روايات

رواية يناديها عائش الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل التاسع والعشرون 29 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الجزء التاسع والعشرون

رواية يناديها عائش البارت التاسع والعشرون

يناديها عائش
يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة التاسعة والعشرون

إن الإنسان يمكنه أن يعيش بلا أب أو أم، ولكنه لا يمكنه ذلك بدون رحمة الله.
***
عندما بدأت شمس الصباح تستيقظ من نومها وعلت في السماء فاردة أشرعة نورها، استيقظت “روان” واتجهت للمرحاض؛ لتتوضئ وتُصلي قبل أن تذهب لبيتها من أجل دروسها، لم يتبقى إلا أسبـوع فقط على إمتحانات الثانويـة العامة، وهي كمعظم الطُلاب لا يبدأون في المُـزاكرة إلا عندما تكون الإمتحانات على الأبواب، حينها يستعد الطُـلاب بخوف وتوتر ويشرعون في مزاكرة أي شيء قد ينفعهم فيما يُسمى بالتعبير الدارج
“زنقـة الإمتحانـات” أعلم أنك الآن تبتسم بخبث عزيزي القارئ وتقول لنفسك “يا إلهـي إن روان تشبهني كثيـرًا !” لا عزيزي روان لا تشبُهك.. روان لها ضغوطاتها الشخصية التي منعتها عن المزاكرة والإجتهاد منذ أن بدأ العام الدراسي، أنت ما الذي يمنعك عن المُـزاكرة؟
قراءة الروايات ! حسنـًا تبـًا لك ولي وللروايـات.

إنتهـت روان من الصـلاة ثم أيقـظت رُميسـاء؛ لتُخبرها أنها ستذهب وكان رد رُميساء عليها..
غمغمت بصوت ناعس جدًا
— افطري الأول قبل ما تمشي
ابتسمت روان وقالت
–لأ أنا صايمة إنهـارده
فتحت رُميساء نصف عين لتتسـاءل بتعجب
–انهـارده إيـه..؟
أجـابت بـرّضا وببسـمة إرتيـاح زينت ثُغـرها
–يوم عـادي.. بس أنا قررت أخليـه يوم مُمـيز وصومـته.. امبـارح قرأت حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام بيقـول:
(مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).
..
متفق عليه وهذا لفظ البُخـاري.
..
كـانت رُميسـاء ناعسـة بشدة، فقـالت وهي تتقلب في نومتهـا
“ربنـا يرضي عنك.. تصبحي على خير”
ضحكت روان قائلة وهي تستعد للذهاب

— ابقي روحي نامي في الإمتحانات يا رُميساء..خلي الروايات اللي بتقرأيها بدل المزاكـرة دي تنفعـك.
..
خرجت روان قاصدة بيتهـا، بعد أن استقلت تلك المركبة ذات الثلاث عجـلات والتي تُعرف عند الشعب المصري بـ “توكتوك” بعد عشرُ دقائق وصلت روان وطرقت البـاب بخفة؛ ففتحت لها زوجـة والدهـا وعلى محياها ترتسم ابتسـامة جميلة، بادلتـها روان الإبتسـامة قائلة
–السلام عليكم.. ازيـك يا طنط
هتفت المرأة بسعادة شديد تعجبت لها روان
–وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ياروح طنط
.. مش تباركيـلي؟
ابتسمت روان بعد فهم وتساءلت وهي تخلع حذاءها
–خير.. فرحيني !
قالـت بسعادة
–أنـا حامل.. هيبقالك أخ أو أخت
توقف الزمن بـروان لدقائق تتخيل نفسها وهي تمرح وتلعب مع هذا الطفل، الذي سيأتي لعالمها ويجلب معه جو من الألفة والسعادة يُعوضها عن آلام الوحدة التي عاشتها في طفولتـها دون أشقاء، نزلت من عيونها دموع التأثر وغمرتها فرحة لا يستطيـع الخيال أن يتصورهـا، بينما زوجة والدها انتابتها الهواجس خوفـًا من رفض روان لذلك الطفل، فقـالت بتلجلج
–روان.. إنتِ مش مبسوطة؟.. طيب عينك مدمعة ليه.؟
تحدثت روان وقد تهللت أسـارير وجهـًا فرحـًا وحبـورًا
— مش مبسوطة ! أنا هطيـر من الفرحة.. مش مصدقه.. أخيـــــرًا مش هبقى وحيدة.. أخيــرًا هيبقالي أخ أو أخت.. أنا مبسوطة أوي.. ربنا يتمملك على خيـر يارب
رفعت الزوجة يديها للسماء داعيـة
–يــارب ياروان.. يـــــارب.. أنا كُنت مستنياه بقالي سنين.. الحمدلله ربنـا رزقني بعد ما صبرت ورضيت بقدري.. ألف حمد وشكر ليك يــارب..
تابعت مُردفة بوجـه مُشـرق منفرج الأسـارير
–أبـوكِ لسه ما يعــرفش.. عاوزين نفرحه بطريقة حلوة.. تساعديني ؟

بـإيمـاء وسعادة شديدة غمرت قلب روان، هتفت
–أكيــــد طبـعًا.. هغيب من الدروس انهاردة واروح اشتري زينة وبلالين وشوذ أطفـال جميل كده واقولك هنعمل إيـه
اقتربت منها زوجة والدها وعانقتها بشدة مُردفة
–شُكـرًا يا روان.. أوعدك إنِ هكون أم كويسه وحنينه عليـكِ..(ثم ابتعدت قائلة) ناديني ماما ياروان.. هبقى مبسوطة أوي لما اسمع الإسم ده منك.. ولا أنا مستحقش ..؟!
تنهـدت روان بحُزن، تمنت لو أن والدتها تُعاملها بهذا الحنان كما تفعل زوجة والدها الآن، ولكن القدر أحيـانًـا لا يُهب الحُب من أقرب النـاس لنـا.
تمتمت وهي تُنـاظرها باسمة
— يمكن تكونِ إنـتِ العوض
ثُـم اتجهت لتفتح الباب ثانيـة قائلة بحمـاس
–هنزل أجيب الحـاجة
أومـأت زوجة والدها بسعادة واتجهت هي الأخرى؛ لتقوم بترتيب وتنظيف البيت احتفـالًا بحملها بعد صبر ودُعـاء.
كانت روان تشعر بسعادة حقيقية، ربما يكون هذا هو العوض وجبر الخاطر الذي يتحدث عنه الجميع بعد بُكاء وألم تعايشت معه هي وحدها، من الآن فصاعدًا لن تبكي، لن تسمع لنفسـها بالشعور بالوحدة مجددًا، وكيف تشعر بالوحدة واليـأس والله تعالى قال:
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ” ﴿ هود ١١﴾.
ولكن ماذا عن سيف الإسلام. !
حرى بها أن تمحيه من زاكـرتها الآن، يجب أن تُفكر في شيء واحد فقط “المُستقـبل”، قررت روان أن تتخلى وتنسى أي شخص تسبب في جرحها وإيذاء قلبها، وتنظـر بإرادة لمُستقبلها؛ لكي تجعله مُشرق يُنير حياتها عليها أن تُبلغ هدفها، نعم ستحافظ على علاقتها مع الله، هادئة.. جميلة لا تتخللهـا شوائب، لن تسمح لأي أحد أو أي شيء أن يُقلل من نفسها أو يُبعدها عن طاعة الرب وإبلاغ الهدف، وتحقيق الطمـوح.
من الآن ستجمع كل زكريات الماضي البغيضة وتضعها داخل صندوق موصود بإحكـام، ثم في أبعد مكان وتلقي به، اليوم وفي تلك الساعة ستبدأ حياة جديدة خاليـة من الحُزن والشوق، حيـاة مع اللـه.. رب العالـمين.
اشترت روان أغراض الزينة وحذاء مولود صغير جميل للغايـة، وعادت للبيت؛ لتبدأ برفقة والدتها الجديدة في تزيين كل ركن من أركان بيتـهم.

***
حين تخللت أشعة الشمس الذهبيـة غرفـة زيـاد، ودق ساعة منبههُ، نهـض ليتحمم ثم توضئ وصلى الضُحى وارتدى بدلـة زرقاء قاتمة اللون أنيقة أنـارت قسماتِ وجههُ الحُلـو، آخـذًا حقيبته الجلدية السوداء بعد أن هندم شعره ونثره عطره ثم ارتدى حذائه؛ ليأخذ مفاتيح السيـارة وألقى على الجميع التحية، مُتجهـًا لسيارته، ركبها واقتادها لوجهته.. استعدادًا للقاء ذلك الشاب الذي يقوم بتركيب صور الفتيات على اجساد فاضحة مقابل مبـلغ مالي من الشخص الذي طلب منه ذلك، وأيضـًا اليوم سيتم تنفيذ الحُكم على مُجرم قتل والدته من أجل المال لشراء الممنوعات، وهو الذي عمل على تلك القضية طيلة شهرين مضوا، ومن المفترض أن يصدر حكم الإعدام على ذلك المُجـرم من قِبل القاضي، فإذا لم يتم تنفيذ الإعدام كما طلب “زيـاد” سيخسر قضيتـه وتلك تعتبر قضية الشعب بأكمـله، خاصـة أن الأمر وصل للسيد رئيس الجمهوريـة والمُفتي ووسائل الإعـلام، وستكون المحكمة ممتلئة بالكثير من الأشخاص المهمة اليوم؛ لذا عليه أن يكون حريص وهو يتحدث مع الصحـافة.
ولكن هناك شيء مُهم عليه أن يفعله قبل لقاء ذلك الوغد الذي هاتف شقيقته، وهو أن يـأخذ إذن النيابة أولـًا قبل أن يقوم بالتسجيل لـه وتصويره بكاميرا صغيرة جدًا سيعلقها في أزرار بدلته كما خطط.
***
آحْتَآج مُخَدر ، يَمْنَعُنِي مِنْ آلتَفْكِير فِي كُل شَيْء
___
ظل بـدر يُـحاول جاهدًا ألا يغفو وينام بدون وعي منه في بيت عمه، برغـم أن إيمـانه بدأ في التلاشي، إلا أنـه سيسعى للمجاهدة حتى لا تُسيطر عليـه وساوس اللعين وتلقي به نفسه للتهلكة، ليقع في الخطيئة مع ابنة عمـه.. قرر بأن ينتظر لبعض الوقت حتى تنام عائشـة ويطمئن عليها، ثم يخرج من البيت ويمكث أمامه حتى تستيقظ ويجتمع بالعائلة ليخبرهم عن قراره في الزواج منها، وأنه من وجهة نظـره أفضل قرار يُمكن أن يؤُخذ في تلك الظروف الراهنـة.
ولكن، رغمـًا عنه ارتخت جفونه واستسلم للنوم بعد يومٍ مرهق من أصعـب الأيـام التي مرّت عليـه.
مرّت ساعتين والإثنـانِ مستغرقانِ في النـوم، ليس نومـًا طبيعيـًا كباقِ الناس، بل نوم يتخلله الكوابيس والأحـلام المُزعجة، فهذا هو بـدر الشباب يصارع كابوسـًا ما وهو يتقلب على الأريكة يمينـًا ويسارًا والعرق غطى جبينه، فإذا نظرت إليـه سارت الهوينـا في جسدك من تقطيبة حاجبيه التي توحي بأن الكابوس بشعـًا للغايـة.
في الغُـرفة المجاورة تتسطح عائـشة على فراشـها وأنفـاسها تتلاحق بعُنف وهي تحرك رأسـها بوجـل بدا عليـها وتُردد بخفـوت
— مش عاوزه أمـوت دلوقت.. يــــارب.. لأ.. لأ.. أتـوب الأول.. عاوزه أتـــــوب

ثم فتحت عيناهـا فجأة؛ لتصـرخ صرخة بدت مكتومة مضطربة انتفض على أثرها بـدر، الذي شحب وجهه هلعـًا وخوفـًا عليها، وقفز مهرولًا لغرفتها بعد أن دفع الباب بكامل جسده عدة مرات، فقد كان مُوصدًا من الداخـل.. وجدها تجلس وتضم ركبتيها لجسدها ووجههـا قد أخفته بين كفيـها؛ لتبكِ بأنين اعتصـر قلب بـدر وجعـًا وألمـًا لأجلـها.
في محاولـة منه أن يهدئها؛ ليرَ ما بهـا.. لمست أنامله يدها، فإنتفضت مذعورة وصاحت باكية
–متلمسنيش.. ابعد.. ابعد عني.. كُلكم زي بعض.. كُلكم زي بعض
تنهـد بـدر بخوف عليها قائلًا بهدوء
–عائشـة.. اهدي يا مـاما.. فهميني فيكِ إيـه..؟
طالعتـه بعيون دامعة وثارت ثائرتـها؛ لتنفعل هاتفة
–عايز مني إيــــــه.. انتوا عاوزين مني إيــــه؟؟ سيبوني في حالي بقى.. ارحمــــوني.. ايوه أنا وحشه زي ما بتقولوا.. مستاهلش أتحب.. الموت رحمة ليكم مِني.. وجودي في الدنيا غلطة.. انتوا كلكم ملايكة وأنا الشيطان اللي جه خربلكم حيـاتكم.. سيبوني بقى في حـالي.. أنـا مش عاوزه أعيش معاكم.. مش عاوزه أعيش معـاكم
رمقهـا بـدر للحظات بيأس، لا يدري ماذا يفعل لها وللجميـع ليراهم بأفضـل حال، لقد قدم كل ما في وسعه ولم يشكره أحد، الآن سيتجاهل الجميع وسيسيطر على قلبه العاشق؛ ليصبح شخص آخر لم يتمنى أن يصل له أبدًا، ولكن من كثرة الضغوطات نفقد السيطرة على أنفسنا أحيانـًا، ويُصعب التحكم في انفعالتنـا وأفعالنـا، فنصير أقسى، أبشع، أبغض.. وهذا ما وصـل له بدر.
أغمض عينيه ليأخذ نفس عميق ثم قال بنبرة حادة وبنظـرات ثاقبـة
–ربنا خلقنا وخلقلنا عقل عشان نفكر بيه ونختار.. وانتِ اخترتِ حياة غلط.. إذًا إنتِ متستاهليش نعمة العقل اللي ربنـا ادهالك.. لو كُنت حيوانة كان هيبقى أرحم ليكِ.. ولينـا برضو
نظـرت له بإستخفـاف، ثم أطلقت ضحكة جنونية ساخـرة وقالـت

–شُفت.. شُفت انك زيك زيهم ازاي ومتفرقش عنهم.. اطلع بقى من دور الشيـخ اللي انت لابسهولنا ليل نهار ده.. اطلع ووري للعالم وساختـك وحقارتك.. والله يا بـ….
لم تكمل الجملـة؛ بسبب تلك الفازة التي امسكها بدر وألقـى بها في الحائط، فتحطمت لأكثر من قطعة مصدرة صوت عالي أخرس عائشـة، ثم التفت لها وصاح بعيون كأن الجان تلبسهـا
–الوسخ الحقير ده هيعيشكم كلكم أيـام سوده.. ربك زي ما حطّ الإيمـان في قلبي.. نزعه مني.. عارفه ليه.. عشان اختبر صبري وأنا سقطت في الإختبـار..
صمت ليبكِ بخفوت ثم أردف منفعلـًا بغضب
–بس وعزة جلالة اللـه مهسكت لأي حد يقلل مني تاني.. أيـًا كان مين.. انتوا طلعتوا أسوأ ما فيا.. استحملوا بقى اللي هيحصلكم.
تركها وترك كل شيء، وخرج ليجلـس أمام باب بيتها واضعـًا وجهه بين كفيه بقلة حيلة؛ ليبكِ بصوت كالصبية.
***
توجه “زيـاد” بسيـارته لمركز الشُـرطة، وفي نفس الوقت الذي ترجل فيه من السيارة، كان على الجهة المقابلة الضابط كريم يفتح باب سيارته ليتـرّجل منها هو الآخر.. لمحه كريم يدلف للداخل ويبدو أنه على عجلة من أمره، فناداه والتفت له زياد ليبتسم قائـلًا
–كـريم بـاشا.. ايه الصُدف الحلوه دي؟
بـادله كريم الإبتسـامة قائلـًا
— الصدف الحلوه بتجمع الناس الحلوه.. انت جاي هنا في حاجه ولا إيه؟
تنهـد زياد قبل أن يخبره بذلك الشاب الذي يقوم بتركيب الصور الفاضحة للفتيـات من أجل ابتزازهن وسلب الأمـوال، ولكنه تستر على شقيقته الغبية تلك ولم يتفوه بشيء عنـها، تفهم كـريم الأمر وتغيرت ملامحه للإمتعاض قائلًا
–ابن الـ***.. العيال دي كترت ولازم ننضف المجتمع منهم.. تمام.. أنا فهمت دلوقت.. انت عاوز تأخد إذن المباحث عشان تسجله صوت وصورة وتمسكه مُتلبس ؟
بإيمـاءة ونظرة ذكاء أردف زيـاد
–بالظبـط كده.. بس أنا راسم خطة في دماغي وهحتاج مُسـعادتك
أشـار كريم لمكتبه بيده مُفسحـًا الطريق لزيـاد
–اتفضل يا متر.. تعالى نكمل كلامنا في مكتبي
رافقه زيـاد للداخل؛ ليُطلعه على باقي الخطة.

***
عند بزوغ الفجـر، كان بـدر ما زال جالسـًا ينتحب ويُعاتب نفسه على تركه لصلاة الفجر، وفي نفس الوقت يُمدح ذاته ويصبر نفسه أنه على حق ولا داعِ للحزن، لقد صبر كثيـرًا ولم يجبر الله خاطره، ولم يتغير قدره الأسـود.. فلماذا يصبر إذًا وحياته ما زالت جحيم مأسوي لن تتغير أبدًا..؟
أهو نبي، ملاك، إنسان خارق؛ ليصبر طيلة تلك السنين ولم يتغير شيء واحد فقط للأفضل؟
زادت الأمور سوءًا وقد فاض بـه الكيل، لقد فقد صوابـه كُليـًا وسيفتك بأي شخص يقول له “اصبر”.
دقائق مرّت عليـه وهو على حالتـه المُحزنة تلك، وفي تلك الأثنـاء أقبـل عليه شيخـًا عجوزًا يمشي بعكازته يتحسس بها الأرض أمام؛ لكي لا تتعثر خطواته بسبب فقدانه بصره في حرب” ١٩٧٣” حين كان في مقتبل الشباب.
وصل صوت أنين بدر لمسامع الشيخ وهو يمرّ من أمامه، فتوقف متساءلًا بصوته الوقور الهادئ
–من ؟ من أنت ؟
رفع بـدر رأسه مُتأملـًا هذا العجوز، فور أن وقع ناظره عرفه في الحـال..
فهذا “الشيخ عمـار عبد الهـادي” يبلغ عمره الثانية والسبعون، حافظ لكتاب الله تجويدًا وتفسيـرًا، لم يُضيع صلاة الفريضة في المسجد، بل عندما تذهب للصلاة تجده في الصف الأول، يقف بخشوع لله وخشية منهُ، إذا تحدث قال الصدق وإذا نصح أبهـرك بحكمته، لا يُحب أن ينطق لسانه إلا بلغـة القرءان “العربية الفُصحى”
خجـل بـدر من نفسه كثيرًا، لقد أخذ الله من ذلك الرجل بصره ورغم ذلك لم يشكو ولم يجزع بل يحمد الله في كل وقت، صابرًا راضٍ بما قسمه الله لـه، يتـكأ على عكازته بضعف ووهن، شاكرًا الله أنه أنعم عليه بقدمين تسوقه للمسجد.
أعـاد الشيخ سؤالـه وهو يقترب بعصاه من مصدر الصوت
— من أنت ؟ ما الذي يُبكيكَ يا ولدي ؟
لم يستطيع بـدر الصمود وانفجر باكيـًا دون أن يُجيب بشيء، تعجب الشيـخ كثيرًا وخطى خطواته ليجلس بجانبـه، ثم وضع يده على كتفـه قائلـًا بلـُطف:
” يا ولدي، لا تحزن.. ‏مهما كان عُمق الحزن في قلبك سيسوق الله إليك البشرى و لو بعد حين.”
نظـر له بـدر بيـأس؛ ليتحدث أخيـرًا
— بس يا شيخ عمـار أنا صبرت كتـير.. خلاص فاض بيـا.. مبقتش قادر أستحمل
عرف الشيخ هذا الصوت جيدًا، فلطالمـا جلس معه بدر كثيرًا وتحدثَ سويـًا في أمـور تخص الدين، فقـال مُربتًا على كتفـه بحنو
–لن أوبخـك على ما قُلته يا بـدر، أعلم أن ما قُلته من تأثير الغضب والهم عليك وأدعو الله ألا يحاسبك عليه.. اسمع بُني.. سأعطيك بعض النصائح وأرجو أن تهزم شيطانك وتعمل بهـا
النصيحة الأولى يا ولدي “تعلم أن تتحكم في غضبك ولسانك مهما حدث.. ضع هذه الآية رهن عينيك” وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ” سورة ال عمران
تعلم أن تتحكم في غضبك؛ حتى لا تقول ما يغضب الله.
[النصيحة الثانيـة] عليك بالصبـر مهما طال البلاء، والله يا ولدي ستلقى الفرج وسيجزيك الله خير الجزاء، في نهـاية الأمـر ستؤجـر على صبـرك، لقد اختصـك اللـه بالإبتـلاء، ألـم تعلم أن الله إذا أحب عبدًا إبتلاه ؟
سأقـُص عليك تلك القصة، لعل وعسى ترجع لرشدك وتفهم أن كل ما تمرّ به هو خيرًا لك فيـما بعد.

ذات يوم مر رجل من الصالحين على رجل أُصيب بشلل نصفي وكان الدود يتناثر من جنبيه، وكان هذا الرجل أعمى واصم، ووجده يقول : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من خلقه . فتعجب الرجل ثم قال له : يا أخي ما الذي عافاك الله منه لقد رأيتُ جميع المصائب وقد تزاحمت عليك . فقال له : إليك عني يا بطال فإنه عافاني إذ أطلق لي لسانًـا يوحده وقلبـّا يعرفه وفي كل وقت يذكره..
هون على نفسك يا بـدر الشباب..
يقول الله سبحانه وتعالى : (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) الزمر .. فالصبر والاحتمال يتغلب المؤمن على اصعب المواقف والمصائب ويحتسب الاجر والصابرون لهم اجر عظيم يوم القيامة بإذن الله، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم إنما الصبر عند الصدمة الأولى.. وأنت يا بـدر تعلم ذلك جيدًا، لماذا تجزع إذًا ؟
لقد صبرت طيـلة السنوات الماضيـة، ألا تستطيع أن تصبر وتتحمـل قليلـًا ؟
غمغم بـدر بخزي من نفسه
— أنـا مش عارف ازاي سمحت لشيطاني يأثر عليا ومصليش الفجر.. أنا مقهور أوي يا شيخ عمار.. مقهور وندمان إن فوت الفجر ومقدرتش أسيطر على ضعفي.. لأول مرة مصليش الفرض في وقته.. تفتكر ربنـا هيسامحني ؟
تبسم الشيـخ وتساءل
–هل أنت نادم على ما فعلت ؟
بإبتسامة مكسورة أومـأ بـدر
— طبعـًا ندمان ومش عارف أنا عقلي كان فين وأنا معدي من قدام الجامع وشايف الناس واقفه بين إيد ربنا وفي بيته وأنا لأ.. مش متخيل ازاي سمحت للجحود يعميني ويخليني مصليش
تنهـد الشيخ وقـال بلهجـة مطمئنة
— أعظم شـرط في التوبة يا ولدي هو الندم..
النبي صلِّ الله عليه وسلم يقول: (الندم توبة).
همس بـدر
–عليـه أفضـل الصلاة والسـلام… يعني لو روحت لربنـا بعد اللي عملته ده هيسامحني ؟
هو.. هو أنا عارف إن باب التوبة مفتوح طالما ما أشركتش بالله.. وربنا بيغفر كل الذنوب للعبد لو تاب توبة نصوحة ومكررش الذنب.. بس أنا خايف أوي يا شيـخ.. إن أسيب فرض متعمد مصلهوش ده مصيبة في حد ذاته.. هل ربنا هيغفرلي ؟
ربت الشيخ على ظهـره من باب الطمئنينة والتهوين عليه ليقول
–سأخبرك بحديث قُدسي لله سيريح شتات قلبك..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّ الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: “يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة”.
رواه الترمذي وصححه ابن القيم، وحسنه الألباني.
مسح بـدر على وجهه بعد أن ارتاح قلبه قليلًا وقال محاولًا أن يُقبل يد الشيخ فسحب الشيخ يده وربت على يد بدر مبتسمـًا
–أنا هقوم أصلي قبل النهار ما يطلع.. ادعيلي يا شيخ باللـه عليك
نهض الشيخ متكأ على عكازته مردفـًا
–اذهب ياولدي.. اذهب لله واسجد وابكِ في سجودك قدر المستطاع.. لن يصيبك إلا ما كتبه الله لك.. وتأكد أن الخير فيمـا اختاره الله.. مهما بلغت ذنوبك وهمومك عنان السماء، لا تقطع حبل الوصل بينك وبين الله.. لا تقطع الصلاة يابني مهما حدث.. ابتسم ودع كل شيء يحدث كما كتبه الله..

كَان رَسَول الله صلّ اللـه عليه وسّلم أثقل الناس هَمًا وَلكنه كانْ أكثرهُمْ تبسُمـًا.. مهما بلغت من مصاعب الحياة لا تضعف أبدًا.. تحدِ الحياة وانتصر عليها بالقُـرب من حبيبك وخالقك.. ليس لنا سواه يا ولدي.
(ونعمَ باللـه يا شيخ عمـار.. ونعم باللـه.. استنى هوصلك)
قالها بـدر وهو ينهض معه، أجاب الشيخ بنفي
— لا داعِ لذلك.. ما دام الله معي لن أتعثر أبدًا.. وأنا أعلم الطريق لبيتي جيدًا وأحفظ كم خطوة سأخطو للوصول إليـه.
ابتسم بـدر بخجل من نفسه وهو يتبع الشيخ بنظراته المُتحسرة.. وقف مُحتارًا للحظات يُفكر لأين سيذهب، هل يذهب لعائشة أم لبيته.. قرر أخيرًا أن يذهب لبيته حتى لا يكون الشيطان ثالثهم وتسول له نفسه بالتقرب من ابنة عمه ثانية.
ولكن قبل أن تطئ قدماه البيت، جاءه هاجس بأن والدته ما إن تراه حتمـًا ستطرده، بعد أن أخبرته بأنه السبب في كل ما حدث؛ فقرر أخيرًا الذهاب لورشته.
وبالفعـل ولج للورشة وتوضئ ثم تهيء للصلاة قبل شروق الشمس.. ما إن رفع يديه ليُكبر، لم يستطيع أن ينطق حرفًا واحدًا.. ظل فقط يؤدي خطوات الصلاة دون قراءة أي حرف من القرءان، وكأن لسانه مُكبـل كلما حاول النُطق عجز.
لا شيء يفعله سوى البُكاء وتأدية خطوات الصلاة، وعندما سجد برأسه السجدة الأخيرة قبل التشهد.. انفجر يبوح بكل شيء هاتفـًا
(أنا آسـف.. آسف يـــارب.. آســــــف.. غصب عني.. أقسم بك إني متركتش صلاة الفجر بإرادتي.. كنت حاسس إني مشلول.. مقدرتش أدخل أصلي.. عارف إني ضعفت وسيبت شيطاني يحرك فيا زي ما هو عايز.. زي العرايس اللعبة.. بس أنا بحاول.. والله بحاول أرجع زي الأول.. أنا مش طالب منك غير إنك تساعدني بس أفوق لنفسي.. ساعدني يــــــارب.. مش قادر أفهم أمي غضبانه عليا ليـه.. أنا هصبر.. هصبر يــــارب.. بس أمي ترجع ترضي عني.. والله حاسس بإن روحي بتنسحب مني بالبطيء طول ما أمي غضبانه عليا.. يـارب إنت عالم باللي في قلبي.. عاوزني مهتمش بعائشة.. طيب هو حد بيعشق حد لدرجة الجنون وميهتمش بيه..؟ أنا بعترف إن اتماديت في حُبي واتعديت حدود الشرع والدين.. بس غصب عني والله.. يــارب لو مش من نصيبي انزع حبي ليها من قلبي..
توقف للحظات يستوعب ما قاله، فتراجع سريعـًا

(لأ.. لأ.. لأ يارب.. يارب متكتبها لحد غيري.. اللهم عائـــش.. مش هقـدر أعيش من غيرها.. مش متخيل حياتي من غيرها إزاي.. سامحيني يـارب.. أنا بعترف إن بحبها أكتـر من أي حد.. ومش هقدر أوقف حبي ليها.. أنـــا آســــف)
سلم عن يمينه وعن شماله، وظل جالسـًا بورشته لبعد الظُهر، ثم صلى الظُهر في ورشته أيضـًا واتجه لبيته..
لم يغمض للجميع جفن في تلك الليلة، ظلت والدة بـدر تبكِ وتتحسر على أولادها وتلوم نفسها على ما قـالته لبـدر، رغم أنها تعلم حجم الألم الذي تحمله وتعايش معه، ولكن الغضب سيطر عليها حين رأت سيف على كرسيه المتحرك لا حول له ولا قوة.
طـرق بـدر على الباب، فقامت هاجر مهرولة إليه وارتمت في أحضـانه هاتفة بخوف
–خُفت أوي عليــــك.. إنت روحت فين..؟
ابتسم لها بدر وقبْلها من جبينها، ثم اتجه لوالدته وقبل أن ينطق بشيء نهضت مفيدة واحتضنته قائلة
— حقك عليا يابدر.. كل اللي قولتهولك ده مكنش من قلبي وربك يشهد
انحنى ليُقبل يديها ثم قال
— حصـل خير يا أُمي
تركهم تحت نظرات التعجب حول تظاهره بالبرود، ودلف لغرفة سيف.. وجده جالس على كرسيه المتحرك ويقوم بالشخبطة الكثيرة على ورقة بحوزته..
جلس بدر أمامه وقال مبتسمـًا بهدوء
–هتزعل مني لو اتجوزت وانت في الظروف دي؟
رمقه سيف للحظات بدهشة، ثم بادلـه الإبتسامة وكتب
–بالعكس هكون مبسوط.. على الأقل هتحصل حاجه حلوه تغير المود الزفت ده.. وأتمنى العروسة تكون عائشـة.. أنا عارف إنك بتحبها
أومـأ بدر مُدعيـًا

–سيبك من الحُب.. ده لحمنا وعرضنا ولازم نلمه.. أنا هتجوزها عشان أبوها يرتاح في تُربته مش أكتر
ابتسم سيف نصف ابتسامة وظل يتأمل أخيه بشك، فنظراته كفيلة بأن تفضح عشقه لإبنة عمهم.
مرّت ساعة أخرى وذهبت هاجر لعائشة، للإستعداد لكتب الكتاب.. وبعد أن علمت العائلة بأكملها بقرار زواج بدر من عائشة في تلك الظروف الصعبة وكان الجميع حقـًا في حالة دهشة.. تدخل مصطفى عمهم ليتم تلك الزيجة موافقـًا بدر في قراره..
كانت عائشة تجلس بجانب بدر تفرك يديها في توتر وحيرة وخوف شديد، بينما بدر كانت معالم وجهه خالية من أي مشاعر، ونظراته ثاقبة لا تعبر عن أي شيء وهذا ما جعل الجميع مندهشـًا وأوصل عائشة للبكاء بهستيرية.
“بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكم في خير”
بعد أن قالها المأذون، سحب بـدر عائشة من يديها ثم دخل بها بيت والدها.. فقد أخبرهم بأنه سيتزوجها في بيت عمه لحين تجهيز شقته ولم يهمه ما قيل عنه عندما أخبرهم بذلك.. سمع همهماتهم يقولون أنه تزوجها من أجل الورث، حتى عائشة نفسها ظنت ذلك.
جلـست عائشة على فراشها وجسدها يرتعد بشدة.. دخل بـدر ثم سحب مقعد وتأملها للحظات بعيون عاشقة؛ ليعانق كف يدها فـ اهتز جسدها بارتعاش فـ قضى على كل تمردا كان بداخلها وقـال..
–قومي اعمليلي شاي..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى