روايات

رواية هجران رحيل الفصل الرابع عشر 14 بقلم شامة الشعراوي

رواية هجران رحيل الفصل الرابع عشر 14 بقلم شامة الشعراوي

رواية هجران رحيل الجزء الرابع عشر

رواية هجران رحيل البارت الرابع عشر

هجران رحيل
هجران رحيل

رواية هجران رحيل الحلقة الرابعة عشر

حين ولج “مروان” وقف متصنماً عندما وجد قطرات الدماء متناثرة أرضاً، فرفع مُقلته باتجاهها فرائها مستلقية على الفراش فى إعياء وتراخٍ وذبولٍ، أقتربت العائلة نحوها والفزع يملأ أعينهم، لقد أنهكها الألم وحطّم قواها، فتفوهت بألم والدموع تتساقط من عيناها الذابلة، فقالت بصوت ضعيف:
-حد يلحقني أنا شكلي بموت.
دن منها الجد بقلق شديد والخوف يسيطر على فؤاده من أن يُصيبها مكروه، فمسد على شعرها وهو يقول:
– بعد الشر عليكى ياعمري مش هيحصلك حاجه وهتقومي بالسلامة يلا مروان ساعدني يابني نوديها المستشفى.
فقام “مروان” بحملها بين ذراعيه وقلبه ينبض خوفاً عليها، دقائق معدودة ووصلوا إلى المستشفى لتستقبلهم الطبيبة “هناء” برفقة الطاقم الطبي التى حضرت على الفور، ثم قامت باصطحابها إلى غرفة العمليات لتجرى لها جراحة قيصرية، فلما غابت عن عيونهم جلس الجد على الكرسى ينظر باتجاه الغرفة والقلق يساوره، فربت “قاسم” على كتفه وقال باطمئنان:
– اهدى ياعمى هتبقى كويسة وهتقوم بالسلامة بإذن الله هى محتاجة دعائك دلوقتى.
بينما “فاطمة” تقف فى الزاوية تبكى بصمتٍ تام، فأردف “آدم” بحزنٍ:
-علشان خاطري يا ماما كفاية عياط.
-أنا خايفة أوى عليها.
-متخافيش ياحبيبتى هتبقى بخير.
وفى هذا الوقت زمجر الرعد وألهب البرق الأفق ثم انهمرت الأمطار مدراراً، وكأن السماء تتهيأ لمجيئ الأطفال، بعد مدة كبيرة من الوقت خرجت الطبيبة إليهن ليتحدث “مروان” متسائلاً:
– طمنيني عليها.
أردفت “هناء” باطمئنان قائلة بلطف:
-الحمدلله هى ولدت وبخير بالرغم ان ولادتها كانت صعبة جدا ولكن ربنا لطف، ورزقها ببنت وولد زى القمر يقولوا للبدر قوم واحنا نقعد مكانك.
صاحت “فاطمة” بوجه طلق مُشع بالبهجة فقالت:
-بجد ياهناء.
-اه ياحبيبتى والحمدلله على سلامتها هى دلوقتى فاقت من البنج وتم نقلها فى أوضة تانيه، روحوا شفوها والممرضة هتجيب ليكم الأطفال.
بعد لحظات دلفوا إلى غرفة “رحيل” فاقبلت نحوها “فاطمة” مسرعة حتى تطمئن عليها فقالت برفق:
-حمدلله ع سلامتك يارحيل.
أجابتها “رحيل” بصوت مجهد فقالت:
-الله يسلمك ياماما هما فين ولادي عايزة اشوفهم.
أجابها الجد بسعادة وسرور فقال:
– الممرضة هتجبهم دلوقتى ياحبيبتى و حمدلله على سلامتك ياقلب جدك.
– الله يسلمك ياحبيبى.
بينما “مروان” قال مُداعباً:
-قلقتينى عليكى ياريرى ينفع كدا تخضينى بالشكل ده.
تبسمت “رحيل” بأرهاق فقالت بلطف:
– معلش بقى خليها عليك المرادى.
– ماشى ياستى اهم حاجه أنك قومتى لينا بالسلامة وما موتيش.
ولجت الممرضة ومعها الطفلين فحملت “فاطمة” الفتاة لتضمها برفق وهى تقول:
-بسم الله ماشاءالله جميلة أوى بصى يارحيل شبهك ونفس لون عينيكي.
فقامت بمد يدها بالطفلة فاحتوتها “رحيل” بين أحضانها لتفر دمعة من مُقلتها فرحاً وسعادة فهى لأول مرة تجرب شعور الأمومة، الذى هو أعظم شعور بالعالم، فقالت باسمة:
-ياعمرى أنتى، بنوتي القمر.
تحدث الجد بحنيه فقال باسماً:
-تبارك الرحمن جميلة زى الحورية، تتربى فى عزك ياحبيبتى حلوة زيك يارحيل.
أردف “مروان” الذى كان يضم الطفل بين ذراعيه فقال:
– مش ناوية تشوفى أبنك.
رددت “رحيل” بلهفة :
-هاتوا يامروان خليني أشوفه وأشبع منه.
فحملته بين ذراعيها بلطف ولين لتقبل راحت يدهُ الصغيرة ثم قالت باكية:
– بجد مش مصدقة نفسى أنا بقيت أم لبنت وولد أجمل من بعض.
مسد “قاسم” على خصلاتها وقال بابتسامة مشرقة:
-مش أنا قولتلك أن هما هيبقوا هدية ربنا ليكى وهيكونوا عوضك.
-دول أجمل عوض فى الدنيا واحلى هدية من ربنا.
– ربنا يباركلك فيهم ياحبيبتى ويكون ذرية صالحة ليكي.
-يارب.
تحدث “آدم” بابتسامة عريضة مرحة:
– طبعا ناوية تسمى الواد ع اسمى صح ياريرى.
ضربه شقيقه بخفه على رأسه:
-لا وأنت الصادق مش هتسميه ع اسمك كانت ناقصه هى.
ضحكت “رحيل” برقة وقالت:
– كان نفسى اسميه ع اسمك بس للاسف مش المرة دى، لو كانوا ولدين كنت هسمى واحد منهم ع اسمك.
اردف الجد متسائلاً:
-طب هتسميهم ايه.
نظرت إلى أطفالها بسعادة ثم قالت باسمة:
-هسميهم زين وزينه علشان يبقوا قريبين من بعض.
-تمام ياريرى أنا هكبر للبنوته وعمك قاسم هيكبر للولد.
بعد عدة أسابيع كانت جالسة بحيرة ويأس بين صغارها الذين يبكوا دون توقف، فولجت إليها “فاطمة” التى قالت بطيبة قلب:
-مالك يارحيل بتعيطى ليه!.
جففت “رحيل” دموعها بالمنديل الورقى ثم قالت بأرق:
-بقالي اكتر من ساعة بحاول اسكت فيهم ومش راضين يسكتوا وأنا تعبت ومش قادرة، نفسي أنام شوية ونفسي أخد الشاور بتاعي زى الناس لكني من عارفة اتحرك ولا أعمل أى حاجه منهم.
أردفت الأخرى مهدئة فقالت برفق:
– معلش هما الأطفال كدا، هاخدهم معايا وأنتى حاولى تنامى وترتاحى شوية ماشى ياحبيبتى.
-ماشى لو تعبوا حضرتك ناديني.
– متقلقيش مش هيتعبونى وكمان أنا معايا رهف هتساعدني فى شيلهم.
-طيب.
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
بعد مرور سبع سنوات
تتربّع الشّمس وسط السّماء وكأنّها سبائك من ذهبٍ قد تجمّعت في شكلِ دائري، ثمّ تناثرت إلى الأرض بدفئها وأشعّتها، وما أن يحين موعد غروبها حتّى تتحوّل إلى شفقٍ أحمر اللون يغيب بين الجبال والبحار والمحيطات، وفى هذا الوقت تعالت أصوات الأطفال وهم يلعبون بفرح وسعادة فى ساحة المنزل الممتلئ بالدفء، بينما على الجانب الآخر كانت “رحيل” جالسة فى غرفة الجلوس تقرأ إحدى المقالات على تصفح التواصل الاجتماعي، دنت منها طفلتها “زينة” التى تبلغ السادسة من عمرها، فقد ورثت من أمها جمالها وحسنها وتلك العينين الكحالتين الزروقتين، ومازادها جمالاً هؤلاء الغمزتين التى ورثتهما منها أيضاً، التقطتها “رحيل” بين ذراعيها لتقبل خديها الأيسر:
– روح قلب ماما أنتى يازينة.
نظرت إليها الطفلة ثم قالت ببراءة:
– وأنتى روح قلب زينة.
أجلستها بجانبها ثم قالت بلطافة:
-ما بتلاعبيش ليه مع أخوكى.
أجابتها “زينة” بملل:
– تعبت من كتر الجري وبعدين “زين” كل شوية يضحك عليا ويخليني اخسر ويقولي أنتى أجرى ورايا.
أبتسمت الأخرى من طريقة حديث ابنتها المتذمرة:
-ولا تزعلى نفسك ياروحي لما يجي خالو “مروان” هخليه يعاقبه أتفقنا.
هتفت “زينة” برضى وسعادة:
– أتفقنا.
لحظات وجاء ابنها ومعه طفلين من المنزل المجاور لها، فاجتمعن حولها وجلسن فى حلقة دائرية، بينما “زين” بدأ يسترسل كلماته قائلاً:
-ماما ما تحكلنا قصة من اللى بتحكيها لينا كل يوم.
-أمرك ياسي “زين” دا أنت تؤمرني وأنا أنفذ، قولي بقا تحب أحكيلك ايه.
نظر الأخر إليها وهو يفكر ولكنه عجز أن يطرح عليها أجابه، ثم قال:
– بصراحة مش عارف اختارى أنتى.
-تحب أحكيلكم حكاية الفأر الطباخ.
صاحوا الأطفال موافقين بسعادة لتبدأ بسرد الحكاية بطريقة تناسب مرحلة عمرهم حتى لا يملوا.
مرت دقائق معدودةٍ، فدلف “مروان” إلى البيت بصحبة شقيقه، وكانت “زينة” أول من استقبلته بضمة تعبر عن حبها إليه، حملها بين ذراعيه ثم أتجه نحو “رحيل” مُلقى عليها السلام، وجلس بجانبها ليستمع لما تقول إليه:
-اتأخرت علينا النهاردة.
أجابها “مروان” بهدوءٍ:
— كان عندنا ضغط شغل علشان كدا اتأخرت.
دققت النظر إليه لترى وجهه شاحب قليلاً فقالت بنبرة قلقة:
-أنت كويس؟.
ربت على يدها وهو يقول بنبرة دافئه:
-متقلقيش يا”ريرى” أنا بس مرهق شوية من الشغل وتغيرات الجو مش أكتر.
تفوه “آدم” وهو يمسح حبات العرق من على جبينه:
-الجو بره حرفياً حر لدرجة أن الواحد خلاص حاسس أنه هينهار وهيغمى عليه، والله يابخت الحريم أن ربنا مكتبش عليهم الخروج والشغل فى الحر ده، أنا فعلاً بحسدكم.
مددت “رهف” يداها إلى شقيقها “آدم” بكوب ماء باردٍ وهى تقول:
-أعانكم الله وجعل تعبكم فى الشغل فى ميزان حسناتكم.
-يارب ياأخوتي.
مالت “رحيل” بجسدها قليلاً نحو “مروان” لتهمس فى أذنيه متسائلة:
– عملت ايه مع خطيبتك.
أجابها بهدوءٍ فقال:
-فركشنا الخطوبة.
صُدمت الأخرى من قولهِ فقالت بحزنٍ:
– ليه بس!.
استرخى فى مقعده ثم قال بنبرة تحمل قدراً من الهم:
– الهانم بتخيرني بينها وبين أهلي، لا وكمان عيزاني أقطع علاقتي بيكى، كل ده علشان بتغيير عليا منك مع أني قولتلها أنك متحرمة عليا شرعاً، لكن هى مابتفهمش وعايزة تفرط كلامها وسيطرتها عليا وتلغى كمان شخصيتي، وأنا الصراحة ما بيعجبنش البنت اللى بتفكر بالطريقة دي واللى بتبقى عايزة تمشى كلمتها على الراجل وتعمل فيها عشر رجالة فى بعض، من الأخر أنا مابحبش البنت المسترجلة.
ربتت على ظهره بمواساة ثم قالت بنبرة لطيفة:
-ربنا يعوضك بالأحسن منها.
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
فى شركة الالفى كان جالساً على مكتبه بكل هيبة ووقار، يحدق فى صورتها التى احتفظ بها فى محفظته، ليهمس بداخله، هل تعلمين أن عيناك أبرع لص قد التقيته في حياتي، فقد سلبت قلبي من بين أضلعي دون أن أشعر، فإن فراقك يامعشوقتي نارٌ ليس لها حدود، ولا يشعر بألم الفراق إلا من اكتوى بناره، تنهد بألم كادت يشق صدره، ففرت دمعةٌ هاربةٌ من عيناه الرومادية، فهو يشعر بأشواك تجرح حنجرته من أثر كتمان الحزن والبكى، فقال بقهرٍ:
-وحشتينى يارحيل مش ناوية ترجعى، أنا دورت عليكى كتير بس ملقتش ليكى اثر مش كفاية كدا عقاب هو أنا مستهلش أنك تسامحيني، أزاى هان عليكى تغيبى عن عيني كل السنين دي كلها، أزاى هان عليكى قلبى الموجوع منذ فراقك؟.
دلف إليه “هشام” الذى اصابه الحزن حين شاهده شارد الذهن، ووجهه يكسوه الشحوب، فجلس مقابله ثم قال بتسأل:
-أنت لسه بتفكر فيها؟.
أجابه “مراد” بصوتٍ مبحوح مليئ بالألم:
– أنا عمرى ما بطلت افكر فيها أنت متعرفش رحيل بتكون ايه بالنسبالى، دى كانت حلمي اللى فضلت أحلم بيه طول السنين واللى كنت ببنيه، دى عمرى كله والنفس اللى بتنفسه اللى لو اتقطع اموت.
-تفتكر أن هى ممكن ترجع؟.
– مش عارف أنا خايف أنها مترجعش، أصل أنا اذيتها أوى وجرحتها ياهشام، أنا هتجنن من كتر التفكير وياترى هى بخير ولا لأ ؟، اوقات بسأل نفسي ياترى هى كرهتني ولا لسه بتحبني؟
أنا بجد مابقتش قادر اتحمل غيابها عنى اكتر من كدا حاسس أن روحي بتتسحب مني، دا أنا ياشيخ مابقتش عارف أنام غير بمهدئ من كتر التفكير فيها.
تأثر “هشان” من قولهِ فقال بشفقه:
– ياااه للدرجاتى أنت بتحبها .
أجابه “مراد” بقلبٍ منكسر:
-أنا عديت مرحلة الحب معاها، أنا بتمنى أن هى ترجع علشان أعوضها عن كل حاجه، هعوضها على اذيتى ليها وعلى كل دمعة نزلت من عينيها بسببى، أنا كسرتها جامد وهى مش هتسامحنى بسبب اللى عملته فيها وخلاها تمشى وتسيب البيت.
نظر إليه “هشام” بشكٍ فقال مستفسراً:
-أنت عملت حاجه تانية فيها.
أشاح بصره لينظر إلى بعيداً عنه ثم قال بحزن شديد:
-أنا مش قادر اتكلم أكتر من كدا، عن أذنك.
عندما أنهى جملته نهض من مقعده ليجذب مفاتيح سيارته، ثم خرج مسرعاً من العمل متجهاً إلى المنزل، فلما وصل صعد إلى غرفة محبوبته كحال كل يوم، جلس على السرير ليتحسس فراشه الناعم، فتألم قلبه حين تذكر تلك الليلة المشؤومة فقال ببكاء ممتزج بالندم والحسرة:
-أنا هنا كسرتك وكسرت قلبك، حرفياً قرفان من نفسى أوى يارحيل، ازاى قدرت أكسر قلب بريئ زيك.
ثم حول بصره فى أركان الغرفة، لتقع عيناه على صورتها الموضوعة على الطاولة بجانب المزهرية، ليقول بحزن:
– أنا عمرى ما هرتاح غير لما الاقيكى،،
بعد فراقك ياعمري أصبح كل شئ يمر ببطء، حتى الدقائق والساعات أصبحت بطيئة حارقة لقلبي، لدرجة أن روحي أصبحت تكتوى فى ثوانيها،،
ومهما افترقنا سيصبح عشقى لكِ ممتدد،،
رفع عيناه المليئة بالدمع إلى السماء ليقول بصوت ضعيف:
– ياالله هل لذنبي مغفرة؟
هل لبشرٌ مثلي رحمة ترفق بحالته؟.
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
كانت تركض خلف طفلتها فى حديقة القصر، فوقفت بجانب نافورة المياه لتحاول التقاط أنفاسها المتقاطعة، فقالت بأرهاق:
– زينه اقفى بقى تعبتيني معاكى.
ضحكت “زينة” ببراءة طفولية:
-ايه يامامى أنتى عجزتى ولا ايه.
قامت الأخرى برفع حاجبيها ثم قالت:
-مين دى يابت اللى عجزت ياأم لسان ونص أما وريتك يازينة مبقاش أنا رحيل.
لتركض خلفها مجدداً، فقامت الطفلة بالاختباء بأحضان “مروان” المسترخي على المنضدة ليضمها إلى صدره العريض، فأتاه صوتها الرقيق تستغيث به:
-ألحقني يامرواني هتاكلني.
داعب خصلات شعرها بلطف ثم قال باسماً:
– مين دى ؟.
– مامي العجوزة.
جلست “رحيل” بجانبهم ثم قالت:
-بقى كدا يازينة مامى عجوزة .
تبسم فاه الصغيرة برقة بالغة ثم قالت:
-ماما كفاية تمثيل مش لايق عليكى.
-اااه يالمضه ماشى أنتى اللى جبتيه لنفسك.
فقامت بتدغدغها فضحكت الصغيرة بشدة، ثم قالت ببراءة:
-خلاص يامامي أنا آسفة.
– تستاهلي علشان تقولى عليا عجوزة تانى.
قبلتها طفلتها برفق على وجنتيها وهى تقول بلطف:
– ماما أنا بحبك.
-وأنا كمان بحبك.
أردف “مروان” قائلاً:
-وأنا ياست زينة ماليش من الحب جانب.
– دا أنت الحب كله.
قهقهه عالياً على قولها فقال بمرح:
-بحبك وأنتى بتثبتينى كدا.
-لو أنا مثبتكش مين بس اللى هيثبتك.
حرك شعرها بعشوائية وهو يقول بنبرة ودودة:
– أقسم بالله نسخة مصغرة من أمك، وبعدين يلا روحى أقعدى مع أخوكى الكئيب اللى هناك دا، علشان عايز اتكلم مع مامى شوية.
ابتعدت عن احضانه وهى تقول ببراءة:
-أنا مش عارفة طالع لمين الواد ده.
تبسم ثغر “رحيل” بلطف ثم قالت مازحة :
– لأبوكى هيكون لمين يعنى.
أردف “مروان” الذى تبسم بخفة:
– أنتى مخلفة طفلة تحسيها ست كبيرة فى نفسها ماشاء الله، والتانى تحسيه فى ملكوت آخر.
تنهدت بعمق شديد حين تذكرته فقالت بهدوء:
– زين بيفكرني بمراد بجد شبهه فى كل حاجه حتى نظرة عينه فيها حده طالع لأبوه.
-فعلآ.
اختلست نظرة إلى أطفالها لتشرد فيما حدث لها، فبهوت وجهها وارتسمت معالم الحزن عليه، لاح “مروان” تلك النظرة المؤلمة فقال مواسياً:
-ليه بس كل الحزن اللى ظهر فى عينكى فجأة، والله مفيش حاجه مستهله أنك تحزنى عليها.
– أنا حاسه أنى تايهه وخايفه.
-خايفه !.
تحدثت “رحيل” بحزنٍ فقالت:
– خايفة أن ولادي يكبروا وهما بعيد عن أبوهم، تعرف أن هما كل شوية بيسالوا هو فين، ولما بقولهم مسافر بيفضلوا يسألوا هيرجع امتى، غير أن زينة بتعيط وبتقولى أنا عايزة بابى يكون معايا زى باقى الأطفال، وبتقولى ليه بابا سابنا ومشي وميعرفوش أن أنا اللى سبته، أنا يامروان خايفه من كل حاجه ومش عارفه اعمل ايه.
-طب ليه يارحيل متحاوليش تنسي وترجعي أنتى مش شايفه أنك كدا بتظلمى نفسك ومراد وعيالك.
ترقرقت الدمع فى عيناها لتقول بصوت مبحوح:
-أنت فاكر أنى محاولتش بس غصب عنى قلبى لسه واجعنى، أنا حبيت مراد بس هو كسرنى وخان ثقتى فيه بشكه فيا وضربه واهانته، أنا هونت عليهم كلهم، هان على أبويا أنه يخذلني ومايثقش فى بنته اللى مربيها على أيده، ولا أخويا اللى اتربيت معاه وكبرنا مع بعض هونت عليه أنه يضربني ويجرني من شعري، أنا هونت على عيلتي يامروان، أزاى عايزني أنسى كل ده وارجعلهم عادى كأن محصلش حاجه، والله كل وجع اتوجعته مكنش هين.
أردف “مروان” بحنان ليقول رفقاً:
– أنا عارف انه مكنش سهل عليكى اللى مريتى بيه، لكن هو فعلآ اتعاقب وزيادة بسبب بعدك، طب تخيلى معايا كدا لما يعرف أنه عنده طفلين وأنتى حرمتيه منهم هيبقى ايه شعوره، صمت لوهلة ثم أضاف بعقل راجح:
– خلينا نفكر بالعقل دلوقتى، لو أنتى مكانه واكتشفتى أنك عندك أطفال عمرهم ست سنين أحساسك هيبقى عامل ازاى؟، على قد ما هتفرحى على قد ما هتتوجعى أنهم اتولدوا وكبروا بعيد عن حضنه، صدقيني هيتوجع أضعاف ما أنتى اتوجعتى،،
بصى ياحبيبتى أنا مش هضغط عليكى فكرى كويس وحاولى تدى فرصة لنفسك ولمراد، لو مش علشانك علشان ولادك ومتنسيش أننا خلاص هنرجع مصر اليومين الجايين، ف عيزك تقعدى مع نفسك وتشوفى دنيتك هتمشى أزاى، وكفاية لحد كدا حزن ووجع.
ثم أشار على طفلها وقال:
-بصي على ابنك وشوفى الحزن اللى ظاهر عليه، كفاية أن معظم أوقاته بيقضيها لوحده، من رغم أنه صغير لكنه حاسس بكل حاجه حواليه، ابنك يارحيل نفسه يكون عنده أب يتسند عليه ويتباها بيه قدام زميله فى المدرسة ويشاركه فى حياته وألعابه، ولادك محتاجيين ابوهم جمبهم، فبلاش تحرميهم من نعمة وجود الأب فى حياتهم، لأنك هتخسرى فى الآخر.
أنهى جملته وهو ينهض من مكانه ليقبل رأسها بحنان ثم قال باسماً:
– هسيبك تفكرى شوية يمكن ربنا يحنن قلبك.
بعد مغادرته نظرت إلى أطفالها بحيرة وكسرة، لتشرد فى مستقبلها لعلها توصل لحل يرضيها ويرضى الطرف الآخر.
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
فى أرض مصر جاءت تلك العائلة لتسكن فى بيتها المُشع بالأجواء المصرية، كانوا يتجولون فى شوارعها المليئة بالأجواء السعيدة، وأثناء مرورهم من جانب مدرسةٍ ما شاهده طلاب الثانوية العامة يخرجون من الأبواب والبسمة تعلوا وجوههن جميعاً، يتضح أن الامتحان الأخير جعل فرحتهم تعلق فى أجواء السعادة، ولينتهى معها أصعب مرحلة فى حياة المرء، لتبدا مرحلة جديدة مليئة بالوعى والادراك والسعى لتحقيق الأحلام.
تفوه الجد حين سرهُ هذا المنظر فقال داعياً:
– الحمدلله أن امتحاناتهم مرت على خير، ياالله كما رزقتهم بفرحة انتهاء الامتحان ارزقهم بنتائج مبهجة ترضيهم.
رد “قاسم” قائلاً:
– يارب ياعمى ربنا يجازي كل واحد على قد تعبه.
-تعرف يابني مفيش احلى من بلدنا، مهما بعدنا وطالت الغربة هتلاقى بلدك وقت رجوعك بتستقبلك بكل حب وحنية، دا كفاية ناسها الطيبين اللى مهما لفيت العالم مش هتلاقى فى طيبتهم وكرمهم وجدعنتهم.
أجاب “قاسم” بنبرة مُبهجة ممتزجة بالحنان والشوق لأرض الوطن فقال:
– اه والله ياعمى مفيش أحلى من بلدنا، والصراحة أنا دلوقتى بقيت مرتاح لما رجعت لأصلي.
تفوه الجد بنبرة حزينة فقال:
– ولادى وعيالهم وحشوني ونفسي أشوفهم.
– طب ماتروح ليهم.
-والله يابنى عايز اروح بس خايف من ردت فعل رحيل لو قولتلها خلينا نرجع مش عارف وقتها هتعمل ايه والصراحة خايف لترفض ماأنت عارف السبب.
أردف “قاسم” بهدوء:
-ولادها صح؟.
– لولا هما كنت خليتها رجعت من زمان.
تفوه الآخر قائلاً:
– ايه رأيك ياعمى نحطها قدام الامر الواقع ونخليها ترجع لان كدا مينفعش حرام عليها نفسها وولادها.
-أنا مش عايز اعمل حاجه تجرح كرامتها.
-متخافش احنا مش هنعمل حاجه تأذيها دا كله لمصلحتها مش اكتر.
تفوه الجد ببعض من الشوق:
-بفكر اروح النهاردة واشوفهم واللى يحصل يحصل.
ضحك “قاسم” بخفة ثم قال مازحاً:
-ايوه ياوهدان ياجامد احبك كدا وأنت مش همك حد.
تبسم الجد ابتسامة بشوشة:
-مالك ياقاسم قلبت ع رحيل كدا ليه.
صمت لثوانٍ وهو ينظر من نافذة السيارة باتجاه سيارة المتواجدة بداخلها حفيدته، فأضاف قائلاً:
-وبعدين أنا لازم انهى المشكلة دى احنا بقالنا ٧ سنين ولسه زى مااحنا.
تحدث “قاسم” مشجعاً :
-نفذ أنت ياكبير وسيب عليا حفيدتك العنيدة عليا.
فى قصر الالفى.
تحدث “هشام” بضيقٍ:
– أنت يازفت يامازن ما تجيب فيلم عدل بدل القرف اللى أنت مشغله.
-وأنا عاجبنى ده.
-هقوم ارزعك كف يلوحك.
حرك حاجبيه بتلاعب ثم قال مستفزاً:
-وماله ياحبيبى.
أردف :حمزة” قائلاً:
-ياربى كل يوم ع كدا مازن وهشام هو أنتم مش هتكبروا بقى وتعقلوا.
-لا ياحموزة.
رمى عليه المنضدة ثم قال:
– جت حموزة فى عينك أنا عمك يازفت المفروض تحترمني شوية.
رد عليه الآخر ببرود:
-إن شاء الله المرة الجاية.
وجه “حمزة” حديثه لشقيقه وهو يقول:
-شوفت أبنك اللى مش متربي بيقول اي.
أجابه “سليم” بقلة حيلة:
-محدش يجبلى سيرته أنا اصلا متبرى منه.
كاد “مازن” يرد ولكنه بتر كلامته حين رأى شيئاً واقفاً على مقربة منه، فقال بذهولٍ:
– جدو.
جذب “هشام” المتحكم من يده وقال:
-وهو فين جدك ده يابنى.
نهض من مقعده ليتجه مهرولاً نحوه ليعانقه بقوة كادت تخنق الأخر، فقال بسعادة:
-أنا مش مصدق أنك هنا.
ابعده “حمزة” ليضم أبيه برفق، ثم قال بنبرة مختلطة بالحزن:
-بابا.
أردف الجد بألم فقال بود:
– وحشتنى أوى ياحمزة.
رد الآخر وهو يقبل يد أبيه فقال:
-وأنت اكتر ياحبيبى ليه كدا يابابا تبعد عننا كل المدة دى.
-معلش يابنى كان غصب عني.
جاء إليه ابنه الأكبر ليقبل رأسه وهو يقول ببكاء:
– أنت متعرفش قد ايه غيابك كان مأثر فينا، ليه بعدت ؟.
– مكنش ينفع ابقى موجود وسطكم بعد اللى حصل.
جفف “سليم” باقى دموعه ثم أخذ يتسأل:
-هى بنتي فين، وليه مجتش معاك ؟ أرجوك طمني عليها.
أجابه الجد بهدوءٍ:
-متقلقش ياسليم بنتك بخير.
تحدث “أدهم” ليتسأل عن شقيقته فقال بحزن بليغ:
-طب هى مجتش ليه معاك هى لسه زعلانه مننا.
-رحيل متعرفش أني جيت ليكم.
قطب “سليم” جبينه ليقول مستفسراً:
-أنا مش فاهم حاجه يعنى ايه متعرفش أنك جيت.
– بنتك مش مستعدة أنها تشوفكم.
تحدثت هذة المرة “صفا” بقلب منفطر من كثرة اشتياقها لابنتها فقالت بقهرٍ:
-بس يابابا هى بقالها كتير بعيدة عننا وهى وحشتنى ومن حقي أشوفها، ثم أمسكت معصمه لتقول راجية:
-أرجوك يابابا قولى هى فين خلينا اروحلها أرجوك.
-اهدى ياصفا وأنا والله هجبها ليكم بس اصبروا.
تحدث “حمزة” بقلب منشرح فقال بلطف:
-حنان خلى حد من الخدم يجهز أوضة بابا علشان يطلع يرتاح فيها.
-لا يابني.
-ليه يابابا اكيد حضرتك تعبان ولازم ترتاحلك شوية !.
-لا أنا شوية و هقوم أمشى، تجمعكم حواليا دلوقتى بالدنيا ومافيها.
تحدث “مازن” بصوت مرح فقال متسائلاً:
– أه صح ياجدو جبتلي ايه معاك حلو من ألمانيا ها قولي.
شع وجه الجد بالفرحة اللامتنهية:
-جبتلك حاجه هتعجبك أوى بس مع رحيل مش معايا.
افترّ فاه “مازن” مندهشاً:
– دا بجد.
-ايوة.
فى اليوم التالى..
كانت جالسة فى الشرفة تنظر إلى السماء الصافية التى تجعل الروح تستكين مهما حملت من صعاب، يكاد المرء يتعب من إطالة النظر إليها فجمالها كالفيلم الذي لا نهاية له، فأتت إليها “رهف” وهى تضع حقيبتها على ظهرها، ثم قالت بحماس:
– مش يلا ولا أي.
أردفت “رحيل” بلهجة متضطرية فقالت بتوتر:
– مش عارفة اللى أحنا بنعمله ده صح ولا غلط.
– مش أنتى نفسك تشوفيهم؟.
– طبعاً.
-يبقى قرارك صح.
فركت يدها بارتباك ثم قالت:
-خايفة من رددت فعلهم، أصلك متعرفيش ندى ونور دا ممكن يقتلوني بسبب فراقي ليهم من غير ما أعرفهم مكاني.
أردفت “رهف” مشجعة:
– سبيها على الله وهو هينصرك.
نظرت إليها الأخرى باسمة ثم قالت برقة:
-أنتى ليه محسساني أننا رايحين نحرر فلسطين.
-يسمع من بؤك ربنا ويحررها فعلاً من بطش القوم الظالمين.
تحدثت “رحيل” بكل ثقة ووقار وهى تنظر إلى السماء فقالت باسمة:
– ورب السماء والأرض لينصرنهم فى يومٍ سيفرح به العالم بأكمله.
– عارفة أن النصر قَريب…وقَريب جداً كمان، وهذا يقيني بالله.
مرت اكثر من ساعة فولجت “رهف” إلى المطعم التى اتفقت عليه مع صديقات “رحيل”، فلما رائتهم جالسون فى ركنٍ بجانب الحائط تقدمت نحوهم، ثم قالت بلطف:
– السلام عليكم، أنا رهف اللى كلمتكم فى الفون.
رددت “ندى” بابتسامة بشوشة:
– وعليكم السلام، اتفضلى حضرتك خير كنتى عيزانا فى أمر مهم، ياترى ايه هو.
أجابت “رحيل” التى أقبلت إليهن فقالت باسمة:
– هو الواحد لازم يعمل عليكم فيلم عشان يشوفكم.
نظروا إليها بصدمة جعلتهما يتصنموا فى أماكنهم، فأضافت هى:
-هو أنا موحشتش حد فيكم ولا ايه؟.
وعلى حين غرة ارتمت “ندى” بين ذراعيها لتعانقها بقوة ثم قالت ببكاء:
– حرام عليكى اللى أنتى عملتيه فينا، بجد غيابك وجعنا كلنا يارحيل.
مسحت على شعرها برفق ثم قالت معتذرة:
-حقكم عليا.
ابتعدت عنها لتوجه حديثها إلى صديقتها الأخرى:
-مالك يانور مش ناوية تسلمى عليا.
اشاحت “نور” وجهها بحزن وقد ترقرقت الدمع فى عيناها ثم قالت:
-اللى هنا عليه فراقنا، يهون علينا لما يحاول يرجعلنا تانى.
طأطات رأسها بألم ثم قالت بحزن:
– محدش فيكم هان عليا، أنا اللى هونت عليهم كلهم، أنتى بالذات المفروض تراعى اللى مريت بيه لأنك صحبتي واختي وعارفة عني كل حاجه.
فجاءت أن تذهب من أمامهم ولكن “نور” اوقفتها وهى تقول ببكاء:
– عمر اللى حصل ما هيغير صداقتنا وعلاقتنا ببعض، متزعليش مني أنا كنت زعلانه من بعدك مش أكتر، بس مش مهم المهم أنك رجعتي ليا بالسلامة وكل شئ بعد كدا يهون ياصديقتي.
ثم عانقتها فبادلته الأخرى هذا العناق، فنزلت من عين “رهف” دموع التأثر والشفقة، فقالت برقة:
– الحمدلله دلوقتى اقدر اقول رجعت المياه لمجاريها.
نظرت إليها “ندى”متفحصة ثم قالت بتسأل:
– مين دي؟
أجابتها “رحيل” متبسمة:
– دى ياستى بنت عمو قاسم اكيد تعرفوه.
– طبعآ.
– المهم خلونا نمشى فى حد كدا عايزة أعرفكم عليه.
تحدثت “نور” بتسأل:
– مين ده؟.
– هتعرفوا لما نوصل.
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
صف سيارته أمام المنزل التى تقيم فيه محبوبته، هبط منها ليقف بمكان قريب خلف أغصان الشجر حتى لا يراه أحد، مرت دقائق عليه وكأنها كالدهر، فلما ابصر بها دبت فى نفسه مشاعر الشوق والحب، ولكنه بُهت حين وجد طفلين يركضون حولها فى فرح وسعادة، وحين شاهد اقترب رجلٌ منها قام باحتوائها بين ذراعيه مقبلاً مقدمة رأسها، فقد ارتسمت على محياها ابتسامة مشرقة دليلاً على فرحتها، أغمض عيناه حزناً فهمس قائلاً:
– تأخرت يامراد لدرجة أنها بقت لراجل غيرك، أهو اللى كنت خايف منه حصل.
انهى حديثه مع سقوط دموعه التى احرقت ذاته، فقد فارقته روحه فى هذة اللحظة.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هجران رحيل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى