رواية يناديها عائش الفصل التاسع عشر 19 بقلم نرمينا راضي
رواية يناديها عائش الجزء التاسع عشر
رواية يناديها عائش البارت التاسع عشر
رواية يناديها عائش الحلقة التاسعة عشر
نحن في الدنيا كسفينة تخوض محيط من الزمن، لا يعرف أحد كم مساحته ولا أين ستنتهي رحلته.
(مقوله لأحدهم)
***
بقي كُلًا من بدر وعمه مصطفى وزياد أمام مقابر عائلة الخياط بعد أن رحل الجميع، يسألون الله أن يُثبت “محمود” على قول الحق، فهو الآن يُسأل.
بعد قليل من الوقت، رن هاتف مصطفى؛ فإبتعد ليجيب وكان الرقم دولي أي ليس المُتصل بمِصر.
في بادئ الأمر تعجب مصطفى من الرقم الظاهر على الشاشة، ثم رد والحزن مازال يطغى على نبراته.
–السلام عليكم
“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وحشتني ياخويا.. عامل إيه يامصطفى وعيالك وعيال اخواتك عاملين إيه؟”
ظل مصطفى للحظات مُترنح أمامه بدهشه يحاول التعرف على مصدر الصوت الذي يعرفه جيدًا، اتسعت عيناه ليقول مُتعجبًا
–مجاهد !
رد مجاهد بلهجة فرِحه
–إيه ياأبو زياد.. حد ينسى صوت أخوه ياراجل
نمت ابتسامة ساخرة على شفاهُ؛ فهو لم يحادثهم إلا مرات قليلة منذ أن أخذ زوجته وأطفاله وسافر للخارج، فلا أحد يعلم عنه شيء، وإذا حاولوا الإتصال به من الإنترنت أو الهاتف، لا يجيب دائمًا أو لا يستطيعون الوصول إليه بسبب التغطية.
لامه مصطفى قائلًا
–إنت اللي معتش بتعبر يامجاهد ولا عارفينلك رقم نتصل عليه حتى.. سافرت ونسيت عيلة الخياط.. لحد مابقاش في العيلة من الناس الكبيرة غيري.
بتساءل وتعجب قال مجاهد
–قصدك إيه مبقاش في العيله غيرك ؟
تنفس مصطفى بعمق وتنهد بحزن هاتفًا
–أقصد إن أخواتك ماتوا ومعتش فيه غيري يشيل الحِمل يامجاهد
رد مجاهد بتلقائية
–محمد ميت من عشرة ولا اتناشر سنه باين..
قاطعه مصطفى بحِده قليلًا
–إنت ناسي إن ليك أخ اسمه محمود. ؟؟!
محمود مات انهارده واندفن يامجاهد
صمت مجاهد لوهلة يستوعب ماقيل ثم هتف بعدم اهتمام
–يلا الله يرحمه.. كل المشاكل كانت من تحت راسه.. موته رحمه لينا وليه برضو
انفعل مصطفى وصاح غاضبًا مما لفت أنظار بدر وزياد له
–متقولش على أخوك كده.. مش يمكن يكون عند ربنا أحسن منك
صمت ليأخذ نفسًا طويلًا ثم أردف بهدوء
–في حجات كتير حصلت.. صعب تتشرح.. مش هعرف أحكيها في التليفون.. بس محمود أخوك ميت على حسن خاتمة.. ياريت كلنا نفوق للي بنعمله ونرجع لربنا ونتوب قبل فوات الآوان ونرجع نعيط ونقول ياريتنا.. ادعيله يامجاهد.. ادعي لأخوك بالرحمة.
ظل مجاهد صامت وشارد للحظات وشعور من الحزن والندم ينتابه ملامحه ويعتريها رويدًا رويدا، حتى انتبه لصوت مصطفى يقول
–أنا هقفل عشان مش فاضي سلام عليكم
قاطعه مجاهد مُسرعًا
–مصطفى.. أنا نازل انهارده أنا ومراتي والعيال.. هنستقر في مصر.. كنت بتصل عشان أعرفك إني جاي.
“تنوروا في أي وقت”
قالها مصطفى بشيء من الحزن ثم أغلق المُكالمة.
اقترب منه زياد حين وجده واقفًا شاردًا بحزن، وتساءل في شك
–ده عمي مجاهد ؟
بإيماء رد مصطفى
–ايوه.. نازل هو وعياله مصر وعلى بالليل إن شاء الله احتمال يبقوا عندنا.
قال زياد مستفسرًا
–طيب وحضرتك كنت بتزعق ليه ؟
تجاهل والده حديثه ونظر لبدر؛ فوجده جالس أمام المقابر يدعو ويبكي.. فقال مصطفى
–خليك مع ابن عمك وأنا هروح عشان الناس اللي هتيجي تعزي تلاقي حد موجود.
أومأ زياد بطاعة وذهب لـ بدر؛ فوجده مُنهارًا بشدة مُرددًا
–وحشتني ياشيخ محمد.. وحشتني يابابا.. أنا وعدتك هبقى راجل البيت وسند اخواتي وأمي بس أنا مش قد الوعد.. أنا معرفتش أحافظ على نفسي وضعفت كذا مره قدام بنت عمي اللي أبوها موصيني عليها.. ازاي هحافظ على إخواتي.. سامحني يابابا.. أنا بعترف إني ضعيف أوي وضعفت أكتر من بعدك.. موتك كسرلي ضهري يابا.. أنا آسف بس أنا مش جبل عشان أتحمل كل ده.. أنا برضو إنسان وليا طاقتي.. وبغلط وبضعف
تابع وهو يرفع رأسه للسماء والدموع تنساب من جفونه، حتى غرقت قميصه
–أنا مش ملاك يارب.. أنا إنسان وبغلط..بس ماليش غيرك يقف جنبي ويساعدني.. يارب.. ساعدني.. وسامحني.
كان زياد واقفًا خلفه يستمع لشهقاته مُتأثرًا بكل ماقاله؛ فأدمعت عيناه ولكنه مسح دموعه سريعًا ليكون الأقوى ويساند ابن عمه، لم يكن الشعور بينهم فقط مجرد أبناء عم، بل تمادت المشاعر لتصل للإخوة؛ فإذا تألم واحدًا كان الآخر دواءًا له،
هو عضيده، هو قوته عند ضعفه، هو صديقه، هو أخيه وليس فقط ابن عمه وحب الأخ لا يقاس؛ لذا ربت زياد على كتف بدر؛ فالتف بدر وعانقه بشده كأنه وجد منجا من أحزانه، بادله زياد العناق كاتمًا دموعه بصعوبه، يحاول تذكر أي موقف مضحك لهم؛ حتى يرفه عن بدر همه قليلًا.
فقال ضاحكًا بخفه
–فاكر لما كنا داخلين على امتحانات الثانوي وقولتلك إني بحب هاجر ولما أكبر هتجوزها وإنت وقتها منعتني ارمي عليها السلام حتى..أنا سكت؟ مبقاش زياد اللي مقطع السمكه وديلها لو سكت.. فأخدت الكورة وكتبت رساله حب ولعلعه بس لعلعه محترمه الصراحه.. وروحت ألعب تحت شباك هاجر عشان أشوط الكوره وتدخل من الشباك فهي تاخد بالها من الرساله وتقرأها وتكتبلي غيرها وتحدفلي الكوره..
ابتسم بدر بخفه ليقاطعه مُكملًا
–وساعتها كنت أنا قاعد مع هاجر بزاكرلها بالصدفه وشفت الرساله في الكوره وقرأتها ونزلتلك رزعتك علقه تحت ووشك جاب ألوان عشان شافتك وانت زي الشحط وبتنضرب مني
ضحك زياد بشده قائلًا بغرور مصطنع
–علفكره بقا.. أنا سيبتك تضربني وممدتش ايدي عليك عشان أبقى الواد المحترم في نظرها اللي مفيش منه اتنين
لوى بدر شفتيه بسخريه لينظر له بطرف عينيه هاتفًا بطريقة مضحكة
–لأ وانت الصادق.. عشان تبقى تبقى الواد أبو چيل في شعره اللي مبلط في الديسكو
ضحك زياد بسعادة بالغة حين استطاع اضحاك بدر وكفكفت همه؛ فأردف مُبتسمًا
–مش إنت علمتني أقول كده لما أجي أدعي
أمّا أنا يا الله..
فَـ لستُ من الصالحين أنا مِن هؤلاء الذين قُلتَ
فيهم :
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم.
ليه بتحمل نفسك فوق طاقتها وربك قال إن مع العسر يسرًا..لن يغلب عسير مع يسريين.. ماضاقت إلا وفرجت.. استغفر ربك يابدر واصبر
قال الله تعالى في سورة الزمر: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
أغمض بدر عينيه مُستعينًا بالصبر في قلبه، ثم مسح على وجهه مُتنهدًا بإرتياح قائلًا بهدوء
–استغفر الله العظيم واتوب اليه.. عارف يازياد
دايمًا ملامحي أهدئ بكتير من اللي بيدور في عقلي.. عشان كده الكل فاكرني حمال قسوة حمال هموم وأحزان.. الكل فاكرني جبل مابيتهزش.. وأنا بتظاهر بكده عشان خاطر اخواتي وأمي وعشان خاطر ميتقالش عليا هش وضعيف وسهل يتكسر ويتنهش في لحمه ولحم أهله.. الناس مبترحمش عشان كده اتظاهرت بالقوة وإن مهما يحصل مابتأثرش ولا بتهز.. بس ربنا اللي يعلم أنا عيطت كام مره وأنا ساجد.. كام مره وأنا قاعد بالليل في أوضتي.. كام مره وأنا عايز أعمل حاجه لنفسي سيف يفتخر بيها ومش عارف وعاجز إني افرحه.. كام مره وأنا بسمع صوت هاجر بتصرخ من وجع السرطان.. كام مره وأنا سامع أمي بتعيط عشانا.. كام مره.. وأنا.. وأنا شايف عائش ماشيه في الطريق الغلط ومش عارف أفوقها.. أنا أبان جبل متهزوا ريح بس أنا من جوايا زي الورقه سهل جدًا تتقطع.
صمت ليمسح دمعة تقطرت لتفرّ هاربة من جفنه، مُردفًا بتألـم
–أنا خايف تمر السنين وأنا عند نفس النقطه ونفس المكان مبيتغيرش مع مرورها إلا عُمري.
أصاب كلام بدر وتألمه قلب زياد فملأوه غمًّا وحزنًا؛ ليزفر بضيق طويلًا ثم قال
–”أعتقد أن العائلة أدفئ حاجه أعطانا الله لينا بعد الطمأنينة بقُربه.. وإحنا عيلتنا رغم شوية المشاكل اللي فيها إلا إننا على المُرّه قبل الحلوه حتى لو أهالينا بينهم مشاكل بس احنا قلبنا على بعض.. ودي حاجه جميله جدًا تستاهل نفتخر بيها.. وطول ماإحنا مع بعض فإحنا فعلًا زي الأوتاد صعب نتكسر أو حتى نتهز.. بدر إحنا في نعمه مش دريانين بيها.. قول الحمدلله غيرنا بيحسدنا على اللي إحنا فيه والله.. قول الحمدلله يابني عمي وكل حاجه ليها حل.
هز بدر رأسه بإيماء مُبتسمًا ببساطة هامسًا
–الحمدلله.. أعلَم أنّك تشعُر بي يا الله ، فهَون علي قلبي.
رد زياد عليه مُربتًا على فخذه
–مَرينا بالأسوء قبل كده، مش صعب علينا المره دي.. بعون الله هنتخطى أي صعب.
قاطع حديثهم صوت الآذان يأتي من المسجد بجانب القبور، فهبّ الإثنين واقفون في الحال ليلبون النداء وهم يرددون وراء المؤذن.
قال بدر بإستمامتة مُظهرًا تصلبه وثباته المصطنع
–يلا عشان نصلي ونروح نقف مع أبوك في العزا
“بقولك إيه يابدر.. إحنا صايمين والجو حر.. تعالي نصلي ونريح في المسجد شويه لحد ماالمغرب يأذن ونفطر بالمره عشان لما نقف في العزا نبقى فايقين”
قالها زياد وهو يشعر بالظمأ والإنهاك الشديد؛ فأجابه بدر بعقلانية
–مينفعش يازياد.. مينفعش نسيب عزا عمك فاضي مفيش من عيلتنا حد فيه غير واحد بس.. معلش اليوم كان متعب انهارده بس كله بيهون ويعدي.
أومأ زياد بقلة حيلة واتجه معه ليصليان فرضهم، ولكن شيء في قلب زياد جعله يشعر بالطمأنينة في زمن قل فيه الأمن وقلت فيه مصداقية وحُب الصِحاب والأخوات.
مع كل لحظة وموقف تمرّ بين الإثنين، يتيقن كُل منهم الآخر، أن ابن عمه من أحب الناس إلى قلبه، يقف كل منهما بجانب الآخر في كل مواقفه العسيرة قبل اليسيرة، يهتمان بتفاصيل بعضهما البسيطة، ويعشقان تفاهتهم المعتادة ومزاحههم السخيف، يأخذان بيد بعضهما إلى الصلاة، ويتشاركان لحظاتهم ومواقفهم الصعبة، إذا ابتعد واحد، يقترب الثاني منه أكثر ، يعاتبان بعضهما عند الخِصام أو لا يحدث الخِصام من أساسه، ولا يأخذ واحدًا منهما ركنًا بعيدًا عنّ الآخر،يسهران للقيام وللصلاة يذهبان سويًا، لم ولن يترك واحد الآخر وحيدًا مهما حصُل.
بعد توديعهم لعمهم الآخير، ذهب الإثنين لتأدية الفرض وبعد الإنتهاء من الصلاة بخمسة دقائق رنّ هاتف بدر برقم سيف؛ فأجاب بدر سريعًا وتملكت منه الدهشة بعد ثانية من المكالمة حين هاتفته فتاة..!
***
لا تيأس ان الله يُرسل جبره في عز الانكسار.
…
لم تذهب عائشة من غرفة أبيها، فقد بقيت تبكي على فِراشه، ولم تتركها هاجر بل ظلت جالسة تقرأ القرآن بصوت هادئ مطمأن يُشرح الصدور ويداوي القلوب.
أغلقت هاجر المصحف سريعًا عندما شعرت بتعب شديد؛ لتهرع نحو المرحاض مما جعل عائشه تخاف عليها وتذهب وراءها.
أغلقت هاجر الباب وأخذت تغسل وجهها مرارًا خيفةً أن تفقد وعيها، فقد شعرت بدوار شديد انتابها فجأةً.
طرقت عائشة على الباب عدة مرات وهي تهتف بقلق
–افتحي ياهاجر.. هاجر إنتِ كويسه ؟
آخيرًا فتحت هاجر الباب لتخرج وهي تتسند على الحائط بصعوبة حتى بدأت تشعر بإنعدام الرؤية أمامها وسقطت بين يد عائشه التي لحقتها بدورها سريعًا قبل أن تقع على الأرض.
أسندتها عائشه حتى وصلت للأريكة وأجلستها عليها ثم وضعت وسادة وراءها لتميل رأسها عليها محاولة أن تجعلها تفيق، واستطاعت هاجر بفضل محاولات عائشة بعد قليل من الوقت أن تستعيد وعيها.
فاقت هاجر ولكنها مازالت تشعر بالدوار، سألتها عائشة بقلق
–حاسه بإيه دلوقت؟.. بصي خليكِ هنا وأنا هروح عندكم أجبلك دواكِ.. إنتِ حطاه فين ؟
تحدثت هاجر بصعوبة
–خليكِ جنبي ياعائشه.. أنا مباخدش دوا
رمشت عائشة بعدم استيعاب لتهتف
–ازاي.. إنتِ خفيتي ؟
أغمضت هاجر عيونها بتعب لتسترد أنفاسها، حتى شعرت بتحسن قليلًا بفضل الله، فإعتدلت في جلستها كأنه تود قول شيء مهم؛ فقالت مبتسمة
–توعديني متعرفيش حد باللي هقولهولك ده ؟
بإيماء وصدق قالت عائشه
–حاضر والله بس قوليلي مالك
أجابت هاجر بشيء من الحزن
–الصراحه.. أنا في المرحلة الأخيره من الورم.. ايوه الدكتوره قالتلي كده.. خلاص السرطان انتصر عليا.. بس أنا راضيه بقضاء الله ومستنيه اليوم اللي هقابل فيه حبيبي.. هو أحسن من الدنيا باللي فيها.. أنا وقفت علاج عشان ملوش فايده.. مصاريف على الفاضي وكتر خيره بدر اخويا شال فوق طاقته واتحمل كتير.. كفايا عليه لحد كده.. محدش يعرف غير ماما.. عائشه بالله عليكُ متعرفيش بدر ولا أي حد
ظلت عائشه للحظات تتأمل هاجر بفاه مفتوح من الصدمة حتى استطاعت استيعاب ماقالته، فهتفت بدهشة
–ياه ياهاجر.. إنتِ ربنا مديكِ صبر.. لو اتوزع على العالم يكفي ويفيض
ضحكت هاجر بخفة لتقول
–لأ بالعكس.. أنا اللي مصبرني حاجه واحده بس.. إن ربنا قال في سورة البقرة الآية ١٥٥
. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. وأنا طمعانه في رضا ولقاء وجنة ربنا.
تجاهلت عائشة ماقالته وركز ذهنها وازدادت دهشة متمتمة
–إنتِ حافظة الآية بالرقم والسورة كمان؟!
اتسعت ابتسامة هاجر الرقيقة قائلة
–لما بتحبي حد أوي بتحفظي كل تفاصيله الصغيره قبل الكبيره.. وأنا بحب ربنا وأي حاجه قالها أنا فهماها وحفظاها.. الأهم من الحفظ الفهم.. القرآن عاوز فهم.. ولو فهمتيه هتحبيه ولو حبتيه هتحفظيه بسهوله.
شعرت عائشه بالحرج قليلًا، فقالت بإستياء وإنكسار
–أنا عارفه إن اللي زي مكانهم في النار وكده كده داخلينها.. بس بصراحه كل إما أفكر في الموضوع ده بخاف جدًا.. بقول إزاي هيجيلي وش أقف قدام ربنا وأنا بعصيه في كل حاجة.
نهرتها هاجر بلُطف
–إللي إنتِ بتقوليه ده هو اللي حرام وهيزعل ربنا منك
رمقتها عائشة بعدم فهم، فأردفت هاجر بتوضيح
–محدش عارف هو هيدخل النار ولا الجنة..
في حديث للرسول عليه افضل الصلاة والسلام بيقول
(إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها) رواه البخاري.
يعني بالعربي البسيط كده ربنا هو اللي عارف مين هيدخل الجنه ومين مكانه النار أعوذ بالله.. يعني ممكن حد يعمل خير قدام الناس والكل يفكره اللي مفيش زيه وهو من جواه بيعمل كده رياء.. بيتباهى يعني قدام الناس نيته مش صافيه لربنا.. إحنا المفروض منحكمش على حد ولا على نفسنا هندخل النار ولا الجنة.
قاطعتها عائشة
_بس معروف اللي عمله وحش مكانه النار
أجابت هاجر بنفي
–لأ الموضوع مش كده.. اللي بيموت على ذنوب ده اللي نقول عليه عمله وحش.. ربنا يكتب للكل حسن الخاتمة.. بس برضو ملناش الحق نقول عليه هيخش النار.. ربك اسمه الغفور الرحيم.. ربنا قال باب التوبه مفتوح للإنسان لحد مايجي يموت وتقفل باب توبته..
بصي ياعائشة.. والله لو كانت ذنوبك كعدِّ قطرات الماء وذرّات الهواء، ولو بلغتْ عنان السماء ثم أتيت خالقك الكريم تائبًا منيبًا ورجعت نادمًا مُنكسراً لغفرها لك الرحيم ولا يُبالي.
الكلام ده سمعته في درس من دروس الدين اللي كنت بحضرها وأنا صغيره ومش هنساه أبدًا وفي آيات بتأكد الكلام ده..
في سورة الزمر الآية ٥٣ في قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
وفي سورة النساء الآية ٤٨ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.
وفي حديث قدسي بقا أنا بعشقه عشق كده.. عارفه ياعائشه لما أكون مخنوقه وافتكره بحس براحه نفسيه رهيبه.. الحديث بقا ياستي بيقول
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: “يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة”.
رواه الترمذي وصححه ابن القيم..
مهما تعملي من ذنوب وجيتي استغفرتي ربنا وندمتي عن اللي عملتيه ربنا بيغفرلك كل ذنوبك
قالت عائشه بدهشة
–كلها ؟!!
أومأت هاجر بسعادة
–كُلها..
ابتسمت عائشه وقالت
— ربنا جميل أوي ياهاجر.. ربنا ميستاهلش مننا إننا نعصيه.. يارب يسامحني
” هيسامحك ياعائشه والله.. بس قربي منه “
قالتها هاجر وهي تتجه نحو المرحاض، استوقفتها عائشه متساءله
–إنتِ تعبتي تاني ؟
استدارت لتجيب
— لأ.. بس هتوضى عشان أصلي.. أصل فيه واحده اسمها عائشه بحبها أوي وعاوز ادعي ربنا يقربها منه عشان نتسابق في الطاعات زي زمان.
اتسعت ابتسامة عائشة لتقول بإرتياح شعرت به للتو
–يلا عشان أتوضى بعدك.. وحشتني أوي ايام زمان.. لما.. لما كنت مبسيبش فرض
قالت آخر جمله بندم وحزن شديد، ثم نهضت لتتوضأ وتعود لتشرق من جديد لتُصبح عائشة قدوتها السيدة عائشة..
رن هاتف عائشة عدة مرات ولم تسمعه لأنه كان صامت، لم يكن المتصل سوى ذلك الوغد الوسيم
“أميـر المليـطي”
تُرى هل تراجع أميـر عن فكرته في النيل من عائشة والتي وسوست بها صديقتها مريـم، أما أن الفكرة تقبل في داخله أكثـر.. ؟
***
لم أندم في حياتي مثلما ندمت على الثقة التي وضعتها في أناس لم يستحقوها. – الحسن الثاني بن محمد
….
اصفر وجه روان اصفرار وجه الميـت، واختنقت العبارات في حلقـها عندما رأت الدم ينساب من رأس سيف؛ فلم تدرِ ماذا تفعل..
أخذت أوصـالها تهتز من الخوف وهي تقترب منه ببطء هامسة
–سـيف.. سـيف !
كان سيف يرمش بأهدابـه ببطء شديد وهو يغيب عن الوعـي؛ فقـامت روان في الحال بأخذ هاتفه ثم فتحته ببـصمته لتتصل علـى بدر شقيقه، وحين رد بدر.. قالت روان بصوت مضطرب خافت
–سيف أخوك عمل حادثة
صاح بدر بفزع
–سـيف !!.. فين.. هو فين
أملته روان العنوان ثم أغلقت الهاتف وألقت عليه نظرة آخيرة قائلة بندم
–مكنتش أتمنـى ده يحصـل.. بس كان لازم أدافع عن نفسي.. شرفي وكرامتي وسمعتـي أهم منك ياسيف.. أنا حبيتك بس للأسف كنت غبيه.. لو ليك عُمر ياريت متزعلش مني أي واحده مكاني هدافع عن شرفها.. ولو مُت فلكل أجل كتاب وأوعدك هدعيلك بالرحمة.
كانت هذه أخر كلماتها له قبل أن تتركه وترحل..
لم تمر عشرُ دقائق وجاء بـدر وزيـاد والهلع والخوف باديًا في وجوههم.
كان سيف وقتها قد فقد الوعي من كثرة الدماء التي نزفـها،حمله بدر واوقف زياد سيارة ليحملاه لأقرب مشفى، ومن حسن حظه أن المشفى كانت قريبه منهم.
اندفع بدر داخل المشـفى وهو على شفا حفرة من الصراخ والبكاء، فهذا الغارق في دماءه بين ذراعيه ليس إلا شقيقه بل إبنه الذي لم ينجبه، ابنه الذي رباه وكبّره حتى صار شابـًا يافعـًا، ظل بدر يدعو في نفسه أن ينقذ الله وطنه، نعم رغم كل الإهانات التي تلقاها بدر منه، إلا وأنه يشعر في وجود إخوته بالآمان فهم أوطانه الذي لا يستطيع العيش التنفس بإرتياح بعيدًا عنهم.
وضعه على تروللي نقل المريض لإدخاله العمليات بأمر من الطبيب..
بعد بُرهة جاءه الطبيب ليقول بعمليه
–حد فيكم فصيلة دمه A+
رد بدر سريعًا
–أنا فصيلة دمي زيه.. هو أخويا علفكره.. طمني يادكتور سيف ماله
أجاب الطبيب بهدوء
–خير إن شاء الله.. هو فقد دم كتير ولازم نعوض الدم المفقود
تم نقل الدم من بدر لـسيف، ليستطيع الطبيب أن يتفحص باقي جسده بأريحيه.
بعد عدة ساعات قليلة خرج الطبيب بعد أن قام بتخيط جرح سيف ليقول بنبره يشوبها الآسف
–إنت أخوه مش كده.؟
بإيماء وقلق أجاب بدر
–ايوه.. هو فاق ؟
رد الطبيب
–لسه شويه عشان البنج.. بس في حاجه مش مُبشره لكن منقدرش نقول غير إنه قضاء وقدر
ابتلع بدر ريقه وظل يرمق الطبيب بتيه، فقال زياد بتعجل
–خير يادكتور.. في إيه ؟
قال الطبيب بأسف
— الحادثة أثـرت على النخاع الشوكي وأدت لشلل نصفي1
اتسعت أعين بدر وزياد بصدمة وظلوا ينظرون للطبيب دون أن يخرج منهم حرف واحد وكأن الأحرف جفت !
***
ليس العيبُ في الحبِّ ولكن العيبَ فينا، فنحن من أساءَ الاستخدامُ.
…
ارتدت روميساء إدناءها ونقابها استعدادًا للذهاب للدرس، هاتفت روان كثيرًا ولكنها لم تجب؛ فأسرعت هي بالذهاب حتى لا تتأخـر.
كان الشارع المؤدي للدرس قريبًا من قسم الشُرطة، وهناك توقفت سيارة تابعة للشرطة بها بعض الضباط المبتدئين أمام مقر الدرس مباشرة، مرت روميساء من أمامهم وكالعادة تمشي على إستحياء تنظر أمامها ولباسها لا يظهر أي شيء حتى عيناها الجميلة أخفاها النقاب بإحتشـام، توقفت أمام الدرس وحدها تستذكر دروسها، فيبدو أن المُعلم تأخر ولم يأتي.
التفت لها واحد من الجالسين بالسيـارة ليقول بسخرية
–إلحق ياض ياعلي.. خيمه ماشيه
رد صديقه على نفس الوتيرة ساخرًا
–هو الجماد بقا بيتحرك ولا أنا اللي مش واخد بالي
هتف ثالثهم ضاحكًا
— طب دول بيتجوزوا ازاي.. لا حد بيشوفهم ولا بيعجب بيهم ولا بيتحبوا.. بيتجوزوا ازاي ؟؟!
سمعت روميساء حديثهم، ولكنها لم تجفل ثانية وكما يقول التعبير الدارج “مفيش شعره اتهزت منها” بل ابتسمت روميساء قائلة في نفسها
–الحمدلله الذي رزقني الإحتشام.. إما يألشوا عليا أحسن أما افتنهم واخد ذنوب أنا مش حملها ربنا يهديهم ويصلح حالهم.
لحظات وانتبهت لصوت رجولي خشن صارم يهتف بحِدة حتى أخرس الجميع
— بدل قلة أدبكم على اللي رايح واللي جاي قوموا صلوا العصر.. مش سمعت الأذان يابغل إنت وهوا
أدى الجميع التحية بخوف، ليقول أحدهم بتوتر
–إحنا آسفين ياكريم باشـا.. بس كنا مستنين إذن حضرتك عشان المأمورية
“أنا مش باشا ياخويا.. اسمي حضرة الظابط كريم، بمناظركم دي مش نافعين لا في مأمورية ولا حتى تمسكوا حرامي معيز…اتنيل انت وهو شوفوا شغلكم.. أنا وسامي اللي طالعين المأمورية دي عشان دي للرجالة بس”
قال كلماته القاسية وهو يرمقهم بسخرية وإحتقار، ثم نظر خلسة لتلك الواقفة بخجل تذاكر دروسها، لم تكن تلك أول مرة يراها فيها كريم، بل رآها كلما مرّت من أمام القسم، حتى أنه أعجب كثيرًا بملابسها الواسعة والمحتشمة وتمناها في نفسه “زوجته” دون حتى أن يرى شكلها، الشكل لا يهمه.. المهم عنده الروح الطيبه والأخلاق الكريمة فهما اللذان سيعيشان للمات، أما الجمال سيفنى مع الوقت.1
لم تنتبه روميساء له ولم تراه من قبل، بل سمعت صوته فقط، لكنها لم ترفع عيناها لتراه أساسًا.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية يناديها عائش)