روايات

رواية وبها متيمم أنا الفصل السابع والعشرون 27 بقلم أمل نصر

رواية وبها متيمم أنا الفصل السابع والعشرون 27 بقلم أمل نصر

رواية وبها متيمم أنا الجزء السابع والعشرون

رواية وبها متيمم أنا البارت السابع والعشرون

وبها متيمم أنا
وبها متيمم أنا

رواية وبها متيمم أنا الحلقة السابعة والعشرون

على مقعد له وحده جلس خلف السور الحديدي لشاطئ النيل، بعد أن تعب من سير طويل دون تحديد وجهة له، من وقت أن تركها وترك العمل بعدم تحمل وهو على هذه الحالة من الوجوم والشرود، يلوم نفسه، لا يلومها، فتصرفها كان طبيعيًا لتدخله في شأن خاص بها، بعصبية وانفعال جعل مخزون اللطف لديها نحوه ينفذ لتضع الحد الفاصل حتى يعود لصوابه، وقد بدا أنه نسي نفسه ونسي الفارق الذي يمنعه من التقرب، هو المتعوس المبتلى بالمسؤولية من وقت بلوغه، وهي الصغيرة الجميلة التي لم ترى من هموم الدنيا سوى شجار الرجال من ابناء عمومتها للفوز بها، وإصرار أبيها على العودة إلى القرية التي تكرهها وتكره أن تكون نسخة مكررة من أخواتها.
زفرة متعبة اخرج بها كتلة كثيفة من الهواء من صدره، وعينيه اتجهت نحو المياه الزرقاء الراكدة بهدوء، يتمنى أن يجد السكينة ليستريح، لقد تشعب هذا الوباء الخطير بقلبه حتى جعله لا يرى من النساء غيرها، رغم كل التحذيرات التي يتخذها على نفسه، لا هو بقادر على المضي قدمًا بحياته واختيار امرأة أخرى تشاركه رحلته، ولا هو يملك الجرأة لاقتحام حصونها، لو كان الأمر مرتكزًا على المواجهة مع أبيها فقط، لاستطاع التحدي بكل قوة للدفاع عن حقه بها، وحقها في الحياة باختيار الشريك المناسب لها، هذا لو كان مناسبًا، فهو الأعلم أنه أبعد ما يكون عن هذه الصفة، حتى وقلبه يحدثه أحيانًا بوجود مشاعر تطل من عينيها نحوه، فتجعله ينتشي بسعادة وقتية قبل أن يستعيد عقله، مذكرًا نفسه، أنها مجرد خيالات يرسمها من الا شيء، حتى لا يصدم بواقع يخشاه كالذي حدث صباح اليوم، نزل بعينيه نحو الهاتف الذي يمسكه بيده، وقد فتحه بعد غلقه، علّها تعاود الكرة والاتصال به، هذه المرة سوف يرد حتى وهو يعلم انها تتصل بدافع بعيدًا تمامًا عما يتمناه، ترى هي الاَن ماذا تفعل في غيابه؟ أتكون حزينة لحزنه ام أنها تتابع عمل رئيسها الذي اهمله برعونته؟
يا لهذا العذاب الذي لا ينتهي، ارتفعت عينيه للسماء برجاء مدمدمًا لرب الكون علّه يجد الخلاص:
– يارب، يااارب.
❈❈-❈
– إدخلي يا صبا.
قالها عدي بلهجة تبدوا طبيعية ولكنها تخفي من وراءها، سعادة ممتزجة ببهجة لا مثيل لها، لا يصدق أنه نجح هذه المرة لتأتي إليه بقدميها، رغم عدم استحسانه لهذا الأسلوب الرخيص في البداية، إلا أن النتيجة تستحق، هذه العنيدة المتمردة تدخل إليه الاَن، طالبة المساعدة وهو لن يتأخر معها، يتابعها بعينيه وهي تخطو بتردد، ويجاهد بكل قوة حتى لا تخونه تعابير وجهه، جميلة وبهية لدرجة تحبس الأنفاس بالصدر، فتجعل رؤياها قبلة للنظر.
توقفت فجأة وقبل أن تصل للمكتب على وسط السجادة التي تغطي الأرضية، لتجعله يجفل بخوف أن تغير رأيها وتعود أدراجها، فقال مشجعًا:
– نعم يا صبا، كنتي عايزاني في إيه بقى؟
همت لتتكلم، ولكنه سبق بقوله:
– طب اتفضلي اقعدي الأول وبعدها اتكلمي، انتي مش هتاخدي اوامرك مني وتمشي، دا انتي طالبة رؤيتي في طلب على حسب كلامك ولا إيه؟
اومأت برأسها صامتة وتقدمت تقطع الخطوتين لتجلس أمامه خلف المكتب، فعاد بجسده للخلف يبادرها بالحديث حتى يسهل عليها المهمة:
– اتفضلي يا ستي، انا سامعك كويس اهو
رفعت عينيها الجميلة إليه بتشتت في اختيار بداية مناسبة للحديث، وهو يتابعها بوله صامتًا، حتى همست قائلة:
– يا فندم انا طالبة حضرتك في أمر… يخص واحدة صاحبتي
– صاحبتك مين يا صبا؟ اتكلمي انا سامعك، ولا اقولك ثواني لحظة.
انتظرت لتجده يتصل بأحدهم قائلًا:
– ايوة يا بني، اتنين عصير لو سمحت، تحبي تشربي إيه يا صبا؟
قال الأخيرة بسؤال مباشر لها، وكان ردها باعتراض واضح:
– لا ما انا مش عايزة اشرب حاجة.
تجاهل حدتها وتابع لمحدثه في الهاتف:
– هات اتنين لمون.
– بس انا حضرتك قولت مش عايزة.
انهى المكالمة ليرد بحزم:
– وانا مطلبتش غدا، دا مجرد عصير يا صبا.
ادهشها هذا الهدوء المبالغ فيه، وهذه الأريحية في خطابها، قبل حتى أن يعرف السبب الحقيقي لقدومها، وكأنه شخص عادي ومتفرغ، لديه من الوقت ليستضيف موظفيه ويطلب العصائر لهم أيضًا.
– ها يا صبا، كنتي عايزاني في إيه بقى؟
سألها لتستفيق من شرودها متذكرة أمرها الجلل، فخرجت إجابتها هذه المرة بشكل مباشر ودون مماطلة، حتى تنهي هذه الزيارة:
– حضرتك انا كنت طلباك في أمر مودة.
رد مستهبلًا يدعي عدم المعرفة:
– مودة دي اللي البنت بتاعة النظافة صاحبتك، مالها بقى؟
اشاحت عينيها عنه بحرج، تلعن الأخيرة لتسببها في هذا الوضع المخزي الذي وضعتها به، فخرج صوتها بصعوبة تجيبه:
– بصراحة انا مش عارفة اقولهالك ازاي بس هو أصل……
توقفت تبحث عن كلمات فتابع يحفزها وعينيه تنهل عن قرب من جمالها، فلا يفصله عنها سوى مسافة المكتب:
– قولي يا صبا متتكسفيش، لو صاحبتك عايزة أجازة مرضية ولا سلفة انا على استعداد…
– لأ هي مش عايزة سلفة ولا أجازة مرضبة…..
قالتها سريعًا لتبتلع ريقها قبل أن تتابع وهي تنهج بانفعال:
– حضرتك مودة طالبة مساعدة مختلفة خالص، وانت ممكن ترفض عادي على فكرة، دا شيء انا متوقعاه، بس انا جيتلك بناءًا عن رغبتها.
تقلصت تعابير وجه ليبدوا أمامها مفكرًا بحيرة قبل أن يسألها:
– صبا جيبي م الاَخر، بجد أنا مش فاهم حاجة.
عاد بها لنفس النقطة التي تجعلها تكره مودة وتكره اليوم الذي عرفتها به، ظهر الإضطراب على قسماتها، ورأسها مطرق نحو الأرض بضيق وانزعاج، فقال ملطفًا ليخفف عنها:
– ليه التفكير الكتير ده يا صبا، قولي عن مشكلة صاحبتك وانا مستعد للمساعدة مهما كان الأمر، كفاية انها من جهتك.
قال الاَخيرة لترفع عينيها إليه غير مستسيغة الجملة، مما جعل الرد هذه المرة يكون بسؤال:
– صحيح هو انت ازاي حضرتك مش عارف بالمشكلة وهي تمت في المول بتاعك؟
ببراعة اخفى ارتباكه، ليرد بلهجة عادية قاربت الإقناع:
– المول دا مجرد رقم في أملاك العيلة يا صبا، وانا راجل بدير مية حاجة تانية معاه، يعني مش بتابعه يومي زي الفندق مثلا عشان اعرف كل اللي بيحصل فيه، المهم دلوقتي بقى، ايه المشكلة اللي عملتها صاحبتك في المول بتاعي؟
عبارته الاخيرة كانت مستفزة لتجعلها ترد على الفور:
– صاحبتي معملتش مشكلة في المول، دي هي اللي اتحطت فيها بغباءها، م الاَخر كدة هي كانت بتشتري فستان من محل هناك، وعلى حسب كلامها يعني، هي لقت خاتم مكنتش تعرف بقيمته، حطيته في جيبها ، وتاني يوم الست صاحبة المحل بلغت عنها.
– يعني هي سرقته يا صبا.
قالها بلهجة ماكرة منتبهًا لهذا التجهم الذي غطى معالم وجهها لترد بقوة:
– ممكن يكون هو كدة زي ما انت بتقول، بس المهم بقى في الموضوع، هو أنها عايزة ترجعه ومش عارفة لانها مسجونة طبعًا، ودا اللي هي قصداك فيه، انك لو تقبل يعني، تستخدم نفوذك أو علاقتك مع الست وتخليها تخرجها، عشان تروح بيتها وتدور على الخاتم بنفسها.
انشق ثغره فجأة بابتسامة أثارت توجسها، قبل أن يفصح لها قائلًا:
– صاحبتك دي جريئة اوي يا صبا، يعني تسرق وعايزاني أنا صاحب المول كمان اتدخل لها.
إلى هنا وقد فاض بها، نهضت تفاجئه برد فعلها قائلة:
– تمام يا عدي باشا، انا كدة عملت اللي عليا، وع العموم صاحبتي كان طلبها منك انساني مش جراءة ولا حاجة، لكن طبعًا انت معاك حق، عن إذنك…..
– استني هنا…..
هدر بالاَخيرة ليوقفها قبل أن تغادر نهائيًا، فهذه المجنونة كادت أن تضيع فرصته بفعلها، ونهض منفعلًا ليلتف حول المكتب فيقابلها بقوله:
– إنت ماشية كدة على طول، هو انا لسة اديت رأيي؟
وترها هذا القرب وهذه النظرات التي لا تريحها منه، ولكنها تغاضت لترد بعزة من شيم شخصيتها المعروفة:
– سعادتك انا عارفة من الأول ان الموضوع صعب، وأدخلت فيه مضطرة تحت إلحاح مودة وخوفي على مستقبلها، ولتاني مرة بقولك، أنت لك حرية الأختيار ، في أنك تقبل أو ترفض، المهم ان انا عملت إللي عليا.
أنهت جملتها ونزلت بعينيها على الأرض، متكتفة الزراعين في انتظار قراره، ولا تعلم أنه قد سرح في ملامحها، بعد أن تقلصت المسافة بينهم، لتزيده انبهارًا بها، مميزة وفريدة في كل شيء، ليته قابلها منذ زمن.
حينما طال شروده رفعت عينيها إليه بتساؤل جعله يتحمحم مستجمعًا نفسه ليرد برسمية لا تخلو من المماطلة:
– خلاص يا صبا، انا هبحث الموضوع ده بنفسي واشوف اتصرف فيه ازاي؟
اومأت برأسها لتخرج تنهيدة مثقلة، وكأنها أزاحت همًا من صدرها، لتستأذن خارجة، فتتركه يراقب سيرها حتى خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفها، فاستطاع التحرك اخيرًا،
ليجلس على حافة مكتبه بانشداه ظل ملازمه لعدة لحظات، وهو يعيد برأسه اللقاء من أوله، ليردد بعد ذلك بذهول مع ابتسامة ارتسمت على ملامحه:
– دي حتى مدتنيش فرصة عشان اشد ولا ارخي، يا نهار أبيض، قال وانا اللي كنت راسم وحاطط خطط.
❈❈-❈
توقفت بسيارتها في مكان قريب من المدافن، لتكمل الباقي سيرًا على أقدامها، حتى وصلت للجزء المخصص لمقابر العائلة، طربت أسماعها بالصوت الملائكي الذي كان يصدح بترتل أيات القرآن الكريم وكانت المفاجأة حينما علمت بهوية القارئ الذي كان جالسًا بالقرب من قبر أبيه يتلو اَخر ألأيات من سورة ألرحمن، فظلت واقفة محلها تتابعه بقلب يخفق بقوة تقارب القفزات في صدرها، لا تصدق أن شقيقها الصغير كبر وتغير في هذه السنوات القلائل التي غابتها عنه ليصبح بهذه الصورة الرائعة وهذه النضج الأخلاقي والديني ايضًا، لقد اضحى شخصًا اخر رغم سنوات عمره الصغيرة يسر العين ويسعد القلب.
يبدوا أنه قد شعر بها، وذلك لالتفاف رأسه نحوها فور انتهائه من القراءة، فكانت فرصتها لتهجم عليه بشوقها وفرحها، تعانقه بذراعيها وتقبله على وجنتيه مرددة:
– ميدو يا روح قلبي، بسم الله ما شاء الله عليك، ايه الجمال ده، ربنا يحفظك يا حبيبي، ربنا يحفظك
حينما انتبهت اخيرًا على جموده، وقد كان كالتمثال يطالعها متوسع العينين بجزع، فابتعدت بإجفال تسأله:
– إيه يا قلبي، هو انت هتعمل زي المرة اللي فاتت ولا إيه؟ مش معقول كمان تكون المرة دي معرفتنيش.
رده خرج بفظاظة لم يقصدها:
– لا يا رباب عرفتك، بس للأسف بعد ما اتخضيت في البداية من هيئة الست الغريبة اللي هجمت عليا تحضني وتبوسني
ابتلعت ريقها بحرج تستنكر قوله باستهجان:
– يااه ست غريبة كمان! مش لدرجادي يعني، انا اه اتغيرت، بس انت أكيد عارفني يا ميدو ، لو مش بشكلي ولا حتى صوتي، يبقى ع الأقل تعرفني بشهرتي، ولا انت هتنكر دي؟
نهض فجأة ليحدثها من مستوى طوله المقارب لطولها الاَن:
– لا يا رباب مش هنكر انك مشهورة حسب ما بسمع، بس بصراحة أنا مش متابع حساباتك، لأن المحتوى اللي فيها لا هو هادف عشان يعجبني، ولا حتى هينفعني في دراستي، يبقى اضطر اتابعه ليه؟
– هو صغير ولا يعلم بتأثير كلماته الحادة عليها.
هذا ما كانت تردده بداخلها لتعطيه المبرر لتسامحه، شقيقها الصغير الذي تربى على يديها، يقرعها بكلمات قاسية والاَن يزيد عليها بنظرات غير مريحة تشمل ملابسها حتى ما ترتديه في قدميها في الأسفل، ليفاجئها بقوله:
– ايه اللي انتي لابساه وجاية بيه دا يا رباب؟
بتعالي مقصود سألته:
– وماله بقى لبسي؟ ما هو دا استايلي اللي مشهورة بيه، ما انت لو متابع هتعرف.
– ومش عايز اعرف؟
قالها بحدة وأعين مشتعلة متابعَا:
– يا ست يا مشهورة، إستيالك ده ع الشاشة، مش ع الأرض، وفي حتة طاهرة زي دي، طب قدري حتى رهبة المكان، جيالي ببنطلون تحت الركبة، وبلوزة محددة معالم……. استغفر الله العظيم يارب.
– تمتم بالاَخيرة يتنحى بوجهه عنها ليزيد على حزنها، فردت بأعين دامعة:
– على فكرة انت اخويا الصغير، وانا اللي مربياك مش انت اللي مربيني.
تجعد وجهه بامتعاض وتهكم واضح لجملتها، فهتفت بدافعية:
– ويكون في علمك بقى، انا جيت على غفلة من غير تحضير، حسيت نفسي مخنوقة وسوقت عربيتي على هنا، يعني مكنش عندي وقت افكر في اللي لابساه.
عاد برأسه إليها وملامح وجهه ما زالت معقدة ليردف في حنق:
– انتي حرة يا رباب، يعني انا ما ليش حق احاسبك .
دنى ليتناول حقيبة مدرسته، فتح السحاب ليضع المصحف الشريف بداخلها، قبل أن يغلقها ويعلقها خلف ظهره قائلًا اَخيرًا:
– ارجو منك بس المرة الجاية تديني تنبيه وانتي جاية تسلمي، على ما اتعود ع الشكل الجديد يعني.
تحرك خطوتين ثم التف برأسهِ نحوها قائلًا:
– حاجة اَخيرة أحب افكرك بيها للمرة الثانية، انا أسمي محمد، معدتش ينفع معايا دلع ميدو، عن اذنك.
ختم بالاَخيرة ليغادر نهائيًا، وتسقط هي على عقبيها منهارة بالبكاء بجوار قبر والدتها، وحيدة، منبوزة، لا تجد أحد بجوارها يؤازرها بقلب المحب في محنتها، إلى من تلجأ؟ وقد ضيعت نفسها، بعد ان استبدلت دفأ الأسرة بمال وعشق مزيف، هانت عليها نفسها، فهانت في أعين الجميع .
❈❈-❈
بوجه ناعس، خرج من غرفته يبحث عن والدته بعد أن
استيقظ قرب العصر، وقد قرص الجوع معدته، ويريد سد حاجته بأي لقيمة من الطعام، وصله صوتها من داخل غرفة المعيشة، ليحدد وجهته نحوها، تلتقط أسماعه ما تتفوه به:
– حلو اوي الطقم الفوشيا يا حسن، اشتريه يا حبيبي، مهيمكش من اعتراضها…….. وهي عايز تجيب إيه؟…….. لا لا يا حسن، بلاش الالوان الكاتمة والغامقة، متطاوعهاش على جنانها.
دلف إليها متعقد الحاجبين باندهاش، ليجلس بالقرب منها بوجه متسائل رغم أثر النوم عليه، يدلك بكفه على خلف عنقه، تجاهلته مجيدة عن عمد لتتابع مكالمتها باهتمام:
– أيوة يا روح قلبي، وهاتلها كمان فساتين، البت المجنونة دي، جسمها مظبوط وبيليق عليه….
– جسمها!
خرجت من أمين باندهاش، لتحدجه مجيدة بشراسة، تبرق عينيها نحوه بتحذير، بعد أن التقط هفوتها، ليعقب متهكمًا:
– وانا مالي يا ست، ما تنقي انتي كلامك الله.
زفرت بقنوط لتنهي المكالمة على عجالة حتى تفرغ له:
– تمام يا حسن، أي جديد بلغني وابعتلي الصور ع الوتساب، اعتبرني ماشية معاكم في السوق……. إيه الحاجات التانية دي ال……؟
قطعت لتطلق ضحكة رنانة أثارت اهتمام أمين ليتيقن من حدسه بعد قولها:
– مش دلوقتي يا منيل اصبر شوية، للبت تكش منك، دا احنا مصدقنا انها فكت شوية…
ختمت بضحكة قبل أن تلتفت نحو الاَخر، فوجدته يرمقها باستنكار رافعًا طرف شفته، غارزًا سبابته في وسط وجنته، كادت هيئته أن تضحكها، ولكنها تماسكت لتخاطبه بجدية:
– نعم يا حليوة، وشك مقلوب كدة ليه؟
بغيظ شديد كان يصدر مع كل حرف يتفوه به، رد يجيبها:
– على فكرة بقى، أنا صاحي أوي ووصلني الجزء الأخير من المكالمة، قولي لابنك السافل قليل الأدب يلم نفسه، دا احنا لسة ملبسناش دبل، أمال لما نكتب الكتاب هيحصل إيه؟ اللي كنا فاكرينه مؤدب وبيتكسف، طلع مية من تحت تبن.
كبحت طيف ابتسامة عابثة كادت أن تفضحها لتتخصر قائلة بمقارعة:
– اسم الله يا حبيبي واقوله ليه بقى يلم نفسه؟ ما هو قاري فاتحة، وكدة كدة هنلبس دبل الأسبوع اللي جاي، ووعد عليا يا حسن لاكون كاتبة كتابك في أسرع وقت، ثم كمان يعني الشقاوة مطلوبة بين كل اتنين مخطوبين، عشان ياخدوا على بعض وكدة.
ردد صائحًا خلفها باستهجان:
– ايه؟ ياخدوا على بعض من دلوقتي! في إيه يا ست الناظرة، دا انتي كنتي شديدة زمان، ليه بقى جايا ترخي دلوقتي وابنك في سن خطر والوضع ميسمحش.
هذه المرة لم تقوي على الكبت أكثر من ذلك، لتضحك ملء فمها مرددة له:
– لأ يا حبيبي يسمح، مش هيتجوز ويخلصني من مسؤليته، يبقى يعمل اللي هو عايزه، قال يسمح قال.
قالت الأخيرة لتنهض مكتفية بهذه الجرعة، وقد اعتلى الحنق قسماته، لتتمتم ببرائة تدعيها:
– ها عقبال يارب كل اتنين بيحبوا بعض.
تحركت خطوة لتلتف إليه سائلة:
– أحضرلك غدا يا أمين؟ اكيد يا حبيبي جعان، امال يعني قايم كدة بخلقتك المقلوبة دي ليه؟
اكتفى بالصمت مضيقًا عينيه، وزفير سخطه يخرج الدخان من إذنيه وفتحتي منخاريه.
ادعت التغافل لتكمل في الخروج مرددة:
– هروح احضر غدا، بس انت افرد وشك شوية.
وصلت لنصف المسافة لتعود إليه مرة أخرى قائلة:
– اه صحيح يا أمين، انا خارجة بعد شوية، لو مش فاضي توصلني معاك، اتصلي بتاكسي يجي ياخدني.
– ليه رايحة فين؟
سألها بخشونة يظهر انزاعجه، وردت تجيبه بتنهيدة أسى:
– مشوار مهم والنبي يا بني، حكم الست أنيسة لما اتصلت بيها من شوية، بلغتني ان ضغطها واطي وحاسة ان عضمها متكسر.
علق على الأمر وكأنه حدث جلل:
– يا نهار أبيض، ضغطها واطي وحاسة كمان ان عضمها متكسر… لا انا هروح معاكي اطمن ع الست، ميصحش برضوا.
أومأت بابتسامة جانبية وهي تستدير عنه مدمدمة:
– اه يا حبيبي ميصحش امال ايه، دا كفاية صنية الكيكة اللي هبشتها لوحدك
❈❈-❈
– بسسسس اوقف هنا.
قالتها شهد ليذعن حسن لطلبها ويوقف السيارة بالقرب من الشارع المتواجد به منزلها، قائلًا:
– طب ما احرك العربية شوية واوقفها قصاد البيت، ولا هو الشارع ضيق ومش هينفع اخرج منه يعني؟
بابتسامة ردت وهي تتناول الأكياس الممتلئة عن أخرها بالملابس:
– لا يا حبيبي الشارع يسمح طبعًا، بس انا مش عايزة الفت نظر الجيران، ويمسكوا سيرتي بقى، راحت مع خطيبها، رجعت مع خطيبها .
اوقف محرك السيارة والتف لها يقول باستهجان:
– طب وفيها ايه يعني يا شهد؟ ما يقولوا اللي يقولوه.
– مش انا خاطبك وقاري فاتحة قدامهم كلهم.
تنهدت تشيح بوجهها وابتسامة عزبة تزين ثغرها، قبل أن تعود إليه شارحة:
– يا حسن افهمني، انا بتكسف والله من تعليقاتهم، يعني مش كفاية منظري النهاردة قدام العمال لما سحبتني من أيدي قدامهم، قال إيه، عشان ابعد عن الشمس لا تحرقني، انا كدة هبان طرية في نظرهم يا حسن.
بابتسامة عبثية ارتسمت على ملامحه علق بمكر زاد من خجلها:
– ومالوا بقى لما تبقي طرية، هي دي صفة وحشة يا شهد؟
ضحكت لتخبئ بكفها على عينيها فجعلته يضحك هو الاخر، لتعلق بقلة حيلة:
– يا عم ارحمني بقى، اقسم بالله انا بجد مستغرباك، هو انت كدة من الأول ولا انا اللي مكنتش واخدة بالي منك ولا إيه بالظبط؟
رد بضحكة مشاكسة:
– ما انا قولتلك يا ست البنات، أنا ابن مجيدة، يعني تتوقعي مني أي حاجة.
اضزداد اتساع ابتسامتها لترد ببهجة تغمرها كل ما ذكر لها اسم والدته، والتي منذ أن تمت خطبتها به، وهي تحاوطها بحنانها والسؤال الدائم عنها وعن أخبارها، باهتمام في أقل تفاصيل يومها، حتى في انتقاء الملابس الاَتي تخصها، وذلك بإصرار من حسن ليعيدها إلى عهدها القديم في الدلال الذي تناسته برحيل والدها:
– ماشي يا بن حضرة الناظرة، هنفوت لك لاجل خاطرها بس.
همت أن تترجل، ولكنه أوقفها فور أن وضعت يدها على عتلة الباب قائلًا:
– طب مش تخلي عندك دم بقى، وتعزميني حتى على كوباية شاي.
طالعته بتحذير تهز رأسها قائلة:
– ما احنا قولنا مينفعش، دا غير ان احنا اساسًا معظم اليوم مع بعض، وبالليل بنبقى ع التليفون، خليها قريب بقى نعزم ابلة مجيدة على عشا او غدا.
يفهم وجهة نظرها التي تزيد من قدرها في قلبه ولكنه يصر على منكافتها بقوله:
– ماشي يا ست شهد، نصبر على ما تيجي ميعاد العزومة،
قرب رأسه منها متابعًا بهمس ومرح:
– حتى عشان بالمرة نستعجل بميعاد الجواز، ما هو انا لازم الاقيلي منفعة.
ابتعدت برأسها عنه لتترجل على الفور قبل أن تلقي قولها الاَخير:
– خلاص يبقى هنأجل العزومة يا حسن.
اغلقت الباب ليتمتم من محله خلف عجلة القيادة:
– دا على أساس ان أبلة مجيدة هتسيبك، غلبانة والله يا شهد.
❈❈-❈
تركته وسارت بقلب يخفق بسعادة تحاول جاهدة للملمة ابتساماتها مع تذكرها لكل كلمة جميلة أو مشاكسة منه لها، تلقي التحية على هذا، وتتلقى سلام هذا من أهل المنطقة، برزانة تخشى اهتزازها، بسبب ابن مجيدة الذي يدهشها كل يوم بأفعاله المجنونة معها.
حمدت الله أنها وصلت المبنى لتدلف إليه بخطوات مسرعة وما همت أن تضع قدمها على أول درجة من سلم البناية حتى تفاجأت بذراع قوية تجذبها بقوة، وقبل أن تستوعب وجدت نفسها في الجزء المظلم المطل على المنور.
شهقت بفزع بعد أن تفاجأت بصاحب الوجه البغيض أمامها يحادثها:
– إزيك يا سيادة المقاول ولا نقول يا عروسة أحسن؟
قال الاَخيرة وعينيه هبطت على الأكياس الممتلئة بيدها
بنظرة كارهة حدجته، غير مبالية بهذا الغضب الذي يشتعل بعينيه لترد:
– عروسة ولا مش عروسة، انت مالك؟ لا انا عايزة كلامك ولا عايزة سلامك، والحركة الزبالة دي أنا هحاسبك عليها.
قرب وجهها منها وعينيه العميقة تصدح بالتحدي وأشياء أخرى لم تفهمها ليقول:
– طب ما تحاسبيني دلوقتي على طول يا شهد، مستنية إيه؟
توقف وعينيه تجول على ملامحها قائلًا بنبرة متمهلة:
– يعني لو عايزة تضربي مثلًا اضربي، ولو عايزة تصرخي وتلمي عليا الجيران، برضوا اعمليها، انا مشتاق أوي لحسابك يا شهد.
لأول مرة ينتابها الخوف منه، لقد رأت به تحفزًا لأقل هفوة منها وكأنه على استعداد، أو بالأصح مرحبًا لغرض ما في نفسه، هي منذ البداية تعلم بطبيعته الغير سوية، لكنها لم تتخيل أن تطرفه يبلغ إلى هذا الحد من العداء نحوها، أو ربما هو الشيء الاَخر، والذي ترفضه بشده من شخص مثله.
تحركت فجأة تريد تجاهله وتركه ولكنه سبق بوضع ذراعه أمامها يمنعها من المضي، فهدرت هامسة به بغضب:
– ابعد عن وشي يا إبراهيم، انا لا فاضيالك ولا فاضلة للعته بتاعك.
– امال فاضية لمين؟
قالها ليعدل من وقفته ويصبح أمامها متابعًا:
– للمهندس اللي بيتسرمح بيكي ويشتريلك هدايا وبعدها يقف على اول الشارع زي الحرامية وينزلك.
برقت عينيها بإجفال غير مستوعبة لمراقبته لها، استغل صمتها ليردف:
– هو انتي مش كنتي حالفة انك مش هتتجوزي يا شهد، رديتي يمينك بكفارة، ولا هو مكانش فيه حلفان أصلًا؟
قال الاَخيرة ليزداد اشتعال عينيه، واظلام وجهه بإجرام كان يبث بقلبها الرعب في هذه اللحظة، وهو يذكرها بإهانتها له قديمًا حينما رفضت الإرتباط به، بأسلوب جاف يقارب الطرد، ابتلعت ريقها متجنبة الخوض في هذه الواقعة، لتتبادل معه حرب النظرات دون رد حتى وصل إلى أسماعها صوت إحدى الجارات تنزل على الدرج لتستغل هفوته في النظر لأعلى، فأزاحته لتسرع الخطا وتقابل المرأة التي كانت تقترب من وسط الدرج، والتي من جهتها قابلتها بابتسامة مرحبة:
– يا أهلا يا ما شاء الله بالعروسة، شكل المقاول بتاعنا بتجهز نفسها، صح ولا أنا بكدب؟
باضطراب جاهدت لأخفائه، ردت شهد تدعي الإندماج مع المرأة:
– صح يا أم مروة، عقبال مروة يارب.
توقفت لتتبادل معها المزاح وظل إبراهيم محله في هذا الجزء المظلم، بيده سيجارة كان يهم بإشعالها، ولكن الحريق بداخله جعله، يلقيها على الأرض ويدعسها بعنف، وكأنه يفرغ بها طاقة غضبه.
❈❈-❈
عاد اَخيرًا من الخارج، ليدخل بخطواته السريعة نحو مكتبه، متجاهلًا النظر نحوها، وقد انتفضت واقفة بمجرد رؤيته، لتبادره القول:
– هو انت كنت فين من الصبح؟ أنا جلجلت عليك.
أجفلته لهفتها وهذه الرقة في استقبالها له، ابتلع ريقه، ليجيبها بنبرة عادية متجنبًا النظر نحوها على قدر ما يستطيع:
– عادي يعني كان واريا مشوار مهم.
– مشوار مهم في إيه بالظبط؟ دا انت سيبت الشغل فجأة من غير حتى ما تبلغ بسبب انصرافك.
جلست على الكرسي المقابل لمكتبه لتصعقه بفعلها، وتزيده توترًا، طرد من صدره كتلة من الهواء مشبعة بإحباطه، يعيد بذهنه بمجموعة الوعود التي قطعها على نفسه، ليتماسك في الرد عليها وهو يشغل نفسه بالعمل على الحاسوب:
– ما انا قولتلك يا صبا، كان مشوار مهم، يعني مكنش عندي وقت استئذن ولا اقول لحد.
ردت بيقين ترسخ داخلها:
– لأ هو مكانش مشوار، انت زعلت مني، بس انا والله…..
– خلاص يا صبا، الموضوع دا انتهى، ارجوكي متفتحيش فيه تاني
قاطعها بقوله، لينهي هذا الحديث الثقيل على قلبه من بدايته، ولكنها لم تستسلم وتابعت بلهجة نادمة:
– حتى لو كان خلص زي ما بتجول، دا ما يمنعش اني غلطت معاك وانت رئيسي وو…….
توقفت وتوقف عقله هو بانتظار القادم منها، لتردف:
– والله العظيم انا من ساعة ما طلعت وانا لا على حامي ولا على بارد، كنت منتظرة عودتك على نار عشان اجولك، أنا أسفة يا مستر شادي، حجك على راسي من فوج.
قالها بلهجتها الجنوبية لتنزل على أسماعه بمفعول السحر، لم يشغله اعتذارها، على قدر ما شغله الرقة التي تتحدث بها، مجبرًا لا مخيرًا، ارتخت تعابير وجهه ليرد مهونًا وقد أشفق أن يجعلها بهذا الحزن، وهو المخطيء من وجهة نظره:
– خلاص يا صبا، مفيش داعي لدا كله، انسي ارجوكي.
تابعت تستجديه أعينها برجاء:
– يعني انت مش زعلان مني؟
ماذا يفعل؟ تطلب منه الصفح وهو المتيم، تناجي غفرانه، وهو المذنب في حق نفسه بعشقه المستحيل لها، ماذا يفعل وسحرها يكاد أن يذهب بعقله، ويفقده اتزانه؟ ماذا يفعل وبنظرة واحدة منها تجعله ينسى عهودًا ووعود، بل وتجعله ينسى تاريخه؛ إن ترك نفسه لهواها، في الإنسياق خلف الوهم الذي ينسجه خياله، أن تكون قد تعلقت به.
نفض رأسه فجأة من أفكارها لينهي الحديث:
– خلاص يا صبا مش زعلان منك والله، قومي بقى خليني استغل الساعة دي واكمل الشغل اللي ورايا.
قال الاخيرة، واتجه عائدًا ينكفئ على العمل به باندماج جعلها تنهض بحرج لتجلس على مكتبها، واحساس الذنب في حقه ما زال يحزنها
❈❈-❈
بعد أن فرغت من بكاءها تمكنت رباب من قراءة الفاتحة على والديها لتخرج بعد ذلك مغادرة، تسير بين القبور سريعًا باستحياء وقد اثرت فيها كلمات شقيقيها، بعد نقده لما ترتديه وكان رأيه صوابًا هي فعلا أخطأت وكان يجب عليها أن ترتدي شيئًا ما فوق ملابسها المكشوفة تلك، لتراعي على الاقل حرمة المكان.
كانت منشغلة بحالها، غافلة عن ثلاثة شبان خلفها يلاحقنها بخفة حتى تفاجأت بهم يعترضون طريقها، في منطقة خالية تقريبًا من البشر، وقبل أن تصل لسيارتها التي كانت مصطفة خارج المدفن، فصرخت بهم بغضب:
– ايه يا بني آدم انت وهو؟ أبعدوا عن طريقي أحسن لكم، انا مش ناقصة قرف
الثلاثة كانت هيئاتهم غير متزنة على الإطلاق، بالإضافة إلى اتساخ ملابسهم بشكل جعل معدتها تنقلب، مع قرفها الواضح لتشوه وجوههم بندبات وحفر، دب،بقلبها الرعب وهي تجد أوسطهم يضحك لها بابتسامة قميئة أظهرت أسنانه البارزة باعوجاج، وهو يخبرها بأعين مشتعلة تطوف على جسدها باشتهاء:
– لو قرفانة نستحما يا قمر، ولا يكون عندك فكر.
عقبت بعدم فهم:
– تستحمى ولا تقعد بوسخك، انا مالي يا زفت انت، إبعد عن وشي ياللا انت والأوباش اللي معاك دول، خليني اعدي بقولك.
بسخرية واضحة خاطب الشاب زملائه:
– إللحق، دي بتقول عليكم أوباش.
استجاب الأثنين الآخرين لاستظراف صاحبهم بضحكات بلهاء لتكمل الصورة الغبية عنهم، طالعتهم رباب بعدم احتمال لتصيح بهم:
– يخرب بيتك غبائكم، إبعد يا بني انت وهو خلوني اروح .
عاد أوسطهم بالضحك مرددًا لها:
– في إيه يا عروسة، ما احنا قولنالك هنستحمى، يعني هتنبسطي معانا متخافيش، فكي كدة دا احنا هنروقك.
صعقت بجزع وهي ترى الرغبة الظاهرة في أعين الثلاثة بتصميم واضح، فكانت ترتد بأقدامها للخلف، تبحث بعينيها في الأرجاء حولها عن أي بشري، إن كان رجل أو امرأة، لا تصدق أن تكون هذه نهايتها، تلعن غباءها في طرد الحارس والسائق، تلعن تهورها ان تأتي إلى هنا في هذا الوقت .
شجعت نفسها حتى لا تبدوا بهذا الضعف أمامهم، فقالت بقوة تدعيها، رغم اهتزاز صوتها:
– اقسم بالله لو ما اختفيتوا من قدامي دلوقتي لا اكون مبلغ جوزي وهو اللي هايخفيكم ورا الشمس، انتوا مش عارفين أنا متجوزة مين؟ وجوزي من عيلة مين؟
أصدر أحدهم صوت شخرة ساخرة ليقول بتهكم:
– طب ما تعرفينا طب يا مرات المهم، خلينا نتأنس معاه هو كمان.
صاحت به تخرج الهاتف من حقيبتها:
– ماشي خلي الشجاعة دي تنفعك، انا هاعرفكم من هي رباب، مرات كارم رجل الأعمال، ابن اللوا حمدي فخر.
– شيلاه يا لوا.
هتف بها أحدهم وهو يختطف منها الهاتف بقفزة أذهلتها، وقبل ان تصرخ عليه، وجدت نفسها محاصرة بين ذراعي احدهم من الخلف والاَخر أطبق على قدميها يهم برفعها معه، لتخرج منها صرخة عليه شقت حلقها، مفضلة الموت على هذا المصير، قطعها صوت عياري ناري اطلق بالقرب منهما، جعل الثلاث يتركونها لتقع على الأرض وتفاجأ بالجسد الضخم لحارسها، يطلق واحدة أخرى وهو يركض نحوها ونحو الثلاثة الفارين يردد بالسباب والتهديد والوعيد عليهم، بأعين خاوية كانت تطالع حالة الكر والفر أمامها، شهقات مستمرة بتقطع، وقد دمر الفزع اعصابها، لتظل على جلستها على الأرض الترابية التي لوثت ملابسها الفاخرة، ممسكة بكوع يدها الذي اصيب من الوقعة.
وصل إليها حامد أخيرًا، ليطمئن عليها ويسألها:
– العيال ولا الكلب هربوا وسط المقابر، انتي عاملة إيه دلوقتي يا هانم؟
بصوت خرج بصعوبة ردت وهي ترفع يدها إليه:
– ساعدني يا حامد، ساعدني اقوم.
اعطى لها كفه لتنسند عليها وتحرك اقدامها بصعوبة تجرها جرًا حتى اقترب بها ليجلسها على نصف حائط غير مكتمل البناء، يصلها ظل شجرة قديمة في المنطقة، وعاد ليخاطبها:
– سامحيني يا هانم اني جيت متأخر، بس انا روحتلك ع النادي ملقتكيش، ولولا الباشا، قالي ادور عليكي هنا مكنتش هعرف طريقك، بس الحمد لله قدر ولطف.
استوعبت الكلمات لتسأله:
– يعني هو كارم اللي قالك تجيني على هنا، طب هو مجاش ليه؟ انا عايزة اكلمه خليه يجيني دلوقتي ويربي الاوباش دول، خليه يجيني يا حامد.
– ماشي يا هانم، بس هو انتي فين تليفونك طيب؟
سألها لتجيبه ببكاء مختنق:
– خدوه مني يا حامد وكانوا هياخدوني أنا كمان، ياريتني ما جيت هنا، ولا طردتكم من العربية، الحيونات دول اتحرشوا بيا ورموني ع الأرض……
واصلت ببكاء حارق، وأقترب حامد يقول مهونًا:
– معلش يا هانم، نحمد الله انها جات على قد كدة، بقولك ايه، خدي اشربي العصير ده، انا كنت جايبوا لنفسي وهشربوا قبل ما اتفاجأ بالعيال الهبلة دي.
رفعت رأسها تقول رافضة:
– لا انا مش عايزة اشرب حاجة، انا عايزة اروح.
لوح لها بالعلبة المغلفة ليغزر الأنبوب المجوف الصغير داخله، ويعطيه لها قائلًا بحزم ولطف:
– يا هانم اشربي وخدي نفسك عشان تتمالكي اعصابك وتقدري تمشي الخطوتين دول لحد العربية، وانا من جهتي، هاشوف أي طريقة اجيبلك بيها تليفونك من العيال دي.
تناولت منه وتخاطبه برجاء قبل أن تضع الأنبوب في فمها وترتشف منه العصير:
– اتصل بكارم الأول، انا عايزة كارم .
أومأ لها ليتلاعب على شاشة الهاتف ثم يضعه على أذنه، يتابعها وهو ترتشف بنهم، وقد أثر فيها الخوف والعطش مجتمعين. حتى أذا توقفت وطالعته بتساؤل، رد عليها بعجالة:
– بتصل يا هانم بس هو مبيرودش، ححاول تاني.
كان التوتر والألم مبلغ مبلغه منها، فقالت وهي تهم بالنهوض:
– طب خلاص بقى، أنا تعبانة أوي…….و….. مش هستني …. انا…..
قطعت لتطالعه بجزع فسألها باستفهام:
– مالك يا هانم؟
زاد هلعها وهي تحاول تحريك القدمين التي لم تعد تشعر بهم، لتتدمدم بعدم استيعاب:
– رجلي……
– مالها رجلك يا هانم؟
قالها حامد وهو يجلس بجوارها على نصف الحائط، وهي تشعر بخذر ينتشر من أسفل الأقدام لأعلى حتى وقعت علبة العصير منها، وترنحت بجلستها حتى كادت أن تسقط بظهرها للخلف، لولا ذراع حامد التي تلقفتها، ليربت بكفه على خديها:
– حاسة بأيه يا رباب هانم؟
وكأن لسانها اصابه الشلل كما أصاب باقي اعضائها، ولم يتبقى سوى عينيها التي ترفرف بأهدابها برؤية مشوشة، تبسم حامد ليزيد بضمها إلى صدره قائلًا بنبرة تغيرت عن سابقيها:
– ايه اللي حصلك يا رباب هانم؟ ما ترودي يا رباااب.
دوى الهاتف ليضعه على أذنيه يجيب المتصل:
– أيوة يا جميل كله تمام وعال العال.
خطف قبلة من وجنتها بصوت عالي وصل للمتحدث من الجهة الأخرى قائلًا:
– جهزي كل حاجة عندك، الليلة دخلتي ع العروسة.

يتبع……

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وبها متيمم أنا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى