رواية يناديها عائش الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء الثاني والثلاثون
رواية يناديها عائش البارت الثاني والثلاثون
رواية يناديها عائش الحلقة الثانية والثلاثون
قد يكونُ في خزائن الغيبِ لك من التمكين والأرزاق ما يفوقُ أمالك 💛.
***
تبـادل بـدر ووالدته النظرات فيما بينهما وعلامات الدهشة والصدمة تعلو مُحياهما، بينما سيف أغمض عينيه يُسب نفسه على غباءه وتهوره الذي أوقعه في موقف مُحرج سيجعل مئات الأسئلة تنهال على عاتقه، وها هو أول سؤال يخرج من بـدر مُتعجبـًا بشدة
“سيف.. إنت مكنتش فاقد النطق.. صح ؟”
تلجلج سيف وبدا عليه التوتر وهو يُحـاول جاهدًا إخفاء إرتبـاكه، فأغمض عينيه بشدة مُذرفـًا الدموع حرّها؛ ليهز رأسه بإيمـاءة بسيطة.. مما جعل بـدر ومفيدة يتبادلون النظرات فيما بينهم بدهشة وصدمة، واستدعى هذا الموقف الصعب والذي لا يستوعبه عقل تدخل مفيدة هاتفة بملامح غاضبة
–وجعت قلبي عليك وأنت بتكذب علينا كل ده؟
نظـر لها سيف بدموع وإنكسـار دون أن ينطق بشيء، بينما بـدر ظنّ بأن والدته في قلبها ريب بأن سيف ادعى الشلل أيضـًا وهذا كله تخطيط منه لكسب عطفهم عليه بعد أخطاءه الفادحة التي توالت تنصب على رؤوسهم منذ الفترة الأخيرة.
أردف بـدر سريعـًا وهو يسند والدته التي شعرت بالدوار من كثرة المصائب المتوالية عليهم
— تماسكي يا أمي بالله عليكِ.. أنا هفهمك على كل حاجة
طالعته مفيدة بشـكٍ ثم جلست بمساعدة بـدر على الأريكة المقابلة لفراش سيف وهي تقول بدموع الحسرة
— اوعى تكون كُنت متفق معاه يعمل كده!
تنهـد بـدر آسفـًا على ما وصلت إليه والدته، فقبْل جبينها في محاولة منه لجعلها تهدئ وتثق فيما سيقوله.. فقـال بهدوء
— أقسـم لكِ يا أمي إن سيف مصاب فعـلًا بشلل نصفي وتقرير المستشفى والدكتور اللي بيعالج حالته أثبت كده.. أما بالنسبة لفقدان النطق فهو قال إنـه ممكن الصدمة تكون قوية عليه فتتسبب في فقدان نطق مؤقت أو دائم.. ومتهيألي إن سيف حصله فقدان مؤقت ولما استرجعه كان عقله مشتت فهيأله إنه مكنش فاقد نطق أساسـًا وإنه عاجز عن الكلام بإرادته.. دي كلها مسائل بيولوجية بتحصل في العقل لما يتلقى صدمة جامدة.. حتى إسألي زيـاد.. كان معايا وقتها لما الدكتور فهمنا كده.
صمتت والده طويـلًا لا تدري ماذا ينبغي عليها أن تقول، خرجت من صمتها بعد لحظات هامسة
— لله الأمر من قبل ومن بعد.. ربنا يُلطف بينا.
أمن بـدر على دعائها و أسندها ليُدخلها عند هاجر مخافة على صحتها التي أوشكت على الهلاك، استقبلتها هـاجر بهلـع وخوف مُرسلة نظرات لبـدر تساؤلية عما يحدث؛ فأجـاب هامسـًا
–خلي بالك منها.. أنا قاعد مع سيف شوية
أجلستها هاجر برفق على فراشها وأحضرت لها كوب الماء متسائلة
— هو في إيه يا ماما ؟
ارتشفت مفيدة القليل من الماء ثم وضعت يدها على رأسها متأوهة بألم لتقول
— ناوليني العلاج بتاعي.. نسيت اخده الصبح
فعلت هاجر ما طلبته منها وعادت بنفس السؤال، فتناولت مفيدة دواؤها ثم قالت بوهن
— مفيش يا بنتي.. السُكر كان عالي شوية عشان مبقتش التزم بالعلاج
هتفت هاجر بإقتضاب
–هتزعليني منك ليه يا ست الكُل.. مش قُلنا الدوا في مواعيده.. بس الحق عليا.. أنا اللي لازم أديهولك بإيدي عشان اتأكد.
“سيف أخوكِ رجع يتكلم”
قالتها مفيدة بإبتسـامة مصطنعة تحاول فيها أن تخفي حُزنها من ابتلاءاتهم، بينمـا هاجر تلون وجهها بألوان الفرح، وشعرت بأن قلبها يكاد أن يقفز من شدة السعادة، فهرعت لغرفة سيف ولحُبها الشديد لسيف اقتحمت الغرفة على أشقاؤها وكان بـدر حينها يحتوي سيف بحنان أبوي بين أضلعه ويمسد على ظهره وشفتيه تتحرك بتلاوة بعض من آيات سورة “يوسف” السورة المفضلة عند سيف منذ أن كان طفلًا.
هتفت هاجر ببهجة حقيقية بعد أن أبعدت سيف عن بدر لتحتضنه هيّ
–سيفــــــو.. أنت اتكلمت؟ طب قول هجورة كده؟ قول بحبك يا هاجر.. يلا قولها
ضحك سيف بخفة وكذلك بـدر، سرعان ما تحولت ضحكات سيف للبكاء الهيستيري مما جعل بدر وهاجر في حيرة من أمرهم وازدادت دهشتهم حين صرخ سيف كالمجنون
–اطلـــــعوا بـــــرا.. أنا مش عايز حد يشفق عليــــا.. بــــــــرا.. وايوه أنا كــــداب ومثلت إني مبتكلمش.. يـــلا.. مش عاوز أشوف وش حد فيكم هنـــــا.. اطلعـــــوا بـــــــرا
سارع بـدر بمعانقته والتربيت على ظهره ليجعله يهدأ ولكن زاده ذلك الأمر جنونـًا وأخذ يصرخ بصوت أرعب مفيدة وهاجر، بينما بدر احتضنه بشدة وقيد حركة يديه المتهورة كي لا يؤذي نفسه.. تحولت صرخات سيف للبكاء ثم للضحك، و فقد الوعي. !
______
بنفس السرعة التي تمتدّ بها النجوم في السّماء، هكذا كان خبر حبي لك في الأرض “لقائلها”
_________♡
لم يتعجب حافظ ولم يبـادر بالرفض، بالعكس هذا ما أراده دومـًا.. أن يزوج ابنته البتول لـشاب مُتدين دينـًا وخُلقـًا وعلى قدر من العِلم، وما أراده قد تحقق الآن، فلماذا يرفض والشاب الذي تقدم للزواج بـإبنته يعرفه حق معرفة ويجد أنه الشخص المناسب الذي سيصون فلذة كبده؛ لذا رحب جدًا بهذا الخبر السار وقال باسمـًا
— ده يشرفني يا مالك
لمعت الفرحة في عين مالك واندفع قـائلًا
— ده أنا اللي يشرفني أناسبك والله يا خالو
بـادله حافظ الإبتسامة مردفـًا بعقلانية
–بس إنت عارف روان ثانوية عامة و..
قاطعه مالك مُتلهفـًا والسعادة تكاد أن تفيض من عينيه
— أنا مُتفهم جدًا الأمور يا خالو.. أنا بقترح على حضرتك متفاتحش روان في أيّ حاجة دلوقت عشان متشغلش دماغها بالتفكير.. مذاكرتها أهم دلوقت.. بعد الإمتحانات بـإذن الله ابقى فاتحها في الموضوع.
تنهـد حافظ بـإرتياح من تفهم ابن شقيقته الموقف، لطالما أدرك حافظ أن مالك شاب لا يعوض والفتاة التي ستكون من نصيبه هي محظوظة جدًا، والشُكر للقدير أن ابنته ستحظى بـ رجُلًا مثل مـالك، ولكن ماذا إن رفضت ؟
كانت روان تتسامر مع عمتها رجاء وزوجة والدها في جو من المرح والألفة يسوده الضحك وإلقاء الدعابات، بدت السعادة على روان كثيرًا وكأنها تناست أمر سيف، ولماذا تتذكره وهي أقسمت على قلبها ألا يشتاق، ما يؤلمها ليس مغادرته ولا نسيانها له رغم صداقتهم العميقة التي تحولت لحُب مؤخرًا، ما يؤلمها حقـًا أنها لا زالت تشتاق إليه، ولا علاج لهذا الشوق سوى بقطع قلبها من جسدها وفصله نهائيـًا، وبناء قلبًا جديدًا من اللامبالاة والقسوة.
أرادت رجاء أن تعرف ما إذا كانت روان تُفكر في الإرتباط بعد الثانوية أم لا؛ فتساءلت
— الاه قوليلي يا بت يا روان.. ناوية تعملي إيه بعد الثانوية ؟
أجابت روان ضاحكة في تعجب
–ناوية أدخل الكلية.. هعمل إيه يعني يا عمتو
“يعني لو جالك عريس حليوه كده مش هتوافقي؟”
بضحكة خفيفة أردفت
“لا مبفكرش في الجواز دلوقت.. لما أحقق حلم الطفولة الأول وأدخل الكلية اللي عاوزاها وأفتح حضانة كبيرة بإسمي”
تنهدت رجاء بملل ويبدو أن حديث روان لم يأتِ على هواها، فقالت مداعبة
— ياختي هما اللي اتعلموا خدوا إيه.. والله شباب كتير يا حبة عيني معاهم كليات وقاعدين في البيوت لا شغلة ولا مشغلة.. البنت ملهاش غير بيت جوزها
“ليه يا عمتو وبيت أبوها ضيق عليها ولا إيه؟”
قالتها روان بنبرة صوت بدت فيه السخرية، فأردفت رجاء بمراوغة
–يعني مثلًا لو جالك شاب متدين كده ومتعلم وشقته جاهزة هترفضي ؟
جابت روان بعينيها الغرفة متصنعة التفكير لتقول
— اممم ساعتها أصلي استخارة وأفكر.. وفي الأول والأخر اللي ربنا كاتبه هو اللي هنشوفه
“على رأيك.. محدش بيشوف غير اللي مكتوبله”
نهضت زوجة والد روان من بينهم قائلة
–هروح أعملكم حاجة تشربوها عشان السهرة والكلام يحلو
“لا سهرة إيه.. أنا ورايا مذاكرة.. استأذن أنا أدخل أوضتي أذاكر.. عن إذنكم”
قالتها روان وهي تنهض متجهة لغرفتها، وكان حينها مالك يحادث زميل له في العمل عبر هاتفه، ووالدها في المرحاض.
انتبهت روان لوجوده فنظرت له خلسة كأنها دهشت عندما رأت ذلك الغريب في بيتهم، ولكن سرعان ما استوعبت أنه مالك ابن عمتها، ذلك المراهق الذي كان يزور والدها دومـًا، يا إلهي كم كبُرَ وصار شابـًا وسيمـًا يافعـًا.. أخفضت روان بصرها في الحالة غاضبة من نفسها على عدم استطاعتها غض البصر ولكنها رغمًا عنه تفاجئت بأحد غريب يقف في صالتهم لذا أخذها الفضول بأن تنظر له أكثر من مرة.
تنفست الصعداء بهدوء وشعرت بالإحراج الشديد حين استدار هو؛ لتتلاقى أعينهم لثوانٍ جعلت دقات قلبها تتسارع بعنف.. كاد أن يلقي “مالك” عليها التحية ولكنها دلفت لغرفتها سريعـًا وأغلقت الباب ثم وقفت وراءه واضعة يديها على صدرها الذي يعلو ويهبط كأنها كانت في مسابقة ركض.
ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجه مالك وانشرح صدره وبداخله يتمنى أن تمرّ الأيام سريعـًا؛ ليُخبرها أنها الوحيدة التي جعلت يهيم عشقـًا وفازت بقلبه دون أدنى مجهود منها، بنظرة واحدة فقط أيقظت كل مشاعر العشق المدفونة بداخله، لتكون لها وحده فقط ويكون قلبه أسير في كفيها مُنتظرًا بلهفة أن يسمع موافقتها على اقتحام حياتها وإدخالها بين نياط قلبه.
فهـل سيكتب القدر مالك زوجـًا ورفيقًا لروان ؟
_________
من نظرة واحدة، أحببتك بألفِ قلب .
_______♡
بعد أن وضع كريم الأصفاد حول يد الشاب الذي يبتز الفتيات بصورهنّ برفقة صديقه، أرسلهم في سيارة الشُرطة مع عساكره؛ ليتجه بهم نحو المباحث.
وضح كريم كل شيء لضابط صديق له وتولى القضية بدلًا منه، بينما هو استأذن وأخذ سيارته ليفحص الأعمال النيابية في قسم شُرطة أخر، بأمر عام أصدر من اللواء الأكبر في مباحث المنصورة.
خرجت رُميسـاء لدروسها وعقلها شارد تمامـًا مع الخبر المحزن والمخيف الذي روته لها والدتها، كانت تستغفر طيلة الطريق وتدعو لها ولصديقتها روان أن يرزقهما الله حُسن الخاتمة.
على بُعد مائة متر من الشارع الذي عبرته رُميسـاء، تأتي سيارة مسرعة سرعة رهيبة أخافت المارة وابتعدوا عنها على الفور وهما يصرخون للسائق أن يتمهل، ولكن يبدو أنه فقد مكابح سيارته
” الفرامل” .
في تلك اللحظة اخرج رميساء من شرودها صوت صرخات وهتافات الناس من حولها، من هول الصدمة والمشهد المريب ظلت واقفة مكانها ترتعد بخوف وعلامات الفزع على وجهها وشفتيها تنطق الشهادتين تلقائيـًا.
اصطدمت السيارة بسيارة أخرى أمامها وانقلبت عدة مرات حتى طـارت قطعة منها واصطدمت بـرُميساء التي بدورها فقدت الوعي على الفور، واختفت ملامح وجهها؛ بسبب الدماء الغزيرة التي ملأت وجهها، و الناتجة عن اصابة جبهتها ورأسها، وعدة كدمات في جسدها.
أما السائق لقى حتفه على الفور هو واثنين أخرين من السيارة الأخرى واصابة إمرأتين وصبي.
في ذلك الوقت عبر كريم من خلال هذا الشارع؛ ليجد تلك الكارثة التي أذهبت عقله من كثرة الدماء المنسابة على الأرض والجثث الهامدة.. نزل من سيارته على الفور واتجه ناحية الحشد الذي يتجمع عند كل جُثمان مُلقي على الأرض.. اتصل أحد من الواقفين بسيارة الإسعاف، وبعد دقائق انتبهت حواس كريم لفتاة ترتدي إدناء بُني اللون ونقاب بنفس لون الإدناء وحوليها الناس يجتمعون ويتهامسون بحسرة ودموع، وإمرأة انحنت ونزعت عنها النقاب فلم تظهر من ملامحها شيء بسبب الدماء الكثيرة.. اقترب كريم منهم ولا يعلم لِمَ هذا الشعور المخيف يراود قلبه أن.. أن هذه حبيبة قلبه التي لم يرى وجهـًا يومـًا ولكنه وقع في غرامها ؟
“اسمها.. اسمها رُميساء مصطفى صديق”
كان ذلك صوت أحد الأشخاص وهو يقرأ الإسم من بطاقتها الشخصية التي وجدوها في حقيبتها.
صارت دقات قلب كريم عنيفة، وسيطر عليه الإضطراب وأعاق أنفاسه عن الخروج، وهو يحاول إبعاد الناس عنها ثم جث على ركبتيه وبدون وعي منه ترغرغت عيناه بدموع الهلع والخوف عليها.. فترك لها العنان؛ لتغرق وجهه وهو يرفع رأسها برفق على ذراعيه.. طلب من الواقفون منـاديل ورقية ليمسح لها دماؤها، ظنّ الجميع أنهما أقارب.. فأعطاه أحد الواقفون علبة مناديل، أخذها كريم وظل يمسح عن وجهها برفق وهو يهمس بإسمـها، يريد من صميم قلبه أن ترد عليه، فقد خشي أن تكون مصابة بجرح عميق يؤدي بها للموت.
جاءت أكثر من سيارة الإسعاف؛ لتحمل الجثث والمصابون.. حمل كريم رُميساء سريعـًا ووضعها بداخل سيارته متجهًا لأقرب مشفى.
أُدخلت رُميساء بغرفة العمليات لتخييط جرحها، ببنما كريم ظل واقفـًا في الخارج يجوب الطرقة ذهابـًا وإيابًا وهو يدعو الله أن تمرّ تلك الساعات عليها بسلام.. كان يحك جبهته بتوتر ويفرك أصابعه بإرتبـاك ويبتلع ريقه الذي شعر بأنه جفّ من شدة الخوف.
ساعة ونصف مرّت، حتى فُتح باب غرفة العمليات وخرج الطبيب.. نهض كريم على الفور وتساءل بلهفة يشوبها الخوف
–هي كويسه؟
بإيماءة وابتسامة صافية أجاب الطبيب
–اطمن الحمدلله.. خيطنا الجرح اللي في راسها وجبسنا دراعها الشمال.. لقينا فيه كسر.. المريضة واجهت صعوبة في تحريكه وبالأشعة عرفنا إنه حصل كسر.. بس مش جامد أوي.. يعني شهر ونص بالكتير وتفكه.
همس كريم مُتنهدًا بإرتيـاح قليلًا
— الحمد لله.. طيب هي فاقت ؟
قبل أن يجيب الطبيب، وجدها كريم تخرج من الغرفة على الترولي والممرضات يدفعون بها برفق لغرفة أخرى.
دلف كريم وراءهنّ في الحـال؛ ليجدها قد تسطحت على الفراش بمساعدة الممرضات وعُلق لها محلول.. كانت رُميساء حاضرة بعينيها وعقلها ما زال مغيب.. أخذت تنظر بإستغراب للغرفة ولنفسها ولكريم وللمرضات..
قالت ممرضة لكـريم
–حضرتك تقربلها إيه ؟
كان كريم مشغولًا بتأملها فلم يسمع، وكأن وجهها منْ فرط الراحة في النظر إليه يشعر كما لو أن السعادة تُحيطه من كل جانب، أعادت الممرضة السؤال.. أجاب بتردد
— أنا.. أنا أخوها
“بطاقتك لو سمحت عشان نسجل البينات لما تستلم المريضة”
زفر كريم بضيق ليكشف حقيقته وهو يخرج بطاقته قائلًا
— أنا اللي جبتها المستشفى.. وهفضل معاها لحد ما تخرج عشان أوصلها للبيت
تفهمت الممرضة الأمر ولأنه ضابط شرطيـًا لم تجادله كثيرًا..
خرجت الممرضات واتجه كريم نحو رُميساء يمشي ببطء، وهو يحاول استيعاب وجودها أمامه ولكن بحالة محزنة يرثي لها، لم يتوقع أن يكون أول لقاء لهما في المشفى.
طالعته رُميساء بعدم فهم لكل ما يحدث.. حتى تساءلت أخيرًا بصوت ضعيف
–إنت.. إنت مين ؟
بدأت رُميساء تتذكر ما حدث، وأخذت تتحسس وجهها وهي تنظر لـكريم بخجل شديد ثم انفجرت باكية؛ لتحاول النهوض بمحاولات فاشلة.. حاول كريم الإقتراب منها وتهدئتها، ولكنها رمقته بتحذير ألا يقترب… وقالت بحسرة وهي تخفي وجهها بيدها عنه
— نقابي.. نقابي فين.. اطلع برا لو سمحت.. أنا.. أنا مُنتقبة
“عـارف.. اهدي”
قالها كريم وهو يشيح ببصره عنها ليجعلها تطمئن ثم أردف
— أنا هخرج خمس دقايق هجبلك نقاب ولبس بدل اللي اتبهدل ده.. مش هغيب.. خمس دقايق
وقبل أن يخرج من الغرفة استدار وقال لها بعيون بها بريق الحُب
— رُميسـاء.. متخافيش مني
خرج كريم واقتاد سيارته سريعـًا لمكان يباع فيه ملابس للمحجبات، ثم اشترى لها إدناءًا كالذي ترتديه ونقابـًا وحذاء جديد وركب السيارة عائدًا لها.
مرّت عشرون دقيقة على ذهاب كريم، شعرت فيهم رُميساء بالخجل من نفسها على رؤية هذا الغريب وجهها.. أخذت تحمد الله على ما حدث وتستغفره على انكشاف وجهها وشعرها رغمـًا عنها أمام الغرباء.
جاء كريم وأعطى الأغراض للممرضة لتعطيهم لها.. ساعدتها الممرضة على إرتداء الإدناء والنقاب واتكأت على الحائط لتخرج عائدة لمنزلها..
اعترض كريم طريقها قائلًا
–مينفعش تمشي وإنتِ في الحالة دي !
لم تجيبه رُميساء وأكملت سيرها، فوقف كريم أمامها يمنعها من الإستمرار مردفـًا بهدوء
–لو سمحتِ اسمعيني.. لازم ترتاحي شوية وأنا هوصلك بنفسي لحد باب البيت
“أنا مقدره اللي حضرتك عملته معايا.. ربنا يجعله في ميزان حسناتك.. بس أنا لا ديني ولا أخلاقي يسمحولي أقف وأتكلم مع راجل غريب.. لو سمحت إنت سيبني أروح”
هتف كريم بتصميم دون أن يتزحزح خطوة واحدة من مكانه
— خليني أوصلك وأنا أوعدك والله العظيم مهبصلك ولا أتكلم معاكِ كلمة واحدة.. بصي أنا عارف الشارع بتاعكم وعارف إنتِ ساكنة فين.. خليني أوصلك “
تعجبت رُميساء من معرفته لطريق بيتهم ولكنها اعتقدت أنه عرف من أحد الواقفون بالحادثة ربما كان يعرف عائلتها..
قالت رُميساء في عقلها
“منا كده كده هركب تاكسي مع واحد غريب.. فلما يكون حد المستشفى كلها شافت وشه أحسن من واحد مجهول.. عشان لما يخطفني الحكومة تعرف تجيبه”
ضحكت بخفة من نفسها على أخر جملة قالتها ثم همست بضيق
— طيب
ابتسم كريم بلُطف وقال
— متخافيش مش هخطفك.. أنا ظابط.. يعني الحكومة معاكِ
اتسعت عين رُميساء بذهول مما قاله، وكأنه يقرأ أفكارها.. فمرّت من أمامه لتسبقه بخطوات وهي في قمة خجلها، لكن قدميها زلت وتعثرت من شدة إرتباكها؛ فمدّ كريم ذراعهه الأيمن ليُسندها عليه مانعـًا إياها من السقوط، وهُنا تلاقت الأعين للحظات من كريم لم يستطع إخفاض بصره عنها، ولثوانِ من رُميساء أخفضت بعدها بصرها في الحال وابتعدت عنه وهي تكاد تبكي فرط الخجل، وأحست بكهرباء تسري في عظامها؛ لمُلامسة يده جسدها.
لم تنطق رُميساء بشيء وتحاملت على نفسها لتُسرع بعيدًا وتختفي عن أنظار من بالمشفى؛ بسبب الموقف المحرج الذي حدث لها منذ لحظات.. لحق بها كريم وفتح لها باب سيارته دون أن يتحدث، فركبت بالخلف وهي تشيح بعينيها عنه قدر الإمكان، بينما هو يحاول ضبط نفسه على البوح بمشاعره لها مُنتظرًا الفرصة المناسبة لطلب يدها للزواج وإخبـارها بأنه امتلأ بها حُبًا للحدِّ الذي لم يعُد في قلبه متسعًا لغيرها، و لم يعد هُناك مكان لشعُور آخر سوى ولهه بها.
_______________
أسرع بـدر بإحضار كوب مياه لينثره على وجه سيف، وأحضر زجاجة العطر وقربها من أنفه حتى يشتمها.. وبعد دقائق من محاولة إيفاقته. أفاق سيف وهو يهذي ببعض الكلمات التي أبكت هاجر ومفيدة ومزقت قلب بـدر
” مش همشي تاني.. بقيت عاجز.. أنا عايز أموت.. الموت أرحملي.. الموت أرحملي “
سارعت مفيدة بضمه لصدرها وهي تبكي ألمـًا وحزنًا عليه وتردد
— ربنا رحيم وهيلطف بيك يا ضنايا.. قول يارب. قول يارب وفوض أمرك إليه.. هو الوحيد القادر على شفاك
دفعها سيف ليصرخ بهم
— هو مش هيشفيني.. هو بيعاقبني.. بيعاقبني عشان اتحرشت بواحدة.. بيعاقبني عشان كنت عايز اغتصب واحدة.. اشمعنا أنــــــا.. هـــا.. اشمعنا أنا دونًا عن بقيت خلقه.. مش لاقي غيري !!!
صفعة قوية ألجمت وجهه بيد والدته جعلته يخرس عن الكلام ويراجع ما تفوه به كالأحمق.. هتفت والدته بغضب جامح
— تأدب مع الله وإنت بتكلم عنه.. ربنا اللي خد منك رجلك قادر ياخد لسانك بعد اللي قولته ده.. ولو انت فعلًا بتتعاقب عشان أذيت بنات الناس وجيت عليهم.. فأنت تستاهل.. شوف إنت ابن بطني والضنا غالي.. بس تيجي عند الغلط وأقفلك بالمرصاد.. أنا مبخلفش رجاله عشان يعروني وسط الخلق.. اوعى تفكر عشان إنت تعبان هنسيبك تهلفط بالكلام زي ما إنت عايز !
لا يا عين أمك.. أقسم باللي خلقني وخلقك يا سيف يا ابن بطني لو متعدلت وفوقت لنفسك لتشوف مني وش عمرك ما شُفته.. كل الدلع اللي دلعتهولك هيجي على دماغك في الأخر.. إنت حُر.
قالت والدته ذلك ثم خرجت للصالة على مضض وهي تستغفر الله مرارًا تحاول تهدئة نفسها، لاتعلم من أين جاءت بتلك الشجاعة لتقول ذلك ولكن ما قالته هو الصحيح، ليس معنى أنه مريض أن نتغاضى عن أخطاءه.
نظـر سيف لبـدر وهاجر بخزي بينما هما يطالعوه بشفقة وحزن.. قال سيف بندم
— أنا آسف.. سامحوني
جلس بدر بجانبه وجلست هاجر في أخر الفراش عند قدمه.. قال بدر مبتسمـًا بهدوء
–كان يوسف عليه السلام مسجونا ومعه شابان آخران.. كان يوسف الاجمل قلبا وقالبا، مع ذلك اخرجهما الله قبله.. وبقي هو في السجن بعدهما بضع سنين
الاول:خرج ليصبح خادما
الثاني:خرج ليقتل
ويوسف خرج بعد زمن ليصبح عزيز مصر
.. أنا عاوز أوصلك إن كل تأخير فيه خير.. وقضاء ربنا وحكمته في حجات كتير أفضل من أمنياتنا.. ربك ليه حكمه في عجزك.. ربك عاوز كده.. عشان يهذب قلبك ويعلمه الصبر واللجوء إليه لما الكل يبعد عنك.. ربنا اسمه الرحمن الرحيم يا سيف.. حاشاه أن يراك حزينـًا ولا يجبرك.. الصبر يا حبيبي أصبر وارضى بقضاءك عشان ربنا يرضى عنك ولو نُلت رضى الله.. أبشر هيراضيك.
تدخلت هاجر لتقول وهي تمسك يد سيف بحنان تبث فيهما الطمأنينة
— المُستأنِسُ بالقرآن لا يستوحِشُ لفقدَانِ أحد.
إيه رأيك تنسى اللي فات كله وتبدأ حياة جديد مع كتاب الله.. برفقة القرآن.. صدقني يا سيف حياة كأنها جنة.. هتحس براحة نفسية كل إما تمسك المصحف وتقرأ رسايل ربنا ليك.
ظل سيف ينصت لأخوته بإهتمـام وهم يحدثون عن جمال الإبتلاء والصبر عليه وكيفية الرجوع واللجوء إلى الله، وأن الله تعالى باب توبته مفتوح لعباده في أي وقت طالما لم يشركوا به شيئًا ولم يأتيهم الموت بغتة.
بدأت ضربات قلب سيف بالإنتظام وهو يتنفس بهدوء ويستمع لحديث أشقاءه الجميل حتى نطق أخيرًا بآسف وندم
— سامحني يارب.. وانتوا كمان سامحوني.. أنا فضلت ساعتين فاقد النطق بس بعدها قدرت اتكلم وقررت أكمل إني فاقد النطق.. مكنتش عايز أسمع لحد ولا أتكلم مع حد.. كنت عاوز أفضل كده لوحدي دايمـًا
عبث بدر في شعره يداعبه برفق قائلًا بضحك
–وأنا روحت فين إن شاء الله.. أنا معاك دايمًا ياسيف.. عاوز أفهمك إني مش أناني لما اتجوزت عائشة.. أنا اتجوزتها من خوفي عليها بغض النظر عن حبي ليها بس عائش مينفعش تتساب لوحدها
. جوازي منها كان هو الحل إني أحافظ على لحمنا وعرضنا.. لكن إنتم أخواتي وعيالي اللي مليش غيرهم
“اممم وأنا مركونة على الرف مليش لازمه”
التفت الجميع لمصدر الصوت، فكانت عائشة تقف عند الباب وتعقد يديها على صدرها تُطالع بـدر بنظرات محتنقة غاضبة.
” إنتِ إيه اللي نزلك ؟ “
سألها بدر بتعصب، فأجابت بتحدي وسخرية
— جاي أشوف سيفو.. هو مش ابن عمي زيو زيك ولا إيه؟
أشار بدر بغضب وغيظ منها
–روحي.. روحي أنا شوية وجاي
كادت أن تعترض، ولكن هاجر تدخلت وأنقذت الموقف قائلة
— خد مراتك وروحوا يا بدر.. الوقت إتأخر.. وسيف لازم يرتاح وأنا وأنتم برضو.. بكره كتب كتابي وعايزين نصحى بدري
هتفت عائشة بدهشة
— كتب كتابك.؟ إمتى وعلى مين وإزاي ؟
ضحكت هاجر وقالت بنظرات حالمة وهي تتنهد
— على حُب حياتي.. زياد
أطلقت عائشة “زغروطة مصرية أصيلة” فور أن سمعت ذلك مما جعل هاجر وسيف ينفجروا ضحكـًا على هذا الجنان الذي يحدث منتصف الليل، بينما بـدر سحبها من يديها بقوة قائلًا بغضب
— عن إذنكم.. تصبحوا على خير
دخل بـدر وهو يدفع بعائشة أمامه ثم أغلق الباب هاتفـًا بغيرة
— إياكِ أشوفك رايحة هناك تاني.. وإيه اللي إنت لابساه ده ؟؟
هتفت بتلقائية وهي تنظر لما ترتديه
“بيچامة.. وواسعة مش مبينه حاجه من جسمي ولبست طرحه.. عاوز إيه تاني؟!”
ثم غمزت مداعبة
— إيه.. بتغير ؟
زفر بـدر بضيق ثم سرعان ما تحولت ملامحه للخبث والمكر وهو يفكر بأن يجعل الليلة لا تُنسى من قاموس ذكرياتهم؛ فسـار نحوها ببطء وهو يفكر بأن يشعل غيرتها وغضبها وعنادها الذي لا ولن يملّ منه، أيعقل أن يمل من طفلة حملها بيده قطعة لحم ورباه حتى كبرت لتصير أنثاه وملكه وزوجته ؟!
برغم كل ما فعلته من أخطاء قد يراها البعض فادحة ولا تغتفر أبدًا؛ إلا أنها على قلبه مثل الشهد، يعشقها لدرجة أنه يسهو أحيانًا وهو في عمله فينادي بإسمها بدلًا من الشخص المطلوب استدعائه.
يحُبها حُبـًا امتلاكًا و تملكًا و جنونًا وشغفـًا وكمالًا، عشق فاق الوصف والحدود.
خشيت عائشة من تحوله المفاجئ فرجعت للوراء حتى تعثرت وسقطت على الأريكة وراءها، انتهز بـدر الفرصة واحتجزها بين ذراعيه ثم انحنى عليها غارقـًا بنظراته في اتساع حدقتيها للحظات جعلت وجه عائشة يتلون بخجل وصار جسدها يهتز بإرتبـاك.. بينما بـدر سقطت بعض من خصلاته على جبينه من ميل جسده للأمام، وجدت يدها تتمرد وتزيح له خصلات شعره برفق، ثم سرعان ما عادت لوعيها فقالت بتأتأه
— في إيه ؟.. إحنا.. إحنا متفقناش على كده !
أجاب بهمس قاصدًا استفزازها
— بحاول أشوف أي حاجه حلوه فيكِ مش لاقي
رمقته بدهشة ثم دفعته بقبضتها لتصيح بغِل وغيظ
— ده إنت بني آدم معندكش دم والله العظيم.. ولما إنت مش شايف حاجة وحشه فيا رميت نفسك عليا ليه.. اتجوزتني ليــــه يا بصباص
” بصـــبـاص ! “
— ايوه بصباص.. طالما مش شايف في مراتك واللي هتبقى أم عيالك حاجة حلوه.. تبقى بصيت برا وعجبك ستات برا عشان كده بصباص
تجاهل بـدر كل ما قالته وعلق على تلك الجملة التي أطربت مسامعه فهتف بمرح
— طيب.. كويس إنك اعترفتِ إن عيالي هيبقوا منك
مطت شفتاها بإمتعـاض وحاولت تغير مجرى الموضوع، فتساءلت عن زواج هاجر من زياد
— هو أنتم هتعملوا كتب كتاب عادي كده زي بتاعنا.. ولا هتعزموا الحارة كلها ويبقى هيصه بقى وكده
أجاب بـدر بعفوية
— زياد لو طال يعرف العالم كله إن ربنا استجاب لدعواته وهيجمعه بهاجر مش هيتأخر ثانية
“عشان بيحبها بجد .. صح؟”
” حبه ليها وصل لمرحلة الجنون.. زياد كان ممكن يجراله حاجه يا عائش لو هاجر رفضته”
أومـأت عائشة بحسرة على نفسها، فهي كأي فتاة كانت تريد حفل زفاف يليق بها.
شعر بـدر بأن حديثه أحزنها، فضمها لصدره بحنان هامسـًا
” بقدر حُب زياد لهاجر.. أنا بحبك ضعف حبهم وربنا يشهد “
أراحتها كلماته وأشعرها قربها منه بالأمان والحنان الذي افتقدته مع والديها.. أحبت كيف تقبع رأسها في منتصف صدره.. تساءلت بحزن
— إنت ليه معملتليش فرح ؟
” عايزه فرح ؟ “
أومأت.. فقـال بصدق
” حاضر.. هعملك كل اللي إنتِ عاوزاه.. بس هاجر تتجوز وترجع تاخد علاجها ونطمن عليها.. وأشوف هعمل إيه مع سيف وبعدين أعملك كل اللي نفسك فيه.. أنا معنديش أغلى منك يا عائش”
دفعته لتبتعد عنه مزمجرة
— ممكن تبطل كدب !
رمقها بعدم فهم، فاسترسلت حديثها بغضب
— اخواتك هما الأولوية في كل حاجه وأنا اتركن على الرف لحد ما حياتهم تبقى تمام وزي الفل.. وتقولي معنديش أغلى منك !.. كلامك متناقض ليه لو فعلًا معندكش أغلى مني أعمل فرحنا مع زياد وهاجر
حاول إحاطة وجهها والتحدث معها بلين، ولكنها أبعدت يده عنها صائحة بضيق
— متحاولش تستعطفني بكلامك المعسول.. عشان أنا مش عيله صغيره ولا بريل.. تضحك عليا بكلمتين حُب من بتوعك دول
“عائش أنا بحبك.. والله العظيم بحبك.. ونفسي ألبيلك كل طلباتك بس إديني فرصة يا حبيبتي”
نهرته عائشة وهي تحاول السيطرة على نفسها
— متقوليش حبيبتي.. أنا مش حبيبة حد
ها هي تعود لعنادها مجددًا وتقلب الأمور سوءًا كلما أوشكت على الإصلاح.. اقترب بدر منها وجذبها ليعانقها برفق رغمـًا عنها وهو يقول
— اهدي ممكن ؟..إنتِ عشان عارفة إن حبي ليكِ هو نقطة ضعفي بتعذبيني يا عائش ؟
حاولت الإنفلات والتملص من بين ذراعيه وقالت بهدوء
— أنا جعانه
ضحك بـدر من تحول مزاجها المفاجئ ثم طبع قُبلة رقيقة على جبينها وهو يخرج ليشتري لها الطعام الذي تحبه داعيـًا الله في نفسه أن يجد أي متجر مفتوح في هذا الوقت.
تمتمت بغيظ وهي تمسح مكان قبلته مجددًا
— مش قولتلك متتزفتش تبوسني تاني.. هطلعلي حبوب
يعرف أنه لن يسلم من لسانها؛ لذا خرج دون أن يتفوه بشيء.
وبعد عشرُ دقائق عاد ومعه أكياس مليئة بأنواع مختلفة من الأطعمة والمعلبات.. أخذت تتفحص الأكياس بشهية فوجدته قد أحضر الجبنة المفضلة لديها والخبز الذي تحبه وأكياس من الشيبسي والعلكة والحلويات.
أخذت تصفق بيدها كالأطفال، كأنها ترفض أن يستوعب عقلها نُضج سنها.. ظل بـدر يشاهدها وهو يبتسم بقلة حيلة على تعبيرات وجهها المضحكة وهي تتفحص الأكياس.
“تحبي أعملك سندوتتشات؟”
” آه ياريت “
بدأ بـدر في صنع السندوتشات لها وعندما ينتهي من واحد تأكله هيّ بشهية ليصنع الأخر.. ظل يطالعها بنظرات عاشقة وهي تأكل وفمها ممتلئ بالطعام ولا تكتفي بذلك بل تملأه أكثر برقائق البطاطس حتى صار منتفخـًا.. أشارت نحو المياه فأعطاها بـدر لها سريعـًا وأخذ يمسد على ظهرها ورقبتها برفق حتى يسهل لها عملية البلع.
تنفست بعمق بعد أن شربت المياه وقالت بإستياء
— إنت واقف على حيلك كده ليه ما تقعد
تنهد بدر بنفاذ صبر قائلًا
— الحق عليا إن أنا خايف عليكِ !
قالت بلامبالاة
— محدش طلب مساعدتك وفر المساعدة الجميلة دي واعملي فرح زي الناس.. زيـاد هيعمل لهاجر أحسن فرح وبكره تشوف.. وأنا نكرة وجودي زي عدمه.. عشان متجوزه واحد مبيفكرش فيا أصلًا
تثاءب بـدر بإرادتـه دلالة على عدم المُبالاة لِمَ تتفوه به عائشة، فزادت تلك الحركة الإستفزازية من إنفعالها، ممـا جعلـها تلتهم باقي الساندوتش وتمضغه بُعنف حتى أنهته كُله ثم أخذت كـوب الماء وشربته على مضض؛ لتنهض مُتكئة على المنضدة بإتجـاه غرفتها وقبل أن تدلف للداخل استدارت لترمقه بحدة وغيظ قائـلة
— أنا هنام لوحدي وإنت شوفلك أي مكان اتلقح فيه
ردد بـدر بدهشة
“اتلقـح” ؟
ثم استطرد قائلًا وهو ينهض من مكانه ليتجه ويقف أمامها مُتفحصها بنظـرات تَتَيُّم
–هتلقح حـاضر…(مـال عليها ليصير قريبًا منها واضعـًا يديه في جيبه ناظـرًا في عينيها بصَبْو)
“بس في حُضنك.. عايز اتلقح في حُضن مراتي”
أثـارت تلك الجُملة إِسْتِيائها؛ فدفعته في صدره صائحـة بإِحْتِدام
–مــــراتك ؟ هو عشــــــان كتبنـــــا ورقتين يبقى خلاص ليك حق عليـــــا.. طب تبقى تلمس شعره مني بس شوف هعمل فيك إيـــه.. ثُم إنك بقى تعتبر ضيف عندي.. عشان ده بيتي وإنت قاعد في ملكي ولو هنتكلم عن الشرع وإنك ليك حقوق عليا فأنا برضو ليا حقوق عليك..
قالت ذلك ثم عقدت يديها على صدرها تُطالعه بنظرات غضب و إِمْتِعَاض.
أردف بـدر بهدوء
–طلباتك يا عائش
رمقته بغيظ قبل أن تهتف
–تجبلي شقة.. مش عايزه أعيش في الحاره
قاطعهـا بنفاذ صبر وكأنه يعلم طلبُها
— بس…
صاحت عائشة مُقاطعة
— بس إيــــه؟؟ .. بس إيــــه يا بدر؟؟
أبسط حقوقي مش عارف تعملهالي ؟ .. تمام.. تمام يا بدر.. أنا رجعت في كلامي.. مش عاوزه حاجه.. بس بشرط تسيبني في حالي.. كلامك ميمشيش عليا.. إنت جوزي قدام الناس وعلى الورق وبس.. لكن هنعيش زي الأخوات.. بمعنى أصح هتفضل ابن عمي اللي أفضالك مغرقاني لكن تعتبرني مراتك.. لأ.
أغمض بـدر عينيه زافرًا بضيق ثم قـال بوجوم
— علفكره اللي إنت بتقوليه ده غلط.. أنا لولا متأكد إنك زي المدب بتقولي الكلام قبل ما تفكري فيه.. كان هيبقى ليا تصرف تاني معاكِ
لوحت بيدها في الهواء بطريقة تهكمية صارخة بإنفعال
–هتعمل إيـــــــــه يعني..؟؟
رمقها بـدر بنظرة تحذيرية مردفـًا بهدوء
–وطي صوتك
تجاهلت ما قاله وعادت لرفع صوتها عليه
–مش هوطيه يا بـدر واللي عندك إعملـه
جعل كلامها الساخط زمْكَة، و لم يستطع كبـح جماح غضبه تلك المرة، فشّد بقبضته على ذراعها مُتجاهلـًا صوت الألم الذي صُدر منها.. انحنى عليها ليهمس بجانب أُذنها بسُخْـط
— أنا لحد الآن كويس معاكِ و ماسك نفسي بالعافية.. لو واحد غيري كان زمانه دفنك حية.. اتقي شري يا بنت عمي عشان أنا أُقسم برب العزة جبت أخري.. أرحميني
حاولت عائشة إفلات ذراعها منه وهي على وشك البُكاء ولكنها تصنعت الشجاعة حتى لا تُظهر ضعفها أمامه.. فغمغمت بوهن
— بكرهـك
لسوء حظها أن تلك الكلمة المميتة للقلب وصلت لمسامعه .
تركها بـدر وهو يتنفس بهدوء يحاول التحكم في زمام الأمور حتى لا تنفلت أعصابه ويلقنها درسـًا لن تنساه.. قال مصطنعـًا عدم السمع
— عيدي تاني كده قُلتِ إيه ؟
“بكرهك قلت بكرهك.. وبكرهكم كلكم ونفسي أهرب من الحارة دي.. لو بس الاقي فرصة تساعدني على الهرب والله ماهتشوفوا وشي تاني”
قالتها بشجاعة غير مهتمة بالمرة بما سيحدث لها على يده.
أردف بدر بهدوء مريب جعلها ترمقه بخوف
–ادخلي نامي
تأملته لثوانِ فوجدت وجهه خاليًا من أي تعبير، مما زاد ذلك رهبتها منه وانصاعت لأوامره، ثم أغلقت الباب على نفسها وأوصدته بالمفتاح جيدًا
صاحت من الداخل بعد أن تأكدت أن الباب مغلق جيدًا
— والله يا بـدر لأوريك
أتاها صوته الأجش يقول
” نــــامي.. هعد لخمسة لو منمتيش هكسر الباب وإنتِ عارفه إيه اللي هيحصل”
ظلت للحظات تنظر للباب بخوف فأتاها صوته مجددًا
” لسه منمتيش ؟ “
أسرعت عائشة تندس في فراشها وأجابت قبل أن تغلق عينيها بخوف
— لا نمت وكنت بحلم حلم جامد بس إنت صحتني منه
ضحك بخفة متمتمًا وهو يعود ليتسطح على الأريكة
— ربنا يهديكِ يا عائش
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)