روايات

رواية هجران رحيل الفصل الخامس عشر 15 بقلم شامة الشعراوي

رواية هجران رحيل الفصل الخامس عشر 15 بقلم شامة الشعراوي

رواية هجران رحيل الجزء الخامس عشر

رواية هجران رحيل البارت الخامس عشر

هجران رحيل
هجران رحيل

رواية هجران رحيل الحلقة الخامسة عشر

كان واقفاً على منحدر عالٍ فوق الجبل، فقد تغيرت حالته كثيراً منذ رؤيتها فى تلك الليلة، قد بات عليه أمارت الألم، شعر وكأنه تخطى الخمسين من عمره فى هذة الأيام الثقيلة، فهو لم يعد كما كان ذاك الشاب القوى المتفائل، لقد ملأ اليأس فؤاده وتمكن الحزن من ذاته، وأصبحت جميع الأشياء باردة بالنسبه له منذ غياب معشوقته، ظهر التعب والأرق عليه وكان هذا ظاهراً تحت عيناه الذى يسكنها سواد الليل المستوطن تحتهما، تحسر على ماوصلت إليه حالته، بعد ما كان لا يقهره شئ، ولكن الآن بات رجلاً ضعيفاً فقد أغلى ما لديه، انسكبت الدموع على خديها من شدة الهم الذى يحمله على عاتقه، فبدأ بكائه يعلو رويداً رويداً وكأنه فى ميتم، فرفع يديه إلى السماء ليقول بألم يعصف كيانه:
– يارب أنا عبدك وأنت ربي فرفقاً بحالي، ارحم ضعفي وقلة حيلتي ياصاحب الرحمة،،
فلما وضع يده على قلبهِ أردف بنبرة حزينة متحشرجة من أثر البكاء:
-يارب هذا قلبي وأنت مالكه فأرح نبضاته التى تؤلمني، فما ذنبي أن أحببت أحداً ليس من نصيبي، فما ذنبي؟.
قاطعه وقوف رجلُ بجانبه فكان عجوزاً يتكأ على عصا سوداء، فقال:
– يابني لا تحزن عسى غداً يحقق الله مرادك، ليُقر عيناك وفؤادك بالجبر بعد طول الانتظار والصبر.
حدق به “مراد” متعجباً، ليكمل العجوز صاحب الشعر الأبيض قائلاً:
-يابني لا تحزن وتذكر عظمة ربك فهو عليك هين، وما أدراك لعلى ما تريده وتحتاجه هو نفسه ما يريده الله لك، يابني أيا كان الذى تمر به سينتهي يوماً وكأنه لم يكن.
تحدث “مراد” متسائلاً:
-أنت مين؟.
أجابه العجوز ذو الوجه البشوش وعلى لسانهِ قولٌ جميلٌ:
-أنا الغريب فى أرض الحبيب، أنا عبد الله الذى لا أرجو سواه، أنا الفقير بين يدى الحبيب الذى إذا سأله أجاب، أنا الذليل الذى يقرع باب عظيم السلطان والجاه، أنا عبد الرزاق الذى يُعطى بسؤال وبغير سؤال، أنا يابني رجلٌ عجوزٌ شيب الشعر ضعيف البدن فقل ليّ:
من ذا الذى يأوي العجوز غير سواه، فإنه أكرم الأكرمين الذى بيده الأمر والتصريف، فهو الله أعرف المعارف لا يحتاج إلى تعريف،
وعسى ربك يبدل الحال لحال يرضيك فهو الحامل للأقدار، فذهب إليه وسأل سؤالك حتى يُنجيك.
ثم سار بخفة وهو يدب العصا بالأرض و يكرر قوله:
– الملك لك ياصاحب الملك، الملك لك ياصاحب الملك، الملك لك ياصاحب الملك.
ظلّ يردد حتى ابتلعه ظلام الليل الدامس، بينما “مراد” ذهب خلفه ليبحث عنه لكنه لم يجد له أثراً، فوقف مذهولاً من هذا الغريب الذى ظهر له من العدم، طقطق شعر رأسهُ عندما عمّ السكون وهدأت حركة الهواء، ليبدأ صوت عويل الذئاب فبدأ يعلو تدريجياً وعلى حين غرة هبت رياح قوية محملة بالأتربة كادت تطيح به فى الهواء.
فى صبحية اليوم التالى.
كانت “ندى” تجر “مازن” خلفها لتقف مقابل البيت التى تسكن به شقيقته، فهتف الأخر منزعجاً:
– ياندى أنتى جرانى ع فين كدا.
تنهدت بعمقٍ ثم قالت بلطف:
– ماهو لو صبر القاتل على المقتول كان مات لوحده.
فأردف بمزاج معكر فقال:
-مش عارف أنا ايه اللى خلاني اسمع كلامك.
لحظات وفُتح الباب تلقائياً، ليلجوا إلى الداخل ليسروا معاً من خلال الممر المؤدي إلى غرفة المعيشة، فنشرح صدر “مازن” ليردف بسرور وبهجة فقال غامزاً:
-الله عليكى ياندوش بقى يابت أنتى جيباني هنا يالئيمة علشان تستفردى بيا براحتك صح، طب مش كنتى تقولى كدا ياشيخه من الأول وأنا كنت ظبتلك احلى ليلة ياعسل أنت.
قاطعه صوت شقيقته من الخلف وهى تقول ضاحكة:
– مش معقولة يامازن هتفضل طول عمرك كدا لسانك طويل وبتاع بنات.
بينما هو تسارعت ضربات قلبه شوقاً أحقاً ما سمعته أُذنيه حقيقة أم خيال، فلما استدار إليها وجدها تقف أمامه بأطلالتها المشرقة، طفرت دموع الفرحة من عيناه فدن منها ليلمس وجنتيها برفق ليقول معاتباً:
– اااه يامن هانت عليها فراقي، أهان عليكي تؤامك.
نظرت إليه بعينان تسكنهما دمعة والم يسكن قلبها، فقالت بندمٍ:
– لم تهن، حقك عليا.
عانقها بقوة لتستقبل هى عاتبه الحزين بصدر رحب، على الرغم من أنها غارقة فى قاع البؤس ولكنها كانت هادئة، ابتعد عنها قليلاً ليملأ عيناه من النظر إليها، فافترّ فاهُ عن بسمة فارحة ممتزجة بالحنان، مد يده ليمسح دمعة عالقة على جفن شقيقته، ثم قال بلطف:
– كفاية حزن لحد كدا لأن لو فضلنا فى دوامته عمر اللى فات ماهيرجع.
-عندك حق ياحبيبي.
جذبته من ساعده بروح منشرحة وعلى معالم وجهها الفرح والسرور، فقالت مبتهجة:
-تعالى أوريك الهدية اللى جبتها ليك من ألمانيا.
تهلّلت أساريره والتمعت أعيُنه سروراً فقال بمرح:
-والله أنا دايماً بقول البت رحيل دى بنت حلال.
ضحكت “ندى” بخفة ثم قالت مازحة:
-ماتصدقهوش دا كداب هو بيقول كدا عشان مصلحته مش أكتر.
تحدث “مازن” مستعطفاً:
-تعرفى أنك ياحبيبتي قطاعة أرزاق ماتسيبي الواحد يشوف رزقه الله.
استقبلتهم العائلة بترحاب شديد، فجاءت الطفلة راكضة فى سرعة وسرور كالعصفور الطلق الذى غادر قفصه، فكانت مفعمه بالحيوية والنشاط، أوقفتها “رحيل” قائلة:
– زينة كفاية لعب.
أردفت الصغيرة بصوت ملائكى ناعم ورقيق وهى تقول:
-حاضر يامامي بس أنا جعانة.
لمست خدها بحنان ثم قالت بنبرة لطيفة:
-من عنيا ياقلب مامي هجبلك تأكلى.
افترّ ثغر “مازن” الذى اعتلت ملامحه معالم الصدمة والدهشة ليقول مستفسراً:
-مامي ازاى!.
خاطبته “رحيل” بنبرة متزنة هادئة فقالت:
-دى بنتي.
أردف متسائلاً:
-أنتى اتجوزتى؟.
تذبذب كيان “رحيل” فهى لا تعلم بماذا ستخبره، قطع تفكيرها صوت أنقذها من هذا المأزق، فكانت طفلتها التى رنة ضحكاتها فى أرجاء البيت، فتفوهت بطريقة معبرة تصف بها خالها فقالت بنبرة فُكاهية:
– مامي ده طلع فعلآ شبهك بس عنده شنب كبيييير.
بينما الآخر لازال فى حالة ذهولٍ تام، فقال مندهشاً:
-أنا مش فاهم حاجه مين دي!.
أشرقت عيناها فخراً وهى تحول بصرها إلى طفلتها ثم قالت:
-هفهمك كل حاجه بس ممكن تقعد كدا وتسترخى لحد ماجبلك حاجه تشربها.
عندما اتجهت إلى المطبخ جلس على المقعد بأرتياح ليحول بصره بجميع الاتجاهات مستكشفاً للمكان، فلما وقعت عيناه على المقعد الجانبي وجد طفل ذو شعر أشقر عابس الوجه، طال النظر إليه فبدت علامات الدهشة والحيرة تتملك منه، فحول بصره باتجاه “ندى” وهو يشير باصبعه للطفل ليتسأل:
-مين ده كمان؟.
أجابه الصغير بلهجةٍ غاضبةٍ عابسةٍ فقال متذمراً:
– أنا ابن مامي.
حدق “مازن” به فعقد مابين حاجبيه وقال متعجباً:
-اللى هو ازاى مش فاهم، أنت مين وهى مين ومامي مين، الله يخربيتكم أنا ايه اللى جبني هنا، أنا عايز اروح!.
عضت “ندى” على شفتاها لمنع ضحكاتها من الخروج، فهيئة “مازن” من هول الصدمة بدأت مضحكة بعض الشئ، فقالت باسمة:
-مالك بس ياحبيبي ايه اللى حصلك.
– أنا حصلي ارتجاج فى المريئ.
-قصدك ارتجاج فى المخ.
-تؤ ارتجاج فى المريئ، وبعدين ايش فهمك أنتى دى حالتي وأنا عارفها.
ضربت الأخرى كف على كف بقلة حيلة لتقول ضاحكة:
-لاحول ولا قوة الا بالله خطيبي اتجنن ياجدعان.
♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡♡
فى اللحظة التى كان فيها قرص الشمس يختفى خلف الأفق ولج
الحارس ليخبر أهل البيت قائلاً بأحترام:
-استاذ قاسم فى راجل بره عايز يشوف حضرتك.
رد عليه الآخر متسائلاً فقال:
– متعرفش هو مين.
-للأسف لأ، اقوله يدخل ولا أمشيه.
-خليه يتفضل لما نشوف مين ده وعايز اي.
على الجانب الآخر فى غرفة المعيشة وضعت “رهف” باقة الزهور فى المزهرية القرموزية، لتدور حول نفسها بسرورٍ وحبور، لتصيح “رحيل” غاضبة على طفلتها التى بعثرت أوراق الجريدة أرضاً فقالت عابسة:
-حرام عليكى يابنتي بتعملى ايه.
أردفت الطفلة ببراءة وهى تضع طرف القلم فى فمها فقالت متلعثمة:
-بحل الكلمات المتقاطعة.
أخذت تلملم أدوات التلوين والأوراق المتناثرة، فقالت منزعجة:
– وأنتى أيش فهمك فى الكلمات المتقاطعة.
أردفت “رهف” مبتسمة:
-ما تسبيها على راحتها يارحيل، بنتنا ذكية وحابة تقوى ذكائها ونشاطها.
نهضت الصغيرة من مكانها لتشد ثوب رهف وهى تقول برقة:
– أنا عايزة ورد من البتاعة دى.
ثم أشارت نحو المزهرية، فقامت الاخرى بجذب واحدة منها لتعطيها أياها، فقفزت الصغيرة بسعادة لتقول:
– شوفتى يامامي لونها حلو أزاى.
مسدت على شعرها برفق وهى تقول:
– حلوة زيك يازينة، و يلا أطلعى على فوق لأخوكى.
-حاضر.
فلما استدارت “رحيل” للخلف رجت الصدمة كيانها وسيطر عليها الاضطراب الشديد، ليصيبها ألمٌ قوى هدّ أوصالها، كانت تحدق بأبيها تحديق المعاتب المقهور، فبدت عيناها تغرغر بالدمع حين تذكرت كلماته اللاذعة، أنه أبيها الذى تخلى عنها حين توسلت إليه راجية تصديقها وحمايتها من بطش الظالمين، أنه أبيها الذى قال أبنتى توفها الله وهى على قيد الحياة، كل تلك اللحظات تداهمت وتزاحمت بداخل عقلها، فكانت نظرتها المطفية تحكى كل شئ، فكانت تعاتبه بلغة الأعين قائلة، لماذا تركتني وحيدة عندما تخلى عنى من أحببت، لماذا خذلتي يا أبي حين مددت يدى لك مطالبة الحماية والأمان؟، لقد تركت أثراً مازال يؤلمني، بينما هو كان يتأملها بشوقٍ، فقال بنبرة حزينة:
-أنا أسف يابنتي على كل الأذى اللى اتسببته ليكى.
هربت الدموع العالقة باهدابها الكثيفة لتقول بصوت مهزوز:
-أسف!، أسف على ايه ولا ايه، دا أنا بسببكم فضلت عايشة طول السنين اللى فاتت فى تعاسة وحزن، ولحد دلوقتى مش قادرة اتخطى اللى حصل ولا قادرة اتحمل وجع الخذلان اللى اتعرضتله منكم، أنا يابابا مكنش ليا غيرك اروحله وأطلب منه يسمعني، لكن أنت بعدتني عنك بكل قسوة وكأني مش بنتك.
تحدث “سليم” راجياً:
-أرجوكِ اسمعيني.
أجابته بنبرة متالمة فقالت بأرق:
– أسمعك وكان مين سمعني منكم وأنا بحاول أدافع عن نفسي، قولي لو الأهل ماهتموش بأمور بناتهم وحاولوا يسمعوهم كان مين هيهتم بيهم ويسمع مشاكلهم ويحاول يحلها، دا كان أنا مسكت رجليك واتحميت فيك وطلبت مساعدتك لكن أنت عاملتني بقسوة وبعدتني عنك، ولما استنجدت بيك لما ابن أخوك كان بيضربني عملت نفسك مش سامع وكأني مش حته منك بتتأذى قدام عينيك، ودلوقتى جاى تقولي أسف واسمعيني، صمتت لوهلةثم أضافت ببكاء وهى تكرر قولها:
– ولما أنا أسمعك مين هيسمعني وهيتحمل معايا حزني وألمي، مين فيكم عنده القدرة أنه ينسيني الماضى.
اختلست نظرة إليه بأعين حمراء باكية، لتكمل قائلة:
-صدقني لو كنت سمحت لنفسك دقيقة تسمعني فيها مكناش وصلنا للمرحلة دى، كنت أنت الوحيد المفروض تقول بنتي مستحيل تكدب وتخون ثقتي فيها، دا ياشيخ لو العالم كله صدق عني أني وحشه المفروض أنت كأب متصدقش، وتقول بنتى عمرها ماتحط رأسى فى الأرض ابداً .
جففت عيناها الذابلة بظهر يدها لتقول بحده:
-ودلوقتى آسفك مرفوض، أصل مابقاش عندي القدرة أني اسامح اللى خذلني فى يوم من الأيام.
أنهت حديثها لتهرول من أمامهم لتجر معها خيبة الخذلان والحسرة.
فمن منّا لم يتجرع مرارة الخذلان فى كأس مكسور الحواف، فكل واحد منا مر بهذة التجربة ولكن بطريقة مختلفة!.
نكس رأسه بندمٍ ليربت “قاسم” على كتفه وهو يقول مواسياً:
-متزعلش منها ياسليم هى مش قصدها تجرحك بكلامها.
أردف “سليم” بنبرة يكسوها الحزن والحسرة فقال بألم ينخر حنجرته:
– مش زعلان منها، أنا زعلان من نفسي ياقاسم لأن خذلت بنتي ووصلتها للمرحلة دى، أنت مش شايف الكسرة والألم اللى ظاهر عليها.
– كل حاجه هتتصلح ياصاحبي وهترجع أحسن من الأول، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، فاصبر وتوكل على المولى.
ولج إليها الجد ليجلس بجانبها ليراها تبكى فى صمت فقال بهدوء:
– ياحبيبتي أهدى عارف أنه غلط فى حقك، ولكن مفيش بنأدم على وجه الأرض خالى من العيوب والأخطاء، وهو جه واعتذر فاغفرلى له.
نظرت نحوهُ بأعيت ممتلئة بالدمع فقالت بنبرة حزينة:
-أنت بتدافع عنه عشان ابنك.
تبسم الجد بخفة ثم قال:
-ما أنتى بنته وحفيدتي.
مسد على خصلاتها الناعمة بحنان وعطف ثم قال بعقل راجح وحكمة:
-الدنيا دى يابنتى دار بلاء ومحن، فما سلم منها أحدٌ من الهم، فأنسى الماضى وأغلقى على ملفاته وارميها فى زنزانة الإهمال والنسيان، والتمسِ الأعذار لمن أساء لكِ، علشان تقدرى تعيشى فى سكينة وهدوء، ومتخليش الشيطان يوسوس لكِ بقطع الأرحام ويعيشك فى نكد وغم، يابنتي متزعليش من حد فوالله الحياة أقصر مما تتصورى ماأنتى متعرفيش الموت هياخد مين فينا الأول،،
نسيتي وصية رسولك لما قال لا يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث أيام، وأنتى هجرتى أهلك ٧ سنين وده ميرضيش ربنا، فالحياة أصلاً تافهةٌ زائلةٌ لا تستحق دقيقة واحدة من أننا نزعل من بعض ونشيل جوانا،
دا غير أن كلنا فى مركبة واحدة ابتلينا بالحزن والألم طول الفترة اللى فاتت، فلا تزديها غماً وهماً فما فيها يكفيها.
-عايزني أنسى كل اللى حصل بسهولة!.
-اه أصل عقلك لو فضل يفكر فى المصائب اللى حصلت وضخم حجمها صدقيني هيتكوى بنارها، أنتى بس غمضى عينك لدقيقة واحدة وفكرى فى النعم اللى ربنا وهبها ليكِ من وراء هذا البلاء وقتها بس هتلاقى قلبك عمرَ بالسرور والسعادة، وشردت روحُك كالعصفور، وصار فى صدرك بستانُ الأفراح والبهجة،،
فالحياة أمامك كما هى فيها سرورٌ وحزنٌ، وأمنٌ وخوفٌ. وراحةٌ وتعبٌ، فاختارى منهما ما يُسعدكِ ويشرح صدرك، قدامك فرصة لتصلحى ما افسده الآخرون.
ربت على يدها برفق وهو ينهض ثم قال بلطف:
-الرضا يابنتي بوابة السعادة ومفتاح الراحة، فارضِ بحكم الله وقدره، وثقى فى قضائه، وسلمِ أمرك لرب السماء والأرض، يُكفيكِ همك، فمن رضا عاش أجمل وأروع وأبهى حياة.
فخرج من الغرفة بهدوءٍ تام ليتركها تفكر فى مصيرها لتحدد ما تريده.
فى الأمسية
ساورتها حيرة شديدة من حديث جدها فبقيت تجوب الغرفة جيئة وذهاباً، خفق قلبها وتسارعت نبضاته حين أعلن هاتفها عن اتصال مُفاجئ، فلما أجابت على المتصل تسمرت مكانها وجمد الدم فى عروقها، وأحست بثقل فى رأسها حين ساورها الدوار، فامسكت بطرف الطاولة حتى لا تسقط، فألقت الهاتف على الفراش ثم أسرعت بخطواتها إلى الخارج.
ما أقبح أنا تكون حياتنا مهرجاناً دون أنوار، فهى مليئة بالعتمة والأسى، فبكل آسف كان هنا صرخات تتعالى فى كل ركن من أركان البيت، وقفت متصنمة عندما وجدت شقيقها الأكبر جالسٌ على الدرج واضعاً رأسه بين يديه بحزنٍ وأسى، فكان صوت بكائه عالياً فلما رائها قال بشهقات متقاطعة:
-بابا مات يارحيل، مات قبل ما أنتى تسامحيه، مات وكان نفسه يشوفك ويحضنك، كان نفسه تبقى جمبه لكنه مات قبل مايحقق أُمنيته، بابا مات وسابنا لوحدنا فى الدنيا من غير ضهر ولا سند.
صعدت على الدرج بخطوات ثقيلة، فلما ولجت إلى غرفته وجدت نسوةٌ العائلة مرتدين الثوب الأسود يقفن على الصفين، حولت بصرها باتجاه الفراش فشاهدت أبيها مكفنٌ بالقماش الأبيض، وفى هذا الأثناء شعرت وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، تسارعت وتيرة تنفسها، عندما تفوهت والدتها التى عانقتها بشدة وهى تبكى:
-سليم مات وسابنا يارحيل.
أنكرت هذا القول فقالت بعدم أدراك:
-مستحيل دا كان عندى النهاردة، أكيد بتكدبوا عليا.
فقامت “صفا” بازاحة طرف الكفن ليظهر وجهه الشاحب المائل إلى اللون الأصفر، كانت تحدق به تحديق الخائف ثم أحست وكأن عموداً من الثلج جمدها فى مكانها.
أنتهت مراسم الجنازة وهدات الأرجل، كانت جالسة بجانب القبر واضعه كفها عليه لتتحسس دافئه، أغرقت مياه عيناها كلتا خديها.
بكيت عليك ياأبي حتى انقطعت أنفاسي، لا شئ أصعب من أن تكون بعيداً والتراب مثواك، مازلتُ غير قادرة على الاستيعاب بأنك لن تكون بيننا بعد الآن، وهذا مايؤلمني، ليتني كنتُ سمحت لك بأن تجلس معي هذة المرة، ليتني كنتُ سمعتك كما أمرتني، ليتني كنتُ بجانبك ولم افترق عنك.
أخذت تزيح التراب بيد مرتعشة وهى تردف ببكاءٍ مريرٍ كاد يُمزق أحشائها:
-يابابا أنت سامعني، يابابا قوم يلا أنا جيت علشان اسمعك، مشيت ليه قبل ما حضنك وأشبع منك، مشيت ليه قبل ما نتصالح ونرجع زى زمان، مشيت ليه يابابا وسبت بنتك، سبت بنتك لمين من بعدك ياحبيبي؟.
سندت جبينها على القبر وقالت هامسة:
-يعز عليا فراقك ياعمري، يعز عليا فراقك يابابا، ياريت التراب كان خد روحي بدالك.
ثم قامت بنهش التراب مجدداً بأظفرها وهى تصرخ بعنف:
-يابابا أخرج علشان خاطرى ماتسبنيش يابابا.
جاء “مراد” ليبعدها برفق وهو يزيح من يدها التراب، فقال بحزن:
-حرام اللى بتعمليه ده، ادعيله بالرحمة والمغفرة.
نظرت إليه بعينان تسكنهما الحزن والألم فقالت ببكاء:
-بابا يامراد ازاى هان عليكم تدفنوه فى التراب، ازاى جالكم قلب تسبوه لوحده فى القبر، ازاى هان عليكم فراق سليم؟.
احتوائها بين ذراعيه ليقول بنبرة ممتزجة بالبكاء:
– مكنش هاين عليا لكن ياحبيبتي الموت علينا حق ودفن الميت فى التراب واجب.
حبست أنفاسها بين صدرهُ لتنطلق من أعماقها صرخة قطعت أحبالها الصوتية، صرخةٌ مؤلمةٌ كادت تمزق فؤاد الحاضرين.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هجران رحيل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى