روايات

رواية هجران رحيل الفصل الثامن عشر 18 بقلم شامة الشعراوي

رواية هجران رحيل الفصل الثامن عشر 18 بقلم شامة الشعراوي

رواية هجران رحيل الجزء الثامن عشر

رواية هجران رحيل البارت الثامن عشر

هجران رحيل
هجران رحيل

رواية هجران رحيل الحلقة الثامنة عشر

كانت تسير “رحيل” فى حديقة القصر مع صديقتها “رهف”، فأتى إليهما “هشام” ليتمشى معهما فكان يريد أن يتحدث مع تلك الفتاة التى أعجبته منذ رؤيتها فى حفل زفاف “مازن”، تلكأت “رحيل” فى مشيتها حينما عرفت بما ينوى فعله، لذا انحرفت بخطواتها لترجع إلى البيت، تعجبت “رهف” من تصرفها لكنها ظلّت واجمة صامته لتكمل سيرها معه بعدما أزاحت خصلة الشعر عن وجهها الذى يلعب فيه الهواء، فحمحم “هشام” بتردد ثم أخذ نفساً عميقاً ثم بدء يسترسل حديثه قائلاً:
-ممكن اسألك سؤال مهم؟.
نظرت إليه وقد أرتسمت علامات الاستفهام على وجهها فهى متعجبة من تصرفاته، فقالت بهدوءٍ:
-أتفضل.
نظر “هشام” لبرهة فى عينياها ثم قال:
-هو أنتِ مخطوبة أو فى حد فى حياتك.
اندهشت “رهف” من سؤاله الذى لم تتوقعه بتاتاً ولكنها أجابت عليه قائلة:
-لا.
أردف بحماس عندما أعلنت رفضها فقال باسماً:
-بصي من الآخر كدا وعلشان أكون معاكى صريح، أنا معجب بيكى من أول مرة شوفتك فيها.
أحست “رهف” بالخجل والاحراج من اعترافه المفاجئ فصمتت.
بينما “هشام” أكمل حديثه بنبرة لطيفة:
-أنتِ فتاة جميلة جداً يارهف، وعلشان تتأكدى من صدق حديثي أنا طلبت من باباكى أنه يحدد موعد أجي اخطبك فيه، فمن هنا للوقت ده فكرى فى عرض الجواز براحتك وأنا هستناك.
ابعدت وجهها عنه باستحياء لتسير بسرورٍ فى كل إتجاه، فلما وصلت إلى غرفة المعيشة سألتها “رحيل” عن سبب تأخرها، فأجابتها “رهف” وقد تغير لونها فقالت بتلعثم:
– كنت بتمشى ومحستش بالوقت علشان كدا اتأخرت فى الرجوع.
أطالت “رحيل” نظرتها نحوها ثم قالت بنبرة لعوبة:
-يعنى هو ده كل اللى حصل بس.
تبسمت “رهف” بخجل، وقالت:
-الصراحة ومن غير لف ولا دوران قريبك هشام قال أنه معجب بيا وعايز يخطبني.
حدقت به “رحيل” باندهاش وقالت لها:
-بتهزرى صح، أنا عارفة أنه معجب بيكى بس مكنتش أتوقع انه ياخد الخطوة دى حالياً.
-أنا كمان اندهشت من الجراءة اللى هو فيه، لكن عجبني أنه واخد الموضوع جد.
ربتت “رحيل” على معصمها برفق وقالت لها:
-هشام راجل طيب وابن حلال ومدام هو حابب يدخل البيت من بابه فأطمئنى أنه شاريكى وحابب وجودك، لكن أنتى ايه رأيك؟.
ارتبكت قليلاً ثم تفوهت بتردد:
-مش عارفة بس أنا لما بشوفه قلبي بيقعد يدق جامد.
حضنتها “رحيل” بكل محبة ثم قالت مبتهجة:
-يبقى السنارة غمزة يارهوفة، ودلوقتى أقدر أقول مبارك عليكى مقدماً.
وفى هذا الأثناء شدّت “صفا” أُذن “مروان” بقوة وهى تعاتبه قائلة:
-مطمرش فيك الرضاعة اللى كنت برضعهالك، دا أنا يامؤمن كنت بسيب أدهم يعيط وأقعد أرضع فيك وأغيرلك البامبرز وفى الآخر تضحك عليا.
حاول أن يفلت من تحت يدها فصاح قائلاً:
-ياصفصف ياحبيبتي حرام عليكى اللى بتعمليه فيا ده، اشحال أني أبنك حبيبك تقومي تبهدليني كدا.
– أصلي مفروسة منك أوى، كل ما افتكر أن رحيل كانت عندكم وأنت مكلفتش خاطرك تتصل عليا تطمني عليها.
بعدما دفعته عنها تحسس أذنيه بألم ثم قال باسماً:
-وأنا كان بأيدي ايه أعمله ياصفصف بنتك هى السبب.
تبسمت “صفا” بخفة وقالت له:
-دا أنت مش سالك ياواد يامروان.
أردف “مروان” بنبرة مرحة:
-وحياتك كل الرجالة مش سالكة اسمعى مني واشترى نصيحتي.
-بلا وكسة توكسك اكتر ما أنت موكوس.
أمسك بكتفها وهو يقول مازحاً:
-بس أنا أعتب عليكى فى حاجه، ليه بترضعيني مع ابنك مش لو كنتى سبتيني لحال سبيلي كان زماني متجوز القمر اللى هناك ده.
أنهى جملته وهو يشير باصبعه باتجاه “رحيل”، فقالت “صفا” ضاحكة:
-يلا مالكش فى الطيب نصيب يابن فاطمة.
تبسم فاهُ عن ابتسامة بشوشة ثم قال بنبرة فُكاهية:
-نصيبي ابقى أخوها فى الرضاعة ياصفصف.
فى صباح اليوم التالى، بينما كانت “رحيل” تأخذ غرفة المعيشة الخالية مجيئة وذهاباً، فولج إليها “هشام” مسرعاً وهو يسترد انفاسه المتقاطعة، فتسألت هى:
-ها عرفت عنه حاجة.
جلس على الاريكة بأرهاق ثم قال لها:
-ايوة.
فأردفت “رحيل” بتردد:
-طب عرفت مكانه، صمتت لوهلة ثم أضافت بنبرة قلقلة حاولت قدر الإمكان اخفائها:
-هو كويس مش كدا.
أجابها الأخر قائلاً:
-نوعاً ما.
-يعنى ايه!.
-تقدرى تقولى عايش ومش عايش.
أحست بالخوف عليه فقالت مرتبكة:
-أنت قلقتني ياهشام.
-ماتقلقيش عليه هو بخير، لكن نفسه يشوف زين وزينة وبيستأذنك أني اخدهم يشوفهم.
-وليه مايجيش يشوفهم بنفسه.
أجابها بنبرة مرتبكة فقال:
-مش حابب يأذيكى بوجوده هنا.
نظرت إليه بدهشة من قوله فهى لم تصدق ما فعله فى الإبتعاد عن صغاره حتى لا يحزنها أو يسبب لها أذى، فقالت له:
-المهم دلوقتى هو قاعد فين.
-هو حالياً ساكن فى مزراعة مع راجل عجوز.
بينما هى جلست باحباطٍ وتمنت لو تستطيع أن تبقى بعيداً كل البعد عن من حولها، نظر إليها “هشام” فاشفق على حالتها، فقال:
-لو مش حابة عيالك يروحوا له انسى أني قولتلك حاجه.
رفعت بصرها نحوه وهى تقول:
-لو مكنتش عايزة عيالي يشوفوه مكنتش طلبت منك من الأول تدور عليه، وبعدين هو فى الأول والأخر أبوهم ومن حقه يشوفهم.
-على العموم وقت ماتحبي توديهم أبقى قوليلي وأنا أخدهم له.
-حاضر.
صعدت إلى غرفتها لتجلس مع صغارها فلم تجدهم، أخذت تبحث عنهما فألتقت بها “نور” أثناء مرورها من امام غرفتها وأخبرتها بأنهما فى غرفة والدهما، فاتجهت إليهم فلما اقتربت وضعت يدها على مقبض الباب وقد سيطر عليها الاضطراب الشديد ولكنها الآن تغلبت على خوفها وشجعت نفسها بأنها لن يصيبها شئٌ إذا دخلت إلى غرفته، فهو ليس متواجد بداخلها من الأساس، فلما ولجت إليهن وقفت متصنمة مما رأت، فراحت تحول بصرها بكل ركن بالغرفة فكانت فى حالة يرثى لها، فكل شئ ليس فى مكانه، حتى أدارج الخزانة مفتوحة على مسرعها وما بداخلها مُلقى أرضاً، وكل ثيابه تنثرت فى جميع الاتجاهات، صاحت غاضبة:
-ايه اللى عملتوه ده!.
نظرت إليها “زينة” ببراءة وهى تسحب من فوق صندوقٍ خشبي بعض الأغراض الخاصة بأبيها، ثم قالت برقة:
-بنتفرج على صور بابي، ثم مددت يدها نحوها بوردة مُجففة، أخذتها “رحيل” منها وهى تقول بتعجب:
-جبتيها منين دي.
أشارت بسبابتها نحو الصندوق، ثم قالت ببراءة:
-كانت موجودة على الصندوق.
جلست على ركبتيها بجانبها ثم قالت لهما بحده:
-ياريت تتفضلوا تطلعوا بره لحد ما اعدل الأوضة اللى حضراتكم بهدلتوها.
وفى هذا الأثناء أردف “زين” برجاء فقال:
-خلينا نلعب شوية هنا يامامي دا لسه فى حاجات كتير عند بابي مشوفتهاش.
حدقت به بذهولٍ فكان يرتدي قميص أبيه فامسكته من كتفه وقالت منزعجة:
-ايه اللى أنت عمله فى نفسك ده، وبعدين هو ده قدك علشان تلبسه.
نظر لنفسه مستغرباً ثم قال بنبرة طفولية جميلة:
-ماله ماهو شكله حلو عليا، وبعدين بصى فى صور بابي اللى هنا دى كان لابسه عادى.
اختلست نظرة سريعة بأتجاه ألبوم الصور ثم قالت:
-علشان ياحبيبي هو مناسب له، أما أنت لسه جسمك صغير والقميص كبير عليك.
تفوه “زين” بعبوس وهو يقول:
-أنا عايز أكبر زيه ماليش دعوة.
-ماتستعجلش بكرا تكبر وتندم أنك كبرت وهترجع تقول ياريتنى فضلت طفل زى ما أنا ولا شوفت يوم من أيام الكبر.
أنهت جملتها وهى تخلع عنه الثوب ثم قالت بلهجة أمر:
-ودلوقتى زى الحلوين كدا تروحوا أوضتى و إياكم تخرجوا منها.
زفرت أنفاسها بعجزٍ وهى تشاهد تلك الغرفة المليئة بالكراكيب، فراحت تعيد كل شئ بمكانه، ماعدا ذلك الصندوق الذى دفعها فضولها لاكتشافه، ومن حسن حظها أن اقفاله كانت مفتوحة مما ساعدها هذا على أخراج محتواه، ولكن ما جعلها مذهولة تلك الهدايا المتواجدة بداخله، لكنها شعرت بالضيق حينما وجدتها تخص فتاة ما، لا تعلم لما روادها شعور الغيرة، فتسألت بداخلها هل أصبح لديه حبيبة أخرى؟، ولما لأ فهو مثل باقى الرجال مخادعون ومتقلبون المزاج، وفى هذا الأثناء لفت انتباها تلك الأوراق الملتصقة على كل علبة، فاندهشت من تلك الأرقام التى نُقشت عليها بتسلسل، فقامت بفتح العلبة الأولى لتجد سلسلة ذهبية على هيئة تنة ورنة ومعها أيضاً رسالة، تبسم ثغرها تلقائياً عندما بدأت بقراءة هذة الرسالة.
” كل عام وأنتِ بخير يازهرتي..
اليوم عيد مولدك الأول بعد فراقكِ عني، أعلم أنك مجروحة مني ولو قدمت لكِ الكثير من الأعتذار فلن يغفر لي ذنبي،،
يازهرتي مازال صوتكِ فى ثنايا مسمعي، والشوق فى صدري يفتت أضلعي، هل تعلمين أني مازلت أفتقدك،، وأفتقدك تبسماتكِ البريئة،،
أعرف أنكِ الآن تستغربين لما اختارت لكِ تلك الهدية، فأنا أحببت أن أجلب لكِ ما تحبين وما يشبه روحكِ، وأيضاً لأني أعلم جيداً حبكِ لشخصية تنة ورنة لذا أرددت أن تكن هذة الهدية مميزة مثلكِ فقد صُنعت لكِ خصيصاً،،
والآن أختم قولي بالاعتذار إليكِ يازهرتي، أحبكِ كثيراً ياابنة عمي،،
من المذنب فى حقكِ حبيبك مراد…”.
علمت “رحيل” من خلال تلك الرسالة بأنها هى المعنية، لذا أحسّت بمشاعر مختلطة من بين الحزن والفقدان، والعفو والعقاب، فكرت أنها تنسحب بهدوءٍ ولا تكمل ماتبقى من فتح الهدايا ورؤية ما بداخلها، ولكنها تراجعت عن هذا لتكمل بقلبٍ شجاع محتوى الباقى، سحبت العلبة الثانية والتى كان مكتوب عليها رقم ٢ فقامت بفتحها، ضحكت بخفة عندما اخرجت منها زجاجات لطلاء الاظافر فكان نصف ينقسم إلى لون اللافندر والقسم الأخر إلى اللون الازرق، فكلتا اللونين كانوا متواجدين بتدرج فى الزجاجات، تركتهم بداخل العلبة وبدأت فى قراءة الرسالة الثانية.
” اليوم مولدكِ الثانى مُنذ فراقنا تمنيت لو أنني أراكِ لأخبركِ كم اشتقت لكِ يازهرتي،،
ما رأيك بطلاء الأظافر أعلم جيداً أنكِ تعشقين هؤلاء اللونين بشدة وأنهما مفضلين عندك لذا جلبتهم لكِ حتى بألوانتهم المتدرجة، هل أعجبتك هدايتي؟…
وعند إذٍ أجابت “رحيل” بأعين دامعة فقالت هامسة:
-عجبتني جداً.ثم عادت لتقرأ باقى الكلمات..
صحيح أن القدر لم يجمعنا هذة السنة أيضاً ولكني سأخبركِ هنا
بأنكِ أجمل وأرق أمراة قابلتها فى حياتي، فأنتِ يازهرتى أجمل ما حصلت عليه من خير…….
أرجوكِ أن تغفرلي،،، مراد “.
وعندئذٍ قهقهة بقوة والتمعت عينيها الزرواقتين بالسعادة والفرح عندما احتضنت الهدية رقم ثلاثة، فهتفت بسرورٍ:
-أنا بجد مش مصدقة شرابات شلبي وكورة البعبع، مكنتش متخيلة أنه هيخطر على باله أني بحب النوع ده من الشرابات.
” كل عام وأنتِ بخير يازهرتي فاليوم مولدكِ الثالث،،
كنت محتار ماذا سأعطيكِ فى هذا اليوم لكني تذكرت حبكِ لارتداء مثل هؤلاء الشرابات فى الشتاء، أعرف أنكِ ستندهشين بمعرفتي بالاشياء التى تحبيها، لقد علمت بكل هذا من خلال مراقبتي لكِ وحرصي على معرفة ما تحبيه وعلى ما تكرهيه،،
لقد كنتُ مغرماً بكِ إلى حد لا يتصوره أحد ومازالت إلى الآن أحبكِ بشدة،،
والآن جئت إليكِ معتذراً وندماً فأرجو أن تسامحيني..
رسالتي من المذنب مراد “.
قاطع تلك الحظة رنة هاتفها فرددت على المتصل فكان “هشام” الذى أخبرها بأنه يريد أن يأخذ صغارها لزيادة والدهم، فأمرته أن ينتظر حتى تجهزهم، بعد ما أغلقت معه نظرت إلى الشرابات التى تعانقها بسعة رحب، فقامت بوضعها بداخل الصندوق وكان هناك أربع علب مغلقة لم تفتحها بعد فوضعتهما معاً حتى تراهم بوقتٍ لاحق.
مرت ساعة من الانتظار، فلما ولجت إلى غرفة المعيشة نطق “هشام” قائلاً:
-أخيراً خلصتم دا أنا كنت همشى وأسبكم.
أردفت “رحيل” مُبتسمة فقالت:
-شكراً لانتظارك لينا طول المدة دي، ودلوقتى يلا خلينا نمشى.
نظر إليها بتعجب فقطب مابين حاجبيه وقال بتسأل:
-هو أنتى جاية معانا؟.
-اه ليه؟.
-أصلي مستغرب لأني عارف أنك مش بطييقى مراد.
تنهدت بعمق شديد ثم أخبرته قائلة:
-أنا مضطرة أجي معاك علشان خاطر ولادي اللى أصروا أكون معاهم.
ولج إليهن الجد “وهدان” بعدما سمع حديثهما، فقال:
-متأكدة من مرواحك له يعنى هتتحملى تشوفيه قدامك.
أجابته “رحيل” بهدوءٍ فقالت:
-أيوة ياجدو وبعدين أنا من أجل ولادي أتحمل أى وجع المهم يكونوا مبسوطين.
مسح الجد على خصلات شعرها مسحة حنان ثم قال باسماً:
-ربنا يراضيكى يابنتي ويزيح من قلبك أى وجع، ودلوقتى يلا نمشى أصلي أنا جاى معاكم.
عندما وصلوا إلى المزراعة ركضوا الصغار نحو والدهم الذى كان يسقى الزرع، فترك ما بيده ليحملهن بين ذراعيه بشوقٍ جارف، وعند استقباله لجده انصدم من وجودها فهو لم يتوقع مجيئها، وعندئذٍ جاء العم “أيوب” ليرحب بهما بشدة ثم قام بأرشادهم إلى مكان المعيشة، ولكن الجد اقترح بأن يجلسن تحت شجرة وارفة الظل، ليستمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة، فأورق الأشجار كانت تتمايل وكأنها ترقص على ألحان تغريد العصافير، أما “رحيل” كانت تحدق بملامح وجهه بتعمق فحزنت من هيئته التى أصبحت باهتة يكسوها الحزن، وجسده الذى بدأ ضعيفاً عن ذى قبل فمن يراهُ يظن بأنه أُصيب بوعكة صحية كادت تطيح به إلى القبر، والآن حينما نظر إليها بأعين مشتاقة لها قرع قلبها نبضاته فلعنته فى سرها، بينما هو
افترّ ثغره عن ابتسامة ودودة عذبة عندما وقف مقابلها وقال بأمتنان:
-شكراً ليكِ.
نظرت إليه متعجبة ثم قالت بتسأل:
-على اى؟.
فرك شعره بحرج وقال مرتبكاً:
-لأنك مامنعتيش عني رؤية ولادي بجد أنا ممتن ليكى بالمعروف ده.
كان هذا الحديث ليس ما ود قوله فهو ود أن يشكرها على مجيئها ولأنها سمحت لعيناه أن تراها وتشبعُ منها.
تحدثت بنبرة ممتزجة ببعض من الحده فقالت:
-لا شكر على واجب.
وفى هذا الأثناء أمسك كفها وهو يقول راجياً:
-رحيل أرجو منك المسامحة أنا..
أوقفت حديثه لتنفض يده بعيد عنها ثم قالت بصرامة:
-لو سمحت أياك تسمح لنفسك أنك تلمسني تانى، أنا لولا ولادي وخوفي من أنهم يتهموني بالقسوة والانانية لو منعتهم عنك مكنتش خليتهم ثانية واحدة هنا.
أردف “مراد” بندمٍ :
-رحيل أنا.
وقبل أن يكمل ما يريد قوله، تفوهت “رحيل” بحزم:
-مراد كفاية لحد كدا وياريت متديش لنفسك أكبر من حجمها لأن أنا حرفياً مش طايقة ابص فى وش واحد غدار زيك.
-أنتى ليه مش راضية تتديني فرصة أصلح اللى عملته.
ردد عليه بلهجة مستهزأ فقالت:
-عمر اللى اتكسر مايتصلح يامراد، وبعدين بلاش نفتح فى ملفات الماضى لان لو فتحتها صدقني هتطلع أنت اللى خسران فى الاخر، ودلوقتى أنا اللى برجوك وبقولك كفاية لحد كدا وياريت تعمل حساب أن ولادك قاعدين معانا وأنا مش حابه ابوظ فرحتهم، فخلينا نتعامل بود لحد ما الليلة دي تعدى على خير.
بعد بضع ساعات كان يلعب ويرتع مع صغاره فى جو مليئ بالسعادة والابتهاج، فكانت تطلعهما بحب كبير ثم انطفأت فرحتها حين همست لنفسها لو لم تكن تلك الليلة لكنا الآن معاً بصحبة صغارنا، كنا سنصبح عائلة رائعة وسعيدة لن يكن فى الحياة مثلها، أنك حقآ أب رائع ولكنك حبيب فاشل وغدار، قفزت “زينة” من على ظهر أبيها لتركض نحو أمها وهى تقول:
-مامي أنا جعانة أوى.
هتف “هشام” بمساكشة:
-ياربي نخلص من مازن تطلعنا بنت رحيل.
جاء “مراد” ليقبل خد ابنته برفق ثم قال:
-محدش له دعوه بأميرتي الصغيرة، قوليلي يابابا نفسك تأكلي ايه.
نظرت إليه “زينة” وهى تقول برقة:
-مش عارفة.
-بتحبى السمك.
تبسمت بسعادة وقالت:
-جدآ.
فقام بحملها على كتفه ليقول بمرح:
-مدام اميرتي بتحبه يبقى نعملها أحلى وجبة سمك.
أنهى حديثه وهو يتجه بها نحو البيت ليصنع وجبة غذاء لصغاره، بينما “رحيل” هى الاخرى ذهبت خلفهما لتساعده فى أعداد الطعام، فلما ولجت إليهن وجدهن يخرجن المحتويات من الخزانة، تعجب “مراد” من وقفتها عند مدخل الباب، لكنه حثها بهدوءٍ على الإنضمام لهما، سألته ماذا يجب أن تفعل فأمرها أن تقطع الخضروات إلى حين أن ينتهى من تحضير السمك، لحظاتٍ وقد نسيت ما حدث بينهما لتندمج معه، كانت عيناه طيلة الوقت ترسل نظرات نحوها ليعبر فيها عن مدى السعادة والارتياح برؤيتها، وفجأة عندما التقت أعينهم معاً استطاعت معرفة مايدور فى ذهنه من نظرة عيناه المتحدثة، فهى تعكس ما يشعر به من ندمٍ وحزنٍ ممتزج بالحنان والشوق إلى تلك المحبوبة العنيدة، فهى بالنسبة له فكرة خارج المنطق ليس لها شبيه، تبسم ثغره بحبٍ ليحدث نفسه بمقولة تبآ لتلك العينين التى تحملُ نظرة قوية كما لو أنها تريد ضربي أو قتلي، أشاحت وجهها عنه عندما وجدته يستلذ بالنظر إليها، فقالت بنبرة مرتبكة:
-قدامك كتير؟.
أجابها حين حمل الصينية المحملة بالأسماك فقال باسماً:
-أنا خلاص خلصت مش ناقص غير أني أشويه، وأنتى جهزي باقى الأكل عشان زين باشا.
وعند مروره بجانبها سمعته يقول بلطف:
-أنكِ مثل الفراشة مهما إنطفأتِ تُحلقين من جديد.
فلما ذهب ارتسمت ابتسامة حلوةٌ على ثغرها، لكنها تدراكت وضعها فأخذت تلوم نفسها لأنها سمحت لمشاعرها تنجرف نحوهه مجدداً.
فى الخارج كان الجد يُراسل حديثه الممتع مع العم “أيوب”، فسأله قائلاً:
-وأنت ياأيوب عايش لوحدك هنا؟.
-أيوة.
-معندكش ولاد.
تحدث العم “أيوب” بعدما علت على وجهه ابتسامة رضى فقال:
-لم يرزقني الله بأطفال من زوجتي الراحلة.
أردف “هشام” بتسأل:
-طب وليه حضرتك ماتجوزتش واحدة تجبلك أطفال.
-أتجوز!، عمري ما فكرت أتجوز واحدة تانية غير مراتي، ومستحيل أعمل كدا ازاى بعد الحب والهنا اللى عيشته معاها اتجوز واحدة غيرها تشاركها فيا، حتى بعد ماتوفها الله كانت روحها عايشة معايا، روحها موجودة فى كل شبر فى المزراعة، كل ركن هنا يشهد على ذكرى جميلة جمعت مابينا، هنا فى ذكريات أحياها الله بيننا، ازاى بالسهولة دى اتخلى عن كل ذكرى بقاية من ريحتها اللى مونساني.
بعد مدة من الوقت
وضع “مراد” سرفيس فضى مغطى بوجبة شهية على الفراش الذى وضعه “هشام” على البساط، وقال بنبرة مداعبة:
-وجبة الملوك مع سمك الحوت المشوى بالبقدونس.
قدمت “رحيل” طبق البثنجان المخلل وهى تقول بمرح:
– ومعاه طبق السعادة لأصحاب السعادة.
تبسمت “زينة” حين رفعها أبيها مع على الأرض كى تضع طبقها، فقالت مبتهجة:
-وشيش طاووق بالثوم والليمون.
تحدث العم “أيوب” قائلاً:
-ريحة الأكل تجنن، وكمان عملته سمك مشوى دا أنتم طلعتوا شاطرين جدآ.
رددت عليه “رحيل” بابتسامة عريضة مشعة بالبهجة فقالت:
-مراد طول عمره بيحب السمك وبيحب يعمله ويتفنن فيه.
صمتت فجأة عندما استوعبت ما تفوهت به، بينما “مراد” طالعها بنظرة سعيدة، ولما أطال النظر فى عينيها نسى ما ود قوله، ولكنه مال نحوها قليلاً و أردف المحب هامساً:
-الحياة من غيرك ليس لها معنى.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية هجران رحيل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى