روايات

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء الثالث والخمسون

رواية يناديها عائش البارت الثالث والخمسون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الثالثة والخمسون

بينما كنت أرفض الجميع، كانت هي القبول الوحيد لي، لقد رضخ قلبي لها. ” لـ نرمينا”
******
يقف الضابط المغوار صاحب الاثنان و الثلاثون عامًا، أمام المرآة واضعًا يديه في جيبه، يناظر نفسه بمشاعر تنضج من الحُب و السعادة، و يتأمل برّضا مظهره الذي بدا أنيق و جذاب للغاية.
ارتدى كريم لهذا اليوم الذي يعتبر أهم يوم في حياته، بنطال جينز من الجباردين بلون الهافان، و قميص أبيض عالي الجودة وضعه داخل بنطاله مُرتديًا حزام جلدي باللون البني الداكن، و فوق تلك الملابس الكاجوال التي تضفي عليه مظهر رجولي رائع، ارتدي بليزر قطني رمادي اللون، و زوج من الأحذية الفخمة لونها مقارب للون البنطال.. و لم ينسى أهم شيء، الأهم من هذا كله، ساعة اليد الثمينة التي اشتراها خصيصًا لتلك المناسبة، فهو من عُشاق ساعات اليد، ينفق ببزخ في شراء ساعات من أغلى و أفخم الساعات ذات الماركات العالمية الجذابة، ليست الساعات فقط التي يحب شراء الكثير منها، بل و العطور المثيرة و الرائعة أيضًا..
اتجه لخزانة صغيرة يضع فيها كل العطور المختلفة و الثمينة الخاصة به، ثم أخرج عطر نفاذ له رائحة لا مثيل لها، و نثر منه حول رقبته، ليضعه في الخزانة ثانية و يعود ليقف أمام المرآة يلقي نظرة أخيرة على شكله المرتب و الأنيق..
بدأ يمارس عملية الشهيق و الزفير ببطء للتهدئة من توتره الذي زاره فجأة، ثم فتح زرين من قميصه، ليكشف عن أعلى صدره الرياضي، و نزع السلسلة الفضية التي كان يرتديها دائمًا، و التي أهداها إليه صديق قديم له في عيد ميلاده منذ خمس سنوات، تاركًا فتحة القميص كما هي، و خرج ليستعجل عائلته للذهاب في الوقت المحدد وهو الساعة الثامنة بعد صلاة العشاء.. أكثر شيء يبغضه كريم عدم الانضباط في المواعيد؛ لذلك أجبر عائلته على تجهيز أنفسهم قبل الموعد بساعتين.
هبط للطابق الأسفل من الفيلا، فوجد أسرته تنتظره في الصالون.. على يمينه تجلس والدته بشوشة الوجه تبتسم له بحنان بالغ، و بجانب الأم تجلس حماتها جدة كريم التي تحبه بشدة و تتمنى له السعادة مع أي فتاة كانت، طالما أنه أحبها.. أما والده يجلس على كرسي لوحده يضع قدم فوق الأخرى و يشاهد التلفاز بعدم اهتمام، يبدو من ملامحه الامتعاض و السُخْط من أفعال ابنه الوحيد الذي حتمًا ستفقده صوابه، فبالرغم من أن “كريم” تدلل كثيرًا في طفولته؛ لأنه الابن على فتاتان و تمنى والده لو أن يخلفه في كل شيء، العمل و المنصب و الشخصية، إلا أن كريم أحبط توقعات والده، و صنع لنفسه شخصية مستقلة تمامًا عنه، فتمتع بشخصية قوية يستطيع فرض سيطرته و الحصول على أي شيء يريده، و دخوله كلية الشرطة بمحض ارادته رغم موافقة والده على ذلك، لكن جميع تصرفاته و قرارته لا يستشير فيها أحد، يحب فعل ما يحلو له طالما أنه يسعده أو في مصلحته، و في عمله كـرائد شرطة كلمته مسموعة و مُطاعة، و له هيبة و إطلالة خاصة عن باقي زملاؤه في العمل.
” نمشي ؟ ”
قالها وهو ينظر لساعته، التي شارف العقرب بها على الثامنة.. رد والده بنبرة مستاءة دون أن ينظر له
” و مالك مستعجل كده ! ”
” حضرتك عارف إن المواعيد عندي أهم حاجة ”
قالها كريم بنبرة هادئة تمامًا، كأنه لم يتأثر باستياء والده.
وزعت الجدة النظرات على ابنها و حفيدها، لتقول بلُطف
” أنا هاجي معاكم ”
صاح رياض بغضب
” تيجي فين !!.. أنتِ محسساني إن احنا رايحين حاجة مهمة يعني ”
استنشق كريم الهواء بعمق و أردف متجاهلا ما قاله والده
” أنتِ عارفة يا چيچي إن وجودك معايا انهارده بالذات مهم جدًا ”
ابتسمت الجدة بحنان، لقد عزمت المجيء خصيصًا لصد أي حوار حاد سيفتعله ابنها، و ما زاد اطمئنان كريم، معرفة أن جدته ستستطيع اجبار والده على الحديث بأدب مع رُميساء و عائلتها.
نظر رياض بحدة لوالدته و ابنه، ثم سبقهما منصرفًا للخارج دون أن يعلق بشيء.
أخذ كريم جدته من يدها يسندها لسيارته بحذر، و ركب هو في مقعد القيادة، بجانبه والده ليعم الصمت بينهم، حتى توقفت السيارة أمام متجر لبيع مختلف الحلويات، نزل كريم و اشترى عُلبة حلويات لتقديمها بشكل رسمي كما يفعل الجميع عادةً، ثم قاد سيارته باتجاه منزل رُميساء.
بالداخل، كانت رُميساء قد انتهت من ارتداء ملابسها المحتشمة و التي تكونت من إدناء كالعادة، و لكن تلك المرة اختارته بعناية و دقة، و كأنها تثبت لكل من رآها أن اليوم هو أهم يوم بالنسبة لها.. ذلك الإدناء الرائع و الذي يشبه الفراشة من الجوانب عندما تفرد أجنحتها، مكون من لونين مختلفين، الطبقة الأولى و التي تصل لأسفل الركبة بقليل من اللون الأزرق و في المنتصف صف من الازرار البيضاء، أم الطبقة الداخلية و التي تصل لفوق الكعبين بقليل من اللون الأسود، و في الأكمام التطريز يتشكل على هيئة فراشة بأحبال ملموسة، و ارتدت خمار مزركش أبيض اللون ممتلئ بالفراشات الزرقاء التي توزعت عليه ببراعة، و قبل أن تضع نقابها.. وقفت أمام المرآة للحظات تطالع نفسها بخجل و توتر ملحوظ على ملامحها، لامست شفتاها الوردية أثر الروچ الخفيف الذي وضعته، ثم أخذت منديل بغضب من نفسها و بدأت تمسحه بعنف و تقول
” أنا مش هحاول أحلي نفسي عشان حد”
كان الغرض من وضعها لبعض لمسات الميك أب، هو الظهور بشكل ملفت و جميل أمام عائلته، و لكنها تراجعت في أخر لحظة و أرادت أن يروها بملامحها الطبيعية، فاكتفت بوضع المرطب على بشرتها و على شفتيها بعد أن مسحت تلك الألوان الصناعية التي غيرت من ملامحها ما إن وضعتها.
تبسمت برضا لتلقي نظرة أخيرة في المرآة قائلة
” لو حصل نصيب ابقى احط اللي احطه بقى.. لكن دلوقت عايزاهم يشوفوني على طبيعتي.. و بعدين أنا أصلا جمر هو يطول ”
ضحكت شقيقتها على جملتها الأخيرة هاتفة
” دي جملة روان دي ”
ردت رُميساء وهي تشاركها الضحك
” لسه قافلة معاها قبل ما ألبس و قالتلي كده.. كان نفسي تبقى موجودة معايا انهارده ”
” هي مجتش ليه صحيح ؟ ”
ضحكت رُميساء بخفة وهي تتذكر صوت روان الغاضب منذ قليل
” أصل جايلها عريس انهارده و مش عايزه تقعد معاه ”
قالت شقيقتها ضاحكة
” لا متقلقيش على روان.. روان هتعرف تتصرف و تطفشه ”
لحظات و دلفت والدتهما، وقفت تتأمل رقة و جمال ابنتها البكر ثم أخذت تعيذها بكلمات الله كأي أم تفعل مع أولادها و قالت
” والدة كريم و جدته قاعدين في الصالة.. يلا عشان نقعد معاهم ”
” و كريم ؟ ”
تساءلت رُميساء بعفوية، ثم احمر وجهها مصححة بتوتر
” أقصد هقعد معاه برضو ولا ايه؟ عشان محرجة و.. و مش عايزه اشوفه أصلا ”
ضحكت الأم مردفة
” هو قاعد مع أبوكِ و أعمامك.. لما يتفقوا و يخلصوا قعدتهم.. ممكن تقعدي معاه شوية لو عاوزه تستفسري منه عن أي حاجة تانية ”
ابتلعت ريقها بارتباك هامسة باستحياء
” عادي.. اللي بابا يقول عليه ”
ألقت نظرة على شقيقتها التي تقاربها في السن كأنها تستنجد بها، فضحكت الأخرى هاتفة
” الحُب ولع في الدرة ”
” حاسة إن روان قاعدة قدامي.. منكم لله ”
قالتها وهي تتنفس بعمق ثم خرجت خلف والدتها تخفض رأسها و تفرك أصابعها ببعضهما.
صوبت چيهان جدة كريم نظراتها بابتسامة مشرقة تجاه رُميساء لتقول وهي تسلم عليها بحرارة
” ما شاء الله.. ما شاء الله.. كريم عمره ما فشل يحببني في زوقه.. و نعم الاختيار والله.. ربنا يجعلكم نصيب مع بعض و يسعدكم يا حبايب قلبي ”
بادلتها رُميساء الابتسامة برقة وهي لا زالت صامتة بفضل شدة خجلها، ثم سلمت على والدة كريم التي راحت تبدي اعجابها برُميساء قائلة هي الأخرى
” وشك فيه الراحة، ليه حق كريم ابني يتمسك بيكِ.. يارب تبقي من نصيبه.. و الله هشيلك في عنيا و هتبقي واحدة من بناتي.. أنا عندي بنتين و أنتِ هتبقي التالتة ”
ردت والدة رُميساء بدلا من ابنتها التي سيطر الصمت عليها و لجم لسانها
” ربنا يعزك و يكرم أصلك.. و هي رُميساء بنتي تتحط على الجرح يطيب ”
ردت الجدة
” باين عليها هادية و أميرة.. كفاية بس وشها المريح ده ”
ظل الثلاث نساء يتحدثن و رُميساء تجلس في الوسط صامتة مثل الوسادة التي تستند عليها.
بداخل غرفة الضيوف يجلس كريم مبتسم الوجه يتحدث بثقة و بأريحية مع والد و أعمام رُميساء الثلاثة، و كالعادة تطغي شخصيته على الحضور فيجعلهم يتحدثون معه دون قيود في جو يسوده المودة و الألفة، بينما والده يشاركهم الحديث ولكن بتحفظ و بملامح بدا عليها الانزعاج و الضيق مما لاحظ مصطفى والد رُميساء ذلك، و توترت أعصابه خشية على ابنته عندما ستعيش مع عائلة أخرى أحد أفرادها لا يريدونها وسطهم، إنه قلب الأب الذي شعر بأن ذلك الرجل لا يوافق ابنه على ذلك الزواج.
حاول مصطفى ملاطفة رياض، فنهض بأدب يقدم له المشروب وهو يبتسم
” سيادة اللواء مبيحبش السيفن ولا ايه ؟ ”
رد رياض بلا مبالاة
” ياريت لو فنجال قهوة سادة ”
شعر مصطفى بالخجل من رد رياض و نبرته المتعالية، بينما كريم نظر بطرف عينيه لوالده نظرة معناها أن ينزع ثوب تكبره و يتعامل بلطف قليلا، فتجاهل والده نظراته و صمم على فرض غروره و سيادته عليهم، يقصد اخبارهم بأنه ذو منصب عالٍ و هُم لا شيء بالنسبة له.
أخبر مصطفى زوجته بأن تأتي بالقهوة ثم عاد ليجلس مكانه بوجه منطفئ أدركه كريم في الحال، فأراد تلطيف الجو و ارضاء والد رُميساء.. قال بنبرة هادئة و واثقة جعلت أذان الجميع صاغية له
” من قبل ما اعرف طلباتكم ايه في المهر و الشبكة.. أنا موافق على كل حاجة ”
تفاجئ رياض بما قاله ابنه، و زاد ذلك من غضبه و انزعاجه..نهض فجأة ليقول بحدة
” عن اذنكم.. ”
ثم التفت لكريم بنظرة ساخطة
” تسمح يا حضرة الضابط بخمس دقايق ”
جز كريم على أسنانه بغيظ من احراج والده له أمام الرجال.. نهض رغما عنه ليرى ماذا يريد..
انفلت لسان رياض ليهتف بلهجة صارمة
” يعني ايه موافق على كل حاجة ؟ أنت متسرع ليه في كل قراراتك ؟ افرض قالوا كل حاجة عليك.. هتعمل ايه سيادتك ؟؟ ”
” معنديش مانع.. أنا المهم عندي رُميساء.. والله مستعد أعمل أي حاجة بس يدوني بنتهم ”
قالها كريم وهو يقف بثبات غير مباليًا بكلام والده
جذبه والده من ذراعه المفتول ليضغط عليه بغضب قائلا
” طول ما أنت ماشي ورا قلبك هتروح في ستين داهية.. ”
” المهم إن الداهية دي تكون فيها رُميساء ”
” لا مش ممكن.. أكيد عملالك عمل ”
ضحك كريم و قال بنبرة عاطفية جعلت والده سينفجر من الغيظ
” لو عملالي عمل فأتمنى ميتفكش أبدًا ”
دفعه والده في ظهره ليقول بقلة حيلة وهما يعودان للداخل
” ادخل.. اما اشوف اخرتها ايه معاك ”
كانوا الرجال يتهامسون فيما بينهم منزعجين من تصرف والد كريم الغير لائق.. قال أكبرهم بعقلانية
” ابنه شاري بنتنا.. و طالما الراجل شاري يبقى البنت نديهاله و احنا مطمنين ”
رد أخر
” بس ابوه معاملته مش هتبقى حلوة معاها ”
قال والد رُميساء
” لو عاوز بنتي يبقى يعيشها في شقة لوحدها.. عشان ابقى مطمن عليها ”
اتفقوا أخيرا على رأي مصطفى.. جلس كريم بخجل منهم و بجانبه والده ينظر لهم بتكبر.. تحمحم كريم و قال
” بعتذر عن اللي حصل من شوية.. ”
أومأ مصطفى بهدوء ليقول
” بص يا بني.. أنا عندي بناتي بالدنيا كلها.. أنا اما بسلمك بنتي.. بسلمك أمانة و حتة من قلبي.. الأهم من الشبكة و المهر و الفلوس و الشكليات دي.. إن رُميساء تعيش مرتاحة و أكون حاطط راسي على المخدة نايم مطمن إنها في أمان ”
رد كريم باسمًا بصفاء
” و أنا أوعدك إني هصون الأمانة.. الوعد دين و الديّن لا يسده إلا الرجال.. والله العظيم رُميساء هتكون سعيدة معايا ”
“أنا عارف إنك ابن أصول و شاري بنتي.. بس عندي شرط”
ابتسم رياض بتهكم ليسبق كريم في الرد
” وايه بقى شرطكم ؟ ”
” إن بنتي تعيش في شقة مستقلة ”
” يعني ايه ؟ ”
” يعني تعيش مع جوزها لوحدهم ”
رد كريم بموافقة
” أنا أصلا عندي شقتي خاصة بيا و كنت ناوي بإذن الله اتجوز فيها بعيدا عن أهلي ”
” بس أنت مقولتليش يعني الكلام ده ! ”
قالها والده وهو يرمقه بنظرات إسْتِشاطة.. أجاب كريم بتلقائية
“عادي يا بابا محصلش حاجة”
ثم التفت لوالد رُميساء مكملا حديثه
” تحب نجيب شبكة بكام يا عمي ؟ ”
” اللي تقدر عليه يا بني ”
قالها مصطفى بنبرة بدت مطمئنة و مرتاحة لكريم، بعد أن تأكد من تمسكه بابنته و شخصيته القوية التي بفضلها سيتطيع احاطة رُميساء من أذى والده.
” طيب و عايزين تكتبوا مؤخر بكام ؟ ”
تساءل رياض بضِيق، رد مصطفى بهدوء
” حضرتك في مقدورك كام ؟ ”
قال رياض في استهزاء
” لا احنا في مقدورنا كتير أوي.. لو عايز بمليون مفيش مشكلة خالص.. أنا بنتي متجوزة من سنتين انكتبلها مؤخر بـ مائة ألف و شبكة ألماس تعدي النص مليون.. قايمتها باتنين مليون.. أصل عيلة جوزها ناس تقيلة زينا ”
مسح كريم على وجهه بنرفزة، أما مصطفى لم يهتم لما قاله رياض، و رد بثقة
” الفلوس مبتسعدش يا رياض بيه.. المهم الرضا..أنا عندي بنتي تكون سعيدة مع الشخص اللي هتشاركه حياته لو هتعيش معاه في أوضه على السطوح بس تكون راضية و مرتاحة ”
” وهي هترتاح ازاي إذا مكانش جوزها مقتدر ماديًا ؟ ”
” الأرزاق بيد الله.. اللي قادر يرزق الغني.. قادر يرزق الفقير.. الفلوس بتعمل كل حاجة إلا السعادة و راحة البال.. تقدر تشتري حياة إنسان بفلوسك لكن متقدرش تشتري سعادة حد.. مال قارون منفعهوش.. بس قناعة سيدنا عُمر بن الخطاب و رضاه كانوا سبب في تبشيره بالجنة رغم إن القميص اللي كان يلبسه و يتقطع، كان رضي الله عنه يخيطه و ميشتريش غيره و يتصدق بماله للمحتاج.. الفقر فقر القناعة و الأخلاق مش الفلوس يا رياض بيه.. الفلوس مبتعملش رجالة.. الرجالة اللي بتعمل الفلوس.. و أنا متساهل مع كريم في كل حاجة عشان عارف إنه راجل و بنى نفسه بنفسه.. عشان كده هديله بنتي و أنا مطمن..
اتسعت ابتسامة كريم و أشرق وجهه و بدأ قلبه بالخفقان متلهفًا لرؤية رُميساء، بينما والده تملك منه الخجل و لم يعرف بماذا يجيب.
” كده اتفقنا ؟ ”
تساءل كريم وهو يبتسم بسعادة، فهز مصطفى رأسه بموافقة وهو يبادله الابتسامة
” على خير إن شاء الله.. ربنا يسعدكم يا كريم ”
” مبروك يا حضرة الضابط ”
هتف بها عم رُميساء ببشاشة، فضحك كريم بخفة قائلا
” لأ حضرة الضابط ايه بقى.. اعتبروني واحد منكم.. ”
” ده يشرفنا والله يا كريم بيه ”
” أنا اللي اتشرفت و زدت شرف بيكم أقسم بالله.. هي فين ؟ ”
قالها كريم بنبرة طغت عليها الفرحة متسائلا بلهفة عن رُميساء، فمن شدة سعادته تحولت شخصيته القوية لطفل يستقبل أول ليالي العيد.. رد مصطفى بدهشة ثم انفجر ضاحكا بعد ذلك
” هي مين ؟ ”
استوعب كريم سؤاله الذي تسبب في شعوره بالخجل.. فقال محمحمًا
” لو حضرتك يعني يا عمي مش ممانع ممكن اقعد معاها شوية ؟ ”
أومأ مصطفى وهو لا يزال يضحك بخفة
” طيب هاخد رأيها.. بس الأول نخلص كل حاجة.. عاوزين نحدد يوم للخطوبة إن شاء الله ”
” أنا طالع مأمورية بعد بكره بإذن الله و هرجع الخميس.. نخليها الجمعة ماشي ! ”
” مفيش مشكلة.. حلو الجمعة.. طيب في نقطة نسيت اتكلم فيها ”
بدأ استياء والد كريم يزداد ظنًا بأن تلك العائلة بدأت تتكبر على ابنه عندما أدركوا شدة تمسكه بابنتهم.. قال بنفاذ صبر
” ايه تاني ؟ ”
بعد أن تفهمت عائلة رُميساء وضع والد كريم و أنه لا يريد لهذا الزواج أن يتم و قد أرغمه ابنه على المجيء، أصبحوا يتغاضون عن حديثه السيء لهم، و يركزون مع ما يقوله كريم؛ لأن كل شيء يسير حسب رأيه و قراره هو، أي أنه سيد نفسه.
قال مصطفى موجهًا حديثه لكريم
” إن شاء الله رُميساء هتكمل دراستها.. أنت عارف إنها داخلة لسه أولى كلية السنة الجاية.. يعني لما تيجي عندك متمنعهاش تكمل جامعتها ”
أومأ كريم بدون أدنى اعتراض
” أكيد هتكمل دراستها.. ايه رأي حضرتك نخلي الفرح بعد شهرين أو تلاته يعني قبل ما السنة الدراسية الجديدة تبدأ ؟ ”
ضحك شقيق مصطفى قائلا
” بلاش تستعجل يا كريم.. خدوا راحتكم في التعارف.. اعرفوا بعض كويس و إن شاء الله نحدد الفرح بعدين.. الأيام جايه كتير ”
” لا معلش نحدده دلوقت ”
همس رياض لنفسه بانزعاج من لهفة ابنه
” قِل من نفسك كمان قدامهم.. باينلهم إنك مدلوق أكتر ”
سمع كريم همهمات والده المنزعجة فضحك في خفوت، أما مصطفى اتخذ القرار قائلا
” احنا عندنا بنسيب شهر تعارف بيبقى خطوبة و بعد شهر بنكتب الكتاب.. كتب الكتاب بيقي من فتن كثيرة.. أظن أنت فاهمني ؟ ”
أومأ كريم بتفهم
” فاهم حضرتك
استكمل مصطفى حديثه
” أنا أقدر أجهز رُميساء في خلال شهرين تلاتة.. فا ايه رأيك نخلي الفرح بعد كتب الكتاب بتلت شهور ؟ ”
” أو سنة يا مصطفى.. يكونوا فهموا بعض كويس”
أردف بها شقيقه.. فود كريم أن يهشم رأسه ليرد سريعا
” لأ الفرح بعد شهر زي ما حضرتك قولت يا عمي ”
” بس أنا مقولتش بعد شهر يا كريم ! ”
” بجد ! ”
ضحك الجميع بما فيهم رياض ضحكة مصطنعة ليميل على كريم هامسا
” اشرب.. خليهم يقلوا منك.. ما أنت مدلوق هقول ايه ”
لم يجيب كريم و اكتفى بالضحك.. و انتهى الاتفاق أن يكون الزفاف في منتصف العام القادم.
خرج مصطفى مبتسم الثغر، متجهًا ناحية زوجته و بناته، بعد أن ألقى التحية على والدة كريم و جدته دون النظر اليهما..
أسرعت چيهان بسؤاله عن قلق
” خير يا أستاذ مصطفى ! ”
رد مصطفى وهو ينظر لابنته بسعادة
” كل خير إن شاء الله.. الخطوبة الجمعة الجاية ”
ارتفع الهرمون المسبب للتوتر لدى رُميساء، و أخذت أنفاسها تتخبط فور سماعها ذلك.. لم تستطيع قول أي شيء من شدة الخجل و التوتر، فقط تمسكت برداء والدتها بيد و اليد الأخرى ظلت تعبث في طرف الوسادة.
انهالت التهنئة على رُميساء من جدة كريم و والدته، و والدتها أيضًا و شقيقاتها، أما هي اكتفت بالابتسامة السعيدة المصحوبة بالاستحياء.. ثم تفاجئت بوالدها يسحبها بلطف من يدها قائلا
” تعالي يا سُكر حياتي ”
قبل أن تدخل غرفة الضيوف سحبت يدها من والدها لتهمس بتوتر
” أبتاه.. أنا حاسه إني داخلة امتحان.. أنا متوترة أوي ”
قال والدها وهو يربت على يدها بحنو يمنحها السكينة و الطمأنينة
” أنا معاكِ.. بابا معاكِ دايمًا ”
أخذت نفسًا عميق ثم دخلت معه وهي تنظر أرضًا بعد أن غطت وجهها بالنقاب، و أجلسها والدها بجانبه ثم توق كتفيها بحنان بالغ موجهًا حديثه لوالد كريم
” دي رُميساء أول فرحتي و قرة عيني ”
” ربنا يخليهالك.. بس هي مغطية وشها ليه ! هو في حد غريب هنا ؟ ده أنا هبقى حماها و زي أبوها و كريم خطيبها و دول أعمامها.. مفيش حد غريب يعني ”
رد مصطفى بذوق و أدب في الحديث
” الهاء في كلمة هبقى تدل على المستقبل و المستقبل في ايد ربنا.. الله أعلم هيحصل ايه.. فطالما لسه بنتي مبقتش زوجة ابن حضرتك فمينفعش تنكشف على حد غريب و حضرتك و كريم تعتبروا غرباء عنها.. و رُميساء مش هتكشف وشها قدام كريم غير لما يحصل نصيب بإذن الله و يكتبوا كتابهم.. لكن أنتم على راسي و أتشرف تبقوا عيلة بنتي التانية إن شاء الله ”
صمت عم للحظات على كريم و ووالده، فالأول انتابته الصدمة أنه لن يرى وجه من أسرت قلبه إلا عند الزواج، و الثاني بسبب ثقة مصطفى في نفسه وهو يتحدث معه بدون خوف ولا توتر، و لأن رياض يشغل مكانة مهمة بعمله في الداخلية كـ لواء و لا أحد سبق له و أن تحدث معه بتلك الجرأة و الثقة، ظن رياض في نفسه أن أمثال مصطفى من يطلقون اللحى من المفترض أن يهابون رجال الشرطة، و لكن حدث العكس.. يتحدث مصطفى مع رياض بكل أريحية دون أن يتملك منه ذرة خوف، فحديثه المهذب و الواثق أحرج رياض أكثر من مرة، و الأخير شعر بالغضب الشديد و الإهانة من هذا الحثالة في نظره.
تساءل رياض هازئًا
” يعني هو مشافش وشها لما جه قعد معاها ؟ ”
تلك المرة تدخل الأخ الأكبر لمصطفى و هو إمام مسجد و خطيب، عندما شعر بأن رياض يسخر منهم و من ابنة أخيه.. تحدث بالعربية الفصحى كما اعتاد الحديث بها عند مناقشة أي شخص و الخوض معه في حوار يخص مسألة الدين و الشريعة الإسلامية.. ليقول:
” يا رياض بيه، الخاطب أجنبي عن مخطوبته ، إلا أن الشرع أباح له إذا أراد خطبة امرأة أن ينظر إليها ، حتى يقدم على الأمر على بصيرة .. فإما أن تعجبه المرأة ويمضي في النكاح ، وإما أن يعدل إلى غيرها .. وله أن يكرر النظر حتى يجزم بالخطبة أو عدمها ، فإذا جزم بأحد الأمرين رجع الحكم إلى الأصل وهو تحريم النظر إليها ، لأنه لم يعد هناك سبب يبيحه ، حتى يعقد عليها وتكون زوجته.. يجب تطبيق كلام الله و سنته حتى تستقيم حياتنا ”
جز رياض على أسنانه بغيظ، و انتفخت أوداجه من الغضب و كاد أن يرد بكلام حاد لولا أن طُرق الباب في الوقت المناسب..
نهض مصطفى ليرى ماذا تريد زوجته، فتفاجئ بجدة كريم تخبره أنها تريد رياض في أمر ما بالخارج.. سمعها رياض و ذهب اليها بعد أن ألقى نظرة غاضبة تجاههم، تجاهلها شقيق مصطفى و قام قائلا لأخوته
” يلا احنا بقى.. سيبوا الشباب يقعدوا مع بعض شوية ”
سلم كريم عليهم و استأذنوا من أخيهم ثم غادروا المنزل، أما مصطفى جلس بجانب ابنته بضع دقائق يتحدث مع كريم بخفة و مرح؛ حتى يذهب التوتر و الرهبة من قلب ابنته، فقد شعرت رُميساء بالخوف من والد كريم و أحست أنه غير راضٍ عن تلك الزيجة.
عندما جلس رياض مع والدته و زوجته وحدهم.. قال وهو يتأفف ضجرًا
” أنا مش مرتاح للناس دي.. حاسسهم طماعين و هيجلدوا الولا.. الواد الوحيد اللي حيلتي بينضحك عليه و أنا قاعد ايد ورا و ايد قدام ”
نهرته والدته بصوت خافت
” و بعدين يا رياض !.. الناس شكلهم ولاد أصول و في قمة الذوق الاحترام.. هتبطل تقيس الناس بمناصبهم و فلوسهم امتى !.. سيب كريم يتجوز البنت اللي عاوزها.. سيب ابنك يفرح يا رياض و بلاش تكسر فرحته عشان ترضي رغباتك ”
لحظات و أقبلت عليهم شقيقة رُميساء الصغرى تحمل صينية بها أطباق كيك و حلويات متنوعة، فتاة باسمة الوجه في التاسعة من عمرها ترتدي فستانا لبعد الركبة ذو أكمام قصيرة، و تربط شعرها الذي مشطته لها والدتها كذيل الحصان بفيونكة رقيقة.. وضعت الصينية أمامهم ثم قالت بلهجة طفولية مرحة
” أنا ساعدت ماما في الكيكة.. و طلعت طعمها حلو أوي ”
ضحكت والدة كريم و جدته ثم أثنوا على فستانها الجميل و تسريحة الشعر مما انسجمت الصغيرة معهن و ظلت تروي كيف اختارت ذلك الفستان و متى اشترته، و هن يستمعن لها بابتسامة جميلة، بينما رياض ظل يناظرها بحنق و لا مبالاة لما تثرثر به.. قاطع ثرثرتها قائلا بفظاظة
” و أنتِ بقى ملبستيش البتاع الاسود ده أنتِ كمان ليه ؟؟ ”
رمشت الصغيرة بأهدابها غير متفهمة كلامه.. نظرت له زوجته بدهشة هامسة
” رياض دي طفلة أنت بتكلمها كده ليه ! ”
صححت الجدة الموقف فقالت مداعبة
” مقولتليش اسمك ايه ؟ ”
” تقوى ”
” الله.. اسمك جميل أوي.. عمو يقصد يسألك هتلبسي النقاب زي اخواتك اما تكبري ؟ ”
أومأت تقوى بفرحة
” ايوه.. عشان ادخل الجنة.. ماما قالتلي عشان تدخلي جنة ربنا الجميلة البس زي أمهات المؤمنين و أسمع كلام ربنا و سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ”
” عليه أفضل الصلاة و السلام.. الله يرضى عنك و عن أهلك يا بنتي ”
نادت أمها عليها فذهبت، أما جيهان التفت لابنها قائلة بصرامة
” دي طفلة متعرفش يعني ايه قسوة لسه.. تكلمها بالأسلوب ده !.. تعرف يا رياض يا بني. أنا مبسوطة والله إني كريم هيناسب ناس زي دول.. ربنا يتمملهم على خير و يبعد عنهم أي شر يارب ”
أمنت والدة كريم على دعائها.. استاء رياض كثيرا من عدم وقوف أحد بصفه و هذا زاد من ارادته في الثأر لكرامته و كرامة اسمه، ظل يتخيل نفسه وهو محط استهزاء زملاؤه إذا علموا أنه ابنه الوحيد سيتزوج من عائلة جميع رجالها يطلقون اللحى مثل الارهابيون و نسائها يشبهن الغربان.. هذا هو فكره العقيم مثله كمثل بعض القوم الذين ينظرون نظرة ازدراء لمن يطبقون سُنة الحبيب المصطفى، و العجيب أنهم مسلمون.. كيف يزعمون أنهم يؤمنون بالنبي محمد و يحبونه و لا يطبقون سُنته !.
توعد رياض لابنه العاصِ في نفسه قائلا
” ماشي يا كريم.. هسيبك تفرح الشهرين دول.. بس الجوازة دي مش هتحصل.. مش هسيبك تشوه سمعتنا و اسمنا.. كله بحسابه ”
***
ترك مصطفى رُميساء و كريم يجلسا وحدهما قليلا، و خرج ليقف في الشرفة المقابلة لهما بعد أن ترك باب الغرفة مفتوح.. و دعا رياض لمشاركته الجلوس؛ ليتحدث معه في محاولة للتقرب منه.
” لسه عارف من شوية إنك مينفعش ترفعي النقاب غير إما تكوني مراتي ”
قالها كريم بنبرة هادئة و كله سعادة، كأن الأحرف تخرج سكرية من حلقه.
هزت رُميساء رأسها بِلا رد.. تابع القول عندما استشعر خجلها
” احنا اتفقنا على ميعاد الفرح.. هيكون في أجازة نص السنة إن شاء الله ”
” ايـه !! أجازة نص السنة !!؟ ”
قالتها رُميساء بصدمة شديدة، مما تعجب كريم و تساءل
” ايوه.. عندك مشكلة في الميعاد و لا حاجة ؟ ”
عادت لتوترها لتقول بصوت يكاد يكون مسموع
” بس.. بس أنا مش عايزه اتجوز و أنا بدرس ”
خاف كريم أن تظن أنه ربما يمنعها من استكمال دراستها بعد الزواج.. فقال سريعا
“اطمني.. هتكملي دراستك معايا إن شاء الله.. و اوعدك إني أساعدك تتفوقي في الكلية اللي هتدخليها كمان.. هكون أول داعم ليكِ و مش همنعك تكملي تعليمك أبدًا”
رغم أن وعوده طمأنتها، لكن ليس هذا ما يقلقها.. خرجت من صمتها لتقول
” بصراحة.. أنا مش حابة استعجل خالص.. خصوصًا بعد ما حسيت إن والدك جاي معاك غصب عنه.. أنا.. أنا خايفة يا كريم ”
حزن كريم في نفسه من تصرفات والده الغير لائقة، ثم قال آسفًا
” متخافيش.. اطمني.. أنا عايزك تطمني يا رُميساء.. بصي.. أنا مبحبش الكدب و لا اللف و الدوران.. هجبلك من الأخر.. بابا فعلا مش موافق على الجوازة دي و جاي معايا غصب عنه.. هو ليه فِكر مختلف شوية عننا.. مش عاوزني ارتبط بمنتقبة.. هو لا بيحب المنتقبات ولا اللي مربيين دقونهم.. شايف إنهم كلهم وحشين بسبب اللي حصل في الفترة الأخيرة في مصر.. هياخد وقت على ما يغير فكرته دي و ده بعد ما يتعامل مع عيلتك الطيبة و مع والدك المحترم.. لكن سيبك من ده كله.. أنا عايزك تفهمي و تتأكدي إني شاريكِ و عاوزك.. أنا عايزك أنتِ اللي تشاركيني حياتي.. مش عاوز واحدة تانية غيرك.. عايزك أنتِ بس يا رُميساء ”
ابتسمت في نفسها بسعادة، و حمدت الله أنها ترتدي النقاب، لولاه لكان يتأمل وجهها المكتسي بحُمرة الخجل الآن.
قالت بخفوت
” يعني بجد اطمن ؟ ”
أومأ باسمًا
” اطمني ”
خيم الصمت للحظات، ليقطع هذا الصمت صوت كريم الرجولي يقول
” مش حابة تستفسري مني عن أي حاجة ؟ ”
فكرت لثوانِ و قالت مجرد جملة عابرة
” احكيلي عن حياتك ”
(حياتي بدأت من دلوقت لأنك أصبحتِ جزء منها)
قالها بنبرة دافئة عاطفية للغاية، مما جعلها تلوم نفسها في صمت أنها نطقت من الأساس.. لقد أعدت الكثير من الأسئلة المهمة له، و عندما جلست أمامه طار كل ما كان في رأسها.. تذكرت على الفور أهم سؤال
” بتصلي ؟ ”
” الحمدلله.. الصلاة عندي أهم حاجة في حياتي..”
” في المسجد ولا ؟ ”
“في مسجد اسمه العتيق جنب قسم الشرطة اللي أنا شغال فيه.. تقدري تخلي والدك يروح يسأل عليا هناك إذا كنت صادق في كلامي ولا لأ.. و جنب الڤيلا بتاعتنا مسجد اسمه نور الإسلام برضو خلي والدك يسأل الإمام بتاعه عليا.. أما حاليا بصلي في مسجد اسمه الرحمن بينه و بين العمارة اللي فيها الشقة بتاعتي حوالي ١٠٠ متر…دول التلت مساجد اللي صلاتي بتتوزع عليهم.. والدك أكيد يعرفهم..أنا آه مش متدين و لا ملتزم أوي بس حريص جدًا على صلاتي ربنا يديمها عليا نعمة ”
قالها بثقة، فأمنت رُميساء على دعائه و تساءلت
” طيب حافظ سور من القرآن ؟ ”
” بعض السور اللي بصلي بيها.. لكن مش حافظ سور كبيرة.. بس بحاول مهجرش القرآن.. يعني بقرأه بس مش باستمرار ”
” محاولتش قبل كده تحفظ القرآن ؟ ”
” الحقيقة لأ.. بس اتمنى احفظه ”
” هخليك تحفظه إن شاء الله ”
قالتها بعفوية شديدة، مما رد الأخر بابتسامة عريضة
” إن شاء الله ”
حاولت التحكم في نبرة صوتها الخجول، فغيرت مجرى الحديث متساءلة
” ايه هي هواياتك ؟ أو بتقضي وقت فراغك ازاي ؟ ”
تنهّد برَاحة قبل أن يجيب
” أنا بحب الرياضة جدًا.. يعني لما بكون فاضي بقضي معظم وقتي في الچيم أو الجري.. و بحب السباحة.. علفكرة أنا غطاس شاطر جدًا.. اتعلمت الغطس لما كنت في أوائل العشرينات.. وخدت شهادة معتمدة من الدولة..
اندمجت في الحديث معه، فقاطعته بتلقائية في الكلام
” يعني تعرف تنقذ أي حد بيغرق ؟ ”
” أنا أعرف أنقذ أي حد بيغرق إلا نفسي ”
” اشمعنا ؟ ”
“عشان غرقان في حُبك”
رمقته بدهشة، أما هو لم يستطيع تمالك نفسه من كثرة الضحك فقال
” كان نفسي أبقى شاعر بس محصلش نصيب ”
ردت رُميساء ضاحكة بخفة
” الحمدلله إنه محصلش نصيب ”
ضحك من قولها و عاد الصمت يخيم عليهما للحظات.. القاء الأسئلة تلك المرة أصبحت من نصيبه.. تساءل
” و أنتِ بقى بتحبي تعملي ايه وقت فراغك ؟ ”
أجابت
” بحب أطبخ و أتعلم وصفات طبخ جديدة و مختلفة أو ابتكر أنا من دماغي وصفات.. و بحب أعمل حلويات برضو”
” أنا أول راجل في حياتك صح ؟ ”
نظرت له للحظات بدهشة، ثم وجدت نفسها ترد بهمس
” أنا اتربيت على عدم الاختلاط.. أنت أول راجل غريب عني أقعد و اتكلم معاه ”
مال بجسده للأمام قليلا ليقول وهو يضغط على كل حرف يتفوه به، بعد أن تحولت ملامح وجهه للجمود، مردفًا بنبرة بدت حادة و خافتة تفاجئت بها رُميساء
” و آخر راجل هيدخل حياتك ”
ثم عاد لشخصيته التي كان عليها منذ قليلا ليقول بمرح
“قوليلي بقى نفسك تدخلي كلية ايه ؟ ”
شردت رُميساء للحظات في شخصيته التي تغيرت من حال لحال في ثوانِ، يستطيع أن يكون ذو شخصية قوية و قاسية و لطيفة في آنٍ واحد، شعرت بالحيرة من نبرة صوته التي بدا فيها حب التملك للأشياء التي يعجب بها، لكنها ليست شيء !
نفضت تلك الأفكار عنها و قالت لنفسها، ربما كان يمزح معها فقط ولا يقصد اخافتها بحِدته.
” رُميساء.. سرحتِ فين ؟ ”
” ها.. لا مفيش.. كنت بتقول ايه ؟ ”
” نفسك تدخلي كلية ايه ؟ ”
” والله أنا نفسي انجح.. الامتحانات السنة دي كانت صعبة و كل اما ميعاد النتيجة بيقرب ببقى مرعوبة ”
” ارمي حمولك على ربنا و متخافيش.. أنتِ شكلك من يهود الدفعة”
قال جملته الأخيرة بضحك ليجعلها تندمج معه ثانية، فقالت
” حرام عليك.. و الله في مواد محلتش فيها كويس ”
” متفكريش كتير.. أنتِ عملتي اللي عليكِ سيبي الباقي على ربنا بقى ”
” و نعم بالله ”
للمرة الثالثة يخيم الصمت عليهما، و كأنه ضيفهما الليلة.. سألته رُميساء سؤال عابر لتجبر نفسها على التأقلم عليه
” كل واحد فينا بيبقى ليه أُمنية في حياته نفسه يعيش لحد ما يحققها..
إيه هي أُمنيتَك ؟
” إني أكون أُمنيتِك ”
قالها بنظرة تحفها مشاعر الهوى و الإعجاب الصادقة، فأخفضت رأسها باستحياء.. لتتفاجئ به ينهض من مكانه و يتجه اليها ثم أخرج من جيبه علبة صغيرة قطيفة سوداء اللون و قدمها لها قائلا برّقة
” اتفضلي.. بس افتحيها بعد ما أمشي ”
أخذتها منه و نظرت لها لثوانِ باسمة ثم شكرته دون النظر اليه، أما هو عاد لمكانه قائلا
” ممكن أعرف رقم موبايلك بقى ؟ ”
أجابت بنفي شديد و ارتباك
” لأ مينفعش.. بابا قالي متديش رقمك لحد متعرفوش ”
” ايوه الكلام ده لو حد من الشارع.. أما أنا خطيبك ”
” هو أنت عشان اتقدمتلي يبقى خلاص !.. لا طبعًا مش ممكن.. افرض كنت بتتسلى ؟ ”
” بتسلى !! ”
تلعثمت رُميساء و قالت
” معرفش.. هما بيقولوا كده ”
” هما مين !؟ ”
” أقصد لما واحد بيسأل واحدة عن رقمها.. بتقوله كده.. صح ؟ ”
” هو أنتِ حافظة مش فاهمة ! ”
قالها كريم وهو يضحك عليها بخفة.. تابع
” خلاص أنا هبقى أخده من والدك ”
نهضت بتوتر و احراج لتخرج قائلة
” أنا همشي بقى.. ماشي.. سلام ”
” سلام ”
أجابها وهو يتابعها بنظراته ولا زال يبتسم ملء شدقيه حتى خرجت.
_____________♡
قال الرّافعي فِي الشّوق: “هو حبلٌ من الحنين التفّ حول القلب، فكُلّما نبض القلب نبضةً.. كُلّما اشتدّ حبل الحنين على القلب و ضاق عليه.”
*******
تحركت سيارة مُصطفى، يركب بجانبه ابن أخيه “بدر” يتجهان نحو مطار القاهرة الدولي لاستقبال زياد و هاجر..
مال بدر برأسه للوراء مستندًا على الكرسي، حاضر جسديًا و مُغيب ذهنيًا، لا يزال هذا العاشق المجنون يشتاق لحبيبة قلبه و ضلعه الأعوج الذي كسره بغبائه و تهوره.
” جننتيني يا عائش ”
“بتقول حاجة يا بدر ؟ ”
“ها !.. لا ياعمي لأ.. مفيش حاجة”
يبدو أن من كثرة اشتياقه لعائشة، أصبح يهذي بالكلمات كالثمل لا يدري ماذا يقول.. أخرج هاتفه ليتصفحه قليلا حتى يصل للمطار، يفعل أي شيء قد يلهيه عن حنينه لها، كما أخبره الشيخ عمار عليه أن يلهي نفسه بأي شيء مفيد؛ لئلا يعتصر قلبه من الحزن و الشوق.
تسللت أصابعه لتطبيق “الفيس بوك” فانتبهت عيناه أنها ازالت العلاقة بينهما، ضغط على قائمة الأصدقاء ليجدها لا زالت عنده، فتبسم تلقائيًا ثم دخل صفحتها و راح يبحث عن أي صور لها كانت قد نشرتها سابقًا، فلقد أمرها عندما تزوجها أن تحذف كل صورها من الفيس بوك و الانستغرام، و بالفعل استجابت له، و لكن ما جعله يبتسم بسعادة هكذا أنها لم تعاند مثلما كانت تفعل في السابق و تنشر صورها ثانية، لم تفعل عائشة ذلك، لقد مرّ خمسة عشر يومًا على انفصالهما و لم تقوم بنشر صورة واحدة لها؛ لأنها تعلم أن ذلك الفعل سيتفزه كثيرًا، لكنها لم تفعل.
“هل لا زالت تحبه ؟”
طرح هذا السؤال قلبه على عقله، فكانت إجابة العقل ” لا تفكر بقلبك كثيرًا، لا تجعل العاطفة تغلبك يا بدر، عائشة أصبحت من الماضي و أنت كسرت قلبها، لا تنتظر منها ولو القليل من الحُب”
أخذ نفسًا عميقًا و أخرجه بحُرقة و بألم، ثم أغمض عينيه تاركًا العنان لـ” اللوزة” وهي الجزء المسؤول عن توضيح الذاكرة العاطفية، باسترجاع الذكريات المرتبطة بالعاطفة و الحنين للماضي.
ألقى عمه نظرة عليه فبدا له أنه نائم، و لكن في الحقيقة صاحبنا مشغول بذكرياته مع عائشة.
توقف مصطفى بالسيارة أمام مقهى و قام بهز بدر من كتفه، ليفتح الأخر عينيه بصمت.. قال عمه
” تعالى نستريح شوية و نشرب قهوة ولا شاي ”
نظر بدر تجاه المقهى بلا مبالاة ليقول
” لأ.. أنا هستنى في العربية ”
” تعالى يا جدع انزل بلاش كسل ”
” متضغطش عليا يا عمي بالله عليك.. روح أنت.. أنا هغمض عيني شوية عشان منمتش كويس امبارح ”
نزل عمه من السيارة وهو يقول
” طيب براحتك.. تشرب ايه طيب.. أجبهولك تشربه هنا ؟ ”
” مليش نفس والله لحاجة ”
تركه عمه و ذهب ليطلب من النادل قهوة مُعلبة ثم أخذها و جاء ليعطيها لبدر قائلا
” اشربها عشان تفوقك شوية كده ”
اخذ بدر القهوة و هو يضحك بخفة
” يعني اقولك هنام شوية تروح تجبلي قهوة !!
” عشان أنت اللي هتكمل باقي الطريق سواقة ”
قالها عمه بمداعبة ثم تركه و عاد للمقهى، أما بدر ارتشف القليل من القهوة التي أعجبه مذاقها جدًا، فأخذ يستمتع بشُربها وهو يتصفح هاتفه…فتح تطبيق الواتساب و فتح الشات الخاص به و بعائشة فوجدها “متصل الآن ” وضع القهوة من يده فورًا، و تسارعت دقات قلبه بعنف..
****
جلست عائشة في غرفتها المتواضعة ببيت جدتها، بعد أن أخبرتها بحاجتها للنوم بسبب الصداع الذي انتابها فجأة، و في الحقيقة تحججت بذلك لتبقى وحدها قليلا تسترجع ذكرياتها مع بدر الذي اشتاق له قلبها كثيرًا.. بعد أن انتهت من مشاهدة صورهما سويًا للمرة الألف تقريبًا، فتحت الشات الخاص بهما و كانت آخر رسالة مُرسلة منها تحتوي على ملصق القلب، في ذلك اليوم قد طلبت عائشة منه شراء بعض التسالي لتأكلها وهي تذاكر مثل الشيبسي و غيره و كان وقتها يعمل بالورشة، فرد عليها برسالة يقول فيها
” أنتِ تؤمري يا مهجة فؤادي ”
دق قلبها بحُب و نمت ابتسامة عاشقة مشتاقة على شفتاها، و أخذت تقلب في باقي المحادثة، حتى انتبهت لظهوره متصل الآن !
شعرت بدقات قلبها تتسارع ، فحاولت تهدئة نفسها.. تركت الهاتف بجانبها و ظلت تحاول التنفس بهدوء حتى نجحت في انتظام أنفاسها.. أخذت الهاتف و ظلت تُحدق في صورته تارة و في كلمة ” متصل” تارة أخرى، و قلبها يخبرها بأن تحادثه، لقد اشتاقت حد الجنون و لم يعد باليد حيلة.. ظلت تتأمل بشوق و دموع اسمه طويلًا، و كأنها تنتظر منه أن يحادثها.
****
استطاع بدر التحكم في دقات قلبه و روضّ رئتيه لجعلها تمارس وظيفتها بهدوء و بدون توتر، و ظل يحدق في الشات بدون أي تفكير، مرت دقيقة وهو على حالته تلك، حتى عاد من شروده و بلغ الشوق أعلى ذروته، فوجد نفسه يكتب لها
” وحشتيني ”
****
لم تستطيع عائشة ضبط نفسها أكثر من ذلك و خانتها أصابعها لتكتب له ” وحشتني ”
وقبل أن تضغط على كلمة إرسال، مسحتها فورًا و أغمضت عيناها تسب نفسها على غبائها في صمت.
***
تراجع بدر في آخر لحظة و حذف الأحرف في الحال محتفظًا بشوقه في قلبه، و ظل يلوم نفسه على ضعفه و تهوره.
مسح على شعره بنرفزة مستعينًا بالله يترجاه أن يلهمه الصبر و القوة على التخطي و النسيان..جاء عمه و تبدلت الأماكن، فقاد بدر هو السيارة باتجاه المطار.
______
لم تقدر عائشة على قلبها المشتاق لابن عمها، و سالت منها العبرات التي توحي بفقدان شخص في غاية الأهمية.. معذور قلبها المسكين كيف ينسى من غمره حُبًا و احتواءًا ؟
أخذت قميصه و احتضنته ليبرد نار قلبها كلما ازداد حنينًا له.. دقائق و طرقت جدتها الباب بخفة، فأخفت عائشة القميص في الحال و تصنعت النوم.. دلفت الجدة بهدوء و اطمأنت عليها ثم قبْلتها من رأسها و مسدت على شعرها بحنان و خرجت بهدوء كما دخلت.. فتحت عائشة عينيها و تبسمت بخفة داعية الله أن يطيل عُمر جدتها و يبارك فيها، فلولاها لكانت الآن وحيدة تائهة في عالم مفترس لا يرحم أحد.
____________♡
‏”الدعم النفسي في الأوقات الصعبة لا يُنسى، لا يُنسى أبدًا.”
الساعة الثانية صباحًا بعد منتصف الليل، و صاحب الحس الفكاهي يفتح باب البيت ببطء شديد، و هو يحمل حذائه في يده و يتسحب بحذر، و عيناه تتفحص الصالة الواسعة بخوف.. شهق بفزع عندما تفاجئ بوالده يظهر أمامه و بيده حزام يحركه في الهواء بشراسة استعدادًا لمعركة دموية..
ابتلع قصي ريقه قائلا و عينيه مُصَوِّبة على الحزام
” هو حضرتك بتحب السادية ! أنت سادي يا بابا !! مش بترتاح غير لما تشوف دم قدامك !!”
صاح والده بصوت أرعبه و أيقظ الجميع
” ليـك عين تتكلـم يا صـايع يا بتاع النسوان !! كنت فيــن يـــالاه ؟؟؟ ”
رد قصي بثقة مزيفة
” هو عشان اتأخرت برا شوية يبقى كنت مع نسوان ! ”
” اومال يا روح أمك كنت بتنيل ايه للساعة اتنين بالليل !! كنت بتوزع صدقة !؟ ”
” عادي يا بابا.. كنت مع صحابي ”
” صحابك !! في واحد محترم يفضل برا البيت لحد الفجر ؟؟ ”
قالها والده بنبرة استهزاء، مما أشعل غيظ و عناد قصي فأجاب وهو يزفر بضيق
“مش هنخلص بقى.. اطلع شوف الشارع.. الناس كلها سهرانة.. احنا في الصيف.. محدش بينام بدري غيركم.. مفكرين نفسكم فراخ بيضة”
” أنت جايب البجاحة دي منين !! مفيش حد من اخواتك عمره رد عليا ولا طلع بجح زيك كده ! ”
قالها وهو يرفع الحزام و يهم ليضربه، و لكن خروج أُبَيّ في تلك اللحظة هو ما أنقذ الموقف.. وقف أُبَيّ حائلا بين والده و شقيقه، قائلا لوالده بلين
” بابا لو سمحت اهدى ”
ثم استدار لقصي و قال بلهجة آمرة
“قُصي.. ادخل اوضتك”
صاح مجاهد معترضًا
” هو ايه اللي يدخل اوضته !! خد يالاه تعالى هنا.. أنا لسه مخلصتش كلامي.. و أنت يا أُبَيّ لو سمحت متدخلش ”
غضب أُبَيّ بشدة لإهانة والده له أمام أشقائه الذين يصغرونه سنًا و أمام والدته، لطالما قلل والده من شأنه كلما تدخل في أي موقف يحدث في البيت.. يتعمد مجاهد الغاء شخصية أُبَيّ ليثبت لهم أنه المسيطر و سيد هذا المنزل.. كعادة أُبَيّ عندما يغضب أو يتوتر تخرج الكلمات منه متقطعة.. هتف بتلعثم
” يعني.. يعني ايه.. مـ… مدخلش !! .. اتـ.. اتكلم.. مـ.. معاه براحة.. غـ.. غلط.. أسـ.. أسـ.. أسلوبك.. ده.. كـ.. كـ
قاطعه والده بتعصب
” أنت لسه هتهته.. اوعى من وشي أنت كمان.. الحكاية مش نقصاك ”
صمت خيم على الجميع، الأم التي وقفت مكتوفة الأيدي تخاف أن تنطق في وجود زوجها، و بنفس الوقت تتألم لأجل أولادها، بالأخص عندما أهان مجاهد ” أُبَيّ ” اتسعت عيناها بصدمة و راحت تنظر لولدها المسكين الذي أخفض رأسه في الحال، يحاول اخفاء دموع الطفل التي تجمعت بعيونه الطاهرة، بينما ملك ادمعت عيناها تعاطفًا مع أُبَيّ، و تجرأت شهد الصغيرة و اندفعت لتحضنه كأنها تواسيه بطفولتها البريئة، و تخبره أنها معه فلا يحزن.. كان الجميع في حالة صدمة من اهانة الأب لإبنه الذي ولأول مرة يعيره بشيء خارج إرادته وهو المتسبب فيه..
تملك الغضب من قُصي عندما وجد شقيقه يقف منكسرًا هكذا، نسى أنه يحادث والده و قال بقلة حياء و بنبرة منزعجة
” بذمتك أنت شايف نفسك أب سوي ؟ ”
لم يشعر مجاهد بنفسه إلا وهو يرفع الحزام و يهوي به على جسد قصي، لم يتزحزح قصي إنشًا واحدًا و طبع الحزام علامة حمراء على كتفه دون أن يتأوه أو يظهر آثار الألم على وجهه، بل ظل واقفًا كالصنم ينظر لوالده بجفاء و برود، ثم سحب الحزام منه و ألقاه بعيدًا قائلًا بسخرية يشوبها الحُرقة و الغيظ
” أنا أقدر علفكرة أدافع عن نفسي.. بس بسيبك تضربني عشان محسسكش إنك كبرت و عجزت و متقدرش تعمل حاجة.. اللي يوجع مش الضرب.. لأ.. اللي يوجع الكلام السم اللي بتقوله..
صمت لثوانِ ينظر لوالده بكراهية.. أردف
” انسى.. مش هيحصل و مش هسيبك تمد ايدك عليا تاني.. و ايه رأيك بقى إني هطلع و هسهر و هصيع براحتي.. و اقولك على حاجة كمان.. أنا ابن عاق.. اسمع مني.. أنا ابن عاق و اتبري مني عادي زي ما أنت عايز.. كده كده معدتش فارقة.. أنت عمرك ما كُنت حنين عليا عشان كده أنا معرفش يعني ايه برّ الوالدين ”
” اطلع برا.. برا بيتي.. أنت لا ابني ولا يشرفني تكون ابني ”
قالها مجاهد وهو في قمة غضبه من قصي و تطاوله عليه.. تبسم قصي بسخرية قائلا
” عادي برضو.. مش فارقة.. خد بالك.. أنا همشي من البيت.. قصدي من بيتك.. بس لو شميت خبر إنك قللت من أُبَيّ تاني.. أقسم بالله هنسى إنك أبويا أصلًا ”
” بــرا يا كلب.. بـــــرآ”
وزع قُصي نظرات كلها شَنَاءَة على والده من رأسه لأخمص قدميه، بعد أن اشتدت العَداوَة بينهما، ثم خرج و صفق الباب وراءه بقوة استفزت مُجاهد؛ مما صرخ مُغَاضِبًا
” في ستيــن داهيـــــة”
لم تستطيع الأم الصمود أمام طرد فلذة كبدها، فَـهمت بالخروج وراءه، و لكن مُجاهد استوقفها بلهجة قاسية
” لو طلعتي وراه تبقي طالق ”
استدارت لتقول باكية بمرارة
” حرام عليك.. حرام عليك اللي بتعمله في العيال ده ”
صرخ بها بحَنَقَ
” حرام عليا أنا !!.. ده بدل ما تقولي الكلام ده لإبنك قليل الرباية اللي مش لاقي حد يحكمه.. جايه تحاسبيني أنا !! ”
تركهم أُبَيّ يتشاجران سويًا، و خرج خلف أخيه يلحق به قبل أن يذهب.. ناداه والده، فلم يستمع له و قال قبل أن يخرج
” لو أخويا هيمشي أنا كمان همشي ”
رد والده بصراخ عندما نفذ صبره
” في داهية تاخدك أنت و هو ”
لحق أُبَيّ بشقيقه قبل أن يخرج من بوابة المنزل الملحقة بالحديقة الأمامية.. جذبه من ذراعه قائلا بنبرة حنونة
” مش هتمشي يا قُصي ”
توقف قصي ليقول بنبرة مهزوزة وهو على وشك البكاء، فهذا الموقف لا يُحسد عليه البَتَّةَ.
” أبوك مش عايزني.. هقعد غصب عنه !؟ ”
شده أُبَيّ من رقبته بخفة، ليعانقه بقوة و بحرارة، و رغمًا عن قصي نزلت الدموع من عينيه و صعبت عليه نفسه، فبكى في حضن أخيه وهو يضم نفسه اليه بقلة حيلة و ضعف كالتائه الذي يعود للبيت بعد غياب طويل و حياة مُتهتِّكة، فأخذ أُبَيّ يمسد على ظهره بحنان حتى نجح في تهدئته.. ليقول وهو يمسح لأخيه دموعه
” حقك عليا أنا.. بابا كبر و مبقاش ياخد باله من الكلام.. عشان خاطري متزعلش منه”
رد قصي بحزن
” هو كل مرة هيقل مني و يعاملني بالأسلوب ده يا أُبَيّ و تقول معلش أصله كبر !.. هو على عيني و راسي بس أنا مبقتش صغير للمعاملة دي.. من صغره وهو بيضربني على أي غلطة عملتها.. مبيتفاهمش.. و أنت شاهد و عارف هو كان و مازال بيعاملني ازاي ”
” لازم نستحمل.. ده أبونا مش حد غريب ”
قاطعه قصي بغضب
” المشكلة أنه أبونا.. المشكلة أنه أبونا يا أُبَيّ.. اللي المفروض يبقى أكتر حد بيدعمنا و يقف جنبنا.. لأ داخل طالع يسمعنا كلام زي السم.. ده أنا لو ابن حرام مش هيعاملني كده !! ”
رد أُبَيّ بعقلانية و بهدوء
” هي دي طريقته في الحُب للأسف.. هو شايف إنه كده بيحبنا و بيخاف علينا.. أيًا كانت طريقته عامله ازاي.. لازم نحترمها.. متنساش انه تعب كتير عشانا و عرض حياته للخطر أكتر من مرة عشان احنا نعيش ”
ازداد تعصب قُصي و زفر بضيق قائلا
“أنت متأكد من كلامك ده !! أُبَيّ.. أنت بتضحك عليا ولا على نفسك ! أنت أكتر واحد عنيت منه.. أنت بسببه بقيت انطوائي.. التلعثم اللي عندك هو السبب فيه.. أنت مكنتش كده و أنت صغير.. هو السبب في اللي أنت فيه دلوقت.. بلاش تضحك على نفسك أكتر من كده”
صمت أُبَيّ للحظات لا يدرِ بماذا يجيب، فما يقوله شقيقه صحيح، و لكن ماذا يفعل حيال والده !
أيذهب و يقتص منه ما فعله به طيلة سنواته الماضية ؟ بالطبع لا.. هذا والده، مهما حدث يبقى والده، لن يستطيع الثأر لنفسه ولا لكرامته؛ لذلك يبقى صامتًا عندما يُهان، حتى عندما يوجهوا له أشخاص أخرون اهانات لا يستطيع المدافعة عن نفسه؛ لأنه تعود ملازمة الصمت.
خرج عن صمته ليقول بأسف
” ايوه هو السبب في اللي أنا فيه.. بس مقدرش أعمل حاجة.. لأنه ببساطة أبويا ”
” و هتفضل كده لحد امتى مش قادر تدافع عن نفسك ؟ ”
تنهّد أُبَيّ بحزن قبل أن يقول
” أنا بعرف أدافع عن نفسي يا قُصي و بعرف أرد، بس بخاف أجرحهم.. بخاف على مشاعرهم أكتر مني.. بخاف أنام وفي حد زعلان مني حتى لو غلطان في حقي.. تعرف يا قُصي.. كان نفسي أتحب نص الحب إللي بديه لأي حد بحبه.”
“أنا بحبك و هفضل جنبك علطول أدافع عنك في أي وقت.. أنا سندك و أنت أخويا اللي عوضتني حنان الأب”
قالها قصي وهو يعود ليحتضن شقيقه، و الأخر يبادله الحُضن بحب أخوي صادق يستمد منه القوة و الصبر، و كأنه يواسي نفسه على ما تعرضت من اهانات و مذلة.
في تلك اللحظة، خرجت أمهما تنتحب و رفعت صوتها بالبُكاء والتَّفجُّع والصِّياح
” أبوكم مبيتحركش.. أبوكم مبيردش عليا ”
_____________
أصعب شعور يمكن أن يقتل المرء، أن يغلبه الشوق و لا يستطيع البوح. ” نرمينا”
****
في صالون متواضع، تجلس روان بحزن خيم على ملامحها، وفي المقابل يجلس ” مالك ” ابن عمتها باسم الثغر مصوب الأعين عليها.. تحدث هو عندما وجدها صامتة معظم الوقت
” روان !.. مبتتكلميش ليه ؟ ”
رفعت رأسها لتناظره بلا مبالاة
” هتكلم أقول ايه ؟.. دي قعدة تعارف و أنا عارفاك مش محتاجين نتعرف من أول و جديد.. هتكلم أقول ايه بقى ! ”
احرجه قولها، فقال بابتسامة مزيفة
“يعني.. لو حابة تسأليني في أي حاجة.. سؤال شخصي مثلًا”
” مبحبش أدخل في خصوصيات حد ”
دهش من كلامها الجامد و الذي بدا عليه من نبرة صوتها أنه غير مرحب به أبدًا.. بدأ الخجل يظهر عليه، حاول التغاضي و قال
” روان.. كلميني بصراحة.. أنتِ مغصوبة على القعدة دي ؟ ”
” أنا محدش يقدر يغصبني على حاجة ”
” اومال مالك شكلك مش فرحان يعني ”
” و الدنيا فيها ايه يفرح ! ”
عقد حاجبه بدهشة من ردودها الساخرة، حاول ارضائها و فهم ما يدور بعقلها.. تسائل
” أنتِ في حد في حياتك ؟ ”
“لسه مجاش اللي يستاهل يبقى في حياة روان”
قالتها وهي تنظر له بحدة و بثقة لازمتها عند جلوسها معه، و في نفس الوقت لامت نفسها في صمت على حدتها في الحديث معه وهو غير مذنب ولم يفعل لها شيء.. همس لها قلبها
“هل حقًا لم يأتي بعد ؟ أنسيتِ سيف ؟”
تنهّدت بغضب لتحدث نفسها بصوت غير مسموع
” اهدي يا روان كده.. أنهي معاه الحوار من غير ما غير ما تزعليه.. هو ملهوش دعوة بالكركبة اللي في دماغك دي.. و أنت يا عم القلب بطل تجيب سيرة سيف كل شوية و تشتتني ”
” علي صوتك.. بتقولي حاجة ؟ ”
” آه بقول حاجة بس لنفسي.. ايه.. عيب اتكلم مع نفسي شوية !! ”
قالتها بنبرة حادة بعد أن فشلت في التحدث بهدوء معه.. ضحك مالك و قال
” عارفة يا روان.. أنا مش مستغرب من جنانك ده.. من صغرك و أنتِ مجنونة ”
” مجنونة ازاي يعني !! ”
صحح سريعًا..
” مش قصدي.. المغزى من كلامي إن دمك خفيف و مبتفشليش إنك تضحكيني ”
” مبفشلش إن أضحكك !! ليه أنا أراجوز !؟ ”
ضحك بخفة دون أن يجيب و ظل ينظر لها باعجاب، فأخفضت رأسها باحراج و قالت
” اشمعنا أنا اللي عاوز تتجوزها يا مالك ؟ رغم إن طول عمرنا بنعامل بعض زي الاخوات.. يعني عمري ما فكرت إنك في يوم تتقدملي ”
رد بصدق
” بصراحة كده.. أنا معجب بيكِ و بشخصيتك.. و من زمان و أنا معجب بيكِ.. من قبل ما تتحجبي كمان ”
صمتت للحظات تفكر في أمرها و ماذا تفعل لتخرج من هذا المأزق.. شعرا و كأنها تحمل هم الكون كله فوق قلبها.. أخذت نفسًا عميق و قررت التحدث معه بصراحة.. فقالت
” بص يا مالك.. أنت إنسان كويس.. و فيك ميزات كتير حلوة.. ميزات مكسب لأي بنت.. بس أنا مش حابة ارتبط دلوقت.. أنا عندي أهداف لازم أوصلها و أحققها الأول.. عندي طموح بسعى ليها من دلوقت.. أما بالنسبة للارتباط.. فده بعيد كل البُعد تمامًا عن حياتي حاليًا.. لأني قررت أحقق أحلامي الأول و بعد كده أكون بيت و أسرة..
قاطعها بلُطف
” أنا أقدر أكون معاكِ من دلوقت و أساعدك تحققي كل اللي نفسك فيه
تنهّدت بتمهل ثم قالت
” أنا لسه مكملتش كلامي علفكرة.. يوم ما هقرر اتجوز و يبقى عندي أسرة و بيت، مش هتجوز غير واحد بحبه.. أنا دي وجهة نظري في الزواج.. لازم يكون قائم على حُب.. غيري يقول إن الحب مش أساس كل شيء و في حجات أهم.. كل واحد ورأيه.. بس بجد أنا مش هرتبط غير بواحد يكون قلبي رايده و متعلق بيه.. أصل أنا هعيش العمر مرة واحدة.. فليه مستمتعش بكل لحظة في حياتي مع شخص بحبه !.. و عشان أكون واضحة و متفهمش غلط.. مش معنى إني بقول هتجوز عن حُب يبقى أنا عارفة واحد و ماشية معاه وكده.. لأ.. الحُب مش حرام طالما مش هيغضب ربنا.. و أنا معنديش استعداد أغضب ربنا.. بس دلوقت أنا رافضة الارتباط عشان زي ما قولتلك حابة أحقق أهدافي الأول.. و أنت شخص محترم و كويس و أكيد ربنا هيرزقك بواحدة شبهك.. لكن احنا مش شبه بعض يا مالك.. أنا آسفة
صمت مالك للحظات يفكر في كلامها.. هز رأسه بتفهم قائلا
” ولما أنتِ شايفه إننا مش شبه بعض و مننفعش لبعض.. وافقتي تقعدي معايا ليه ؟ ”
ردت بهدوء
” عشان مينفعش أرفضك من الباب للطاق كده.. لو كنت رفضتك من غير ما اقعد معاك و افهمك على كل حاجة.. كنت هتفضل تسأل نفسك هي رفضتني ليه ؟ يمكن بتحب حد أو أنا مش عاجبها.. أو.. أو.. و دماغك هتفضل تودي و تجيب.. فعشان أوفر عليك المعاناة.. وافقت أقعد معاك ”
هز رأسه بحزن بدا عليه قليلا، و لاحظته روان لكنها لم تبالي.. قال بيأس
” ماشي يا روان.. و أنا هحترم رغبتك و مش هضغط عليكِ.. مع إني كنت أتمنى تبقي شريكة حياتي ”
” معلش.. ربنا يرزقك باللي أحسن مني ”
قالتها بملامح متأثرة و لكن مصطنعة.. تابعت بنبرة محرجة
” مالك.. ممكن اطلب منك طلب.. كأخوات وكده يعني ؟ ”
تبسم بسخرية من جملتها الأخيرة
“اتفضلي”
” ممكن متقولش لبابا الكلام اللي قولته ده.. و أنا لما يسألني هقوله صليت استخارة و مرتاحتش ”
نظر لها ضاحكًا بقلة حيلة ليقول
” ملكيش حل.. طول عمرك تعرفي تخرجي نفسك من أي حاجة زي الشعرة من العجينة ”
” تسلم يا باشا.. القرايب لبعضهم وقت الشدة برضوا ”
قالتها وهي تشاركه الضحك، في تلك الاثناء دخل والدها و عندما وجد الضحك هو سيد الجلسة، انفرجت اساريره و ظن أن كيمياء الحُب اشتعلت بينهما.. فقال مازحًا
” ها.. نقول مبروك ؟ ”
نظرا الاثنان لبعضهما ثم انخرطا في الضحك ليقول مالك
” هو في أخ بيتجوز أخته برضوا ؟ ”
رمقه خاله بعدم فهم.. هتفت روان ضاحكة وهي تضرب كتف والدها بخفة
” اسكت.. مش طلعنا راضعين على بعض ”
وزع حافظ النظرات عليهما بدهشة ليقول
” أنا مش فاهم حاجة ”
” مش مهم تفهم.. المهم تعرف إن جواز روان من مالك
نطق الاثنان ” روان و مالك ” سويًا و بنبرة مضحكة
” بـــاطل ”
_____________
هبطت الطائرة القادمة من السعودية في المطار، و نزل منها الركاب من بينهم زياد يصطحب وردته الرقيقة في يده و الابتسامة الرائعة تزين ملامحهم.. عندما وقعت عين هاجر على شقيقها يقف بالقرب قليلا يبحث بعينيه هنا وهناك عنهما، تركت حقيبة السفر التي كانت تجرها و ركضت بفرحة عارمة نحوه فانتبه لها بدر و أخذها في أحضانه وهو يقول بسعادة متناسيًا همه
” وحشتيني يا قلب أخوكِ.. وحشتيني أوي ”
” و أنت كمان وحشتني أوي والله ”
زفر زياد بضيق وهو يتابع المشهد عن قرب، ثم انحنى ليأخذ الحقيبة التي تركتها هاجر، و جرّ خلفه حقيبتي السفر وهو يقول بغيرة عمياء
” أنا عارف إني غيرتي أوفر بس و ربنا ما قادر.. ادعي عليك بايه بس يا بدر ياابن عمي ”
أنزل بدر شقيقته من حضنه، ليعانق زياد بشدة و الآخر تناسى غيرته و بادله العناق بـوِد قائلا
” وحشتني يا بدر”
” و أنت كمان وحشتني يا زياد ”
ثم سلم على والده و عانقه، و سلمت هاجر على عمها.. ليركبوا السيارة بعد ذلك عائدين للحارة.
__________
دق قلب الشقيقان بخوف و تبادلا النظرات بهلع على والدهما، ثم هرول كلاهما سريعًا للداخل، ليجدوا “مُجاهد” متسطح على الأرض و رأسه على ذراع زوجته و من حوله بناته يبكون..
بعد أن طرد مجاهد “قصي” و خرج وراءه أُبَيّ.. شعر بخسارته لأبناءه و جبال عُمره الذي يستند عليهم، فانتابه فجأة ألم في الصدر يشبه الإحساس بضغط و ضيق في التنفس.. و انتشر الحزن بسرعة البرق في جسده حتى نال منه، و سمع صوت قلبه يتمزق من شدة الألم و الحزن، فوقع أرضًا على الفور.
” اتـ.. اتـ.. اتصل بالإسعاف.. يا.. يا قُصي”
لم يكمل أُبَيّ الجملة وكان قُصي بالفعل يهاتف الإسعاف.. ظل أُبَيّ ينادي على والده و يهزه بمحاولات باءت جميعها بالفشل في ارجاع الوعي له..
من شدة توتر قصي وقع الهاتف من يده قبل أن يضغط على الاتصال.. قالت والدتهما وهي تبكي بخوف
” مش لازم الاسعاف.. مش لسه هنستنى.. خدوا أبوكم المستشفى.. يلا بسرعة ”
حمل أُبَيّ والده بمساعدة أخيه، ثم وضعوه برفق في السيارة.. ظل أُبَيّ بالخلف يضع رأس والده على فخذه و قصي يقود السيارة بسرعة شديدة، أما الأم بقت مع بناتها في المنزل، لم تستطيع ترك الفتاتان وحدهما في هذا الوقت المتأخر من الليل و الذهاب، و للأسف لم يكن مصطفى شقيق زوجها موجود ولا حتى بدر، لأنهما ذهبا لاستقبال “زياد و هاجر ”
توقفت السيارة أمام المشفى، و نزل قصي سريعا يساند أخيه في حمل والدهما، ثم وضعوه على ترولي نقل المرضى.. جاء الطبيب و مساعديه في الحال ليقوم باجراء الفحص الطبي له، بينما الشقيقان امتلأت أعينهم الزرقاء بالدمع حتى فاضت منها و ظلا كلاهما يجوبان ممر المشفى ذهابًا و إيابًا..
في الداخل عندما وجد الطبيب أن مجاهد لا يتنفس ولا يوجد له نبض.. بدأ بإجراء الإنعاش القلبي الرئوي، حتى نجح بفضل الله و فاق مجاهد بعد عدة محاولات.. وضع له الطبيب جهاز التنفس الصناعي حتى تنتظم أنفاسه، ثم خرج و طمأن أولاده قائلا
” الحمدلله.. حالته كويسه دلوقت بس حطيته على جهاز التنفس الصناعي لحد ما يقدر يتنفس كويس لوحده ”
تساءل قصي بلهفة و بخوف
” هو ايه اللي حصل.. يعني ماله..؟؟ ”
رد الطبيب بهدوء
” والدك جاتله نوبة قلبية مفاجئة و ده بسبب انخفاض ضغط الدم المتدفق للقلب ”
قال أُبَيّ بتوتر و حزن
” طيب.. طيب..
قاطعه قصي سريعًا قاصدًا انقاذه من التلعثم حتى لا يشعر بالاحراج إذا نظر له الطبيب بتعجب
” نعمل ايه عشان متجلوش تاني ؟ ”
” ابعدوه عن أي ضغط و توتر.. وبلاش تخلوه يزعل أو يتعصب كتير.. لأن ده غلط عليه و والدك مريض ضغط ”
أومأ قصي بتفهم
” شكرا يا دكتور.. طيب يقدر يروح البيت امتى ؟ ”
” هو الحمدلله النوبة كانت خفيفة و قدرنا نلحقه.. يعني قول ساعة كده إن شاء الله ”
” شكرًا يا دكتور ”
جلس قصي بجانب أخيه في الاستراحة بالقرب من غرفة والدهما.. خيم الصمت على كلاهما لدقائق، كل واحد يشعر بالذنب تجاه أبيه و يلوم نفسه بتأنيب ضمير..
تحدث أُبَيّ بلُطف
” شكرًا يا قُصي أنك انقذتني في الوقت المناسب
نظر له قصي بعدم فهم.. تابع أُبَيّ باسمًا
” لما كان الدكتور بيتكلم معانا من شوية ”
توق قُصي كتف أخيه مازحًا
” عد الجمايل.. من هنا ورايح اسمي قصي باشا هند رستم ”
ضحك أُبَيّ بخفة و شاركه قُصي الضحك، رغم أن بداخل قلبهما يقول عكس ذلك..
قال أُبَيّ يلوم نفسه
” مينفعش نقف قصاد بابا تاني.. بعد كده نسيبه يقول اللي يقوله.. ده في الأول و الآخر أبونا.. يعني عزوتنا و ملناش غيره.. سامع يا قُصي ”
أومأ قُصي بطاعة
” حاضر.. هحاول معملش حاجة تضايقه تاني”
” لأ مش هتحاول.. أنت فعلا مش هتعمل حاجة تضايقه تاني.. و بالنسبة لموضوع كارمن هنتكلم فيه بعدين ”
شهق قصي مرة واحدة فقد تذكر شيء مهم
” كارمن هتيجي بكره ”
رمقه أُبَيّ بعدم تصديق
” تيجي بكره فين ؟؟ ”
” الحارة..عايزه تتعرف على العيلة ”
صاح أُبَيّ غاضبًا منه
” أنت اتجننت.. مينفعش يا قُصي..
” ليه مينفعش ! ”
” أبوك لو شم خبر هيطب ساكت ”
زفر قُصي بضيق قائلا
” خلاص هشوف حل.. مش هخليها تيجي ”
مرت الساعة و دلف الاثنان عند والدهما، كانت الممرضة قد ازالت الجهاز و بدا مجاهد على ما يرام.. نظر لأبناءه بانكسار و قال بحزن من نفسه
” حقكم عليا يا ولاد.. سامحوني ”
وقف قصي ثابتًا مكانه، و مشهد ضرب والده له لا يذهب عن باله، أما أُبَيّ حينما قال والده ذلك.. رقّ قلبه في الحال و أدمعت عيناه و لم يتردد لحظة في أن يلقي بنفسه بين ذراعي والده يحتضنه بشدة.. قال أُبَيّ بأسف وهو يُقبْل يد والده
” سامحني يا بابا.. أنا آسف.. مش هزعلك تاني والله ”
ربت والده على ظهره بحنو ليقول
” أنا اللي آسف يا أُبَيّ..
ثم نظر لقصي قائلا
” مش هتيجي تحضن أبوك ؟ ”
نظر له أُبَيّ نظرة ذات مغزى، معناها أن يأتي و يتأسف لوالده..
اقترب قصي منه وهو يخفض رأسه و يقول
” أنا آسف ”
” آسف من بعيد كده ! تعالى اما احضنك يا ابن الكلب يا نسوانجي ”
ضحك قصي و عانق والده مردفًا
” حقك عليا يا بابا.. مش هزعلك تاني..احنا من غيرك ولا حاجة ”
رد الأب وهو ينظر لأولاده بفخر
” زي ما أنتم من غيري و لا حاجة.. أنا كمان من غيركم ولا حاجة.. أنتم سندي و ضهري.. و إذا كنت قسيت عليكم فده غصب عني.. أنا بحبكم و بخاف عليكم.. اوعوا في مرة تفكروا إني بكرهكم.. مفيش أب بكره ضناه.. و اللي حصلنا ده انهارده.. درس نتعلم منه.. إن مفيش حد مننا يقدر يستغنى عن التاني ”
خرج مجاهد من المشفى مستندًا على قصي من يمينه و أُبَيّ من شماله، ثم ركبوا السيارة و عادوا للمنزل.. استقبلتهم الأم بحفاوة و تهلل وجهها عندما رأت زوجها سليم معافي.. احتضنت أولادها و كذلك زوجها، و جاءت الفتاتان تحتضنان والدهما بفرحة عمت على قلوب الجميع.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى