روايات

رواية وبقي منها حطام أنثى الفصل التاسع عشر 19 بقلم منال سالم وياسمين عادل

رواية وبقي منها حطام أنثى الفصل التاسع عشر 19 بقلم منال سالم وياسمين عادل

رواية وبقي منها حطام أنثى الجزء التاسع عشر

رواية وبقي منها حطام أنثى البارت التاسع عشر

وبقي منها حطام أنثى
وبقي منها حطام أنثى

رواية وبقي منها حطام أنثى الحلقة التاسعة عشر

تحسست إيثار بكفها ملمس القماش الناعم المغطي للمقعد الممتد الطول ، ولكنها شعرت بشئ غريب.. ربما فقدت قدرتها على الإحساس بالمثيرات من حولها ، أو شعرت بمرارة طعم الحياة گكل..
أراحت رأسها وتمددت بجسدها على المقعد وصوبت بصرها من خلف نظارتها نحو السماء المشعة بضوء الشمس..
التوى ثغرها بشبح ابتسامة ، وتمتمت مع نفسها ( ياللهي ما أجملها وأسطعها! )
_ ورغم ضوئها الساطع إلا أنها بدت في عينيها مظلمة سوداء ، لا تشعر بجمال صفوها – خاصة أنها ببداية فصل الصيف ، ولا باعتدال الجو ودرجات الحرارة ..
كان هجوم ذكرياتها – ذكرى تلو الأخرى – هجوماً عنيفاً تصدع له القلوب .. تشعر بلوعة الإشتياق والتي لايضاهيها شعور ، ويؤلمها شعور الخزي والحسرة .. بينما ينهش بها شعور الفقدان والمذلة لغير الله .
_ ولكنها ابتسمت ساخرة عندما تذكرت كيف تخلصت من هذا الزوج الشنيع الخلق _ الفظ اللسان_ السيء الطباع ، كما تخلص بُصيلة الشعر من العجين .. وكان هذا نتيجة الخطة التي فكرت في تنفيذها فوراً عقب علمها بفقدانها قطعة حية من روحها ، ابن قلبها الذي لم تره بعينيها ولم تلمس نعومة أظافره ..
ولكنها علمت حكمة الله في قضاه فيما بعد ، فلم يشأ المولى أن يتوطد الرابط بينها وبين هذا الطالح ، وخيراً خيراً ما حدث. ….
شردت في ذكرى بقائها في المشفى ، وما تلته من لحظات حرجة …
……………………………………
(( عودة بالوقت السابق ، قبل ثلاث سنوات ))
_ دلف الطبيب لحجرتها لكي يطمئن على حالتها المتدهورة، ويعاود فحصها .. وعقب غرزه للأبرة المحوية بالمحلول الطبي ، وتفحصه له ، اتجه نحو الباب ، و كاد يترك الحجرة وينصرف ولكنها استوقفته بصوتها الواهن ، فاستدار نحوها ، وبلهجة ضعيفة يتملكها الوهن رددت :
-دكتور ، أرجوك أنا.. آآ محتاجة مساعدتك !
نطق الطبيب مترقباً وقد قطب جبهته بفضول زائد :
-مساعدتي!! في اي بالظبط؟
_ ابتلعت مرارة حلقها وهي تجاهد للنطق بحروف متقطعة وهي تمسح بكفها على جبينها :
– انا آآ جوزي.. ي.. يعني ، اعتدى عليا بالضرب و.. و.. آآ..
قاومت إنهيار عبراتها ، لكنها لم تستطع ، فالأمر أكبر من قدرتها على الإحتمال ..
تساءل الطبيب محاولاً مساعدتها وإستكمال القطع المتناقصة من كلامها :
– وكان السبب في إجهاض الجنين!؟
أجابته إيثار وهي تهز رأسها بتحسر متألمة :
– آآآه ، اا انا .. انا عايزة حقي وحق ابني اللي مشافش النور ، و.. وكنت عايزة حاجة تثبت كلامي عشان آآآ….
بادر الطبيب قائلاً بثبات وهو يوميء برأسه متفهماً : تقاضيه بيها! يعني تقدميها للمحكمة ، صح كده ؟!
تحول وجــه إيثار للوجوم ، وظهرت في نظراتها ، وخلف جفنيها روح الإنتقام والعدائية ، واجابته بمرارة :
-ايوة ، عايزة تقرير طبي بحالتي كاملة ، وآآ.. يا ريت . لو .. لو أمكن تـ .. توضح الضرر اللي آآ…
_إشرأب الطبيب بعنقه ليجوب بناظريه الخارج جيداً ليتأكد من عدم متابعة أحد له ، ثم اعتدل في وقفته واخفض جزعه قليلاً وهو يتكلم بصوت خفيض :
-ماشي ، انا هعملك تقرير طبي وافي ، فيه حالتك وحالة الجنين اللي نزل .. وهيكون مفصل فيه آثار الكدمات والخدوش اللي بسببها خسرتي الجنين ، يعني هعملك تقرير تاخدي بيه حكم من أول جلسة لوقوع ضرر عليكي !
وكـــأن بريق الأمل قد تراقص في مقلتيها الدامعتين ، فتابع بحسم :
-انا عندي اخوات بنات زيك كده ، وقريبين من سنك ، واللي شوفته فيكي محبش اشوفه في اهل بيتي يا مدام ، ولا في حد أعرفه ، وعشان كده هساعدك ، متقليش !
ضغط بكلماته على جرح علاقتها مع أخيها ..
_ فابتلعت حديثه الذي آثار ذاكرتها نحو فعلة أخيها ، أخيها الشقيق الذي زج بها للتهلكة ودهس مشاعرها بنعل حذاءه قبل أن يتركها خلف ظهره ويمضي
.. في حين رأت نصب عينيها نموذجاً حياً لا يقبل المساس بأهل بيته ، فكانت المضاهاة غير عادلة البتة …
_ وبالفعل كان التقرير الطبي الذي وصف حالتها بالفعل مفصلاً وحتى أصغر تفاصيل الإعتداء والإصابات ذُكرت به .. كان هذا التقرير هو العضد لها في مسيرتها العدائية والدفاعية ضد زوجها ، فبه قامت برفع دعوة عاجلة لطلب الطلاق منه ..
واستعانت بمحامية خبيرة بأحوال الأسرة لمساعدتها وقدمت الدعوة في محكمة الأسرة ..
_ وكانت تلك هي أولى خطوات الخلاص منه ..
لم تكل أو تمل فلم يعد هناك جدوى من البقاء مع من إرتضى أن يخدعها ويهينها من أجل الظفر بطفل ، ذاك الطفل الذي لم يقدر له الحياة ..
مرت الشهور عليها وهي تنتظر حكم المحكمة القضائي بالطلاق منه لوقع الضرر وكأنها أدهر ، كان محسن في مناصفتها منذ الجلسة الأولى ، ورفض تطليقها ، ولكن قضت المحكمة بحكمها ، وحصلت في النهاية على حريتها .. ولم تكتفِ بذلك فقط ، بل أرادت تأمين حياتها لذا لجأت إلى هيئة النيابة الموقرة لتحرر محضراً ضده بعدم التعرض لها بأي شكلٍ كان.
_ ومنذ أن حصلت على حريتها مرة أخرى ، تركت ما مضى خلف ظهرها ، وتخلت عن التقاليد والعادات ، وقررت الرحيل عن أسرتها ، وقامت بمتابعة سير العملية التعليمية خاصتها بمفردها .. أجل بمفردها …
_ حيث أقامت بالسكن الدائم المسمى بدار المغتربات في محافظة الأسكندرية ، واستغلت بطاقة هويتها والمدون بها محل إقامتها بالقاهرة حتى تضمن موافقة مسئولي الدار على انضمامها لقائمة القاطنات بها ..
وبالفعل وفقت في ذلك وسكنت الدار طوال ما تبقى من فترة دراستها .. ما يقرب من العامين والنصف .
_ ومن بعد ذلك ، وأمام رغبة والدتها الملحة طوال هذه المدة للعودة لمنزل أسرتها .. عدلت نوعاً ما عن رأيها و تخلت عن تعندها وعادت لمنزل أبيها لتسكن حجرتها گغريبة عنهم ..
تشاطرهم المكان ، لكنها لا تشاطرهم ما يخصها ..
قلت التعاملات بينها وبين أخيها وأبيها ، وأصبحت نادرة بدرجة واضحة..
كانت تضع عملها ودراستها في المقام الأول لها ..
_ نعم لقد عرضت عليها إحدى زميلاتها بالدار العمل گمربية وجليسة للأطفال لواحد من أفضل المكاتب الأسرية التابعة لوزارة التضامن الإجتماعي مقابل الحصول على راتب مجزي ، فوافقت عليها إيثار بعد تفكير متأني ..
هي أرادت الإستقلال ، الخروج من الحيز الضيق الذي فرض عليها ..
وبالفعل وجدت في تلك الوظيفة مؤنس لها ومساعد لقضاء وقت فراغها وسط الكائنات الصغيرة الملائكية والتي تعشقهم عشقاً من نوع خاص …
وبعد أن أتمت دراستها ،كان من المفترض أن تترك تلك الوظيفة ، وتتقلد وظيفة أخرى تناسب مجال دراستها ولكنها رفضت ذلك ، وتخلت عن أحلامها ، فقد تعلق فؤادها بالأطفال ، وأحبت مهنتها حباً جماً …
……………………………………..
” إيثار ”
_ عادت هي إلى أرض الواقع على صوت أخيها الذي هتف منادياً بإسمها …
.. أشاحت بصرها ووجهها بعيداً عنه وهي تنبذ اقترابه منها ثم نطقت بتذمر واضح في نبرتها :
-خير !! اي الحاجة الكبيرة اوي اللي حصلت وخليتك تيجي بنفسك هنا ؟!
ضغط عمرو على شفتيه ، وأجابها وهو يبتلع أسلوبها الفظ في الحديث معه :
-بابا ياإيثار ، تعبان أوي ولسه الدكتور نازل من عندنا من شوية .. لازم تيجي تشوفيه يا إيثار ده طلبه !
_ ابتسمت من زاوية شفتيها بتهكم ثم أردفت بلهجة قاسية متحجرة :
-انت الحيلة و ابنه الكبير ، خليك انت جمبه انا ماليش لزوم
_ اقترب منها ثم انحنى بجسده ليجلس جوارها ..
حدق بها لبرهة ، لكنها لم تعبأ به ، وكأن وجوده والعدم سواء ..
تنهد بعمق ، ثم مد يده لينزع نظارتها الشمسية التي تحجب عنه رؤية عينيها، وإذ به يتفاجأ بالعبرات العالقة بأهدابها وبقايا الدموع التي جفت على وجنتيها ..
تفاجئت من فعلته ، ورمقته بنظرات حادة .. وأشاحت وجهها بعيداً ..
سكين حاد النصل انغرز بين ضلوعه ، وجثى على صدره حجر صوان بعد أن رأى الوهن داخل مقلتيها ، فأجفل بصره بندم بيّن ثم نطق بصوت خفيض :
-تلات سنين ومنسينيش ، مكانش قلبك أسود كده ياإيثار
ابتسمت بسخرية مريرة ، وقد ظهرت علامات الإستنكار على وجهها ، وهتفت بحنق :
– أسود!! هو في أسود من الأيام اللي عيشتها بسببكوا ، شبابي ضاع وانا لسه مكملتش 25 سنة .. حاسة اني ست عجوزة مكرمشة من كتر القهر اللي شوفته وحسيت بيه ، جاي تقولي اسود !!!!!
_ تحسست ذراعيها بكفيها وكأنها تتذكر لمسات طليقها المقززة على جسدها ..
ارتجفت أوصالها وهي تتذكر قسوته في معاملتها والخدعة التي سقطت أسفلها وما كانت له سوى وسيلة رخيصة للوصول لمبتغاه الطامع والغير عادل ..
انتفضت بذعر وهي تقاوم أبشع اللحظات في علاقتهما الحميمية التي أجبرت عليها، ثم أطبقت جفنيها وهي تذكر قائلة :
– لسه فاكرة كل حاجة قذرة كان بيعملها ، حتى كلامه الزبالة اللي شبه وطريقته الشوارعية .. كل حاجة مغابتش عن بالي !
بدى التأثر على وجه عمرو ، فهو لم يهنأ من ضميره الذي لامه بشدة على فعلته ..
مـــد يده بحذر نحوها ، وربت على ذراعها بحنو وقد أثارته كلماتها ، فرد عليها بحذر :
-كل حاجة أنتهت وخلصت ياإيثار، وبقالك أكتر من سنتين ونص حرة .. انسي و عدي كل حاجة ،وارميها ورا ضهرك ، انسي !!!
ردت عليه إيثار وقد سبقت عبارتها الساخرة قهقهه عالية :
– حاضر هنسي ، اصلي ماشية بالريموت ! بمزاجكم أفتكر ، ووقت ما تعوزا مني أنسى هانسى !
_ جذبت نظارتها من يده الأخرى ثم نهضت عن جواره وأشارت له بعينيها لكي يفسح لها المجال حتى تطوي المقعد الخاص بها ، ففعلت ما أرادت دون أن ينطق ، ووقف قبالتها ليكون حائلاً بينها وبين المقعد ثم أردف بنبرة جادة :
-إيثار ، لو لسه ليا عندك ولو شوية معزة لازم تيجي معايا وتقعدي مع بابا ، بابا بيموت ياإيثار .. أرجوكي
_ حدجته بطرف عينها بنظرات قاسية ، فتوسل لها برجــاء أكبر ..
أطرقت هي رأسها بإستسلام ، وردت عليه بتنهيدة عميقة :
– ماشي
تهللت أسارير عمرو ، و انفرج ثغره بفرحة جلية وهو يهتف بحماس بعد موافقتها العسيرة :
– يبقى يلا بينا ، وانا هشيلك الكرسي بنفسي ياستي
_ لم تبدِ اهتماماً بما قاله ، بل تحركت للأمام ، وقام هو بطي المقعد ولاحقها بخطوات أشبه للركض حتى أصبح جوارها في سيرها ……
………………………………………………………….
_ كان الكبر قد ظهر على تجاعيد وجهه ، وقد جعل المرض منه كهلاً كبير السن وكأنه أضعاف عمره ..
منذ زمن لم تنظر هي لوجه أبيها رحيم ، تشعر وكأنه تغير كثيراً ، فتحول من الرجل الحاد الطباع الذي اعتادت عليه ، ليظهر أمامها عجوزاً واهناً ضعيفاً لاحول له ولا قوة ..
رق قلبها إليه ، وأشفقت على حاله العاجز .. هو أبيها رغم كل شيء .. تشتاق إليه ، تريد التنعم بحضنه الأبوي الدافيء ، تتلهف للإحساس بخوفه الفطري عليها ، لكنه أضـــاع كل شيء بفعلته .. وهي لم تردْ أن تظهر ما تكنه أمامه .. فعقلها أجبرها على الصمود ، اظهار القسوة .. هي لم ولن تنسى فعلته بحقها .. وما زاد من الأمر سوء هو عدم مواجهته لها بشناعة فعله حتى هذا اليوم .
لذا حافظت على اقتضاب حديثها وعبوس ملامحها أمامه ..
_ ولكن وبدون سابق إنذار .. شعر رحيم بملك الموت يحوم حوله منتظر لحظة قبض روحه فقرر التنازل عن قسوة طبعه والانصياع أمام خطئه .. حيث سد جوعه بالنظر إليها وهتف بصوت ضعيف ولهجة معاتبة لعلها تشعر به :
-كده يا إيثار!! بقالي كتير تعبان ومستنيكي تسألي عني يابنتي .. بس انتي مسألتيش
ردت إيثار بثبات وجدية وهي تتحاشى النظر إليه :
-الف سلامة عليك
_ وضعت تحية كفها على جبهته تتحس حرارته التي أخذت تنخفض ثم ربتت على كتفه وهي تحاول تخفيف الأوضاع وحدتها لدى الأب وابنته :
– إيثار كانت مشغولة اوي اليومين اللي فاتوا ياحج ماانت عارف ، شغلها واخد كل وقتها
أضاف عمرو قائلاً وهو يبتسم لوالده بعاطفة : ولما عرفت جت ومتأخرتش ياحج !
– سيبونا لوحدنا
_ هتف رُحيم بعبارته بملامح خالية من المعاني ثم أشار بعينيه للخارج ،
ترددت تحية في فعل هذا ، ورغم ذلك حسمت رأيها ، وظنت أنه ربما يكون السبيل لكسر الحواجز التي بُنيت بينهما ،ولعل هذا الحوار والجلسة الودية بينهما تذيب الجليد .. فأشارت بيدها لعمرو لكي يتبعها للخارج ثم أغلقت الباب وأخذت تتلصص عليه .
_ جاهد رحيم ليستقيم في جلسته حتى اعتدل وأسند ظهره على الفراش ثم تابع النظر إليها وهو يقول بدفء أبوي غير معهود منه :
– بصيلي يابنتي وانا بكلمك
حركت حدقتيها لتكون في مواجهته بينما ابتسم هو وهو يتذكر أياماً قديمة لا تتذكرها هي .. ثم ردد قائلاً بخفوت :
– زمان ، لما كنت بشتريلك لبس العيد بنفسي وانتي كنتي بتتقمصي عشان مش بخليكي تنقيه بنفسك زي عمرو وآآآ…
قاطعته إيثار وقد ظهر التجهم على قسماتها وزادت عدائيتها :
-لبس العيد كنت بشتريه كل سنة ، ولو معجبنيش في مرة كان بيعجبني في التانية .. انما الجواز بيبقى مرة تعيش عليه العمر كله ، ولا كنت فاكره قابل للتبديل والتغيير؟
_ لم يطرق رأسه أو يبعد بصره عنها ، بل بعث لها كم الندم الذي يحمله على عاتقه منذ ثلاث سنوات وحتى هذا الحين من خلال نظراته النادمة ، وتعابيره الأسفة ..
استشعرت صدق نظراته ولكن عقلها رفض الإستسلام والعفو عنه ..
استندت بساعديها على ركبتيها ثم دفنت رأسها بين كفيها وهي في حيرة من أمرها بينما تابع والدها حديثه قائلاً :
– عارف اني ظلمتك ، لكن كل اللي كان شاغلني الناس وكلامهم ، مكنتش هطيق حد يجيب سيرتك بكلمة يابنتي
كانت إيثار على وشك مقاطعته ، ولكنها أشار لها بكفه لتصمت ، وتابع بجدية :
– اسمعيني يابنتي ، انا اب وانتي عمرك ما هتفهمي كلامي ولا احساسي ، انا عمري ما تمنيت في الدنيا غير سعادتك انتي واخوكي .. حتى لو كان اسلوبي غلط !!!
اخذ شهيقاً عميقاً ثم زفره على مهلٍ وتابع بكلمات مؤثرة وقعت على حواسها وقعاً مثيراً :
– عدت سنين وكلامي مش هيفيد ، بس محبش اني اموت وسايب حته مني زعلانة مني يابنتي ، سامحيني ياإيثار
_ حدقت به غير مصدقة ما سمعته للتو وحالة الذهول مسيطرة عليها ، فهز رأسه للتأكيد ثم كرر كلمته وهو يقول بجدية تحمل الندم :
– ايوة زي ما سمعتي ، انا بطلب منك لأول مرة تسامحيني على اي حاجة يابنتي !
_ زحزح جسده ليهبط أسفل الغطاء ثم أراح رأسه على الوسادة وسلط بصره على سقف الحجرة .
_ في هذا الحين كانت تقف تحية وأطرافها ترتعش من وراء الباب لتستمع لحديثهما إلى أن اختفى الصوت فجأة ، فرفعت رأسها للسماء وفتحت كفيها وهي تنطق بتضرع :
– وحياة حبيبك النبي يارب حنن قلب بنتي وأرضيها وأسعدها يارب !
_ انفتح الباب لتظهر إيثار من خلفه ثم عبرت للخارج أمام والدتها ومنها إلى حجرتها دون أن تنطق ببنس شفة ..
أوصدت الباب خلفها لتستمر مسيرة عزلتها ، ثم وقفت أمام النافذة تتطالع الغروب وقرص الشمس يهبط بإتجاه البحر من الغرب ، وكأن هذا القرص الذهبي تحتضنه الأمواج وينغمس أسفل الأعماق ..
كان مشهداً مريحاً للعين مثيراً لهدوء الأعصاب ، أغمضت عينيها استسلاماً لنسمة هواء طفيفة لمست وجهها حتى هاجمتها ذكرى آخرى سابقة أسعدت فؤادها في وقت مـــا ، لكنها استعدت عبرات الاشتياق الممزوج بالعتاب …..
…………………………………..
– عودة بالوقت للسابق –
_ وقفا سويا كلا منهما في النافذة الخاصة به ، يطالعان من مكانهما ذلك السحر الفطري .. حيث أثارها مشهد الغروب فطلبت منه الصمت حتى يتمكنا من متابعته سوياً .. كانت بسمتها تشكل فارقاً في يومه ، فرفع رأسه يتأملها بنظرات عاشقٍ هلكه عشقه..
فشعرت بعينيه معلقتان بها ..
أسبلت عيناها لتلتقى بعينيه ثم ابتسمت بإستحياء وهي تقول :
– مش قولنا هنشوف الغروب سوا؟
رد مالك بنبرة صادقة ونظرات مأسورة :
– انتي عندي احلى من اجمل منظر غروب
_ ابتسمت وتوردت وجنتيها خجلاً منه فظهرت غمازتيها لتبدو أكثر جمالاً وأشراقاً ..
فتابع هو بسمته العاشقة ببيت شعري كتبه لها وردده على مسامعها :
” أستحت …
فصار للخجل لوناً بأسمها ..
فياليت كل الحياء گحياء ِ حبيبتي ..
وبذور القرنفل تعلو ثغرها ”
…………………………
عادت لأرض الواقع المجحف الذي هي فيه الآن ، ولكنها على الأقل رسمت بسمة على محياها على إأثر ذكراه الذي لم ينصرف أو يُزال من ذهنها قط
.. أغلقت النافذة ثم عادت لفراشها مدعية الرغبة في النوم لعلها تهرب من كم الذكريات الذي يطاردها ليوقظ شعلة حبها وشوقها من جديد .
……………………………..
_ كان هذا الصباح مختلفاً لها ، فبالرغم من إشراقه إلا إنها كانت حزينة لفراق أحداً عزيزاً عليها .. ” مصطفى ” ذلك الطفل الصغير الذي اعتادت على مجالسته يومياً عقب ذهاب والديه للعمل ..
واليوم ستقوم الطائرة بالإقلاع وهي تحمل هذه الأسرة لإحدى الدول الأوروبية في رحلة هجرة أبدية ، وقررت هي توديع الصغير على طريقتها الخاصة ..
قامت هي بتصميم ألبوم كامل من الصور الفوتوغرافية التي جمعتها به لتمثل له ذكرى عزيزة ذات يوم عندما يكبر ، ويتذكرها ، أثنت والدته السيدة ” رانيا ” على فعلتها الراقية وهي تقول بإمتنان :
– كلك ذوق ياإيثار ، مكنش في لزوم تتعبي نفسك
ردت عليها إيثار وهي تمسح بيدها رأس الصغير :
-متقوليش كده يامدام رانيا ، ربنا عالم مصطفي عزيز عليا قد اي
هتف مصطفي وهو يتعلق بذراعها : وانا بحبك اوي ياإيثار ، ليه مش بتيجي معانا ؟
_ انحنت قليلاً لتطبع قبلاتها الصغيرة على جبين الطفل ثم نطقت بنبرة دافئة معهودة منها :
– معلش ياصاصا ، مش هاينفع ، بس اوعي تنسى إيثار أبدا
رد الصغير مصطفى ببراءة وهو يهز رأسه نافياً : مش هنسى ، انا هخلي مامي تتصلي بيكي كل يوم كل يوم !
_ احتضنته بعمق حتى تخللت أنفاسه صدرها ثم اعتدلت في وقفتها وهي تضبط وضعية حقيبتها على كتفها ، وابتسمت قائلة :
-أستأذن انا بقى !
ردت عليها رانيا وهي تصافحها بحرارة :
-مع الف سلامة ياإيثار
_ تركت المنزل والحزن مخيماً عليها لفراق طفل أخر ولكنها قررت تناسي الأمر لإستكمال الطريق ، فتلك هي مهنتها .. مجالسة الصغار وغرس مباديء الألفة والود في نفوسهم الصغيرة ..
زفرت أنفاسها وهي تستجمع شتات الأمل حتى تقابل طفلاً أخر في مسيرتها التربوية ..
ذهبت إلى مقر المكتب التابعة له عقب أن طلبتها مديرة المكتب بصورة متعجلة ، فما كان منها إلا تلبية النداء والذهاب على الفور لتتفاجيء بالمديرة تبلغها بجدية :
-دي أسرة أجنبية لسه واصلين مصر أول أمبارح ، طفلتهم رضيعة عندها سنتين إلا شهر ولا حاجة .. والد الطفلة جه بنفسه هنا وطلب مربية بمواصفات قياسية وانا ملقيتش عندي مربية أفضل منك ، خصوصاً ان ليكي كاريزما خاصة مع الأطفال الصغيرين !
_ كانت مفاجأة بالنسبة إليها ، فقد كانت ترغب ببضع أيام كأجازة لها لتجدد نشاطها ، وتعتاد غياب الصغير مصطفى قبل استلام العمل لدى أسرة جديدة ..
ولكن من الواضح ان تلك الفرصة لن تسنح لها ، فبادرتها المديرة عقب استشعارها بما تخبئه داخل صدرها ولا تنطق به :
– عارفة انك كنتي محتاجة اجازة خصوصا بعد ما سيبتي مصطفي لأنك كنتي متعلقة بيه ، بس دي فرصة بالنسبالك والراجل اللي هتشتغلي عنده شكله جنتل خالص عشان كده اعتبرتها فرصة ليكي !
ابتسمت لها إيثار وهي تومئ رأسها إيجاباً ، ثم ردت بتنهيدة شبه منهكة :
-ماشي حضرتك ، هروح أمتى؟
_ بحثت المديرة بإحدى الأوراق الصغيرة عن تلك الورقة المدون بها للعنوان والتفاصيل للوصول إلى المكان المنشود حتى وجدتها ومدت يدها بها وهي تقول :
-ده العنوان والتليفونات لو معرفتيش توصلي ، وعلى فكرة في الحسابات ظرف بأسمك فيه مبلغ مالي هدية من أسرة مصطفي لجهودك مع الولد.. مدام رانيا بلغتني انك رفضتي تاخدي اي حاجة عشان كده فضلت تسيبهولك هنا !
_ بدى على وجهها الإمتنان والسعادة ليس للمبلغ المالي ، ولكن لتقدير المحيطين حولها لها .. فقد كانت في حاجة ماسة إلى هذا الدعم المعنوي ، إلى تقدير ذاتها ، ومدح عملها .. وها هي قد ظفرت بها بعد مجهود مضني ، وإخلاص متفاني ..
هزت رأسها ثم نطقت برقة :
-شكراً.. عن أذنك.
…………………………………….
تأنقت إيثار في ثيابها الجديدة ثم نظرت لحالها بإعجاب في المرآة ، ثم ضبطت وضعية حجابها الأزرق الذي تماشى مع كنزتها الفيروزية وبنطالها الأبيض .. وأكملت تنسيق ثوبها عن طريق وضع عقداً متعدد الألوان حول عنقها وأعلى حجابها ، ثم انطلقت للخارج وتعجلت بخطواتها للذهاب إلى مكان العمل الجديد
.. كان الطريق مزدحماً گعادته فأضطرت لإستجار سيارة للأجرة حتى تستطيع الوصول مبكراً …
_ كان المكان عبارة عن ” فيلا ” صغيرة في منطقة سكنية حديثة ، يبدو على هيئتها الخارجية البساطة والرقي وعدم التكليف ..
ظهر الإعجاب واضحاً على تعابير وجهها ..
عبرت البوابة – والتي كانت خالية من أي حراسة – بخطوات ثابتة ، ومنها سارت عبر الممر الحجري المزدان على جانبيه بالمزروعات الصغيرة والورود المتفتحة ذات الألوان المبهجة …
استنشقت عبير الأزهار وهي تبتسم متفائلة بالخير في هذا المكان منذ أن وطأت أعتابه بقدميها ، طرقت الباب بتوتر قليل ، وانتظرت أمامه وهي تحاول الحفاظ على هدوء ابتسامتها ..
وما هي إلا لحظات حتى انفتح لها لتظهر الخادمة من وراءه وهي تحمل الطفلة الرضيعة ..
استقبلتها إيثار بإبتسامة ودودة ، ولاحظت – على مرأى العيان – فشل الخادمة في التعامل مع الصغيرة ..
تساءلت الخادمة راوية بنفاذ صبر وهي ترمقها بنظرات سريعة خاطفة لكنها متأملة لهيئتها العامة :
– خير حضرتك عايزة مين؟
ردت عليها إيثار برقةوهي تنظر للطفلة الباكية بشفقة : انا المربية الجديدة جاية عشان… آآ
تنفست راوية الصعداء وكأنها وجدت السبيل لنجاتها من بكاء الصغيرة :
-هو انتي!! اتفضلي اتفضلي
_ ولجت إيثار للداخل فتفاجئت بها تضع الرضيعة بين يديها وهي تقول بصوت خفيض يملئه اليأس :
-خدي اتعاملي معاها احسن انا من ساعة ما جيت امبارح مش عارفه اسكتها خالص !
تناولت إيثار الصغيرة بين ذراعيها بحنان أموي جلي .. ومسحت على ظهرها برفق حتى تستكين ، وتكف عن البكاء ..
ثم تأملت ملامحها الجميلة بدقـــة ..
كانت الصغيرة آية من إبداع الخالق .. فهي تملك ملامح آسرة ، بالإضافة إلى شعرها الأشقر وعيناها الزرقاوتين ، وبجانبهم بياض بشرتها ونعومتها ..
مسدت إيثار على رأسها بحنو فشعرت وكأنها قطعة منها.. گأبنتها أو ماشابه ذلك ، لا تعلم ماهية هذا الشعور ولكنها شعرت بالسعادة لوجود هذا الكائن الملائكي بين يديها وفي أحضانها ..
توجهت للداخل بخطوات بطيئة وهي تهدهدها وممررة أصابعها على خدي الصغيرة وجبهتها ..
استجابت الصغيرة لحركاتها المداعبة ، وبدأت في السكون والنظر لها بأعين متفحصة دارسة ..
وبحركة طفولية بريئة مدت أناملها الناعمة الصغيرة ولمست وجنتي إيثار .
_ خُلق بينهما الانسجام منذ المقابلة الأولى ومنذ تعارفهما الأول ..
جلست إيثار على طرف المقعد ثم أسندتها على ذراعها وهي تداعبها بالذراع الأخرى ، حتى أنها تناست البحث عن أصحاب المنزل والتعرف عليهم .. فتلك الصغيرة أسرتها في عالمها الطفولي البريء ، وأعادت الضحكة إليها ..
_ وإذ بها فجأة تنتفض من مكانها ، ووقع قلبها في موضع قدميها..
تصارعت أنفاسها وتسارعت داخلها مشاعر متناقضة عندما استمعت لهذا الصوت المألوف ولتلك النبرة التي تحفظها وتتردد على مسامعها كل يوم ..
ارتجف قلبها بشدة ، واضطرب عقلها ، وتلاحقت الذكريات كأنها تيار جارف ..
تساءلت بعدم تصديق هل ما سمعته هو الكذب أم أنها تتوهم !!؟
_ جابت المكان بناظريها المتفحصتين الباحثتين لتجد صاحب الصوت ولكنها لم تجده .. كان الصوت يقترب منها فتزداد نبضاتها تلاحقاً حتى رأته يهبط درجات السلم موليها ظهره وهو يتحدث بهاتفه بهدوء :
” يبقى على معادنا بالليل الساعة 10 ، سلام ”
_ حضرت راوية بين يديه سريعاً ، ثم نطقت وهي تشير أتجاه إيثار وتقول بإبتسامة :
-المربية الجديدة جت يافندم ، اهي؟
أومأ برأسـه متفهماً ، ثم التفت نحوها ، ولكن تجمد الحديث على لسانه ، وتحرك قلبه من مكانه مرة أخرى بعد سنوات قد دهس فيها قلبه أسفل نعليه ..
رمش بعينيه عدة مرات ليستوعب أنها أمامه ، وليست طيفاً ..
فغر فمه غير مصدقٍ وجودها ..
ثم عبس بوجهه فجأة ، وتجمدت تعابيره ، بل وقست نظراته وهو يقول بصوت يحمل الشراسة :
– انتي !!!!
_ لقد صدق حدسها ، انه هو .. ذاك الذي ظنت أنه حبيب قلبها وخليل فؤادها ..
المنتظر الذي طالما انتظرته لسنوات عديدة آملة رؤيته لمرة واحدة ..
وها هو حلمها يتحقق ، هو الآن أمامها ، ولكن يحمل وجهاً جديداً ، بملامح مختلفة ويختبئ بجسده المشدود خلف حلته السوداء التي أعطت لمظهره هيبة ومهابة ..
تغيرت نظراته الحانية ، وبدى أكثر جدية ، إن صح التعبير أكثر قسوة عما مضى ..
لم تجد فيه الروح المرحة التي عاهدتها منه ..
إنه شخص جديد كلياً ..
تسارعت أنفاسها إلى حد ما ، فجاهدت لضبطها أمامه ..
لم تتخيل أن وجوده سيحدث كل هذا الخلل والإضطراب فيها ..
أربكتها نبرته الشرسة ، وابتلعت غصة مريرة وهي تنطق حروف اسمه على لسانها من جديد بهمس مرتجف :
– مالك …………………….!!!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وبقي منها حطام أنثى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى