روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثامن والستون 68 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثامن والستون 68 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الثامن والستون

رواية يناديها عائش البارت الثامن والستون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثامنة والستون

اللهم أرنا في الصهاينة الملاعين عجائب قدرتك، وزلزل قلوبهم بعظمتك، اللهم ساندنا على مواجهتم، وأعطنا القوة والصبر لإبعادهم، وانصرنا على القوم الظالمين، اللهم سلط عليهم الزلزال والبركان، اللهم اغرقهم بالمرض والقهر والحرمان، اللهم يا رب العرش العظيم اقهرهم واحرق قلوبهم كما حرقوا جسد أطفالنا المظلومين، آمين يا رب العالمين، اللهم اجعل أجسامهم أشلاء لا يمكن جمعها، ولا تعطهم لا قوة ولا داعم، اللهم أنزل عليهم غضبك، اللهم سلط عليهم مقتك، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
__________
“لا تخجل من إظهار حُبك لها أمام الجميع، هي أهم من الجميع”.
**************
كان يجلس في مكتبه بشركته الخاصة
بالتطوير العقاري، و التي استطاع بمجهوده و دقة عمله أن يجعل اسم” Important step ” و هي اسم الشركة الخاصة به، واحدة من أفضل الشركات المنافسة للشركات العقارية الكُبرى، و الذي يعمل عليه حاليًا أن يجعلها من الشركات الكُبرى ليست في مصر فقط بل في الشرق الأوسط، و بجهده الوفير الذي بذله في تلك الشركة؛ استطاع إقامة فرع لها في” الإسكندرية”، و الذي من المفترض أن يكون الافتتاح الخاص بها بعد ثلاثة أيام فقط، و لم يكن ذلك الفرع الآخر يمتلكه وحده، بل أن ” راجي ” صديقه قام بمشاركته فيه؛ من خلال تمويل بعض المشروعات الصغيرة التي ستعمل عليها الشركة فيما بعد.
“آهٍ على قلبُ هواه محكمُ
فاض الجوى منه فظلمًا يكتمُ
ويحي أنا بُحتُ لها بسرهُ
أشكو لها قلبًا بنارها مغرمُ”
يستمع بانسجام شديد لتلك الكلمات التي صدحت من شاشة الحاسوب الموضوع أمامه على مكتبه، و هو يدور بالكرسي ذو العجلات، واضعًا القلم في فمه، مستغرق التفكير شارد الذهن في شيء مهم للغاية بالنسبة له، يعامل القلم مثل معاملة السيجار، رغم أنه لم يضعها أبدًا في فمه، فيخرج القلم و يضحك بطفولية على نفسه، ثم ينظر بعيون لامعة حالمة، للفراغ بشرود و تَنَاغُم مُرددًا بعذوبة وهو يسند رأسه للوراء بأريحية
” ولمحت من عينيها ناري وحرقتي
قالت على قلبي هواها مُحرمُ..
” نسيب شغلنا و نقعد نغني و نسرح بقى !.. ايه يا عم أُبَيَّ.. ايه اللي واكل عقلك و شاغل بالك كده ؟
مش معقول الحُب ! أصل أنت اتلسعت منه قبل كده، فأكيد أنت مش مغفل عشان تقع في الحُفرة تاني ! ”
ضغط أُبَيّ على زر ايقاف الفديو، ثم حول بصره على ” راجي ” الذي جلس قبالته يتحدث معه بملامح يبدو عليه الاستهزاء، قال أُبَيّ باسمًا بلُطف
” الغير صادقين هما اللي بيقعوا في حُفرة الحُب يا راجي.. المُخلص.. المُخلص في حُبه مستحيل يقع، مش.. مش معنى إنه اتخذل يبقى.. يبقى اتهزم.. المُخلص في.. في الحُب هو دايمًا الطرف الكسبان، كسبان صدقه و اخلاصه و.. و.. و احترامه لنفسه و مشاعره؛ لأنه حتى و هو بيحب من..من طرف واحد، كان..كان صادق مع.. مع نفسه و مع قلبه ”
لاحت ابتسامة ساخرة من راجي، متسائلًا بخبث
” عجيب أمرك يا أُبَيّ، أنت خسرت كرامتك قبل كده بسبب” إيرما “، و لسه فيك نفس تحب تاني ؟ ”
تنهّد أُبَيّ ببطء، و لا زال محافظًا على ابتسامته اللطيفة، ليقول
” أنا.. أنا مخسرتش كرامتي يا راجي، أنا حبيتها بصدق، كُنت.. كُنت فاكر إنها بتحبني..عـَ.. عشاني، بتحب أُبَيّ لشخصه مش..مش عشان هدف عاوزة توصله، و لما اكتشفت إني..إني كنت مجرد..مـَ مصلحة ليها، ز علت جدًا.. زعلت لدرجة دخلت في نوبة اكتئاب بعدها، و أنت.. و أنت تشهد على اللي مريت بيه وقتها..
توقف عن الكلام بانزعاج من نفسه كلما خرجت الأحرف منه متقطعة و الجُمل منفصلة؛ ليتنفس الهواء بعمق مُخرجه بهدوء، ثم تابع بتريث ..
” لكن ده مش معناه أبدًا إني كنت ضعيف بسبب الحُب، لا يا راجي.. أنا حسيت يومها بانكسار قلبي مش كرامتي، حسيت إني..إني كنت الطرف اللي بيقدم أكتر و..و بيضحي دايمًا، و العلاقة اللي فيها حُب من طرف واحد، أو طرف بيحب بصدق و التاني حُبه مزيف، بتبقى مؤ.. مؤلمة بشكل يـ.. يخليك تخاف تـ.. تنام متقمش من.. من الزعل ”
” بس شكلك بتحب جديد ”
قالها ” راجي ” بنوع من الفضول.. رد أُبَيّ بعفوية
“قصدك اتولدت من جديد”
” و مين بقى سعيدة الحظ ؟ ”
لطالما اتخذ أُبَيّ من ” راجي” صديقًا له، بل أخًا ورفيقًا، منذ أن كانا طفلين في السادسة من عمرهما في مدرسة ” فولهام” بلندن، و كان يوجد علاقة صداقة قوية بين والديهما، و لكن رغم قوة صداقتهم مثلما يعتقد الكثير من معارفهم بالخارج، إلا أن ” أُبَيّ ” لم يلاحظ أبدًا حقد ” راجي” عليه و غيرته الشديدة منه إذا نجح في أي شيء؛ لذلك يلازمه طيلة الوقت حتى يتم نسب النجاح له أيضًا و ليس لأُبَيّ فقط.
لم يسيء أُبَيّ الظن بصديقه أبدًا، أو في الحقيقة هو لا يسيء الظن في أي شخص قريب منه، و يثق بهم ثقة عمياء تجعل المنافق فيهم يستغل ثقته و نقاء قلبه؛ لأجل مصلحته الشخصية.
تحدث ” أُبَيِّ ” بسعادة عارمة وهو يجوب بعينيه الزرقاء اللامعة أرجاء المكان
” مشوفتش حلاوة الدنيا غير في عيونها، معرفتش طعم الحُب غير لما حبيتها.. سرقت قلبي و بنظرة عفوية منها خلتني أسير حُبها..
توقفت عيناه على ” راجي ” يتأمل تعابير وجه حيال ما قاله للتو، فلم يجد منه إلا الحُب و الخير له، هذا هو راجي يستطيع اتقان دور الشخص الذي يريد لك كل الخير و بداخله كم من الحقد و الغيرة التي لا حصر لها..
هؤلاء قال الله عنهم في سورة البقرة الآية 204
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }
قال ” راجي” بابتسامة مزيفة
” ربنا يفرحك يا حبيبي، بس مقولتليش مين اللي أمها داعية ليها دي ؟ ”
” بنت عمي مُصطفى ”
” مش دي أخت بدر الصغيرة.. ابن عمك أبو شعر ده ! ”
تبسم أُبَيِّ في ود ليهز رأسه بنفي
” لأ.. بدر يبقى ابن عمي محمد، أما عمي مصطفى اللي بعد بابا علطول.. تبقى أخت زياد لو لسه فاكره
أومأ مُتذكرًا اياهم، فهو ليس على علاقة بشباب عائلة الخياط ولا بأبائهم، مثلما كان والده
” عيسوي الكبير ” على علاقة برجال الخياط فيما يخص الأعمال التجارية، و كانت معظم تجاراته مع “مُجاهد الخياط ” و لكنه كان يذهب مع والده كثيرًا قبل أن ينتقلوا للعيش في بلاد الغرب؛ للاجتماعات التي كان يعقدها مجاهد في شركته بمصر قبل أن يغلقها و يتجه للعمل بالخارج هو الآخر.
” آه.. آه افتكرت زياد بس إحنا عشان سافرنا برا مع اهالينا و احنا لسه صغيرين، فمش فاكر بنات عيلتكم؛ لأنهم أكيد اتولدوا بعد أنا ما سافرت.. مش كده و لا ايه ؟ ”
أومأ أُبَيِّ مبتسمًا ليؤكد على كلامه
” فعلًا.. بس لما رجعنا مصر و أنا عندي ستة عشر سنة و قعدنا مع عيال عمي ست شهور كانت
” مَلاكي” جت للدنيا عشان تنورها، كانت صغيرة أوي.. كان عندها أربع سنين تقريبًا؛ لأني أكبر منها بـ اثنا عشر سنة.. بس ما أخدتش بالي منها غير لما كبرت و جناحتها برزوا ”
” ايـه ؟؟ ”
قالها ” راجي” بصدمة تعجب لها ” أُبَيِّ ” ليرد الأخير بغرابة
” إيـه ! ”
” أنت عندك بيدوفيليا ! بتحب قاصر ؟! ”
تقوس حاجبي ” أُبَيِّ ” في دهش من اتهام صديقه المضحك، ثم انفجر ضحكًا فبدت ملامحه أقرب للأطفال وهو يضحك ببراءة، ليقول
“أكيد لأ طبعًا.. هي داخلة في اثنان و عشرون سنة و أنا في الثلاثة و الثلاثون، يبقى فين البيدوفيليا في الموضوع ؟ ”
عاد راجي لهدوئه، ليقول بخبث
” بس الفرق بينكم كبير، هي موافقة على الفرق ده ؟ ”
” لسه متعرفش.. أو شبه تعرف؛ لأني لمحت لها إني بحبها، و هي مش صغيرة أكيد فهمتني”
” و كان ردها إيه ؟ ”
هز “أُبَيِّ” أكتافه في قلق
” مكنش فيه رد، بتمنى تبادلني نفس المشاعر، بتمنى تحبني ”
” الأول Tu dois te changer un peu و احتمال تحبك ”
قالها ” راجي” بشيء من الغيرة، مما رد أُبَيِّ ببراءة
” و ايه اللي فيا أغيره عشان تحبني؟ ”
” أنت عارف إني صاحبك و بحب لك الخير، يبقى اللي أقولك عليه تسمعه ”
استند أُبَيِّ بذقنه على قبضة يده؛ لينصت لراجي باهتمام، تابع الأخير
” تروح لدكتور شاطر يعالجك من التأتأه اللي عندك دي، مهو مش معقول عاوز ترتبط و تكون أسرة و يبقى عندك أولاد متعرفش تتكلم قدامهم نص جُملة على بعضها ! و عشان متحرجش نفسك قدامها أو تحرجها قدام حد، نفترض مثلًا إنكم رايحين تتعشوا عشا رومانسي في مطعم و عاوز تقولها كلمتين حلوين، هتفضل تنصص فيهم بقى ولا هتقولهم لها على مراحل !.. لازم تتعالج و تحاول تاخد كورسات تقوي من شخصيتك شوية، عشان أنت شخصيتك ضعيفة، البنات مش بتحب الراجل اللي شخصيته ضعيفة ”
قال آخر جُملة بغِل و حقد اتضح في عينيه و نبرة صوته، بالإضافة لكل نصائحه المزيفة التي جاءت من وراء قلبه؛ بسبب غيرته العمياء عندما اعترف له “أُبَيِّ” أنه وقع في الحُب و استطاع الشفاء من جروح الماضي و تخطيه، يرى أنه يستحق مثل أُبَيِّ بل و أكثر، يستحق أن يصبح محبوبًا و يلقى قبولًا كثيرًا من الناس مثل أُبَيِّ، يستحق أن تحبه إمرأة واحدة فقط لشخصه و ليس لوسامته أو ثروته و ثروة عائلته الطائلة، يستحق أن يتهافت عليه رجال الأعمال ليعقدوا معه صفقات تجارية، مثلما يفعلون مع أُبَيِّ، إسم أُبَيِّ في السوق التجارية يكبر، على الرغم من أنهما شركاء في كل شيء، و لكن اسمه لا يلمع مثل صديقه، أو عدوه كما يراه.
ليس ” راجي” و حده من يمتلك تلك الطباع الشيطانية، بل هناك أيضًا صنف من الناس يقطر لسانه عسلًا، وقد امتلأ قلبه سُمًا، ليس مُنافقًا فحسب، بل ممثلًا قديرًا يظهر في معظم الصور، و يجيد معظم الأدوار؛ يخفي الحقد والغل ويظهر البشاشة والحبور، هذا الثعبان من البشر من أشد أنواع الأعداء خطورة، إذا وجدته عليك الفرار منه في الحال؛ لتنجو بنفسك من سُمه.
تأثر أُبَيِّ بحديث صديقه المؤلم ، و لنقاء قلبه صدق أنه ينصحه بدافع الحب و جلب الخير له، و لكن الكلمات مؤلمة و قاسية عليه، ابتسم بقلة حيلة و قال
” أنا فعلًا محتاج اتعالج؛ غلطتي إن.. إن اتأخرت جدًا في العلاج، بس..بس أنا استشيرت كذا دكتور كويس في لندن و سويسرا و فرنسا، و..و..و في كل بلد كنت بزورها لأجل الشغل و غيره كنت.. كنت بستشير أفضل الدكاترة و أعرض عليهم حالتي، كلهم قالوا إني أقدر..أقدر أتكلم كويس لما أتخطى الصدمات اللي.. اللي مريت بيها و.. و.. اللي أثرت فيا و في شخصيتي، لأني مش مولود عندي تلعثم، أنا أصبت بيه مع.. مع أول صدمة في حياتي، و فضل ملازم ليا لحد دلوقت، مع إن اتخطيت كل الأزمات اللي.. اللي حصلت لي، بس مش عارف ليه مش بتروح من عندي، ليه لما..لما أتوتر بتزيد، و لما أتعصب بتزيد أكتر.. أنت..أنت عندك حق يا راجي، أنا لازم أدور تاني على دكاترة كويسين و..و أصمم على العلاج”
أومأ راجي موافقًا على كلامه، و لكن بداخله عكس ذلك، هو في الحقيقة لا يريده أن يتخلص من التلعثم؛ لأنه إذا تخلص منه سيصبح المتحدث الرسمي للشركة و جميع فروعها، هو فقط أراد اهانته بدس السم في العسل، و لم يسوقه تفكيره أن ” أُبَيِّ ” سيأخذ بنصيحته المزيفة على محمل الجد..
” سيب لي موضوع الدكتور ده عليا، و أنا أشوف لك أحسن دكتور متخصص ولو موجود برا أجيبوا لك لحد عندك ”
ابتسم له أُبَيِّ بامتنان قائلًا
” صدق اللي قال
« كُل ما تحتاجُ إليه هو رفيق واحد، تتخطى معه بشاعة هذا العالم» ”
” طبعًا ”
قالها وهو يرسم ابتسامة خبيثة جانب شفتيه مردفًا
” احكيلي بقى حبيتها ازاي ”
حك أُبَيِّ شعره الكثيف الحريري بخجل، ففلتت منه بضع خصلات انسابت بأريحية على عينيه، مُشكلة إضافة رائعة لوسامته، فكأنما السماء احتضنت المياه بزرقتها و لمعتها، هتف ” راجي ” بحماس
” آيوه.. خليك على الوضعية دي ”
“وضعية ايه ؟” تساءل أُبَيِّ بعدم فهم
” عايزين نعملك نيولوك جديد.. شكلك مختلف و شعرك نازل على عينك، أنا ملاحظ إنك بقالك فترة مش بتقصه ”
ضحك أُبَيِّ وهو يهندم شعره للوراء
” لسه قصه من أربع أيام، هو اللي بيطول بسرعة ”
” طيب ما تسيبه ! ”
” مش بحب الشعر الطويل ”
“أنتم أصلًا عائلة رزقها في شعرها”
” صدقت ”
قالها ليتشارك الاثنان الضحك، واحد يضحك و براءة الأطفال في عينيه، و الثاني لا تستطيع التفرق بينه و بين الحية.
_________________♡
“دافِئة فِكرة أن يتقبَّلَك أحدُهم، بكل
ما فيك من عيوبٍ وحروبٍ وندبات”
**********
” عيوبك اللي أنت بتحاول تداريها عني، أنا أصلًا مش شيفاها يا بدري ”
قالتها ” عائشة” و هي تعطيه آخر ملعقة في طبق الأرز الذي أعدته له، لقد تعلمت الطبخ مؤخرًا من الصفر، خصيصًا له.
تناول بدر ملعقة الأرز منها، ثم بعد أن ابتلع طعامه و شكر ربه، أخذ يدها ليضع قُبلة دافئة عليها قائلًا بابتسامة ممتنة
” أنا مش عارف أشكرك ازاي، ربنا ما يحرمنيش منك يا عائش ”
سحبت يدها منه بلُطف و قالت بمجاكرة
” تشكرني على ايه ؟ هو اللي بينا شُكر يا بيه ؟ ”
ضحك قائلًا
” اللي بينا حُب، بس حبيت أشكرك إنك وافقتي تكملي معايا و أنا لسه متعالجتش ”
” بدر.. أنت وعدتني ! ”
قالتها بقلق وهي تراقب تعابيرات وجهه، فأخذ يدها ثانيةً يضمها إليه ليقول بصدق
” و أنا عند وعدي ليكِ ”
بعد ثلاثة أسابيع من رجوع بدر من المشفى، بدأ بالتعافي عن ذي قبل بفضل عناية الله ثم بفضل اهتمام عائشة به، من مساعدته على تغيير ملابسه العلوية، و اطعامه و مشاركته الحديث و الفضفضة معه، كل ذلك ساعده على الشفاء سريعًا، فكانت راحته النفسية في تحسن سريع، الشيء الجميل الذي كان يحدث باستمرار، هو مشاركتهما لقراءة القرآن يوميًا، فيقرأ ” بدر” بصوته العذب بعض آيات الله و ترددها وراءه ” عائشة” حتى تمكنت من حفظ الجزء الأول و قاربت على الانتهاء من الجزء الثاني من سورة البقرة تجويدًا و تدبرًا، كانت بالفعل قد حفظت الجزء الأول منها على يد جدتها معلمة القرآن مع صبية القرية قبل أن تحدث لها حادثة الضرب على رأسها، ثم عندما عادت لبدر استطاعت حفظ الجزء الثاني، تبقى لها فقط صفحة و نصف لختمه، ثم تنتقل للجزء الثالث منها.. لم تتركه عائشة ينام وحده طيلة الأسابيع الماضية، برغبة منها نامت بجانبه على الأريكة الموضوعة في الغرفة بمحاذاة الفراش الخاص به، فإذا احتاج لشرب الماء، تنهض في الحال و تحضره له، و إذا قام قاصدًا دورة المياه تَعِينُه، لم يُحب أن يضغط عليها في مشاركتها فِراشه و ذراعه، تركها تفعل ما تشاء طالما هذا سيشعرها بالراحة، لقد اتفقا منذ أن كانا بالمشفى، ألا يقترب منها و يخلو بها الخلوة الشرعية؛ حتى ينتهي من رحلة علاجه، لكن على كُلٍ لن تغفو عيناها عن معاملته أحسن معاملة فهو في النهاية زوجها و يجب عليها بِرّه و طاعته، كما يجب عليه هو أيضًا ذلك.
قامت عائشة بصب كوب الماء ثم أعطته له ليتناول الدواء الذي أوصت به الطبيبة شمس، لتقول عائشة ضاحكة بغيرة
” والله نورا بنت عمي دي تستاهل بوسه عشان علمتني أغير على الجرح ازاي، أشطر ممرضة فيكِ يا مصر، كده مش هنحتاج نروح للدكتورة صن اللي بتشرق في المستشفى أربعة و عشرون ساعة ”
ضحك بدر بشدة على كلامها و غيرتها الواضحة، ليشدها إليه في حركة خاطفة، و أجلسها بجانبه بعد أن توق كتفيها بحنان قائلًا
” تعرفي إن بعشق ملامحك و أنتِ غيرانة عليا ! ”
نظرت له وهي ترفع حاجب و تنزل الآخر قائلة
” و أنا غيرانة بس ؟ ”
ضمها إليه واضعًا قُبلة صغيرة على رأسها، ليقول
” بحبك في كل حالاتك يا مُهجة قلب بـدر ”
” طيب يلا قوم اتوضى عشان المغرب قرب يأذن، و صحي سيف خده معاك، بقاله فترة بيصلي في البيت و شكله مضايق جدًا عشان مش قادر يروح المسجد ”
تنهّد بدر بحزن قليلًا و أردف
” المشكلة إن سيف فعلًا نفسه يروح يصلي في المسجد، بس أنا مش هقدر أشيله عشان الجرح مش هيستحمل، بس والله نفسي أخده معايا ”
” مش زياد بيروح يصلي معاك في المسجد علطول، خليه يجي ياخده ”
” فكرة برضو.. ربنا يبارك فيكِ يا عائش ”
قالها مبتسمًا وهو يداعب مقدمة أنفها الصغير بحُب، ثم نهض متجهًا للمرحاض للوضوء، بعد أن مرّ على غرفة أخيه؛ ليجده نائم على الكرسي الخاص به و المصحف مفتوح على إحدى السور، و موضوع على فخذيه.
اقترب بدر منه ثم أيقظه بقُبلة عميقة على جبهته، و قال بلُطف
” قوم يا حبيب الله، موعد صلاة المغرب قرب، يلا عشان هاخدك معايا المسجد ”
اتسعت عين سيف الخضراء بفرح، و لمعة فيها لمعة السعادة التي لم تزورها منذ فترة، ليقول بلهفة و عدم تصديق
” بتكلم بجد يا بدر ! أنا هصلي في المسجد ؟! ”
” طبعًا يا حبيبي.. بإذن الله تصلي في المسجد دايمًا ”
أخذ بدر شقيقه تجاه المرحاض ليساعده على الوضوء و الاغتسال، ثم توضأ هو، و اتجه به للغرفة ليبدل له ثيابها و ينثر العطر برائحة العود الذي يحبها سيف عليه، ثم مشط له شعره الذي بدا طويلًا نوعًا ما، فقد نمت الخصلات السوداء المختلطة بالبني الفاتح لتصل لرقبته قليلًا، مما تعجب بدر ضاحكًا
” أنت ناوي تربي شعرك ولا ايه ! ”
رد سيف يبادل الضحك بسعادة
” بقاله فترة متقصش، و لما طول حسيت إني شكلي كده أحلى.. مهو مش أنت لوحدك اللي شعرك حلو يا أسطا بدر ”
” أسطا بدر ! صدق وحشني الاسم ده جدًا.. إن شاء الله أسبوع كده أكون بقيت أحسن و أنزل الورشة تاني.. عارف يا سيف.. نفسي أحقق حلمي إن أكبر ورشة العربيات دي.. هو آه أنا كان حلمي في البداية أكمل دراستي وأبقى مهندس ميكانيكا أعيد تصنيع عربيات، أو أشكل مجسمات لعربيات أو طائرات أو سُفن محدش صممها قبل كده، بس يلا الحمدلله لعله خير إن مكملش تعليمي، إن شاء الله أعرف أكبر الورشة دي و أخليها لصيانة أي مركبات متحركة ”
” ربنا هيحقق لك حلمك بس في الوقت المناسب.. أبشر و قل قبلت البُشرى ”
نظر له بدر بعين الأمل و قال بابتسامة تفاؤل
” و أنا قبلت البُشرى يا سيف ”
اتجه بدر للأسفل لاستدعاء ابن عمه زياد، لمساندة سيف في الصلاة بالمسجد، و بالفعل وجده بدر يخرج من بوابة حديقة البيت الحديدية برفقة والده للصلاة، فلوح له بدر هاتفًا
” زيزو.. تعالى عايزك ”
جاء الآخر مبتسمًا بسعادة
” أسكت مش هاجر كلت ممبار انهارده ”
” بتهزر ! ”
” ادخل اسألها..
“غريبة.. بنت اللذين كانت تعرف إن عندنا ممبار تدخل اوضتها و متطلعش غير تاني يوم”
“لا يا حبيبي.. عندي أنا مفيش الكلام ده.. دي واكله كيلو ممبار لوحدها ألف هنا على قلبها وردة قلبي”
“تلاقي بس الوحم.. أول ما تولد إن شاء الله لو جبت سيرة الممبار قدامها هتحشيك بداله”
ضحك زياد بسعادة ليتنهد بأريحية
” أنا حظي الحلو من الدنيا خدته في هاجر، اللهم لك الحمد و الشكر يارب ”
ربت بدر على كتفه يمازحه
” طيب يلا يا روميو اطلع هات سيف عشان نفسه يصلي في المسجد؛ لأن الجرح مانعني أشيله ”
صعد زياد في الحال وهو يقول
” و أنا روحت فين عشان يطلب حاجة و متتحققش”
بينما يساعد زياد ابن عمه لأخذه للمسجد، جاء والده مصطفى ليصافح بدر بترحاب
” عامل ايه يا بدر دلوقت ؟ أحسن شوية ؟ ”
” الحمدلله يا عمي، في زحام من النعم الحمدلله ”
ابتسم عمه وهو يتأمله بحنان ليقول
” بدأت ترجع بدر بتاع زمان.. الشيخ بدر اللي كان يأذن للصلاة و يصلي كل فروض ربنا بينا، الشيخ بدر اللي كان يلم عيال الحارة و يعلمهم القرآن، الشيخ بدر اللي كان قدوة لكل الشباب لدرجة إنهم لقبوه ببدر الشباب، بدأت ترجع لبدر الشباب تاني يا بدر ”
أومأ بدر بسعادة مماثلة
” إن شاء الله أرجع أحسن من الأول و أستقيم ”
” إن شاء الله يا بني ”
جاء زياد يحمل الكرسي ذو العجلات الخاص بسيف، ليضعه على الأرض ثم بعد قليل جاء بسيف يحمله كما يحمل طفله، ليضعه على الكرسي برفق قائلًا
” مستعد يا بطل للصلاة ؟ ”
رد سيف بنبرة مبتهجة، كأنه يحمل سعادة العالم بين طيات قلبه
” ياه.. بقالي شهر مصلتش في المسجد و تقولي مستعد ! ده أنا لو أطول أقضي باقي حياتي في المسجد والله ما همل.. الكُل في بيت الله آمن”
ربت عمه بحنان على كتفه، ثم انطلقوا الأربعة متجهين لمسجد الحارة، الذي فور أن وطئت قدم بدر درجاته تهافت أهل القرية يرحبون به و بسيف، ثم أصروا جميعهم أن يؤم بهم للصلاة.
بالفعل تقدم بدر ليصبح إمام المسجد، ثم اقترب من الميكرفون؛ ليكبر رافعًا يديه بمحاذاة منكبيه، و دوى صوته في أرجاء الحارة
” اللـه أكبــر ”
يا الله دعني أحبك للحد الذي أقف فيه أمام معصيتك ولا أقترفها لأنّ حبك ينهاني.
وصل تكبير بدر في ميكرفون المسجد لمسامع عائشة و والدته، مما تبادلت الاثنتين النظرات بدهشة و سعادة لبعضهما البعض، فقالت عائشة بفرحة طغت على ملامحها
” بدر هو اللي بيصلي بالناس ! ده صوته أنا مش هتوه عنه.. ما شاء الله يارب ثبته يارب ”
رفعت مفيدة كفيها بدعاء هي الأخرى
“يارب احمي ولادي و قربهم ليك.. يارب ثبتهم على الاستقامة و اصلح أحوالهم و أحوال أولاد المسلمين.. يـارب ”
” يـارب.. اللهم آمين.. يلا يا ماما إحنا كمان نصلي فرضنا ”
” يلا يا حبيبتي ”
نهضت عائشة للوضوء، فقامت حماتها بضمها إليه بحنان الأمومة قائلة
” ربنا يبارك فيكِ يا بنتي.. أنتِ ونعم الزوجة الصالحة.. عائشة اعتبريني أمك بجد.. أنتِ زي هاجر يا حبيبتي.. و سامحيني على تقصيري معاكِ قبل كده ”
قبلتها عائشة من رأسها بأدب و ود لتقول
” حضرتك مقصرتيش معايا في حاجة يا ماما، بالعكس أنتِ كنتِ أحن حد عليا في عيلتنا.. و الحمدلله إن ربنا جعلك حماتي و أمي في نفس الوقت ”
” ربنا يسعدك يا عائشة مع بدر و افرح بعيالكم قريب يارب ”
ضحكت عائشة بمشاكسة لتقول
” لسه بدري على النونو يا فوفه، لما أخلص كليتي إن شاء الله عشان أعرف أنتبه لتربية أطفالي كويس ”
” والله كله بيقول كده في البداية، بيعدي شهر و التاني تبقي حامل.. عندك هاجر اهي حملت بعد أسبوعين من جوازها ربنا يتم لها على خير ”
” يارب يا ماما.. بس إن شاء الله هنأجل الخلفة أنا و بدر شوية.. احنا متفاهمين في النقطة دي و اتفقنا على كده ”
” اللي تشوفوه يا بنتي، المهم تكونوا حلوين مع بعض”
اتجهت ” مُفيدة ” للوضوء من بعدها عائشة، ثم استقبلت كلتاهما القِبلة لتأدية صلاة الفريضة.
______________♡
“أحببتك دون جُهد مني، و خِفت أن يكون كُل الجُهد في تخطي حُبك ” لـ نرمينا راضي.
********
كانت تتوسط فراشها، تتقلب فيه بأرق يمينًا و يسارًا لا يستطيع عقلها التوقف عن التفكير في حياتها معه لحظة..
اقتحم حياتها برّقة كالفراشة تاركًا آثار خِفتها على قلبها، لتُصبح هي من فرط تعلُقه بحُبه اللطيف فراشته الخاصة، فالحبّ قادر على أن يحوّل الصحاري القاحلة إلى جنان، و لكن إن كان حُبًا متملكًا للنفس هلك العاشق و المعشوق و هلكت النفس معهما.. مُنذ أن كلل رقبتها بقلادة قلبت حياتها رأسًا على عقب؛ أحست بأنها فراشة تائه في حديقة ورودها ذابلة لا تساعدها على الحياة، فكيف ستحيا معه ؟
” رُميســاء .. رُميساء مش بتردي ليه ؟ ”
نهضت بملل بعد أن فقدت طعم الحياة و فقد حُبها له رونقه، لترد على والدتها التي نادت عليها أكثر من مرة و لكن لشدة شرودها لم تسمع
” نعم يا ماما ! ”
تفقدتها الأم بغضب قائلة
” أنتِ لسه ملبستيش ؟ ”
” روحي أنتِ يا ماما.. أنا عندي صداع و تعبانه و مش هقدر أجي ”
ضيقت والدتها ما بين حاجبيها لتقترب منها متسائلة بقلق
” أنتِ اتخانقتِ مع كريم ؟ ”
” لأ.. هتخانق معاه ليه ”
قالتها بملامح ذابلة بالكاد ترسم ابتسامة مصطنعة لئلا تقلق والديها عليها..
” اومال فيه ايه مالك ؟ ”
” مفيش يا ماما.. بس بجد تعبانه شوية ”
” معلش يا حبيبتي.. أنا قولتلك بطلي تسهري مش بتسمعي الكلام ”
” معلش يا ماما اقفلي الباب وراكِ عشان عاوزه أنام شوية ”
هتفت الأم باستياء..
” رُميساء.. قومي اغسلي وشك و البسي.. فيه عروسة متجيش تنقي مفروشاتها بنفسها !.. دي الفرحة كلها و أنتِ بتنقي حاجتك.. قومي بقى متوجعيش قلبي ”
ردت رُميساء بتوسل..
” ماما بالله عليكِ روحي أنتِ.. كفاية خالتو و بابا و مرات عمي معاكِ.. خدي كمان سلسبيل ذوقها حلو
.. خليها تنقي بدالي ”
” هي سلسبيل اللي فرحها في نص السنة ولا أنتِ ؟ ”
لم تنطق رُميساء بشيء، و عادت للنوم بأعين متفتحة و وجه شاحب من كثرة التفكير، كأنها تترقب حدوث أمر ما، مما ملت الأم منها و تركتها دون جدال آخر معها.
نهضت رُميساء من فراشها فور خروج والدتها، لتجلس القرفصاء بتعاسة حلت عليها، مُنذ ثلاثة أسابيع من عقد قرانها على ” كريم ” وهي على تلك الحالة، تشعر بالخزي من نفسها على وقوع قلبها المسكين في حُبه قبل أن تدرسه جيدًا، و لكن ما ذنبها أن وقع قلبها في غرامه هل على أحد منا سُلطان على قلبه ؟
نزلت دمعة من عينيها وهي تتذكر اليوم الذي تفاجئت بوجوده أمام باب منزلهم عندما كانت
” روان ” معها..
*******
” هو كريم بقى مُخيف كده ليه ! جاي في الطريق بيسوق عربيته بسرعة شديدة و في عينيه نظرة كلها شر ! ”
تأملتها رُميساء لثوان بعدم فهم و استيعاب لما تقوله، متسائلة بعيون حائرة
” عرفتي الكلام ده منين ؟! ”
تنهّدت روان بتعب لتقول
” ده اللي كنت جايه أقولك عليه..أنا.. أنا ربنا وهبني نعمة خفت منها في الأول بس بعد كده عرفت إنها هبة نادرة لازم احافظ عليها و استخدمها صح.. أنا بشوف الحاجة قبل ما تحصل يا رُميساء.. و بتكون حاجات خاصة بدايرة معارفي و اللي سبق و عقلي حفظ صورهم في مخيلتي أو لساني خاطب لسانهم..”
لم تنطق رُميساء بشيء من الدهشة التي علت وجهها، و قالت بعد لحظات من تأمل روان بتعجب و غرابة
” و أنتِ شايفه دلوقت كريم جاي بعربيته بيتنا و وشه يخوف ؟! ”
هزت روان رأسها بقلق
” و في عينيه نظرة متطمنش ”
ابتلعت رُميساء ريقها، ليقف شعر رأسها من الفزع و تنتبه حواسها لصوته قريب من غرفتها يقول
لوالدها
” ازيك يا عمي.. عايز أقعد مع رُميساء بعد اذن حضرتك ”
استقبله والدها بوجه بشوش مُرحب به قائلًا
” طيب ارتاح الأول.. شكلك جاي من سفر طويل.. خلصت المأمورية اللي كنت بتقول عليها آخر مرة ولا إيه ؟ ”
” مفيش مأمورية بتخلص يا عمي.. خصوصًا لو كانت مأمورية أول مرة تشتغلها.. برغم صعوبتها لكن حبيتها و اتعلقت بناسها بسرعة ”
كان يرمي بهذا الكلام بالطبع على فراشته، التي شعرت بغصة في معدتها من شدة الخوف منه و التوتر الذي انتاب جسدها فجأة بزيارته الغير متوقعة بالمرة، و لكن كريم هذا مجنون للغاية و يستطيع أن يفعل أي شيء يريده في أي وقت و أي مكان.
” ربنا معاكم و يسلم طريقكم.. ها تشرب ايه بقى ”
” قهوة بلبن سكر زيادة لو موجود ”
” ولو مش موجود أجيب لك فورًا.. يا أم رُميساء.. قهوة بلبن سكر زيادة لعريس بنتك و اتنين عصير لو سمحتِ ”
نظر لكريم الذي كان يترقب مجيء رُميساء، ليربت على فخذه قائلًا بابتسامة عذبة
” قولي.. أنت و رُميساء زعلانين في حاجة ؟ ”
” لأ خالص.. أنا بس كنت عاوز استأذن حضرتك نقدم كتب الكتاب و كنت عاوز أخد رأيها طبعًا، عشان فيه مأمورية هتستغرق مني حوالي شهرين، يعني مش هقدر أجي خلال الشهرين دول، فقلت نقدم كتب الكتاب أفضل ولا رأي حضرتك ايه ؟ ”
سكت والدها قليلًا يفكر فيما قالته له ابنته حول رفضها الزواج من كريم، أردف باحراج
” بص يا كريم أنا حبيتك في الله و اعتبرتك ابني، فهجيلك سكة و دوغري.. رُميساء حالتها مش عجباني بقالها كام يوم وانهارده بتقولي إنها مش عاوزه تكمل.. فأنا هديك فرصة تقعد معاها و تتفاهموا في وجودي طبعًا، أنت عارف إن دينا لا يسمح بخلوة في فترة الخطوبة ”
هز كريم رأسه باستسلام و عينيه الكهرمانية تلمع بالحزن كلما تذكر صوتها في الهاتف وهي ترفض الزواج منه..
” تمام يا عمي ”
” على بركة الله.. ”
دخل والد رُميساء لغرفتها بعد أن طرق الباب عليها، وجدها تبكي في صمت و روان تحاول تهدئتها، هرع نحوها يسألها بخوف
” رُميساء.. في ايه يا بنتي.. خلاص لو مش عاوزاه أنا هفض الموضوع ده ”
مسحت دموعها بعد تفكير و قالت
” لأ يا بابا.. أنا عاوزه أقعد معاه بعد إذنك ”
*****
أغمضت عينيها بألم تستنشق الهواء بصعوبة، لتسند رأسها خلفها على الوسادة متذكرة باقي أحداث ذلك اليوم عندما جلست معه.
*****
ارتدت إدناء كان معلق بعشوائية في خزانة ملابسها دون الاهتمام بمظهرها، ثم ارتدت نقابها و خرجت لتدخل غرفة الضيوف، و قبل أن تطأ قدميها الغرفة، توقفت عندما تلاقت عيناها مع عينيه التي تخترقها بحُب حقيقي لمسته فيهما، أخفضت بصرها في الحال و جلست قبالته بعد أن ألقت التحية بهدوء..
” أنتِ كويسة؟ ”
نظرت له بأعين ساخرة، فكيف يسألها عن حالها و تلك القلادة اللعينة تخبره كل شيء ؟
استأذن والدها ليحضر العصير و القهوة، فانتهز هو الفرصة و عادت ملامحه للغموض ليقول بنبرة تحذير مختلطة بالحنان
” بلاش تفكري تبعدي عني؛ لأن مش هسيبك يا رُميساء ”
استجمعت شجعاتها و ردت بصوت متهدج
” أنت عاوز مني ايه ؟ سيبني في حالي لو سمحت
” أنتِ حالي يا رُميساء.. أنا متعلقتش بحد زي ما اتعلقت بيكِ كده.. و عاوزاني اسيبك ؟ ده أنا مصدقت لقيتك.. حتى في خيالك مش هسيبك يا رُميساء.. حتى في أحلامك هتلاقيني.. أنتِ ملكي لآخر نفس فيا ..”
” أنا مش ملكك و لا ملك حد يا كريم.. أنا عايزه أعيش في هدوء و استقرار زي أي بنت.. ليه حُب التملك ده.. ليه الالغاز و الغموض اللي ملت حياتنا دي ؟ ”
” عشان.. عشان خايف تضيعي مني ”
قالها بضعف ظهر في عينيه لأول مرة تشهده هي، مما تأملته للحظات بعتاب، فهي برغم مخاوفها منه إلا أنها لا تستطيع التخلص من حُبه.
تساءلت بهدوء تلك المرة
” مش هتقولي سر القلادة ايه ؟ ”
” هقولك لما اسمك يتكتب على اسمي إن شاء الله
قالها بابتسامة كبيرة، جاء من بعدها والدها يحمل صينية القهوة و العصير، ليعطيه قهوته و يعطي العصير لابنته قائلًا ببشاشة
” ها.. وصلتوا لا ايه ؟ أظن الخمس دقايق اللي سيبتكم فيها بمزاجي قدرتوا توصلوا لحل ! ”
نظر كريم بحُب نظرة أخيرة لرُميساء، ثم التفت لوالدها و قال
” خلي كتب الكتاب بكره إن شاء الله ”
اتسعت عين رُميساء بذهول من عجلة أمره، و وجدت نفسها توافق باستسلام حينما سألها والدها عن رأيها الأخير
” اللي تشوفه يا بابا ”
” مبارك عليكم، ربنا يجعلها زيجة مُباركة ”
*********
” يارتني ما وافقت ”
قالتها وهي تبكي بضعف و ألم، و تتحسس القلادة في رقبتها لتقول كأنها تراه أمامها
” أكيد أنت شايفني دلوقت و شايف حالتي بقت عامله ازاي.. أنا عمري ما هسامحك يا كريم على الأذى النفسي اللي سببته ليا، و لا هسامح قلبي إنه حبك ”
وقفت أمام المرآة تطالع هيئتها المزرية بحسرة، لتناجي ربها بتوسل
” يارب ساعدني ”
أخذت اسدال الصلاة لتصلي ركعتان تبث فيهما حالها لله، فلمحت عيناها طرف فستان كتب كتابها يتدلى من أسفل خزانة الملابس، امتدت يدها لتأخذ الفستان المائل للون السكري و المطرز بفراشات ذهبية من الذيل، بأكمام واسعة فضفاض يتوسطه من الخصر شريطة عريضة ذهبية تشكلت في النهاية على شكل فراشة، قربته من أنفها فوجدت رائحة العطر الخاصة بكريم ما زالت تملأ الفستان.
ألقت به بغضب و ذاكرتها تعود ليوم عقد قرانها عليه..
******
” الفستان ده اتعمل مخصوص عشانك يا فراشتي.. اتمنى يعجبك ”
كان قد أحضر لها في حقيبة أنيقة للهدايا الفستان و النقاب الأبيض و طوق من الزهور البيضاء تضعه حول رأسها، وقفاز أبيض ليخفي يديها الجميلتين عن أعين الحضور، أخذت منه الفستان بانزعاج دون أن تشكره..
ارتدته و بدت كالأميرات بحق، كان ذوقه رقيق للغاية و لم تنكر أنه نال اعجابها للغاية..
ها هو المأذون يضع يد والدها في يد والد كريم
” اللواء رياض الكردي ” الذي تعجب كريم من تغيره المفاجئ تجاه عائلة رُميساء، و موافقته على الزواج منها و الارتباط بتلك العائلة التي كان يمقتها في البداية.
” بارك الله لكما و بارك عليكما و جمع بينكما في خير”
تعالت الزغاريد و انهالت المباركات على العروسين بعد أن تم كتب الكتاب، انصرف الجميع لبيوتهم بعد قضاء أمسية ظريفة ينشدون الأناشيد السعيدة و النساء يتراقصن في محاولة منهن لجعل رُميساء تشاركهن الرقص، فكانت تحرك يديها بلا مبالاة و توزع الابتسامات المصطنعة حتى يكفوا عن سؤالها ” ماذا بكِ ؟ ”
لمح طيفها في صالة البيت، فجاء من خلفها و سحبها في حركة سريعة لإحدى الغرف الفارغة، ثم رفع لها نقابها قائلًا بابتسامة عاشقة
” حرم كريم الكردي لأبد الآبدين ”
دفعته في صدره بقوة ليبتعد عنها، فهي لا تطيق حتى أن يقترب منها، و لكن لضعف قبضتها لم يتزحزح إنشًا واحدًا.. قالت في ضيق
” مش معنى إنك كتبت كتابك عليا يبقى تقرب مني وقت ما تحب ! أنا وافقت بس عشان تقولى سر القلادة ايه زي ما وعدتني ”
نظر في عينيها بعمق قائلًا
” لأ.. أنتِ موافقتيش عشان سر القلادة.. أنتِ وافقتِ عشان قلبك مفيهوش غيري يا رُميساء.. عشان بتحبيني يا فراشتي ”
” متخلنيش أكرهك يا كريم ”
” مش هتعرفي ”
قالها وهو يناظرها بتحدي، ثم رفع يده لوجهها ليمرر أنامله على بشرتها الناعمة؛ فأزاحتها بعنف و هتفت
” اياك تلمسني تاني ”
ضحك ضحكات وقع آثارها على قلبها كوقوع النغمات على السلم الموسيقى، ليقول باستمتاع من عصبيتها
” عُمر ما خطر ببالي إن أغرق في التواصل البصري، لحد ما شُفت عيونك ”
دق قلبها فور جملته الغزلية، لتحاول الفرار من تواجدها معه بالغرفة، فوضعت يدها على مزلاج الباب تفتحه، و لكنه احتوى كفها بكفه الرجولي قائلًا بصدق لمع في عينيه
” هيجي اليوم اللي تعرفي فيه إن كريم كان بيحميكِ بالقلادة ”
*****
عادت من ذاكرتها وهي تلقي بجسدها بخفة على الفراش، لتلتقي عينيها بالسقف تمعن فيه النظر بشرود في كيفية أنه يحميها بالقلادة و يحميها مِن مَن ؟ أيقصد والده ؟ لا، الأمر ليس بهذا التعقيد، هو فقط يتلاعب بأعصابها لا غير.
تنفست بعمق وهي تمسح وجهها بقلة حيلة، ثم ضغطت على القلادة في محاولة منها للتواصل معه، وهي تدرك جيدًا أنها مجرد حيلة فاشلة؛ لأنه لم يتواصل معها من خلال القلادة طيلة الأسبوع الماضي كله، أيعقل أن يكون أوقف استعمالها ؟
ظهر الشعاع منها فجأة، فانتفضت مكانها بفزع، تراقب بصدمة ظهور كريم في الشاشة المربعة الكبيرة.. ظل يطالعها باشتياق بدا عليه للحظات، أما هي تنظر له بصدمة فقط..
نطق بهدوء أخيرًا
” مش محتاج غير دعواتك الصادقة الفترة اللي جايه.. أنا محبتش ازعجك الفترة اللي فاتت، خدي راحتك يا فراشتي.. بطلت أراقبك، بس خلي بالك على نفسك.. و القلادة لسه شغالة علفكرة و طول ما هي شغالة هي بتحميكِ و تساعدني أحافظ عليكِ، أنا بحبك يا رُميساء، أنتِ اختياري الوحيد الصح في حياتي.. في رعاية الله يا فراشتي ”
” كـريم..
قالتها بعيون دامعة متأثرة بكلامه الذي لم تستوعب نصفه بسهولة، لتقول بخوف حقيقي عليه
” ارجع ازعجني بس طمني عليك.. ! ”
_________♡
بعد الانتهاء من الصلاة، انصرف الجميع إلا أقلية منهم بدر و سيف، اتخذ بدر مكانًا يسبح الله فيه، و شقيقه أخرج مصحفه الصغير من جيبه الذي أصبح يلازمه طيلة الوقت، ليقرأ ورده اليومي، لم ينسى سيف في مرة أن يذكر اسم ” روان ” في الدعاء قبل اسمه، حتى أنه عندما علم بأمر افتتاحها لروضة لتعليم الأطفال وهو حلمها الدائم الذي أرادت يومًا تحقيقه، سعد قلبه بشدة و رفرف كالطير من شدة سعادته كأنه حقق حلمه هو، لم ينساها قط و لم تغيب عن قلبه و مخيلته لحظة، لقد أحبها قلبه بحق، و تمناها من الله في كل سجدة؛ حتى أنه يستيقظ في الثلث الأخير من الليل ليصلي قيام الليل دون أن يراه أحد، فيختم دعائه في كل سجدة آخر
” ربي إني أحببتها فاكتبها نصيبًا لي ”
تذكر أنه كان يسخر من شقيقه عندما كان يدعو الله كثيرًا سرًا و علانية أن يتزوج عائشة، فضحك من نفسه عندما وقع في الحب و أدرك أن الشخص عندما يحب بصدق، لا يمل من تكرار اسم محبوبة في كل صلاة.
لقد حان الوقت لعودتهم للبيت، نهض ” بدر” و ايقظ زياد الذي غفا في بيت الله عندما شعر بالسكينة، ليعودوا ثلاثتهم للبيت.. ساعد زياد ابن عمه سيف في الصعود، ثم ألقى التحية على عمته و عائشة، و اتجه لبيته.
كانت عائشة آنذاك تبدل ملاءة السرير الخاص ببدر، فجاء من خلفها يمشي ببطء حتى احست به و التفتت نحوه بضحك هاتفة
” البرفيوم بتاعك بشمه من على بُعد.. انسى إنك تخضني ”
طوق كتفيها من خلفها بحنان، ثم أدارها لتصبح في مواجهته، و قبْلها من جبينها قائلًا بحُب
” صليتي ؟ ”
” آه طبعًا.. صليت مع ماما ”
” تقبل الله يا مُهجتي ”
” منا و منكم إن شاء الله ”
عادت لتنظم الفراش و ساعدها هو في ذلك، ليقول بعد لحظات
” عندي خبر ليكِ هيفرحك ”
نظرت له بترقب تحثه على البوح، فقال
” إن شاء الله أول جلسة من جلسات علاجي بكره
اتسعت عينيها بسعادة و قفزت نحوه تحتضنه بشدة صارخة بحماس
” ده أحسن قرار أنت خدته في حياتك ”
أبعدها عن صدره برفق ليحتوي وجهها قائلًا بلُطف
” أحسن قرار أنا خدته في حياتي إن حبيتك”
” يعني حُبك ليا كان قرار ؟ ”
سألته بخبث مصطنع و هي تعقد يديها على صدرها، فأجاب ضاحكًا على شقاوتها مُداعبًا خدها
“كان اختيار.. اختيار قلبي اللي مليش عليه سُلطان
ابتسمت برضا، ثم تساءلت فجأة كأنها تذكرت شيء مهم
” بدر.. كُنت عاوزه أسألك على حاجة قابلتني الصبح و أنا بقرأ الورد بتاعي ”
” اسألي يا حبيبتي ”
” ليه ربنا سبحانه و تعالى، أمرنا بغض البصر ولم يأمرنا بغض النظر ؟ ”
” سؤال ذكي.. قالها وهو يجلس و يجلسها على فخذيه كأبنته المدللة، ثم قال يشرح لها في هدوء
” ربنا سبحانه و تعالى قال في سورة الأعراف
(وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)
من الآية نلاحظ أن هناك فرق بين {النظر} و {البصر}
فالنظر هو: رؤية الأشياء بدون استخدام العقل.. وبالتالى عدم الإحاطة بالمرئي..
أما البصر فهو: رؤية يستخدم فيها العقل وبتركيز للإحاطة الكاملة بالمرئى
ولذلك طالبنا الدين بغض البصر ولم يطلب غض النظر.. ذلك يمكن النظر للمرأة لأداء الأعمال اليومية.. من معاملات.. لتسير الحياة
فلو زاد النظر عن المطلوب.. وتحركت المدركات.. يتحول النظر إلى بصر، و من هنا يأتي الأمر الإلهي بغضِّ البصر..”قُل لِّلۡمُؤۡمِنِینَ یَغُضُّوا۟ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِمۡ”..
ولما سُئل النبي ﷺ عن نظر الفجأة، الرجل ينظر إلى المرأة مفاجأة قال: “لك الأولى وليست لك الأخرى”، وقال: “لا تُتبع النظرةَ النظرةَ”..
ولذلك أيضا… نجد أن من أسماء الله البصير.. ولا نجد.. الناظر
قال تعالى: (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا)
ف
البصر أقوى وأعمق وأشمل من النظر
لاحظِ معايا يا عائـش مدى دقة نظم كلمات القرآن، فعندما يأمرنا رب العزة بالتدبر فى خلقه يأمرنا (بالنظر لا بالبصر)
فيقول.. (أفلا ينظرون إلى الإبل) .. (أفلا ينظرون إلى السماء) … (فلينظر الإنسان مما خلق).
فى كل هذه الآيات استخدم النظر؛ لأن هذه الآيات معجزة ولا يستطيع أحد الإحاطة بها والإلمام بمكوناتها.. فالنظر هنا أولى من البصر..
فهمتي يا حبيبتي ؟
هزت رأسها شاكرة اياه بابتسامة رقيقة
” جزاك الله خيرًا ”
” و اياكِ يا مُهجة قلبي ”
________________♡
“الرحله فردية تمامًا
‏وحدك تمشي في هذا الدرب
‏اللّٰه في قلبك
‏وقلبك في يد الله
‏وهذا هو أمانك الوحيد.”
********
تجلس ” روان ” ترسم على وجهها ابتسامة مرحة بشوشة وهي تجمع بعض الأطفال الذين بادروا أهلهم بالتقديم في روضتها، ليجلسوا حولها مشكلين دائرة من البراءة حولها، تحدثهم عن خاتم الأنبياء و المرسلين، شفيعهم و شفيع الأمة سيدنا محمد صل الله عليه و سلم.
تساءل طفل في عمر الخمس سنوات من الجالسين ببراءة
” هو سيدنا مُحمد إنسان زينا يا ميس ؟ ”
ضحكت روان و قبلت الطفل من يده الصغيرة، ثم قالت بحُب
” هو بشر، بأبي هو وأمي، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لكن نور النبوة بين جنبيه، وسراج الرسالة يجري بين يديه، وتاج العصمة على رأسه، كلامه صدق، وفعله حق، ومنهجه قويم، وصراطه مستقيم، وخلقه عظيم، وجنابه كريم، يدور الحق معه حيثما دار، وتسير البركة معه حيثما سار، يسبقه القبول إذا توجه. وتنزل معه الرحمة إذا نزل، ويقيم معه الجود إذا أقام، ويرتحل معه البشر إذا ارتحل، هو اليسر كله؛ فدينه يسر، وكتابه يسر، وسنته يسر، وأمره ونهيه يسر؛ لأنه ميسر لليسرى، تقرأ سير العظماء فإذا قرأت سيرته صاروا صغارا، وتطالع أخبار المصلحين والمجددين فإذا طالعت أخباره تحولوا إلى تلاميذ، تعجب بالعباقرة والرواد فإذا عشت مع سنته رأيتهم طلابا صغارا في مدرسته، أثنى عليه الأعداء قبل الأصدقاء، ومدحه البعيد قبل القريب.
على الرغم من أن الأطفال لم يفهموا المعاني، إلا أن كل كلمة قالتها روان عن سيدنا رسول الله، دخلت قلوبهم و ارتسمت البسمة على وجوههم وهم يستمعون إليها.
تساءل طفل آخر وهو يبتسم بشقاوة
” ميس روان احنا ليه مش بنشوف ربنا ؟ ”
فكرت روان للحظات، ثم أجابت بذكاء وهي تربت على شعر الطفل بحنان
” إن الله من نور ونور الله عظيم ولا نستطيع رؤيته الآن، لأن بصرنا الآن ضعيف لا يستطيع أن يرى نور الشمس، فكيف بنور الله العظيم..
ثم اصطحبته من يده الصغيرة إلى النافذة لينظر للشمس؛ لتجعله يكتشف أنه لا يستطيع النظر اليها و فتح عينيه في ضوئها..
قال الطفل بعفوية
” مش عارف افتح عيني يا ميس ”
ردت بابتسامة راضية
” كذلك الله سبحانه نوره أعظم من الشمس ”
قبل أن تنهي الدرس، أعطت لهم بعض الفواكه كبديل عن الحلوى، ليذكر جميع الأطفال اسم الله عليها قبل أن يشرعوا في تناولها، حمدت روان
” ربها ” على مجهودها الذي ترى نتائجه المُرضية أمام عينيها.
أثناء مراقبتها لهم وهم يأكلون بسعادة، جاءها ذلك الصداع المفاجأة فوضعت يدها على رأسها بتألم و أخذت تفتح عينيها و تغلقهما بسرعة، لتهتف فجأة بخوف
” رُميسـاء !! ”
______________♡
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. التوبة 111.
*******
يقف اللواء ” عزمي باشا ” أمام شاشة العرض الكبيرة، التي يتابعها كبار اللواءات و أمهر الضباط من بينهم “رحيم” و رجال المخابرات من بينهم ضابط المخابرات ” كريم الكردي ” و العاملين السريين بالجيش المصري و الذي يصغرهم و يصغر جميع الجالسون ” قُصي الخياط ” و يعتبر أذكى الحضور هنا.
يشير ” اللواء ” على شاشة العرض بالقرب من مكان تم رصده بالنقاط الحمراء، ليقول بصرامة
” المكان ده هتقابلوه في التدريب بكره.. ممنوع الاقتراب منه، تم زرع قنبلة غير مرئية بواسطة تكنولوجيا عالية تحت الأرض، عشان أي حد يقرب منه تنفجر و تدمر جزء كبير من أراضي العريش، ضباطنا قدروا يوصلوا للمكان المحدد للقنبلة، لكن عاجزين للوصول ليها و ابطالها، للأسف ده المكان الوحيد اللي متأمن لتدريبكم فيه، بغض النظر عن القنبلة اللي تم زرعها في الخفاء أثناء حرب اكتوبر مع العدو الاسرائيلي والطريقة الوحيدة للخلاص منها انها تنفجر، عشان كده تم احاطتها بسور عازل يمنع أي حد من الاقتراب من مكانها ”
كان ” قُصي” يحمل معه في التدريب دائمًا كراس للرسم و قلم، فكان يجلس بكل انتباه يضيق عينيه الزرقاء تجاه النقطة الحمراء على شاشة العرض، و يديه ترسم شيء دون النظر لما يرسم، يصوب عينيه بكل دقة ناحية النقطة و يديها ترسم تلقاء نفسها.. انتهى من الرسم ثم قطع الورقة و وضعها في جيبه، انتبه له ” رحيم ” فأراد تشتيت انتباهه ليقول بمزاح سخيف
” أنت قاعد في حصة رسم ولا ايه؟ ”
” بقولك ايه يا رحيم.. فكك مني عشان ما ارسمش على وشك ”
قالها وهو يرمقه بتحذير، فضحك الآخر بسخرية و قال
” شكلك لسه متعرفش من رحيم عساف كويس؟

لم يتلقى رد من قُصي الذي ركز كل ذهنه على تلك القنبلة، انتهي الاجتماع و انصرف الجميع كُلٍ لغرفهم الخاصة، أما قُصي ظل يرسم بضعة أشياء غير مفهومة لكل من يراها، جاء رحيم من خلفه ليتساءل باستهتار
” دي طلاسم دي ولا تعاويذ ؟ “

” دول معيز.. هربطك معاهم لو محلتش عني “

” تربط مين يالاه يا تافه أنت ! ”
قالها رحيم وهو ينتهز فرصة خلو المكان من الضباط، ليهم بضرب قُصي، مما تعصب الآخر و انفعل يهتف
” أنت فاكر نفسك مين هنا ؟ الله يرحم خالتك اللي كانت بتحشى البط نشاره “

صوت ضحكات مخيفة عالية جاء من الممر المظلم خلفهما، مما انتفض الاثنان بفزع و احتضنا بعضهما بحركة تلقائية، كادت أن تفقد ” كريم” الوعي من كثرة الضحك عليهما.
ابتعدت الاثنان عن بعضهما فور أن رأيا كريم، و أخذا يتبادلان النظرات ببرود، ليقول كريم بمرح
” لما أنتم جبناء كده.. متنيلين عندكم بتعملوا ايه ؟ مش الاجتماع خلص.. روحوا ناموا عندنا يوم طويل بكره ”
نظر قُصي لكريم بتعالٍ، ثم ربت على كتفه قائلًا قبل أن يذهب لغرفته
” الحق ظبط علاقاتك معايا علشان لما تروح مكان بعد كدا أخليك تقولهم إنك من طرفي ”
” يا شيخ اتنيل.. ده أنت شوية وكنت هتعملها على روحك ”
” اسم الله عليك يا هرقل ”
قالها قُصي، قبل أن يغلق باب غرفته، رد كريم ضاحكًا
” ولا كأنكم أطفال في حضانة، ربنا يستر على العملية ”
*****
في صباح يوم جديد صوت صفارات الاستيقاظ تدوي في الممر، فاستيقظ جميع الضباط استعدادًا لبدء التدريب.
جاء اللواء عزمي و أملا عليهم بعض التعليمات، ثم نظر لقُصي قائلًا
” إياد الريحاني المدرب بتاعك للفنون القتالية “

هز قُصي رأسه دون رد، فهو لا زال غاضبًا من اللواء على إخفاء حقيقة “الرجل المجهول” عنه، الجميع هنا يتعجبون من أسلوب قصي و معاملته الباردة مع اللواء، فلا أحد يجرؤ أن يعامل اللواء هكذا؛ إلا قصي الذي عندما يراه لا يؤدي التحية العسكرية حتى، فهو يعمل معهم لأجل مصلحة البلاد وحالما تنتهي المهمة بنجاح سيعود أدراجه لبيته و لن يدخل في أي مهمات أخرى.
اتجه الجميع لتلك الصحراء للتدريب في منطقة العريش، وهناك قابل قُصي شاب في العشرينات من عمره، قوي البنية مفتول العضلات طويل القامة مثل قُصي، له شعر بني خفيف و ذقن خفيفة، و عينيه تبدوان كالصقر إذا دقق النظر في أحد.
جاء إياد ليصافح قصي قائلًا بهدوء
” كيفك يا زلمة ؟ ”
عقد قُصي حاجبيه بتعجب مرددا
” زلمة ! أنت لبناني ؟ ”
” سوري أنا.. من حلب الشهباء ”
” شاورما بقى و كده.. أنا نفسي أعرف طريقة التوميه بتاعتكم ازاي.. أحسن توميه بتعملوها والله “

ضحك “إياد” بشدة على خفة ظل قُصي ليقول الأخير مازحا
” و هتعلمني ايه بقى يا أستاذ شاورما ؟ ”
” كِل شيء منيح راح يفيدك، بالأول احكيلي.. الك أي خبرات في الفنون القتالية ؟ ”
حك قُصي جفونه بنعاس ليقول وهو يتثاءب
” أنا عاوز أنام والله.. منمتش امبارح كويس.. نفسي ارجع بيتنا بقى ”
” كلنا بنروح بيوتنا بس بعد ما ناخدها ”
هتف قصي بدهشة مصطنعة
” ايه ده هما احتلوا بيوتنا؟ ”
رد إياد بجدية
” أراضينا و بلادنا هي بيوتنا يا قُصي، ما راح نرتاح ولا بيغمض لنا جفن إلا بعد ما نرجع كل شبر سرقوه
” أنت شكلك حفيد غاندي ولا ايه ؟ ”
1
قالها قُصي بمزاح، ليرد عليه إياد بجدية
” نحنا أحفاد صلاح الدين الأيوبي وكل الرجال الشجعان يلي حاربوا أعداء الإسلام ”
” طيب يلا نبدأ التدريب عشان كمان شوية هخش في غيبوبة بسبب قلة النوم ”
بدأ ” إياد” يعيد تعليم قصي فنون القتال من الصفر، فقد كان قصي ماهرًا فيها ثم مع الوقت و تركه لها تناساها، وها هو يعود ليتذكر كل حركة منها بفضل إياد..
بعد ساعتين من التدريب المتواصل، انقطع نفس قُصي من التعب، و هوى على صخرة يشرب الماء بشراهة، ثم يأخذ أنفاسه بعمق، ليأتي إياد و يجلس بجانبه متسائلًا
” كم عمرك قُصي ”
” بتسأل ليه.. جايب لي عروسة ؟ ”
ضحك إياد قائلًا
” بجيب لك إذا بتريد.. أنا عمري سبعة و عشرون
” و أنا اثنان و عشرون ”
” لساتك صغير ”
” شوفت.. و جايبني يبهدلوني هنا.. أنا عاوز ماما”
ضحك إياد بخفة و لمع الحزن في عينيه ليقول بتأثر
” بقصد عمرك صغير.. لكن أنت بتحمي بلدك.. ما حدا صغير على حماية بلده قُصي.. إن شاء الله بتنتصروا و بتشوف إمك مرة تانية ”
” أنت جاي من سوريا مخصوص عشان تدربني ؟ ”
” لأ.. أنا بشتغل مدرب لضباط الجيوش العربية ”
” ما شاء الله.. بتقبض بالدولار بقى على كده ؟ ”
” مالي كله بساهم فيه في تعمير سوريا ”
” اممم.. هو ايه الخط اللي في دراعك ده ؟ ”
نظر إياد لتلك الضربة التي اختفت أثارها قليلًا في ذراعه، متذكرًا ثورة 2011 في سوريا
” هاي العلامة من الحرب يلي صارت بـ ٢٠١١ عنا بسورية ”
” ياه.. أنا وقتها كان عندي تسع سنين، كنت في فرنسا وقتها مع أسرتي، ما تحكيلي عن الحرب دي و سببها ايه و مين اللي قام بيها ؟ ”
أدمعت أعين إياد وهو يأخذ نفسًا عميق و يخرجه بصعوبة، قائلًا
” بحكيلك.. ليش لأ
في أواخر شهر فبراير عام 2011 بدأ ناشطون سوريون وجهات معارضة مختلفة بالدعوة إلى «يوم غضب سوريٍّ» في أنحاء البلاد يوم 15 مارس من العام، متأثرين بالثورة التونسية وثورة 25 يناير المصريَّة بعد أن نجحتا في الإطاحة بنظامين دكتاتوريين شبيهين – وفق المعارضة – بنظام بشار الأسد في سوريا، وأسسوا لنشر دعواتهم هذه صفحة على موقع الفيسبوك الإلكتروني (ولو أن هوية مؤسسيها ليست معروفة على وجه التحديد) بلغَ عدد مشتركيها بحلول أواخر فبراير 26.000 ألف شخص.. وشهدَ مطلع شهر مارس حادثة أثارت توترات كبيرة في مدينة درعا جنوب سوريا، إذ قام عدد من الأطفال المتأثرين بحركة الربيع العربي بكتابة شعارات مُناهضة للنظام على جدران مدرستهم، و أنا كنت منهم، مما أدى إلى اعتقال 16 طفل منهم ” البطل الشهيد حمزة الخطيب ” رفيقي كان..
7
توقف إياد للحظات يمسح دموعه بغضب، مما تأثر قُصي ليقول
” الله يرحمهم جميعًا.. كلهم شهداء إن شاء الله ”
تابع إياد كلامه عن ” حمزة الخطيب ” و عينيه تذرف الدموع
” حمزة كان كتير طيب و ذكي، كان الكل يحبونه و يحكون بأخلاقه، كنا وقت المظاهرات بعمر الثلاثة عشر.. أثناء الاحتجاجات طلعنا من بلدتنا الجيزة مع باقي المتظاهرين لفك الحصار عن أهل درعا ضد نظام بشار الأسد الفاسد، يوم ٢٩ إبريل ٢٠١١ اعتقلوا حمزة عند حاجز حاجز للأمن السوري قرب مساكن صيدا في حوران، بعد مدة سلموا مجرمين النظام جثمان ” حمزة ” لأهله وبدت على جسمه آثار التعذيب والرصاص يللي تعرض له رفيقي..
بكى إياد بشدة، ليتابع بعيون تنضج بالثأر
” تلقى حمزة رصاصة في ذراعه اليمنى وأخرى في ذراعه اليسرى وثالثة في صدره وكسرت رقبته ومثل بجثته و قُطع عضوه التناسلي..
فتح قُصي فمه بصدمة و قال
” دي الحكومة بتاعتكم اللي عملت فيه كده ! أنا مش مستوعب.. ده طفل !
لاحت ابتسامة ساخرة جانب شفتي إياد ليقول
” هدول متل اليهود يا قُصي.. ما بيفرقوا بين صغير و كبير.. هدول شياطين
6
” طيب و الشعب كان موقفه ايه ؟ ”
“صدمت هاي الصور الآلاف ممن عبّروا عن تعاطفهم مع حمزة الخطيب على شبكة الإنترنت أو بالتظاهر في الشوارع.. حمزة الخطيب كان رمز للثورة السورية، وهو سبب رئيسي في الاحتجاجات السورية الشعبية، قتلوه إدارة المخابرات الجوية التابعة لنظام بشار الفاسد نصير اليهود و أمريكا..
حمزة كان يطلبُ المالَ من والديه دائمًا يعطيه للفقراء.. بتعرف يا قُصي.. في مرة كان بدو يعطي أحد الفقراء 100 ليرة سورية (كانت المئة ليرة السورية تساوي آنذاك حوالي دولارين أمريكيين) بينما قالت أسرته بأن هذا المبلغ كثير.. و لكن حمزة قال: أنا لدي السرير والطعام بينما الرجل ليس لديه أي شيء.. وبهذا أقنع حمزة والديه بأن يعطي المئة ليرة للرجل الفقير.. الله يرحمك يا رفيقي.. في الجنة حي ترزق أنت.
بعدها توالت المجازر على الشعب السوري
وقعت مجزرة “جمعة أطفال حماة” يوم 3 يونيو/ 2011 في مظاهرات راح ضحيتها أكثر من 70 مدنيا، بعد مطالبتهم بإسقاط النظام، وهي أول مجزرة حصلت مع انطلاق الثورة السورية، بعد هجوم الجيش على المتظاهرين بالرصاص الحي لتفريقهم في ساحة العاصي بمدينة حماة..
وشكلت المذابح والاشتباكات والكمائن “بالأسلحة المتعددة” النسبة الأعلى في أسباب القتل، بنسبة 35.1%، تلتها الأسلحة الثقيلة بنسبة 23.3%، حسب التقرير الأممي لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة العام الماضي 2021..
“المؤلم في تلك المجازر يا قُصي في حق الشعب السوري، إنه يللي ارتكبها يحمل ديانة الاسلام، لو كان يهوديًا لن يكون الألم كبيرًا مثل أن تعلم أن أخيك في الإسلام يذبحك بدم بارد فقط لأنك طالبت بحقك في أرضك ”
4
” بس دول فعلًا ما يبعدوش كتير عن اليهود.. هما و اليهود واحد..بس الفرق إن دول بيدمروا في بلدهم و في شعبهم و التانيين بيدمروا في أرض مش بتاعتهم ولا عمرها هتكون بتاعتهم ”
هز إياد رأسه بتأكيد
” بالنهاية القدس مسلمة و فلسطين دولة عربية حُرة ”
” عدوي و عدوك واحد يا إياد.. إسرائيل و أمريكا هما ورا كل اللي بيحصل في الدول العربية من تخريب و تدمير و قتل ”
” بتعرف يا قُصي.. حل كل مشاكل هذه الأمة في ثلاث كلمات “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال”
” بيعجبني إن شعب فلسطين مش بيملوا من الجهاد و المقاومة، تحس إن الصبر بيتعلم منهم.. عندهم قوة إيمان لا مثيل لها.. عندهم صبر على الابتلاء كبير..
” بتعرف إن الزلمة يللي أول من وقف بوجه الاحتلال في سوريا و فلسطين و شارك في المقاومة ضد البريطانيين في الاحتلال على مصر، هو السوري
” عز الدين القسام ” هو يللي قاد ثورة فلسطين
أومأ قُصي بتفهم ليقول
” سوريا و فلسطين و مصر في وقت الاحتلال كانوا كأنهم روح بجسد واحدة
” هديك الزلمة الله يجعله من أهل الجنة، ولد بسوريا أرض الشهامة و ناضل في غزة أرض العزة و تعلم العلوم و درسها في جامع الأزهر بالقاهرة في أرض الأنبياء مصر، رجل واحد جعل من شعوب مصر و سوريا و فلسطين إخوة لقيام الساعة.. و نحنا بنكمل المسيرة لتحرير البلاد من أعداء الله ”
1
قالها إياد وهو ينظر للسماء بيقين، تساءل قُصي بفضول
” أنت عارف احتلال سوريا و فلسطين جه ازاي ؟
” ايه.. راح اخبرك كيف هدول الصعاليك احتلوا اراضينا الطاهرة..
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 تطوع عز الدين القسام للخدمة في الجيش التركي، وأرسل إلى معسكر جنوب دمشق، لكن البعض منن قالوا أنه اعتزل القتال لما أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك، وعاد إلى بلده عام 1916، لأنه رفض أن يرفع السلاح في وجه أخيه العربي، مع تمسكه بالولاء للسلطان العثماني.. يا ليت رجال عصرنا متلوا..
تسببت ثورة الشريف حسين على الدولة العثمانية في سقوط فلسطين بيد بريطانيا بعدما صمد 40 ألفا من جنود العثمانيين، ونجحوا في منع القوات البريطانية من التقدم حتى وضعهم الشريف حسين بين نارين، ولم يوقظه نشر البلاشفة نص اتفاقية سايكس بيكو، التي تقسم بلاد العرب بين المحتلين، حتى نطق الواقع بما أنكرته بريطانيا فاحتل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري.
وهنا ظهرت روح القسام المقبلة بلا تردد على النضال والفداء، فسارع إلى بيع بيته لتجهيز نفسه للمواجهة من أول لحظة داس فيها الاحتلال تراب بلاده، وأعلن التحدي ورفض التفاوض، ورد لجنة كراين الأميركية للاستفتاء على تقرير المصير، وأخذ في التعبئة من المساجد، وتدريب المتطوعين والخروج إلى جبال صهيون للتخفي، واصطياد معسكرات الفرنسيين المحتلين، لتكون هذه النقطة مع جبال العلويين وحلب مراكز الانطلاق الثلاثة التي أقضت مضاجع قوات الاحتلال.
ولما اشتدت وطأة المقاومين على معسكرات المحتلين حاولت فرنسا استمالة القسام بالعفو والمال والمنصب، فرفض كل شيء وقال للوسيط: عد من حيث أتيت
فصدر حكم بإعدام عز الدين وبعض رفاقه، ورصدت قوات الاحتلال جائزة كبيرة لمن يدل عليه..هديك الزلمة لو كان موجود نسخة عنه تانية معنا، ما بقى حالنا هيك.. لله الأمر من قبل و من بعد
وبعد اشتداد المطاردة وارتكاب الاحتلال مجازر في القرى بحثا عن القسام لم ير بدا من الفرار إلى حيفا وبدء مرحلة جديدة مع احتلال آخر..
” قصدك الاحتلال على فلسطين ؟ ”
” بالضبط..
في عام 1921 وصل عز الدين القسام إلى فلسطين، و الكثير يقولون إنه عندما وصل أقام في حيفا، لأنها مركز العمل والعمال الذين كانوا دائما عدته في مقاومة المحتل، ومعهم عشرات الآلاف من الفقراء سكان الخيم الذين سلبت قراهم، كما كانت حيفا قاعدة للأسطول البريطاني وواحدة من قواعد التهويد.
كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني على أثر الحرب العالمية الأولى وما آلت إليه، وفي 11 سبتمبر/ 1922 أقرت عصبة الأمم رسميا وضع فلسطين وشرق الأردن تحت إدارة بريطانيا، التي اتخذت سياسة ناعمة لأن غرضها الأساسي كان تنفيذ وعد بلفور عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وأدخلت العامة والخاصة في حوارات وجدالات ومفاوضات لا نهاية لها، كما شغلتهم من قبل بوعودها في مناصرة ما سمته الثورة العربية.
ولهذا شاع الالتباس بين الناس، وساير حكومة الانتداب خلق كثير لم يصدقوا أن بريطانيا جادة في تنفيذ وعد بلفور، فقد دعاهم الخليفة العثماني محمد رشاد إلى جهاد الإنجليز وهو يناصر الألمان، ووجدوا من جهة أخرى علماءهم يعلنون الثورة على من أعلن الجهاد.
لكن عز الدين القسام حسم خياراته من أول الأمر، وبدا أنه قد اكتسب خبرة في مقامه في مصر مما رآه من ممارسات الاحتلال البريطاني وقسوته على المصريين، ومن بقايا الثورة العرابية التي أشاعت روح المقاومة ورفض وعود المحتل عند المصريين.
ومثلما أطلق الشرارة الأولى لمقاومة الاحتلال الفرنسي في سوريا، عزم منذ وصوله أرض فلسطين على مقاومة الاحتلال الإنجليزي، ولكنه لم يعلن ذلك تصريحا بل كان في شكل تحذيرات كثيرة من الثقة بوعود الإنجليز وتحذيرات أشد من الهجرات اليهودية التي تتدفق على عربات الانتداب البريطاني.
” بيحاربوا عشان ياخدوا أرض مش بتاعتهم.. كمية بجاحة مشفتهاش غير في الصهاينة، الله يلعنهم ”
هتف بها قُصي في عصبية
هز إياد رأسه مؤكدًا على كلامه
” بدأ التخطيط الفعلي من إصدار(تيودور هرتزل) الزعيم الصهيوني عام (1896) من كتابه (الدولة اليهودية)، حيث عقد مؤتمر بال في سويسرا سنة ( 1897) م، وجاء في خطاب افتتاح هذا المؤتمر: (إننا نضع حجر الأساس في بناء البيت الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية).. تصريح واضح إن اليهود ما بيملكوا وطن أساسي لهم، مشان هيك وجدوا من فلسطين دولة ثرية بثرواتها لتحقيق مكاسبهم الدنيئة. ”
” ومفيش ولا حاكم من حكام الدول الاسلامية اتصدى ليهم وقتها ؟ ”
” السلطان عبد الحميد الثاني، قام بالواجب معهم..
لقد أجرى هرتزل اتصالات مكثَّفة مع المسؤولين في ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وإنجلترا، وكانت الغاية من هذه الاتصالات هي إجراء حوار مع عبد الحميد الثَّاني. وفي هذا الصَّدد، نصح لاندو -الصَّديق اليهودي لهرتزل- منذ 21 فبراير/ 1869 أن يقوم بإجراء ذلك الحوار بواسطة صديقه نيولنسكي رئيس تحرير “بريد الشَّرق”، وفي هذا الموضوع يقول هرتزل
“إنْ نحن حصلنا على فلسطين، سندفع لتركيا كثيرا، أو سنقدّم عطايا كثيرة.. لكي يتوسَّط لنا، ومقابل هذا نحن مستعدُّون أن نسوِّي أوضاع تركيا المالية، سنأخذ الأراضي التي يمتلكها السُّلطان ضمن القانون المدني، مع أنَّه ربّما لم يكن هناك فرق بين السلطة الملكية والممتلكات الخاصة”. (النعيمي، اليهود والدَّولة العثمانيَّة، ص 117).
3
وقام السُّلطان عبد الحميد بإرسال رسالة إلى هرتزل بواسطة صديقه نيولنسكي جاء فيها
“انصح صديقك هرتزل، ألا يتَّخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع، لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدَّسة، لأنَّها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي. وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، ورووها بدمائهم؛ فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزّقت دولتي؛ فمن الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل، ولكن لزم أن يبدأ التّمزيق أوّلا في جثّتنا، ولكن لا أوافق على تشريح جثَّتي وأنا على قيد الحياة”.
تحدث قُصي بسخرية قائلًا
” مش هتدوم ليهم، الأرض أرض المسلمين في النهاية ”
” الله سبحانه و تعالى يقول في سورة إبراهيم
: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}.. بيجي اليوم اللي بنخرجهم أذلاء من القدس.
” بس يا إياد.. تلت أرباع الشعب مات و لسه بيموتوا ازاي الباقي هيقدر يقاوم في الوقت الحالي ؟ ”
” نحنا ما بنموت يا زلمة، بكره بنيجي نهد المعبد فوق رؤوس أعداء الله، راح يرفع كل مسلم راية النصر قريبًا، الله بيرسل جنوده ليحرروا بلادنا من و سخاتهن ”
” بس ازاي حكام العرب ساكتين عن اللي بيحصل ده ؟ ”
5
” كانت العرب لا تنامُ على ثَأر.. إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إنّا لا ندري ما حيلتنا، وما يُفعل بنا يوم نلقاك وقد خذلنا إخواننا.”
قالها إياد بنظرة السخرية و الحسرة، ثم تابع
” بتعرف يا قُصي، بالزمن النظيف المليء بالرجال، السلطان نور الدين الزنكي من أشجع حكام المسلمين قال
‏إنّي لأَستَحِيي مِن الله أن يَرانِي مُتبسمًا والمُسلمون تُحاصرهم الفرنج.. ما بعرف أذلة حكامنا من أين جاءوا ؟ ”
” شيء مخزي فعلًا.. إحنا خذلناهم والله ”
” “لنْ يُصبحَ سارِق المكان مالكًا له مَهما فعل.. إن الله حكيمًا لا يفعل شيء عبثا”
” و نعم بالله.. الوقت سرقنا و الليل بدأ يدخل و شكلهم بيدورا علينا في الصحرا الواسعة دي لما بعدنا عنهم ”
” بتمنى إنه أكون فيدتك بشيء قُصي ”
” أنا فخور إن عرفتك يا إياد والله.. يشرفني تكون صاحبي ”
” الشرف لي حبيبي.. يلا بينا نرجع المعسكر و بكره الصبح بنبدأ التدريب ”
______________♡
أخبر ” أُبَيِّ ” صديقه ” راجي” بالمفاجأة الرائعة التي سيفعلها من أجل ” نورا ” في حفلة افتتاح الفرع الآخر لهم بالأسكندرية.. تم تنظيم الحفل على باخرة ضخمة أكثر من رائعة تطفو على بحر الأسكندرية المهيب، بحضور جميع عائلته عدا شقيقه؛ لتواجده مع أصدقائه في شرم الشيخ، هذا ما يعرفه أفراد العائلة.
ارتدت فتيات العائلة فستانين فضفاضة جميلة المظهر و رقيقة للغاية، و أرتدى الرجال بدلات مختلفة الألوان أنيقة جدًا..
ليجلس بدر الشباب على منضدة راقية بجانبه مهجة قلبه ” عائش” تراقب بدهشة ترتيب الباخرة و تنظيمها بهذا الشكل المبهر.. اختطفها بدر من شرودها قائلًا بعاطفية
” تعرفي إنك أجمل حاجة في الليلة دي كلها”
2
ابتسمت له عائشة بحُب ممزوج بالخجل قائلة
” عيونك عشان حلوين بتشوفني حلوة ”
1
بالقرب منهم، يجلس سيف الإسلام يعبث في هاتفه و يرسل رسالة لقصي مضمونها
” وحشتني.. كان نفسي تبقى موجود.. ايه اللي بعدك عني يا صاحبي و غيرك من ناحيتي؟ ”
و تجلس بجانبه مفيدة، تطالع الباخرة بدهشة لتميل على أذن سارة زوجة مصطفى قائلة لها بمزاح
” أنا عمري ما كنت اتخيل اركب الحاجات الأبهة دي ياختي ”
” إن شاء الله تركبي الطيارة و أنتِ راحة تزوري بيت الله ”
” يارب يا سارة يارب ”
و تجلس ” نورا ” برفقة هاجر و زياد تبحث خلسة بعيناها عن أُبَيِّ، و تحدث نفسها لقد كان هنا منذ قليل أين اختفى؟
علت أصوات الموسيقى الصادرة من عزف الموسيقيين اللذين أحضرهم ” راجي” مما انزعج بدر و طلب منه ألا يقوم بتشغيل الموسيقى، لأن أغلب الجالسون لا يسمعون المعازف و لا الاغاني، فقام بانصياع لأوامره، حتى لا يفسد على نفسه الخطة التي سيرتكبها بعد قليل..
2
ها هو ظهر أمير الحفلة الوسيم أزرق العينين
” أُبَيِّ ” و معه علبة قطيفة حمراء جميلة بداخلها خاتم من الألماس الخالص.. انتهز ” راجي” فرصة تواجد رجال الأعمال و عائلة أُبَيِّ و معارفهم، ليأخذ ميكرفون و يقترب من مصطفى والد نورا قائلًا بصوت جهوري
” يشرفني أطلب إيد بنتك صاحبة الصون و العفاف نورا ”
19
صدم حلت بجميع العائلة، أولهم زياد الذي خطط مع أُبَيِّ لشراء ذلك الخاتم، لخطبة شقيقته بعد أن عرف منها أن قلبها يميل له، و صدمة أخرى اجتاحت ملامح أُبَيِّ البريئة جعلت العلبة تنزلق و تسقط من يده على مرأى و مسمع من الجميع.
3
نظرت نورا لـ أُبَيِّ تترجاه بعيونها الدامعة أن ينطق و يقول أي شيء، لكنه لم يتفوه بكلمة من شدة صدمته..
2
وجه راجي سؤاله لنورا برقة مصطنعة
” موافقة تكوني حرمي المصون يا نورا ؟ ”
6
نظرت نورا ثانية لـ أُبَيِّ بتوسل، و لكنه ظل واقفًا بصدمة جعلته يفقد ما تبقى من كلام، تملك العصبية من نورا و نهضت قائلة بغضب
1
” موافقة ”
18
لم يضع في الحُسبان أبدًا ما سيفعله “راجي” معه، لم يُصور له عقله؛ أن صديقه الوحيد و شريك طفولته و مراهقته، و شبابه سيفعل به ذلك !
نعم، يعلم أنه يغار من أي شخص يتقدم خطوة عنه في حياته، و لكن ليس الغيرة من صديق عُمره !
الآن بعد ما فعله ” راجي” في تلك الليلة المشؤومة، بات يُدرك أن أقرب صديق له، هو أكثر شخص حاقد عليه.. صديقه هو عدوه !
توقف عقله عن التفكير، و تلألأت عينيه الزرقاء بدموع القهرة، وهو يرى صديقه الوحيد برفقة الفتاة الوحيدة التي استطاعت جعل قلبه يدق بإسم الحُب مرة ثانية..
نزلت الدموع من عينيه وهو يقف بعيدًا عن الاحتفال يشاهد بقلب مفطور مُنكسر؛ خِطبة حبيبته من صديقه.. صديقه الذي أخبره بمدى عشقه لنورا ابنة عمه، و وله قلبه بها.. في تلك اللحظة شعر بأنه هُزم هزيمة لا انتصار بعدها، بأن سكينًا حادًا أصاب قلبه إصابة لا يبرأ بعدها أبدًا..
« كان على قلبي المسكين أن يعلم بأنك لست صديقي في البداية، فأنت سهم سام أصاب قلبي فانتزعه من مكانه..
11
تأمل المشهد بعيون بدت الرؤية من خلالها ضبابية؛ بسبب كثرة الدموع الهاربة منها.. ليقول لنفسه بحسرة و ألم أكثر مما شعر به من ذي قبل..

“للمرة التانية يتكسر قلبي.. و كأن.. و كأن.. مش مكتوب لي.. أتحب ! “

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى