الحقه قبل ما يفوتك و ترجع تندم و تقول يا رتني.. أعمل لأخرتك يا عصام.. محدش عارف عمره هيتاخد منه امتى ”
ناظرها عصام بعدم اكتراث لما تقوله، أو أنه لم يسمعها من الأساس لخموله الشديد.. قال وهو يطبق جفونه و يفتحهما بصعوبة
” طب شوفيلي قرشين كده معاكِ.. يلا اخلصي..”
استغفرت الله بخفوت ثم نهضت على مضض و أعطته القليل من المال؛ لتمط الأذى الذي يسببه لها عندما يأتي لعندها، فهي تقوم بتحفيظ صغار القرية القرآن في بيتها، و تؤجر الطابق الثاني للبيت؛ لمن يحتاج المبيت ليلة إذا كان على سفر و ليس له مأوى، أو تؤجرها لفتيات الجامعات اللواتي لا يحبون الإقامة بسكن الطالبات، تفعل أي شيء تضيع به أوقات فراغها، و مجيء عصام لعندها يوميًا يسبب لها الخجل أمام الصغار أو المستأجرين؛ بسبب علو صوته في بعض الأوقات عندما ينفذ منها المال و سبها بأفظع الشتائم، رغم أنها تحبه أكثر من والديه، لكن لإهمال أبواه له و انشغالهم بالتجارة، انحرف عصام و خرج من المدرسة، وهو في سن الثانية عشر، و اتجه لطريق وعر كله زلات، و عندما مل أبواه منه تركوه يفعل ما يشاء، فيقوم بالسرقة مع بعض رفقاء السوء؛ لشراء المخدرات و الذهاب لبيوت مشبوهة لممارسة الرذيلة، رغم أن عمره اثنان و عشرون و لا زال في مقتبل شبابه، إلا أن كثرة تلك الآثام التي يرتكبها و يفعلها دون حساب لعواقبها، جعلت ملامحه أكبر من سنه، رغم أنه في الحقيقة جميل الملامح، أقرب الشبه لعمته “ناهد” والدة عائشة.
قبل أن يخرج من الباب سمع صوت شيء يقع و يصطدم بالأرض، ابتلعت الجدة ريقها و ظهر الخوف و الارتباك عليها، و استدار عصام ناظرًا تجاه مصدر الصوت، تجاه الغرفة التي تختبئ بها عائشة.
بداخل الغرفة، انتاب جسد عائشة قشعريرة الخوف، فأغمضت عيناها تلقائيًا تدعو الله في نفسها أن يحفظها..خطى عصام بضع خطوات تجاه الغرفة، فأوقفته الجدة في الحال قائلة بابتسامة مزيفة
” رايح فين.. ده تلاقي القطط وقعت حاجة.. أصل لسه حطالهم أكل تحت السلم ”
” بس الصوت ده مش جاي من تحت السلم.. الصوت ده جاي من الأوضه دي ”
قالها، وهو ينظر بثمالة تجاه الغرفة، و رغم ثمالته و سُكْرِه، إلا أن هذا الصوت و الذي صدر عن وقوع منضدة المكواة بدون إرادة عائشة، جعله يستعيد القليل من وعيه..
********
سَأحُبكَ حَتى نلتقي، وَ احضنُ يدك، و أخبركَ أنك بِقلبي رُغم المَسافات، و قسّوة الأيام أنتَ بداخلي.
“لقائلها”
____________♡
نظر بدر لشاشة الهاتف بارتباك لا يدرِ ماذا سيقول لشقيقته وهو يعلم معزة عائشة عندها، فهي تعتبرها أختها و ليست ابنة عمها، و إذا علمت بفراق عصافير الحُب عشهما حتمًا ستصاب بالجنون، حتى تلك اللحظة لا يصدق أحد أو لم يستوعبوا قطّ افتراق القلب عن و تينه، لا زالوا في صدمة من أمرهم حول طلاق بدر و عائشة، و رحيل الأخيرة من الحارة التي وُلدت و نشأت فيها.
حاول بدر ألا يظهر الضعف في صوته، فرد بلهجة فرحة
” وحشتيني يا قلب أخوكِ.. عاملة ايه يا حبيبتي و الواد زيزو عامل ايه معاكِ ؟ ”
سمع بدر صوت زياد يقول ضاحكًا
” واد ! الواد !.. اسمي زياد بيه رستم باشا ”
ضحك بدر رغمًا عنه ليرد
” ماشي يا باشا.. وصلت سلامي لسيدنا النبي و أصحابه ؟ ”
” هي دي حاجة تتنسي.. و دعتلك كمان يا عم تجيب نونو حلو زيي كده و تسميه زياد ”
فور أن قال زياد ذلك، انطفأت ملامح بدر و بهت وجه ولم يعلق بشيء، فأخذت هاجر الهاتف من زوجها لتهتف بمشاكسة
“و أنا كمان دعتلك أنت و البت شوشو تجيبوا توأم عشان نفسي حد في العيلة دي يخلف توائم، نفسي أعيش اللحظة اللي أقعد اتلخبط فيهم”
مال زياد ليهمس في أذنها بصوت استطاع بدر سماعه؛ لأن سماعة الهاتف كانت قريبة من فم زياد، فضحك بدر بخفة على قوله
“و يجيبوا هما ليه ؟ ما نجيبهم احنا.. طب الهي يارب يا هاجر تحملي في تلاتة توأم و يكونوا متماثل.. يلا بقى”
ردت هاجر بدهشة
” حرام عليك يا زياد.. أنت عايز تنتقم مني ! بذمتك الجسم ده يشيل تلاتة مرة واحدة ؟؟ ”
” و ما يشيلش ليه يا قلب زياد.. ربك بيعين ”
ظل بدر يستمع لحديثهما المرح وهو يبتسم بعفوية، داعيًا الله في جوفه أن يرزقهما ما يتمنوا.. قال بدر قبل أن يغلق المكالمة
” هقفل أنا بقى عشان ورايا شغل.. عُمرة مقبولة إن شاء الله ”
استوقفته هاجر هاتفة
” استنى يا بدر متقفلش.. عايزه أكلم عائشة.. هي فين صحيح.. مش سامعة صوتها ؟ ”
“.. أنا.. أنا في الورشة دلوقت..”
قالها بدر بتلعثم، مما تساءلت هاجر بتلقائية
” طيب هي فين ؟ برن عليها تليفونها مقفول ! ”
” أصلها نايمة.. تلاقي التليفون فصل شحن ولا حاجة.. أنا سيبتها نايمة و نزلت.. يلا بقى عشان معايا زبون.. سلام ”
أغلق بدر المكالمة دون أن ينتظر رد من شقيقته.
بينما هاجر أحس قلبها بأن هناك شيء خاطئ يحدث في عائلتهم، أمر سيء حدث في علاقة بدر و عائشة، لا تستطيع فهمه و لكنها تشعر به، اكتفت بالدعاء لهما، دون أن تتحدث مع زياد في شيء..و يمر يومًا طويلًا كأنه عام صعب على بدر، وجاء اليوم الثاني..استيقظ و خرج من البيت بعد أن قبْل رأس والدته في صمت دون حتى أن يتناول فطوره، و ذهب ليجلس مع الشيخ عمار، و كما يحدث في المرات السابقة يستطيع الشيخ بكلامه الشافي للجروح أن يداوي ألمه.
ودع الشيخ بعد أن صلى الظهر معه في المسجد، ليذهب للورشة.. لا زال بدر يشعر بفراغ عميق في حياته بعد رحيل مهجة فؤاده عنه، قرر أن يجاهد قلبه و يعمل بنصيحة الشيخ له وهي أن يشغل نفسه بالعمل و العبادة طوال الوقت، فذهب إلى الورشة مقررًا في نفسه العودة للعمل الدؤوب الجاد.
أثناء سيره في الطريق تجاه الورشة قابله شاب يبيع حلوى غزل البنات، تبسم بعفوية عندما تذكر أول يوم ذهبت فيه عائشة للمدرسة الابتدائية، كان يمسكها بيد و اليد الأخرى يمسك هاجر و يمشي بجانبهم “سيف”.. لفت انتباه عائشة رجل يبيع غزل البنات، فصاحت بصوت عالِ و هي تشد بدر من ذراعه ليشتري لها
” أبيه بدر.. عايزه حلاوة شعر ”
“اسمها غزل بنات يا عائش”
قالها و هو يضحك و يُقبلها من خدها و كذلك هاجر، و اشترى لهما من تلك الحلوى التي يحبونها بشدة، بينما سيف عقد حاجبه رافضًا شراءها، قائلا “أول اما بمسكها بتكش علطول.. أنا عايز الفلوس مش هشتري”
جملته تلك جعلت بدر يضحك بكثرة عليه، و أعطاه المال ليشتري ما يريده بنفسه .
سمعت أذنه صوت طفل صغير يترجى البائع أن يعطيه من الحلوى، و لكن البائع رفض معللًا أن يذهب و يحضر المال أولًا، استدار بدر و نظر بشفقة لعيون الطفل المترغرغة بالدموع، و يبدو من ملابسه المهملة أنه من المتسولين .. ذهب بدر و اشترى أكياس كثيرة من غزل البنات مما فرح الطفل بشدة، و قام باحتضان بدر ببراءة و عفوية جعلته يضمه لصدره بقوة وهو يحاول باستماتة ألا يبكي، موقف كهذا جعله يشعر أنه بحاجة لذلك العناق و ليس الطفل.
سأله بدر بابتسامة صافية
” اسمك ايه ؟ ”
رد الطفل بابتسامة جميلة
“عبد الرحمن”
” أنت جميل أوي يا عبد الرحمن ”
اتسعت ابتسامة الطفل و عاود معانقة بدر، يبدو أن طريقة هذا الكائن اللطيف في الشكر هي العناق.. سأله بدر ثانيةً و هو يجلس القرفصاء أمامه ليكون بنفس مستوى طوله
“عندك كام سنة ؟ ”
” عندي.. واحد.. اتنين.. تلاتة.. أربعة.. عندي دول ”
أظهر الطفل على يده أربعة أرقام وهو يعدهم على اصابعه.
” طيب أنت بتعمل ايه هنا.. فين باباك و مامتك؟ ”
قبل أن يجيب الطفل، سمع صوت إمرأة تقبل عليهما و تقول موجهة حديثها للطفل
“واد يا عبد الرحمن.. أعمل فيك ايه بس.. مش قولتلك متمشيش من جنبي.. داهية تغلبك و أنت مغلبني كده”
كانت المرأة يبدو عليها آثار الفقر و تحمل رضيعة على ذراعيها.. استاء بدر من دعائها على ولدها.. فقال بحدة
“ايه يا ست أنتِ.. حرام عليكِ متدعيش عليه.. غيرك بيتمنى ضوفر عيل”
ردت المرأة باستياء هي الأخرى
“ما أنت لو عندك عيل شقي زيه مش هتقول كده”
تأفف بدر قائلا
” لا حول و لا قوة إلا بالله.. طبيعي يتشاقى مش طفل ! ما كلنا كنا أطفال.. روحي يا ست.. خدي ابنك و روحي الله يسهلك ”
” باي يا عمو ”
قالها الطفل و هو يلوح بيده لبدر و يبتسم ببراءة، انحنى بدر عليه و قبْله من يده، ثم أعطاه المال الذي كان بمحفظته، لم يكن معه سوى مائة و اثنان و ثلاثون جنيهًا، وضعهم في كفه ثم أطبق عليها و همس في أذنه بلهجة مداعبة
” اسمع كلام ماما و بلاش شقاوة..”
تبسم الطفل و احتضن بدر للمرة الثالثة، فبادله بدر العناق و هو يربت على ظهره بحنان، ثم ودعه.
أكمل بدر سيره للورشة، و ابتسامته الجميلة بسبب ذلك الطفل الذي جبر بخاطره منذ قليل، لم تزل من وجهه.
دخل ورشته و ألقى التحية على العاملون معه ببشاشة، مما تعجب الثلاث رجال و أخذوا يتبادلون النظرات فيما بينهم مُتعجِّبينَ من تغيير بدر المفاجئ، فقد كان في الأونة الأخيرة يتعامل معهم بجفاء و حِدة، و أغلب الأوقات لا يهتم بالورشة و لا يتصل حتى عليهم يستفسر عن أحوال العمل، أما الآن فيبدو أنه عاد لطبيعته الطيبة المرحة.
بعد قليل عاد اليهم وهو يرتدي ملابس العمل قائلا بنبرة لطيفة
” ها.. أساعدكم في ايه ؟ ”
رد صابر باسمًا وهو يشير للسيارة التي خرج من تحتها منذ لحظات
” في عطل بسيط فيها.. بس خلاص قربت اخلصها.. والله يا سطا بدر الورشة نورت ”
” منورة بيكم يا صابر.. شكرًا يا رجالة على وقفتكم جنبي الفترة اللي فاتت.. حد غيركم كان زمانه انتهز فرصة غيابي و بوظ الشغل أو اتخنق من معاملتي و مشى.. بجد مش عارف أشكركم ازاي ”
قالها وهو يوزع بصره بامتنان على الثلاث رجال، فرد فينحاس بمرح
” عيب عليك يا سطا بدر والله.. هما الأخوات ليهم جمايل على بعض ؟ ”
” ده العشم برضو يا فينحاس ”
التفت لسيد الذي يبدو من شكله أنه منهمك بجِد في تلك السيارة، ثم تساءل
” هي العربية دي فيها ايه ؟ ”
رد سيد متأففًا
” مش عارف والله.. بقالي ساعة بصلح فيها و كل اما اجي أدورها مبتدورش ”
” بسم الله.. هات كده ”
قالها بدر وهو يأخذ منه المعدات، وبدأ في تشغيل السيارة عدة مرات محاولًا الانصات لصوت المحرك جيدًا، و البحث بعينيه بدقةً فيه وهو يشغل السيارة، حتى عرف مصدر العُطل و بدأ باصلاحه، و بعد عشرون دقيقة دارت السيارة بنجاح مما هتف سيد بسعادة
” طب والله كنت عارف إنك هتشغلها..بنت اللذينَ حاولت فيها كتير ”
رد بدر ضاحكًا بفخر مصطنع
” سر المهنة برضو..”
ظل بدر يعمل بنشاط، و عند كل آذان يجد نفسه تلقائيًا يترك العمل هو و الرجلين تاركين فينحاس بالورشة، ثم يذهبوا للصلاة، كما كان يفعل سابقًا.. في صلاة العشاء التقى بالشيخ عمار و أخبره بما حدث معه، مما سعد قلب الشيخ جدًا و ظل يدعو له بأن يثبته الله و يرحم قلبه العاشق و يرده لإبنة عمه إذا كان رجوعهما خيرًا لهما.
عاد بدر لبيته، و ألقى التحية على سيف و والدته ثم اتجه للمرحاض؛ ليستحم من عناء يومٍ طويل، لكن قبل أن يدلف للحمام.. اتجه لغرفته و أحضر مقصًا ثم وقف أمام المرآة يطالع شعره الطويل الذي يتدلى على أكتافه، و قرر أن يتخلص من طوله ليجعله واصل لرقبته فقط.
قبل أن يقص المقص شعره تذكر هذا الموقف الذي أضحك قلبه كثيرًا و أشعل نار الاشتياق في جوفه ثانيةً.
***
” نظرت له لتقول بغيظ
–بقولك ايه.. أنت تشوفلك صرفة لشعرك اللي كمان شوية هيضفر ده
تحسس شعره ليقول بخبث
–خلاص هقصه
صاحت باعتراض
–” تقص مين ؟؟؟ والله مقعدلك فيها.. صلّ على النبي كده.. هو في حد ربنا مديله شعر زي شعرك كده ويروح يقصه ! بتتبتر على النعمة ليه يا مسلم.. بسم الله ما شاء الله يعني.. احنا كبنات بنيجي بعد مرحلة الثانوية وشعرنا بيبتدي يقع لحد مهنقرع على أول التلاتينات وأنت داخل في التلاتة وتلاتين أهو وشعرك أجمل من حياتي.. شيل الفكرة دي من دماغك يا بدر عشان منزعلش من بعض”
***
وضع المقص على الكومود وهو يغمض عينيه بألم شعر به يدق قلبه كالناقوس يجعله يحن لذكرياته معها و مشاكستها معه، أخذ نفسًا عميقًا ثم فتح عينيه ينظر لنفسه في المرآة بحزن خيم على ملامحه ليقول بصوت مسموع ومع كل حرف ينطقه يشعر بنغزات مؤلمة تحفر قلبه
” آه يا عائش، منذ أن تركتك و القلب منفطر
و الدمع من عيناي عند فراقك سال و انهمر
هرب البدر من مهجته و لفؤاده بتر
تالله إن الشوق للقياكِ كَوخز الإبر
مثل طيرٍ جريحٍ من عُشهِ زُجر
فيا مهجة فؤادي أين المفر ؟ ”
انتبه لوجود سيف على مقربة منه ينظر له بحزن بدا عليه… قال سيف بنبرة عاجزة
” يلا يا بدر عشان نتعشى.. أنا مرضتش أكل غير اما تيجي ”
أومأ بدر وهو يتحاشى النظر لأخيه؛ حتى لا يلاحظ الدموع المتجمعة في عينيه
” هاخد دش على السريع الأول ”
هز سيف رأسه دون أن يقول شيء، ثم خرج..
_____________♡
رأيتُ بعينيها نفسي، ففر قلبي هاربًا من أضلعي اليها، ليعانق روحًا أصبحت لي كل شيء. ” نرمينا.
*****
فتح أُبي الباب و تصلب مكانه للحظات ينظر للواقف بتوتر شديد، حتى أنه من شدة توتره وقعت صينية الشاي من يده، و لم يكن الواقف سوى ” نورا” ابنة عمه مصطفى.. ردة فعل أُبي أدهشت نورا و جعلتها تقول في نفسها
” ايه ده !! في ايه !! ايه الأوفر ده !! ”
للأسف الشديد أن أُبي من الشخصيات الذين ينتابهم التوتر الشديد إذا وقعوا في موقف خارج عن توقعاتهم، خاصة إذا كان هذا الموقف مع شخص لا يغيب عن تفكيره لحظة واحدة، أو بمعنى أصح إذا وقع صاحب الشخصية الإنطوائية في حُب أحدهما فإنه إذا رآه يشعر بالخجل الشديد المصحوب بالتوتر، علاوة على ذلك يتسم أُبي بجانب شخصيته الإنطوائية بالتلعثم في الكلام و يعجز عن قول جملة كاملة مرة واحدة، بل يظل يقطع فيها إذا تملك منه التوتر و الارتباك، و لكنه خارج عن إرادته، و يشعره ذلك بالإحراج الشديد، فقد تسببت شخصيته تلك في خسارة الفتاة الوحيدة التي أحبها و تعلق قلبه به عندما كان في عمر الخامسة و العشرون، وقع في حُب فتاة بريطانية تعمل معه بإحدى الشركات و عندما قرر مصارحتها بحبه رغمًا عنه ظل يتلعثم في الكلام حتى ضحكت عليه و سخر الجميع منه و كان أضحوكة في الشركة بأكملها، مما أصيب بالاكتئاب لفترة و ظل جالسًا دون عمل في البيت لعدة أشهر، حتى استعاد نفسه ثانية بواسطة صديق له، و عاد للعمل مجددًا و لكن في شركة والده، رغم أنه كان يفضل العمل بعيدا عن مجال والده.
و منذ ذلك الموقف العصيب الذي وقع فيه قرر ألا يخوض أي تجربة حُب ثانيةً، و يكرس حياته للعمل فقط، حتى صار بعمر الثالثة و الثلاثون، و لم يأبه بمرور عمره دون زواج، مما قرر والده بدلًا منه أن يزوجه و يستقر في مصر، و ما كان منه إلا الموافقة بقلة حيلة دون تردد، و لكن ما حدث أنه عندما رأى نورا شعر بشيء غريب تجاهها، يظل طول الوقت يفكر فيها، حاول كثيرًا أن ينفض ذلك الشعور عنه، و لكنه يعجز عندما تجيء في مخيلته، لا يعلم لماذا هي بالتحديد، و لكنها الوحيدة بعد ثمان سنوات التي استطاعت بنظرة واحدة عفوية منها لم تقصدها، أن توقظ مشاعر الحُب في قلبه ثانيةً، و ليس على القلوب سلطان يا سيدي، إنها تنبض بإسم من تشاء و في أي وقت تريد.
الصفة الوحيدة التي اشترك فيها الشقيقين
” أُبي و قُصي” أنهما عندما يندهشا من أمرًا ما، أو يحدث أمامهما موقف لم يكن في الحسبان، يفتحان فمهما الصغير تلقائيًا نصف فتحة، و يظل كل منهما يحدق بعينيه الزرقاء في الشخص الماثل أمامهما.
قالت نورا بخجل من نظرات أُبي
” ممكن تنادي طنط ؟ ”
عاد أُبي لوعيه وهو يقول بتلعثم
” طيب.. طيب اتفضلي.. ماما.. ماما موجودة.. اتفضلي ”
جاءت والدته على صوت ارتطام الصينية بالأرض، و قبل أن تقول شيء صاحت نورا بخوف شديد من صوت نباح الكلب الموجود بحديقة المنزل و الذي كان حُرًا، فركض الكلب تجاه نورا مما أخافها بشدة، و جعلها توقع الصينية التي كانت بيدها هي الأخرى و هي تهرول للداخل، و من شدة خوفها زلت قدماها و تعثرت في عباءتها الطويلة، مما جعلتها تقع، و رغمًا عنها شدت أُبي من قميصه فوقع معها أرضًا و ظلا يتبادلان النظرات للحظة حتى انفجر الاثنين ضحكًا من هذا الموقف الذي أحرج كلاهما.. نهضت نورا لتأخذ الصينية التي أوقعتها ثم أعطتها لزوجة عمها التي وقفت تضحك عليهما بشدة.. قالت نورا ضاحكة بخجل
” معلش بقى يا عمتو.. دي الجبنة القريش اللي حضرتك طلبتيها من ماما.. ممكن تغسلي اللي وقع.. أنا آسفة والله أصل بترعب من الكلاب و معرفش أنكم مربين كلب ”
” لا ياحبيبتي و لا يهمك.. اقعدي اما ادوقك من البسبوسة اللي عملتها.. هتعجبك أوي ”
” آه ماما بتعمل بسبوسة حلوة زيك ”
قالها أُبي بعفوية شديدة، فهو دائمًا يقول ما يشعر به في قلبه دون تفكير.. هتفت نورا بدهشة
” نعم !! ”
شعر أُبي بالخجل مما تفوه به فقال مصححًا
” يعني.. يعني.. يعني..
قاطعته والدته لتنقذه من التلعثم
” قصده يقولك إني بعمل بسبوسة حلوة زي اللي بتعمليها.. أصله كل من اللي عملتيها لما كنا عندكم الأسبوع اللي فات و عجبته أوي ”
أومأت نورا قائلة دون النظر له
” بالهنا و الشفا ”
” الله يشفيكِ ”
قالها أُبي دون تفكير ثانية، و تلك المرة ضحكت والدته و شاركتها نورا الضحك لتقول
” أنا فعلًا محتاجة الدعوة دي.. شكلي داخلة على دور برد ايه.. و برد الصيف ده ملوش حل ”
” طيب.. طيب.. أنا.. أنا عندي علاج للبرد بيضيعه في ساعتها.. استني هجبلك منه ”
قالها وهو يتجه نحو الثلاجة بالمطبخ، بينما نورا جلست على المقعد في الصالة، بعد أن سلمت على عمها، و جاءت شهد لتجلس معها، لتُريها بعض فساتين الخروج على هاتفها؛ لكي تساعدها نورا في اختيار أكثرهم رقة و حشمة.
آتى أُبي و معه بعض الحبوب العلاجية لنزلات البرد.. اعطاها لنورا وهو يقول باسمًا
” اتفضلي ”
” شكرًا يا أُبي.. جزاك الله خيرًا ”
شكرته نورا دون النظر في وجهه، و لكن نطقها لإسمه جعله يقف شاردًا بها متناسيًا نظرات والدته و شقيقته المتعجبة له.. رفعت نورا وجهها لتطالعه باستغراب من تحديقه المستمر بها، و هي لا تعلم السبب، و لا تفهم لماذا ينظر اليها هكذا كما لو أنها أعجوبة !
ازداد اعجاب أُبي و انبهر بعيناها اللتان و لأول مرة يلاحظ لونهما، العين اليُمنى لونها أخضر فاتح و العين اليسرى لونها رمادي كالرصاص الداكن مثل لون عين زياد، لون عيناها المختلفة و النادرة جعله يفتح فمه ثانيةً وهو يطالعها بانبهار، عاشَ أُبي لَحْظَةَ انْبِهار شديد، و اختطف بصره مُتأثرًا بها و ببشرتها السمراء الجميلة، كل شيء مختلف بها عن أي فتاة رآها من قبل، تعتبر نورا الفتاة الوحيدة في العائلة ذات بشرة سمراء، و أحيانًا يشعرها ذلك بأنها ليست جميلة مثلهم، و أيضًا اختلاف عيناها يجعلها مستاءة طوال الوقت إذا حدق أحدا فيها، حتى أنها لاقت الكثير من التنمر عليهما عندما كانت صغيرة؛ لذلك أغلب الأوقات ترتدي نظارة سوداء متحججة أنها تتعب من اشعة الشمس، أما بالنسبة لـ أُبي فهو من عشاق البشرة السمراء رغم أنه و أخوته بشرتهم و ملامحهم قوقازية تشبه الغرب، لكنه كان يتمنى أن تكون شريكة حياته سمراء البشرة، و في الحقيقة هو لا يهتم بجمال المرأة، أهم شيء عنده أن تتفهم طباعه و تحب عيوبه قبل مميزاته، و لكن نورا بها سحر مختلف يجعله لا يستطيع انزال عينه من عليها، عندما يراها ينسى شيء اسمه “غض البصر” .
توترت نورا من نظراته و أخفضت بصرها، بينما عمتها لتخفف صعوبة الموقف عليها و على ولدها، أعطتها طبق البسبوسة قائلة
” دوقي بقى و قولي ايه رأيك ”
أومأت مبتسمة بخجل، فسحبت ” سارة ” زوجة عمها يد أُبي و دخلت معه غرفته ثم أغلقت الباب و قالت بخفوت
” مالك يا أُبي.. واقف متنحلها كده ليه.. البنت اتحرجت منك ”
تلعثم أُبي و قال بخجل
” مش.. مش قصدي حاجة ”
رمقته والده غامزة
” عليا أنا يا واد.. نتكلم في الموضوع ده بعدين ”
تركته و خرجت لتجلس مع نورا، بينما شهد قامت لتمسح الشاي الذي أوقعه شقيقها على السيراميك.. استأذنت نورا لتذهب.. فخرج أُبي ليستوقفها قائلا
” نورا.. أنا.. أنا.. أنا آسف ”
نظرت نورا لزوجة عمها بعدم فهم، ثم أعادت النظر له لتتساءل
” آسف على ايه ؟ ”
” حبيت أتأسفلك.. لو.. لو كنت ضايقتك في حاجة ”
قالها بابتسامة بسيطة، فأومأت نورا
” لا مفيش حاجة.. و شكرا تاني مرة على العلاج ”
” إن شاء الله يجيب نتيجة ”
قالتها عمتها، فقبلتها نورا لتذهب و عندما فتحت الباب وجدت الكلب واقف أمامها، فانتفضت بخوف وكادت أن تدخل.. تفاجئت به يقف خلفها ليقول
“متخافيش.. هوصلك”
اغمضت عيناها لتتنهد بخوف، بينما أُبي أخذ الكلب و ربطه قائلا بلهجة مرحة
” الكلب ده قصي اللي شاريه.. قصي أخويا من صغره وهو بيحب الحيوانات و الطيور.. بالذات الكلاب.. بس ده كلب أليف مبيعضش.. لما بيهز ديله كده بيبقى عاوز يلعب ”
قال ذلك دون أن يتلعثم في حرف واحد؛ بسبب أنه ولى ظهره لنورا ليربط الكلب، فوجودها أمامه هو ما يجعله يتوتر و يقطع في الكلمات.
قالت نورا بهدوء
” خلاص هروح أنا لوحدي بقى طالما ربطته ”
استدار لها ليقول برفض
” لأ.. هـ.. هوصلك.. احنا.. احنا بالليل ”
” بس خطوتين و هوصل مفيش مشكلة ”
” بس.. بس.. بس أنا.. أنا عايز أطمن أنك وصلتي بخير ”
قالها وهو يضع رأسه بخجل في الأرض من كثرة التلعثم أمامها، شعر لوهلة بأنها تنظر له بسخرية.. شخص في مثل عمره و يقطع بالكلمات، بالطبع ستسخر منه.. هذا ما أخبره به عقله الباطن.
قالت نورا بعدم اكتراث غير متفهمة أمر تلعثمه في الأحرف، ظنت أنه مرض يلازمه منذ الصغر، و لم تعلم أنه بسبب شخصيته الإنطوائية المصحوبة بالخجل الشديد و الرهبة من سخرية الأخرين منه، لذلك لم تعطي للأمر أهمية
” خلاص ماشي ”
سار بجانبها تجاه بيت عمه و حرص على ابقاء مسافة بينهما، حتى وصلت نورا للبيت و قالت بأدب
” اتفضل.. بابا لسه صاحي ”
هز رأسه بنفي ليقول
” لأ.. سلميلي عليه.. عندي.. عندي شغل.. لازم.. لازم اخلصه ”
أومأت نورا و قبل أن تدلف للبيت، أتاها صوته يستوقفها قائلا
” نورا..
استدارت لترى ماذا يريد.. قال بتلقائية دون تزييف مُعبرًا عما يشعر به قلبه
” أنا أول مرة.. أخد.. أخد بالي من لون عنيكِ ”
تحولت ملامح نورا للحزن؛ ظنًا أنه يهزأ منها أو يعيب خلقتها.. استدرج أُبي حديثه بنبرة لطيفة
“دي أجمل عيون أنا شوفتها”
تحدث تلك المرة دون أن يتلعثم في حرف واحد، و كأن قلبه الذي يتحدث و ليس لسانه، فالقلب لا يمكنه التلعثم أو التخبط في الكلام.
شعرت نورا بالخجل الشديد المصحوب بمشاعر مختلفة لأول مرة تشعر بها ولا تفهمها ولكنها سعيدة، حدث عكس توقعاتها ولم يعيب عليها.. ابتسمت برقة و هي تتحاشى النظر اليه لتقول بخفوت قبل أن تدخل البيت و تغلق الباب
” شُكرًا ”
دلفت نورا لغرفتها دون أن تلقي التحية على والديها؛ لشرودها فيما حدث منذ لحظات.. أغلقت الباب و ذهبت لتقف أمام المرآة وهي تتطلع للون عيونها قائلة بابتسامة مبهجة
” أول مرة حد يقولي عنيكِ حلوة ! قالي عنيكِ أجمل عيون أنا شفتها !! هو بيتكلم بجد و لا بيتريق ! بس.. لأ.. صوته باين خالص إنه مبيعرفش يجامل.. بيقول الحقيقة.. يعني اللي قاله ده هو الحقيقة ! أنا عيني حلوة !! ”
تحسست ملامحها البسيطة و هي تبتسم لنفسها بسعادة لم تشعر بها من قبل، لأول مرة يتغزل بها أحد أو يهتم لأمرها، دائمًا كانت تشعر أنها الوحيدة من بنات العائلة الموضوعة على الهامش و لا يلتفت إليها أحد؛ لأنها أقل جمالًا منهن، فَـنساء عائلة الخياط معروف عنهن أنهن يمتلكن ملامح و قسمات وجه جميلة و رقيقة للغاية و جميعهن من ذوات البشرة البيضاء إلا نورا..
أحيانًا الصفة التي لا تعجبك في نفسك، يراها الآخرون أجمل صفة على الاطلاق، و نورا من وجهة نظر أُبي أجمل فتاة رأتها عينه.
________________♡
ﺃﺑﺘـﺪﻳﺖَ بـهِ ﺻﺪفة، و ﺃﻧﺘـﻬﻴﺖ بـهِ ﺣُﻠـمًا ﻳُﺮﺍﻭﺩﻧِـﻲَ ﻛُﻞ ﻟـﻴﻠﺔ. ” لقائلـها ”
*******
بعد مغادرة الضابط كريم بيت رُميساء، دلفت لغرفتها دون الحديث مع عائلتها حول رأيها فيه، فقد كانت في قمة خجلها، لم يسبق لها و أن قابلت عريسًا من قبل، و لكن هذا ” العريس” مختلف تمامًا، لم يأتِ لأجل الزواج أول لغرض تكوين أسرة فقط، بل جاء لأجلها، جاء لأن قلبه تعلق بها و أحب مرافقتها له طوال العُمر، و فكرة أن يأتِ شخص لأجلك أنت، لأنك غايته و مُراده تخفف من الحيرة التي ستنتابك في الموافقة أو الرفض.
اتصلت على روان لتحكي لها ما حدث، فردت روان على الفور كأنها في انتظار تلك المكالمة.. تعجبت رُميساء من ردها السريع و تساءلت ضاحكة
” أنتِ قاعدة جنب التليفون و لا ايه ؟ ”
” لا ياختي لابسة السماعات بسمع أناشيد دينية و أنا بمسح الشقة.. اخلصي ارغي حصل ايه ؟؟ ”
تنهّدت رُميساء بعاطفة طغت عليها
” هيح.. أحكيلك ايه و لا ايه.. قالي كلام يدوخ
يا بوي ”
ضحكت روان بشدة من دلالها في الحديث لتقول
” صدقي بالله أنك عيلة مايصة.. ما تخلصي يا بت ريقي نشف.. عايزه اعرف هأجر الفستان امتى ؟ ”
” فستان ايه ؟ ”
” اللي هلبسه في خطوبتك ”
ردت رُميساء تنهرها بلُطف
” ليه حد قالك إني مدلوقة.. أنا لسه عند كلامي مش هتجوز أو هرتبط عمومًا غير اما اخلص تعليمي ”
” رُميساء أنتِ هتزيطي.. أنتِ من أول السنة و أنتِ نفسك تطلعي من التعليم و تتجوزي..حبيبتي أنتِ مش نافعة أصلًا.. اخلصي قولي حصل ايه ”
” الصحاب لبعض فعلًا.. منك لله ”
قالتها رُميساء بنبرة مشاكسة في الحديث، ثم قصت على روان ما حدث في الرؤية الشرعية بالتفصيل.
هتفت روان بعد أن علمت بأمر قصة الحُب اللطيفة تلك، و التي بطلها اثنان لا يعرفان عن بعضهما البعض سوى القليل جدًا.
” ده واقع لشوشته.. العب يا ملعب.. عالطلاء الواد ده مدلوق دلقة ما اندلقهاش حد من المدلايق قبل كده ”
ردت رُميساء و هي تضحك بشدة على أسلوب روان الصبياني في الحديث
“الله يهديكِ يا شيخة.. يا بنتي ابوس ايدك خليكِ أنثى رقيقة ولو يوم واحد.. الله يكون في عون اللي هيتجوزك والله”
” هياخد جوهرة ايش فهمك أنتِ .. المهم خلينا في المفيد.. أنا شايفه أنك توافقي ”
” مش عارفة يا روان بجد.. حاسة إني فرحانة و في نفس الوقت قلقانة.. بصي هصلي استخارة و ادي لنفسي أسبوع كده أفكر و استخير ربنا ”
هتفت روان بدهشة
” أسبوع يا مفترية ! ده أنتم في الأسبوع تكونوا عملتم الخطوبة و كتبتوا الكتاب و اتجوزتوا و بقى عندك روان صغيرة ”
“ايـــه.. صل على النبي بس كده.. أنتِ مفكرة نفسك هنا في أكشن كوكب المغامرات ! أنا مش عايزه أتسرع بجد.. ده جواز.. مش لعب عيال.. يعني حياة تانية خالص و دنيا تانية عايزه تفكير كتير”
” خلاص يسطا صلي استخارة و ربنا يقدم اللي فيه الخير ”
” يسطا !! حاسة إني بكلم تاجرة خردة.. ماشي ياختي ربنا يسهل.. يلا سلام عشان بابا بينادي عليا ”
” مع السلامة يا مرات حضرة الضابط كريم باشا ”
قالتها روان وهي تضحك لتستفز رُميساء، فردت الأخيرة زافرة بنفاذ صبر
_ أنا غلطانة إني حكتلك حاجة.. يلا يا بت من هنا
….
أغلقت روان المكالمة و هي لا زالت تضحك، داعية الله من قلبها أن يأتِ بالخير لصديقتها أينما كان.
بعد أن انتهت من تنظيف البيت مع زوجة والدها ” إيناس” أتت روان بصينية الشاي لتَجْلِسَا تشربا الشاي و هما يشاهدان أحد المسلسلات المصرية، و يتبادلان أطراف الحديث… بعد قليل جاء “حافظ” ليشاركهما المجلس قائلا بلهجة حنونة و هو يطوق كتف ابنته
” عاملة ايه يا روان ؟ ”
” الحمدلله يا بابا في فضل و نعمة من ربنا ”
” ربنا يدِمها يا بنتي.. كُنت عايز أتكلم معاكِ في موضوع كده ”
التفتت روان لوالدها منصتة باهتمام، فقال الأب
” مالك ابن عمتك
قاطعته روان متسائلة باستغراب
” ماله ؟ ”
” طلب ايدك مني.. و مستني ميعاد يجي يتقدم رسمي ”
هتفت روان بصدمة
” ايــــه !! ”
تساءل الأب في قلق
” ايه.. في ايه ؟؟ ”
اعتدلت في جلستها وهي تجز على أسنانها بغيظ قائلة بصوت خافت
” كان لازم يعني تدعي بضمير يا رُميساء.. و الله لأوريكِ ”
” في ايه يا بنتي ! ”
تساءل حافظ بتعجب، فقالت روان بهدوء مزيف
” بص يا بابا.. حضرتك عارف رأيي في الجواز.. قولت لحضرتك قبل كده لما أحقق أهدافي و طموحاتي ابقى أفكر في الارتباط.. لكن حاليًا مقدرش أنا آسفة.. أنا لسه يدوب مخلصة تالتة ثانوي.. جواز ايه يا بابا دلوقت ! ”
أردف الأب بهدوء
” و أنا مجبتش سيرة جواز.. أنا بقولك طلب ايدك مني.. كل ما في الموضوع عايزك تدي لنفسك فرصة تقعدي معاه على الأقل.. مالك شاب مهذب و متعلم و بيشتغل و شقته جاهزة و غير كده أنا خاله و عارفه كويس.. إنسان كامل من مجاميعه يعني هطمن عليكِ و أنتِ معاه ”
زفرت بضيق لتقول باضطراب
” يا بابا بالله عليك بلاش تضغط عليا.. أنا مش عايزه أقعد مع حد لا مالك و لا غيره ”
” طيب ولو قولتلك عشان خاطري ؟ ”
نظرت لوالدها بقلة حيلة ثم أخفضت رأسها قائلة
” و بعد ما اقعد معاه ايه اللي هيحصل ؟ ”
” لو مرتحتيش نقوله مفيش نصيب و خلص الموضوع.. بس مينفعش نرفض من غير سبب كده ”
” يعني يا بابا عدم موافقتي إني اتجوز غير بعد ما احقق حلمي ده مش سبب كافي ! ”
” و ايه المشكلة إما تكملي دراستك و تفتحي الحضانة اللي عايزاها و أنتِ معاه ! أهو حتى تلاقي كتف تتسندي عليه.. أنا مش هعيشلك العمر كله ”
” بعيد الشر عليك يا بابا..
تدخلت إيناس لتقول باسمة
” ربنا يطولنا في عمرك و تعيش لحد ما تشوف أحفادك من روان و إبراهيم ”
” إبراهيم مين ؟ ”
تساءل حافظ، فردت إيناس و هي لا زالت مبتسمة بـوِد
” أصل بدعي ربنا يرزقنا بولد.. ولو جه ولد هسميه إبراهيم على إسم أبوك الله يرحمه ”
أومأ بابتسامة صافية
” الله يرحمه و يتمملك على خير…
ثم استدار لروان قائلا ” ها يا روان.. أديله ميعاد يجي و تقعدي معاه ؟ ”
تنهدت روان بيأس
” اللي تشوفه يا بابا ”
” يعني أكلمه ؟..أصله متمسك بيكِ جدًا ”
أومأت بلا مبالاة
“ماشي”
في الحقيقة وافقت روان لسبب واحد، وهو أن تجلس مع مالك ثم تقول لوالدها أنها لم تشعر بالراحة معه، فيضطر والدها ألا يحادثها في ذلك الموضوع ثانية، لقد رسمت الخطة بدقة و تعرف ما يتوجب عليها فعله عندما ستقابل مالك في الرؤية الشرعية..
دلفت لغرفتها بعد أن توضأت لتصلي صلاة الوتر، كما اعتادت دائمًا، منذ أن عرفت أهمية أن ينام المرء على وترٍ..
إنّ خير دليل على فضل تلك الصلاة وكونها من آكد السّنن وأعظهما على الإطلاق، التزام النبي -صل الله عليه وسلّم- بها، وحثّه الدائم عليها، وهو خير قدوة للمسلمين في أقواله وأفعاله، فقد كان لا يدعها، كما أوصى أصحابه بذلك، فقال أبو هريرة -رضيَ الله عنه-: (أَوْصَانِي خَلِيلِي بثَلَاثٍ لا أدَعُهُنَّ حتَّى أمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ، وصَلَاةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ علَى وِتْر).
” رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة.”
أمّا وقت أدائها فقد أجمع العُلماء أنّ ابتداءه يكون بعد صلاة العِشاء مُباشرةً، وأنّه ينتهي بطلوع الفجر الثّاني -الفجر الصّادق.
و هي من النوافل التي يمكن أن يقوم بها المسلم، و هي سنة مؤكدة و تكون بركعات فردية و ليست زوجية، فكلمة وتر في اللغة العربية تعني ” إفراد، و من أهميتها أنها تنقي القلب و تزيده خشوع و تقرب لله سبحانه و تعالى و تجعله يشعر براحة نفسية.
و في حديث آخر قالَ الحبيب المصطفى
“إنَّ اللَّه وِترٌ يُحِبُّ الْوتْرَ، فأَوْتِرُوا، يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ.
رواه أَبُو داود والترمذي.. إسناده صحيح.
و الوتر هو من أسماء الله الحسنى ، ومعناه الواحد الذي لا شريك له وليس كمثله شيء.
جلست روان على سجادة الصلاة بعد أن سلمت عن يمينها و شمالها تسبح على أصابعها، و هي تفكر في الموضوع الذي حادثها والدها فيه، سألت نفسها بتعجب ” تُرى لماذا يريد مالك الزواج مني أنا بالتحديد ؟ ”
آتاها صوت القلب يهمس
” هل نسي قلبك سيف الإسلام ؟ هل استطعتِ بتلك البساطة نسيان الشاب الوحيد الذي أحببتيه يا روان ؟ ”
” إلهي الرحمة، الرحمة لقلب تعلق و عشق و اصطنع النسيان مخافة العصيان ”
كما اعتادت الحديث مع الله.. قالت بنبرة حزينة
” يارب جلالتك عالم باللي في قلبي قبل ما أقوله.. بس أنا برتاح لما بتكلم معاك ياربي.. يارب أنا حاولت كتير أنسى سيف بس معرفتش.. غصب عني بيجي على بالي.. غصب عني بفكر فيه.. لما شفته في الحديقة مسكت نفسي عشان منهارش قدام حد.. صعبان عليا أوي يارب.. يارب بيدك الشفاء اشفيه.. أنا يارب بحبه.. و مش عايزه راجل غيره.. بس هعمل ايه.. مفيش في ايدي حاجة اعملها.. و فعلا زي ما بابا بيقول مالك إنسان كويس و أنا اعرفه و عارفة إنه محترم و متدين بس.. بس يارب القلب و ما يريد و أنا قلبي مبيفكرش غير في سيف.. أنا لا حول ليا و لا قوة يارب قدام عقلي لما يردد اسمه.. بحاول على قد ما أقدر اشغل نفسي بأي حاجة عشان مفكرش فيه.. أحيانًا ببقى هموت و اكلمه و اسمع صوته بس على أخر لحظة بتراجع مخافةً منك ياربي.. يارب أنا مش عارفة أدعي أقول ايه بس اجعلني من نصيب سيف و اجعله من نصيبي لو هو فعلًا بيحبني.. اما لو أنا مش في دماغه أصلا و نساني فـيارب اشفيه و أرزقه بواحدة أحسن مني ”
*****
قراءة القرآن تشفي صدره و تجعله في قمة راحته النفسية؛ لذلك كلما أحس بالحزن و تاق قلبه لرؤية روان يهرع لتلاوة آيات الله، التي تنجح في الهامه الصبر، أو يستمع لصوت أحد القُراء أصحاب الصوت الجميل.
أغلق المصحف وهو لا زال باتجاه القبلة، بعد أن صلى قيام الليل و صلاة الحاجة التي انتظم عليها طالبًا من الله جل و علا أن يشفيه.
الاشتياق لقطعة من روحك تقبع بعيدا عنك شعور مؤلم جدًا لا يحسه إلا من أحب بصدق.
يشتاق لتلك اللهفة، و لمعة الحُب، التي كان يراها و يلاحظها في عيناها كلما التقى بها، يشتاق لجدالها معه طوال الوقت، و رغم جدالهما المستمر منذ أن تعرفا على بعضهما، إلا أن كل واحد منهما لا يطيق الابتعاد عن الآخر، بداخله يسب نفسه على حماقته، و اندفاعه، و تهوره كلما تذكر الجُرم الذي ود ارتكابه في حقها، بداخله شظايا من اللهيب الحارق، يود أن يحرق بها شيطانه اللعين؛ لإغوائه و صرف قلبه عن الطاعة، و جعل المعصية محببة اليه، مما ساقه ذلك لفعل ما لم يكن يتوقع يومًا أن يصدر منه، و ما هو عليه الآن نتيجة ضعفه أمام نفسه الأمارة بالسوء.
يشعر بضيق في الصدر، كلما تذكر مشهد بكاء روان أمامه، و توسلاتها المتكررة ألا يفعل بها مكروه و يتركها تذهب.. يتمنى من داخل قلبه، لو أنه يستطيع التحدث معها ثانية، أو تتيح له فرصة التعبير عن مشاعره الصادقة تجاهها، بعد أن أنعم الله عليه بالتوبة النصوح.. لأخبرها بأنه يحبها حقًا، و يريدها معه للأبد، و سيعوضها عن كل مُرّ ذاقته لها الأيام.
تنهد بنبرة كلها تَلَهُّف و حنين ليقول بصوت واضح
“وحشتيني يا روان.. يا ترى أنا كمان وحشتك ؟ و لا.. ولا نسيتيني ؟ ياه لو أرجع أمشي تاني.. و الله لأجي أقول لأبوكِ أنا بحب بنتك و عايزها معايا العُمر كله.. آه لو بس ينفع.. و الله و الله لأعوضك عن كل لحظة تعاسة و حزن عشتيها بسببي أو بسبب أي حد”
زفر بحزن لينتقل للحديث تلك المرة مع الله عز وجل
” يارب أنا مش عارف هتدبرها ازاي.. بس خليني كويس و اجعل روان من نصيبي.. أنا عارف إن لسه قدامي موال في الدراسة و البنات بتتجوز بسرعة يعني ممكن يجيلها أي عريس كويس و توافق عليه.. بس يارب عشان خاطري متخليهاش توافق على أي حد يتقدملها.. أنا كدبت لما قولت هفرح لو شوفتها فرحانة مع حد غيري.. بس كنت بقول كده عشان أصبر نفسي..
يارب وقف حالها في الجواز لحد ما أبقى قادر إني اتقدملها.. يارب تبقى ليا أنا ”
لم تمُر إلا دقائق معدودة و تفاجئ سيف بمن يهجم عليه في الغرفة و يحتضنه هاتفًا
” سيــــــف.. وحشتنــــــاي ”
لم يكن هذا الشخص سوى صاحب الشخصية المرحة ” قُصي”
فتحت له عمته مفيدة، و ذلك بعد أن تناول سيف و بدر وهي طعام العشاء، و كالعادة منذ أن حدث الطلاق و الصمت سيد مواقفهم.. دخل بدر غرفته و أغلق الباب على نفسه؛ ليدخل في دوامة من الحزن تارة، و مواساة نفسه بذكر الله تارة أخرى.. أما سيف دلف لغرفته ليقيم الليل كما اعتاد.
صاح سيف بدهشة وهو ينظر للساعة
” الساعة اتنين !! كنت فين ولا جاي منين و لا أنت عايز ايه في ليلتك دي !! يابني أنا عايز أنام أنت هتبطل تقرف فيا امتى ؟؟ ”
رد قصي ضاحكًا وهو يتسطح على الفراش بمقابلة سيف
“خمن كده كنت فين.. Guess يلا”
تنهد سيف قائلا
” طالما لابس و متشيك كده يبقى كنت بتصيع ”
” الله أكبر.. عرفتها لوحدك دي ! ”
“يعني هو أنت مفيش فايدة فيك !.. يا ابني لم نفسك بقى”
نهض قصي ليجلس وهو يقول بحماس
” منا قولتلك إني بحب بجد و المرة دي مش بعك.. بس هي تخلص الشغل اللي نازلة عشانه ده.. و بعدين نتجوز ”
” برضو ! طيب.. أنت حر.. أنا قولتلك اللي في ضميري.. أنا مش مستريح للموضوع ده ”
رد قصي بعدم اكتراث
” متشغلش بالك و اطمن.. البت بتحبني فعلا.. و عايزه تيجي تتعرف على أهلنا”
” ينهارك مش فايت ”
قالها سيف غير مصدق ما قاله قصي، فأردف الأخر
” ايه ياعم في ايه ! ”
“تتعرف على مين !! ده مش بعيد لو أبوك شافها هيوديها على المدبح علطول… أنت بتفكر منين ياض أنت !! ”
” يوديها على المدبح ليه يا عم هو أنا هتجوز معزة !! ”
” افهم يا حمار.. أبوك عايز يجوزك واحدة شبهنا ودي مش هتنفعك خالص ”
تساءل قصي بعفوية
” شبهنا ازاي ! مسترجلة يعني ! عندها هرمون الذكورة عالي ! ”
أخذ سيف علبة لكريم الشعر موضوعة بجانبه، و ألقاها على قُصي، وهو يهتف بغضب مصطنع
” قوم يالاه غور من وشي.. قـوم ”
تفادها قصي وهو يقول بمرح
” حب الأخوات ده غريب جدًا.. ده بدل ما تقف معايا.. دا أنا حتى كلمتها عنك و اتفشخرت بيك قدامها.. قولتلها إن أنت داخل رابعة طب تخصص جراحة و كمان بتخليني أصلي و…
قاطعه سيف ليقول بدهشة
” تخصص جراحة ازاي !!
تابع وهو يضحك
“أنت غبي يالاه ! أنا بقولك نفسي اتخصص جراحة قلب لأن ده حلمي بس مش بتخصص فيه في السنين الأولى.. ده في آخر سنة التخصص ده
رد قصي بلا مبالاة
” يا عم أنا مالي.. أنا اتفشخرت بيك و خلاص”
نهض قصي فجأة وهو يفك ازرار قميصه قائلا
“أنا هنام معاك”
كاد أن يرد سيف، و لكن دخول بدر المفاجئ عليهما أسكته، و في تلك اللحظة كان قصي قد تخلص من قميصه و يقف عاري الصدر.. تبادل الثلاثة النظرات في صمت و كان وجه بدر مليء بعلامات الاستفهام وهو يناظرهما، بينما سيف عجز عن التكلم، و هتف قصي بطريقة مضحكة
” أوعى دماغك تروح بعيد.. أنا أصلًا بتاع نسوان.. فمتفكرش ”
جملة قصي تلك جعلت بدر يضحك بشدة حتى أدمعت عيناه، فمنظره وهو يتحدث كفيل بأن يكتب في المسرحيات ليضحك مئات الأشخاص..
لقد طرق بدر الباب قبل أن يدخل و لكنهما لم يسمعا لشجارهما المرح و المشاغب سويًا، قصد بدر الجلوس معهما، عل قلبه و عقله يهدئ قليلا من كثرة التفكير بعائشة.. اتجه قصي لخزانة ملابس سيف و أخذ تي شيرت ليرتديه و سروال بدلا من بنطاله الجينز.. ليقول قبل أن ينزع بنطاله
” احنا شباب مع بعضينا بقى متتكسفوش ”
” أنت حيوان يالاه ”
قالها سيف وهو يدير كرسيه ليعطيه ظهره، بينما بدر تبسم ضاحكًا من قوله و ادار وجهه هو الأخر.
خاف قصي من والده بسبب رجوعه للبيت في هذا الوقت المتأخر، فقام بالاتصال على أُبي قبل أن يذهب لبيت عمه، و أخبره أنه يجلس مع سيف منذ الساعة العاشرة و سيبيت عنده، و لم يغيب في الخارج إلا ساعتين فقط.. أخبره أن يقول لوالده ذلك، أما الحقيقة أُبي يعلمها؛ لأن قصي لا يخفي عنه شيء.
ظلا الثلاثة يتحدثون في أمور مضحكة يبتدعها قصي و يتحدث معه سيف بمنتهى الجدية في تلك الأمور التافهة، و بدر ينصت اليهما و هو يضحك على حديثهما الهزلي و الساخر، و بفضل هذان المرحان ذهبت الغمة التي كانت في قلب بدر، و اندمج معهما في الحديث، حتى أذن الفجر عليهم و نهضوا الثلاثة للصلاة.
في الصباح بعد أن ذهب بدر لعمله، و تناول فطوره مبكرًا عنهم.. جلس سيف ووالدته و قصي يتناولون الإفطار
قال سيف محدثا والدته
” ماما أنا فكرت كتير في موضوع بدر و عائشة بعد ما عرفت من بدر انه طلقها طلقة واحدة.. ايه رأيك نصلح بينهم و يرجعها في شهور العدة قبل ما تخلص.. ؟ ”
تدخل قصي ليقول وهو منشغل بالأكل
” عدة ايه ؟ عدة نوكيا ! ”
“اطفح يالاه و أنت ساكت”
” تنستر ”
قالها وهو يعود لقضم ساندويتشه بعدم اهتمام لما يحدث من حوله.
____________♡
بعد أن قام أُبي بتوصيل نورا للبيت، وصل لبيته أيضًا وجلس في الحديقة المتصلة بالبيت على الأرجوحة شاردًا في جمالها المختلف الذي نال اعجابه بشدة، لم يقع في غرامها لأجل أنها أعجبته، و إنما لأجل ذلك الشعور الرائع الذي يشعر به في قلبه كلما رآها.
حدث نفسه بحزن قليلا
” يا ترى يا نورا لما تعرفي إن أُبي ابن عمك الإنطوائي اللي بيحب يفضل لوحده علطول، و اللي من كتر ما كان بيقعد لوحده وهو صغير لحد ما كبر مخدش باله من لون عنيكِ غير دلوقت.. بيحبك.. هيكون ردة فعلك ايه ؟ هترفضي حبي عشان عيوبي ولا هتحبيني بيها !؟ بس حتى لو رفضتيني حقك.. أنا أصلًا متحبش.. عمري ما جربت شعور إني أحب و أتحب.. شعور الحب المتبادل ده محستوش قبل كده و لا جربته.. لأني عيوبي مانعة غيري يحبني.. بس غصب عني.. غصب عني لما بشوفك نص الكلام بيطير مني.. مش بإيدي والله يا نورا ”
ظل لساعة جالسًا لوحده، ثم نهض ليدخل غرفته ليقوم ببعض الأعمال على حاسوبه الشخصي.. نادته والدته وهي تبتسم لتقول مداعبة
” رايح فين.. لسه مخلصناش كلامنا ”
” هو احنا كنا بنتكلم في ايه أصلا ؟ ”
تساءل بعفوية، فوكزته والدته لتقول غامزة
” لحقت نسيت.. طيب ادخل نتكلم براحتنا ”
دفعت به بلُطف داخل غرفته، ثم أغلقت الباب و جلست بجانبه بعد أن أجلسته معها لتقول
” متخبيش على أمك.. نورا عجباك ؟ ”
” مش مجرد إعجاب يا ماما.. أنا بحبها ”
قالها بعفوية شديدة دون حساب للكلمات، مما اتسعت ابتسامة والدته الحنونة و قالت
” خلاص سيب الموضوع ده عليا.. أنا هكلم أبوك”
هتف بنفي شديد
” لأ يا ماما.. بلاش عشان خاطري ”
” ليه يا أُبي.. مش أنت بتحبها ؟ ”
” ايوه.. ايوه بحبها.. بس لازم أتاكد من مشاعرها تجاهي الأول.. أنا خايف يا ماما يحصل زي ما حصل قبل كده من تمن سنين.. خايف متقبلنيش ”
ربتت والدته على كتفه بحنو مردفة
” أُبي يا حبيبي.. أنت مفيش فيك عيب واحد ”
” حضرتك بتقولي كده عشان أنا ابنك.. لكن حد تاني هيشوفني مليان عيوب ”
” ما يمكن لو رفضت يكون رفضها لسبب تاني.. مش لازم كل حاجة في حياتك محصلش نصيب فيها تحمل نفسك الذنب.. يا حبيبي ربك بيعمل اللي فيه الخير”
” و نعم بالله يا ماما بس مش هصارحها بحُبي غير إما أعرف رأيها فيا الأول ”
تساءلت والدته بعدم فهم
” هتسألها يعني ؟ ”
” لأ.. هستنى زياد اما يجي بالسلامة إن شاء الله و أقوله.. و حتى لو حصل نصيب عايز أصبر شهر على الأقل.. لازم نراعي مشاعر بدر ابن عمي.. بدر بيحب عائشة جدًا و أي مناسبة ارتباط هتحصل هتأثر فيه.. فهستنى شهر كده و لا حاجة يكون تأقلم على الموضوع و استوعب اللي حصل ”
نظرت له والدته بابتسامة عذبة حنونة، فهي تعلم أن ابنها رغم شخصيته الهشة و الخجولة، إلا أنه طيب القلب لأبعد الحدود، لم يجرح أحد قط في حياته، و يسارع بمساعدة أي شخص احتاج له، دائمًا يراعي مشاعر الآخرين حتى و لو على حساب نفسه و مشاعره.
________♡
عاودت رُميساء الاتصال بروان لأكثر من مرة، فقد كانت روان تغط في النوم.. استيقظت بعد الاتصال الثالث لترد بقلق
” في ايه يا بنتي.. أنتِ كويسة ؟؟؟ ”
ردت رُميساء بلهجة مضطربة
” الحقيني يا روان ”
” يا بنتي هو أنتِ موجودة في حياتي عشان تتعبيلي أعصابي !! ما تنطقي في ايه قلقتيني عليكِ !! ”
” طلع عنده اتنين و تلاتين سنة.. لسه عارفة من بابا ”
تثاءبت روان بنعاس لتقول
” يا بختك.. هتجوزيه ثلاثيني.. يلا تصبحي على خير ”
” أنا مبهزرش.. ده أكبر مني بتلاتاشر سنة !! ”
أخذت روان نفسًا عميقًا لتقول بعقلانية حتى تهدئ جنونها و توترها
” و ايه المشكلة !! رُميساء.. فترة الخطوبة هي اللي هتحدد مدى التفاهم والتوافق بينكم بغض النظر عن فرق السن… و بعدين كريم متقدمش عشان خاطر ياخد لقب متزوج و خلاص و لا عشان عدى التلاتين قالك ألحق اتجوز بنت صغيرة بقى تخلفلي كام عيل كده.. كريم اتقدملك عشان بيحبك.. عشان عايزك أنتِ دونًا عن باقي البنات.. و دي لوحدها كفاية.. ”
شعرت رُميساء بالراحة النفسية قليلا من كلام روان العاقل و المقنع.. قالت حائرة
” بس الناس…
قاطعتها روان بنبرة محتدة
” و الناس مالها !! يابنت الحلال أنتِ اللي هتتجوزي مش الناس.. ده اختيارك أنتِ مش اختيار الناس.. لو عاوزاه و كان فرق السن بينكم كبير.. أو أنتِ اللي أكبر منه بس عايزين بعض ايه المشكلة بقى لما تتجوزوا !! يابنتي لو مشينا ورا كلام الناس مش هنخلص.. ليه نرمي ودانا للقيل و القال.. ما نعمل اللي بنحبه و عايزينه طالما مش هيخالف شرع الله.. و الراجل بيحبك و شاريكِ و متمسك بيكِ عايزه ايه تاني !؟ ”
تنهدت رُميساء لتقول بقلة حيلة
” خايفة فرق السن ده يكون عقبة قدامنا و منقدرش نفهم بعض.. يعني ميبقاش فيه تقارب فكري كده ”
” عندك حق.. أحيانًا فرق السن الكبير بيبقى مش كويس.. بس أنتِ و كريم الفرق ما بينكم يعتبر مقبول.. غير كده هو شكله صغير يعني مش باين عليه خالص و مهتم بنفسه زيه زي الشباب اللي في العشرينات.. بصي يا رُميساء أبويا بيقول إن معظم الشباب في فترة العشرينات ميصلحوش للجواز لأنهم في فترة طيش و لسه بيجربوا حظهم في الحياة..أما الراجل اللي سنه من تمانية و عشرين و أنتِ طالعة بيبقى عايز يستقر بقى..بيكون فهم الحياة صح و عايز يكون أسرة كويسة..”
” يعني أنتِ ايه رأيك ؟ ”
” أنا رأيي أنك تصلي استخارة الأول و توكلي أمورك لربنا.. و بإذن الله خير.. أنا متفائلة والله.. نفسي أبقى أخت العروسة بقى ”
” و ليه متبقيش أنتِ العروسة ! ”
قالتها رُميساء وهي تضحك، فشهقت روان هاتفة
” آه صح.. ده أنتِ ليلتك معايا مش معدية.. الدعوة اللي دعتيها عليا استجابت يا بوز الأخص أنتِ ”
“دعوة ايه ؟ ”
” إن يجيلي عريس ”
صاحت رُميساء غير مصدقة
” احلفي !! .. مين ؟ ”
” والله ياختي..مالك ابن عمتى ”
” أنا مش مصدقة..طيب و رأيك ايه ؟ ”
” رأيي !! قالتها روان بنبرة غير راضية و تابعت بتنهيدة اشتياق
” أنا مش قادرة أنسى سيف يا روان..ولو اتخطبت لمالك هبقى بظلمه معايا ”
” طيب اقعدي معاه على الأقل يمكن ده العوض
و ربنا بعتهولك عشان ينسيكِ أي حاجة وحشة شوفتيها ”
ردت روان باصرار
” حتى لو فعلا هو ده الإنسان اللي هيعيشني في سعادة.. مش عاوزاه.. مش عاوزه السعادة دي.. لو هعيش مع سيف في جحيم أحسن إما أكون مع راجل غيره.. أنا عايزه سيف يا رُميساء.. أنا بحبه”
قالت أخر جملة ثم بكت رغمًا عنها لتتابع بانهيار
” وحشني أوي.. بدعي في كل سجدة ربنا يشفيه و يرزقه بواحدة تحبه بجد.. بس برجع استغفر ربنا و أقول يارب أكون أنا الواحدة دي.. يارب أكون أنا اللي من نصيبه ”
أسكتتها رُميساء بنبرة لطيفة وهي على وشك البكاء أيضًا
” ربنا هيجبر بخاطرك.. بس بالله عليكِ متعيطيش.. عشان خاطري متعيطي يا روان.. و الله هعيط أنا كمان ”
مسحت روان دموعها لتقول بهدوء
” من كتر الكتمان الواحد بيجي على أتفه الأسباب و ينفجر.. خلاص مش هعيط..
عادت لمرحها هاتفة..
” ها.. هتحددوا الخطوبة امتى ؟ ”
” يادي النيلة.. اقفلي يا بت أنا غلطانة إني صحيتك.. يلا سلام هصلي استخارة بقى ”
” تصبحي على خير يا بتاعت كريم ”
قالتها روان وهي تضحك بشدة قبل أن تغلق المكالمة.
__________♡
أنتِ لي مهما حدث، حتى و إن خسرت الجميع لأجلك، حتى و إن اضطررت لمحاربة العالم؛ لتكوني معي، ستبقين لي و كفى بكِ نعمة .
” نرمينا”
*****
” مش هتجوز غيرها.. و محدش يقدر يمنعني ”
قالها كريم بثقة عمياء و هدوء شديد لازمه، عندما يريد أحد استفزازه.
هتف والده بتعصب
” هي سحراك !! عملالك عمل !! ”
أومأ كريم ببرود
” آه سحراني.. بحبها.. و أعمل اللي حضرتك عايز تعمله.. مش هسيبها برضو و هتجوزها ”
تدخلت والدته لتهدئ الأمور التي زادت حدة بينهما.. فأسكتها زوجها بإشارة من يده وهو في قمة غضبه
” ملكيش دعوة أنتِ ”
التفت لكريم قائلا بغيظ
” طيب وريني بقى يا سيادة الرائد المحترم هتتجوزها ازاي من غير موافقتي ”
رد كريم بابتسامة تهكم
” لأ ما هو حضرتك هتيجي معايا المرة الجاية و هتحضر الاتفاقات و تعمل نفسك مبسوط كمان ”
ضحك والده ساخرًا
” جايب الثقة دي منين بقى إن شاء الله ! ”
” من حضرتك.. لواء زيك الكل بيعمله ألف حساب أكيد ابنه هيطلع زيه.. و أسوأ منه كمان وقت اللزوم ”
قال جملته الأخيرة وهو يرمق والده بنظرات تحدي.. استشاط الأخير غضبًا و رد بعصبية
” أنت قليل الأدب ”
” تربيتك يا رياض باشا.. مش حضرتك برضو اللي علمتني أتمسك بالحاجة اللي بحبها و متنازلش عنها مهما حصل ! و رُميساء مش حاجة.. رُميساء روحي و مفيش حد عاقل يضيع روحه ”
” لحقت تحبها امتى ؟ ”
تساءل الأب بعدم فهم لما يدور في رأس ابنه.. رد كريم بثبات
” معرفش.. بس كل اللي أعرفه إني عايزها و مش عايز غيرها ”
” و هتقنعني بقى أجي معاك ازاي يا سيادة الرائد؟ ”
قالها رياض وهو يناظره باستهزاء.. رد كريم بهدوء
” مش محتاج أقنعك.. حضرتك بتخاف على سمعتك و مكانتك وسط الداخلية.. و أكيد مليون في المية مش هتقبل على نفسك يتقال عليك.. ابن اللواء رياض الكُردي اتجوز غصب عن أبوه.. صح و لا ايه ؟ ”
تلاشت ابتسامة رياض الساخرة، و حل محلها التوتر و الغضب من الرد الذي لم يتوقعه و لم يعد العدة له.. استدرج كريم حديثه ليقول بنبرة واثقة قبل أن يتركه و يخرج
“اجهز بقى للمناسبة السعيدة دي من دلوقت”
تابعه والده بنظرات غيظ و غضب حتى خرج كريم..
قال رياض متوعدًا في نفسه
“حاضر.. هجهز.. بس متزعلش بقى من اللي هيحصل.. أنت اللي اخترت يبقى اتحمل نتيجة اختيارك لوحدك”
******
قبل أن يقترب عصام أكثر من الغرفة التي بها عائشة، آتاه اتصال من أحد أصدقائه، فأجابه وهو يخرج من بيت جدته.. حمدت الجدة ربها و تنهدت بارتياح بعد أن تأكدت من ذهابه تمامًا..
بداخل الغرفة رفعت عائشة يدها للسماء لتدعي بكل غضب من حديث ذلك الوقح في نظرها مع جدتها
” يارب أعمي عنيه عني و ميجيش هنا تاني ”
فتحت عائشة الباب ثم احتضنت جدتها بقوة وهي تقول
” خفت عليكِ أكتر ما خفت على نفسي ”
ربتت الجدة على ظهرها بحنان قائلة
” هو ميقدرش يعملي حاجة.. أخره يجي ياخد فلوس و يمشي ”
” أهو غار في ستين داهية.. معرفش أبوه و أمه سايبينه كده ليه ”
قالتها عائشة ممتلئة غَيْظا منه.. ردت جدتها بيأس
” أبوه و أمه رموا طوبته خلاص.. لما مقدروش عليه سابوه يعمل اللي عاوزه ”
تنهدت عائشة بحنق دون رد، فقالت الجدة باسمة
“يلا يا ضنايا قومي أنتِ رصي هدومك في الدولاب و أنا هجبلك تاكلي”
” لأ يا تيته متتعبيش نفسك.. مليش نفس أصلا ”
” مفيش حاجة اسمها مليش نفس هنا.. هتاكلي يعني هتاكلي.. الأكل ملوش دعوة بأي حاجة ”
ابتسمت في صمت و شردت للحظات تتذكر ذلك الموقف الصعب و المخجل الذي وضعت فيه مع بدر عندما تعبت و ظل جالسًا بجانبها يطعمها رغما عنها.
***
“وضع الصينية على منضدة متوسطة لتكون امام السرير مباشرة؛ حتى لا يتعبها بالنهوض.. ثم اتجه اليها و ايقظها بقبلة رقيقة على خدها، فتململت بانزعاج.. اعاد الكرّة حتى استيقظت وفتحت عينيها نصف فتحة قائلة بصوت ناعس
–عايزه أنام..
داعب أنفها بأنامله ليشاكسها حتى تفيق فقال باسمًا
–عملتلك الرز اللي بتحبيه.. و لحمة هتاكلي صوابعك وراها.. قومي يلا نتغدى سوا
كانت تشعر بجوع شديد؛ لذا نهضت بارادتها..
مع أول ملعقة أرز اعطاها لها.. اتسعت عيناها بانبهار و التهمتها بتلذذ قائلة
–الله.. تسلم ايدك.. طعمه حلو أوي يا بدر
–بالهنا والشفا يا حبيبة بدر
اكتفى بإطعامها دون أن يأكل، حتى شبعت و اثنت عليه في مهارته لطهي الطعام، وبعد أن شبعت أكل هو.
***
تنهدت بتعب وهي تحاول ألا تضعف و تبكي أمام جدتها؛ حتى لا تعرف بالأمر، فهي لا تنوي إخبارها سبب رحيلها الحقيقي من العائلة.
قامت عائشة بـرَص ملابسها في خزانة ملابس بغرفة متواضعة يوجد بها سرير صغير متهالك قليلا.. و بعد أن انتهت، تناولت الطعام مع جدتها و هما يتبادلان أطراف الحديث الغير مهم، كانت الجدة ذكية في عدم سؤال عائشة سبب تركها الأساسي لعائلة والدها، بعد كل تلك السنوات التي قضتها معهم، و فهمت من شرود عائشة الدائم و ملامحها المنطفئة أن هناك شيء سيء حدث معها و ترك تأثيره بها، و لكنها فضلت أن تتركها على راحتها.
مرّت الأيام مر الساعات على الجميع، أيام عادية جدًا ليس بها أي أحداث جديدة..
مر خمسة عشر يومًا على الجميع، تعودت عائشة على جدتها و أحبتها الجدة بشدة بل اعتبرتها ابنتها، فقد كانتا تصليان معًا و تأكلان معًا و تقرأن القرآن سويًا.. تعرفت عائشة على جميع الأطفال الذين يحفظون القرآن عند جدتها، و أحبوها و أحبوا الحديث و الضحك و اللعب معها.. الأمر الجيد و الخطوة الجديدة التي اتخذتها في حياتها بفضل مساندة جدتها، هو حفظ القرآن.. بدأت عائشة بحفظ القرآن مع أطفال القرية، و أيضا حدث أمرا أسرها كثيرا وهو القاء الشرطة القبض على عصام ابن خالها في قضية آداب، ولكن عندما يجيء الليل و يجلب معه الذكريات القاتلة تظل تحتضن قميص بدر و تبكي في صمت مغلقة الغرفة عليها؛ لئلا تسمعها جدتها.. فلا أحد يشفى من الفراق بسهولة.
أما رُميساء كانت تصلي استخارة يوميًا و تدعو الله أن يأتِ لها بالخير، و في كل مرة تستخير الله تشعر بفيض من الراحة يغمر قلبها و أحيانًا ينتابها القلق من أمرا لا تعرفه.. حتى جاء اليوم الموعود و سألها والدها عن رأيها فأجابت بخجل
” موافقة ” و بالطبع قام والدها بإبلاغ كريم، و كان كريم يشعر بأنه سيطير من شدة فرحه.. لقد تأخرت رُميساء كثيرا في الرد عليه و هذا جعله مشتت الذهن أغلب الأوقات و خائف من أن يتم رفضه… و ها هو يجهز الملابس التي سيذهب بها لحبيبته غدًا، بينما والده يعد الخطة المناسبة لفسخ تلك الزيجة.
بالنسبة لروان.. فقد كانت تدعو الله في كل سجدة أن يحدث أي شيء يجعل مالك لا يأتي لخطبتها، و بالفعل أُجيبت دعواتها، و اعتذر مالك عن المجيء لضغط العمل الذي انكب عليه من شركته و أنه سيأتي نهاية هذا الأسبوع، أي بعد يومان.
كان قصي يتقابل مع كارمن يوميًا، و تلك المرة أي اليوم سيقابلها في ” أحد الملاهي الليلية” لم يكن عنده أي مانع، لقد اعتاد على حياتها و لم يستطيع تغيير بها ولو صفة واحدة فقط.
أوقف السيارة بجانب، ثم نزل بكامل أناقته و عطره الذي يجذب كل من استنشقه، و دلف لداخل الملهى و الذي كان بالقاهرة، لقد سافر اليها خصيصًا..وزع بصره على الشباب و الفتيات الذين يتراقصون بقلة حياء مع بعضهم.. لفت انتباهه كارمن تلوح له من على بعد.. اتجه اليها ليصافحها بابتسامة عاشقة ثم ناولته كوب من البيرة.. فرفض قائلا
” لأ.. مليش في الشرب ”
دفعت بالكأس تجاهه لتقول بدلع
” ده كاس واحد مش هيأثر ”
تجاهلها ليقول للشاب المسؤول عن المشروبات
” فيه لمون ؟ ”
عقد الشاب حاجبه بتعجب و قال
” لا يا باشا.. اجبلك ويسكي ؟ ”
” لأ عايز لمون ”
“مفيش الكلام ده هنا يا فندم.. فيه ويسكي شيفاز.. ويسكي كولا.. ويسكي بلاك ليبل ”
” أنا عـايز لمون يا ابن الويسكي.. اخلص”
هتف بها قصي بنظرات غاضبة، مما تعجبت كارمن من تحوله المفاجئ و نهضت لتلامس صدره برقة قائلة
” حبيبي.. ممكن تهدى ”
شدها من خصرها ليجلسها على فخذه وهو يقول بوقاحة، لأول مرة تشهدها
” أنا هادي خالص أهو.. أنتِ لسه شوفتي هداوة ”
لفت ذراعها حول رقبته وهي تبتسم بدلال، بينما قصي صوب بصره في اتجاه آخر.. نحو ذلك الشاب المدعو “آراش” و الذي أقبل عليهما مصوبًا عينيه في عين قصي بجراءة.. أبعد قصي كارمن عنه، ثم نهض ليصافح آراش بحرارة تعجبت لها كارمن و كذلك هو..
قال قصي بسخرية متفحصًا قميصه الملون
” حلو القميص بتاعك.. أنيق
_ ماذا
_ أنيق القميص
_ لا أفهم ماذا تقول !
_ وغد لعين مثلك بالتأكيد لن يفهم لغة الرجال
حدثه قصي بلغة أجنبية غير التي تعرفها كارمن، لغة يستطيع آراش التحدث بها و فهمها، قال قصي وهو يتفحص قميصه الملون ساخرًا
” يعجبني قميصك يا هذا.. يبدو أنيق ”
رد آراش وهو لا زال يناظر قصي بجراءة بعد أن فهم كلامه
” و أنت تعجبني ”
” أنا حقًا أعترض
_ ماذا ؟
_ أ**
” قصي هتفضحنا في ايه !! ”
قالتها كارمن بدهشة وهي تكتم فم قصي، قبل أن يكمل باقي الكلمة.. أبعدها قصي و نهض ليميل على أذن آراش هامسًا وهو يضع ورقة في جيبه دون أن يلاحظهما أحد
” إذا كنت أعجبك حقًا.. تعالى على ذلك العنوان ”
اتسعت ابتسامة آراش ليقول بهمس مماثل
” آراش دائمًا في الخدمة ”
******
حدث في يومٍ، أن بدر غلبه الشوق و انهار كليًا، فعجز عن الذهاب للعمل أو للصلاة، و ظل يقبع في غرفته يبكي فقط كالصغار و يلوم نفسه.. عندما أذن مؤذن لصلاة الفريضة التالية.. تفاجئ بدر بمجيء الشيخ عمار اليه برفقة زوجته..
سلمت والدة بدر على زوجة الشيخ و دله سيف على غرفة شقيقه.. فنهض بدر في الحال عندما رأي الشيخ أمامه و قبل أن ينطق الشيخ عمار.. قال بدر بضعف خيم عليه
” وحشتني.. وحشتني يا شيخ عمار ”
رد الشيخ بأسلوب حاد لأول مرة يتكلم به مع أحد
“القلب مكانه مقدس، فإذا امتلأ بغير الله تنجس”
أخفض بدر رأسه ليقول بقلة حيلة
” غصب عني الشوق غلبني.. أعمل ايه ؟ ”
” جميعنا نشتاق لشخص ما.. رحل و ترك ندبات فراقه في قلوبنا، لكن ليس معنى ذلك أن نبتعد عن طاعة الله ”
تابع الشيخ حديثه بلهجة أقل حدة
” بطريقةٍ ما ستدرك وتتيقَّن أنَّ كل اختيارات الله
صالحة لك، حتى وإن كنت لا تفهم كل أسبابه ”
رفع بدر رأسه متسائلا
” ‏كيف يدبر الأمر يا شيخ ؟ ”
‏” ليس من شأنك.. شأنك فقط أن تُؤمن أنه يدبر الأمر”
صمت عم للحظات ليقطع هذا الصمت صوت الشيخ عمار يقول بلطف
” هيا ينا يا ولدي لنلبي النداء.. لن تنفعنا إلا الصلاة.. هي أول ما يُسأل عليها العبد.. بالله عليك لا تلقي بنفسك للتهلكة.. هيا يا بدر أرجوك ”
أومأ بدر في صمت و اتجه معه للصلاة بالمسجد.. تساءل قبل أن يدخل من الباب
” هو ربنا هيعوضني ؟ ”
” عوض الله سيأتيك، أضعاف ما كنت تتمنى..
ثق بالله و لا تحزن ”
صلى بدر فرضه و دعا في سجوده كثيرًا ألا ينتكس ثانية..
و على نهج قيس بن الملوح.. يقول بدر
“تبتُ إليك يا رحمنُ من كل ذنبٍ
أما عن هوى عائشة فإنى لا أتوبُ”
ربت الشيخ على فخذه بمواساة، و أردف
“كان هناك رجل يبكي على قبر فقال له أحد الفقهاء : يا هذا .. ما الذي يبكيك؟ قال الرجل أبكي على من أحببت ففارقني.. فقال له الفقيه : ذنبك أنك أحببت من يموت ، لو أنك أحببت الحي الذي لا يموت .. لما فارقك أبدًا ”
مسح بدر على وجهه مرددًا
” يارب اغفرلي.. يارب سامحني.. يارب اتجوز عائشة تاني ”
تبسم الشيخ من قوله و وضع يده على قلب بدر داعيًا الله
“اللهم إني أستودعك قلبه، فلا تجعل فيه أحدًا إلا أنت.. و إذا كان له نصيب مع ابنة عمه ثانيةً فأجعل لقائهما على خير”
*****
اقلعت الطائرة المتجه للأراضي المصرية، و التي يتواجد عليها زياد و هاجر، و لخوف هاجر الشديد من المرتفعات و رهبة الطائرة، ظلت متمسكة في ذراع زياد حتى غلبها النعاس و نامت على كتفه، فضمها بحنان إليه و غفى هو الآخر.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى