رواية نيران الغجرية الفصل الرابع والستون 64 بقلم فاطمة أحمد
رواية نيران الغجرية الجزء الرابع والستون
رواية نيران الغجرية البارت الرابع والستون
رواية نيران الغجرية الحلقة الرابعة والستون
مخاطرة بقدر العشق.
___________________
“لم أحبك كشخص فقط بل أحببتك كوطن لا اريد الانتماء لغيره” نزار قباني
أسبوعان … شهر … 6 أشهر … سنة !
اِرتكنت لصحبة جدار مكتبها المشترك مع موظفة أخرى وهي تضم كوب القهوة بين يديها بعد أن استجدت راحة فسامرتها لوعة الإشتياق ، تعد بإنطفاء الأيام التي مرت على سفره و تدرك أن غيابه طال عن اللزوم ففقدت الساعات خفتها اللذيذة و أصبحت تنافس الدهر في طغيانه.
تنهدت مريم بإرهاق مفكرة ، هذه السنة كانت طويلة ولكنها لا تنكر بأنها عادت عليها بالفائدة ، قامت بتصفية وجدانها و الإبتعاد عن أية ضغوط تؤثر بها فنجحت في عملها و هاهي الآن قد أصبحت عضوا في فريق المترجمين الأساسي بعد مرور سنة واحدة فقط على تعيينها كموظفة رسمية في الشركة.
عالجت رسوب روحها لتغدو كالمياه الصافية لا تحمل حقدا أو وجعا لكن هذا لم يكفها فهي تحتاجه معها … تحتاج وجوده.
لتكون صريحة لم ينقطع عنها عمار أبدا فلقد كان يتصل بها بشكل دوري و يطمئن عليها إضافة لمساعدتها و تزويدها بالمعلومات الكافية عندما توكل لها مهمة في الشركة الا في الفترة الأخيرة عندما اصبح لا يتواصل معها بحجة أنه لا يملك الوقت وبالكاد ينتهي من أشغاله في وقت متأخر من الليل لينام سريعا وهي لا بدورها لا تلومه بل تتفهمه و تسانده.
إضافة إلى أنها تتابع أشغاله وقد سمعت البارحة بأن المشروع الذي نفذوه في عاصمة فرنسا لاقى نجاحا كبيرا كما أنها ترى صوره على مواقع التواصل الإجتماعي برفقة العملاء وحقا هي لا تستوعب كيف للإنسان أن يزداد وسامة يوما عن يوم ، كيف أن عيناه الزيتونيتان تطلقان سهاما تصيب القلوب و اِبتسامته الهادئة تجعل الخفقات تتسارع.
ابتسمت مريم فجأة وهي تتذكر أن عمار بات لا يتلامس مع النساء بأريحية كما في السابق حتى تلك البرتقالة الروسية المدعوة ماري التي كانت تعانقه في كل صورة وهو لا يمانع أصبح يبتعد عنها قدر الإمكان في الصور و الله أعلم ان كان يتصرف بنفس الطريقة بعيدا عن الكاميرا !
رن هاتفها فجأة فأجابت سريعا :
– أهلا بالسوبر مامي.
وصلها صوت هالة المتشنج :
– الحقيني يا روما انا انتهيت أيهم مجنني ومش راضي ينام انا مطبقة بقالي يومين.
هلعت وهي تستمع لبداية جملتها لكن عندما أدركت مقصدها تنهدت براحة ثم كتمت ضحكتها و قالت :
– خضتيني والله هو مش أيهم عنده شهر لسه منتظمش في نومه ولا ايه.
– تؤ ماما بتقولي انهم في اول سنة بيبقو كده طب انا هستحمل سنة ازاي بس.
– مجبتيش حد يساعدك ليه.
– انا مش عايزة اجيب دادة لإبني وكمان ماما تعبانة و مرات اخويا مشغولة مع ابنها و وليد صراحة مش مقصر بيساعدني احيانا و بياخد باله من البيبي بس صعب عليا لأنه بيجي ميت من التعب في الشركة و محبتش ازود عليه.
تهدل وجهها بتعاطف و شفقة مواسية إياها ووعدتها بأنها ستحضر إليها في أقرب وقت كي تخفف عنها ثم أغلقت الخط و ذهبت لمكتب يوسف تعطيه إحدى الملفات هاتفة بجدية :
– مستر يوسف انا خلصت اللي طلبته مني ممكن حضرتك تراجعه وتشوف اذا في adjustment( تعديلات) لازم تتعمل.
– اوك متنسيش تبعتيلي نسخة منه في الايميل ونسخة كمان لكل واحد في قسم الترجمة.
أماءت بإيجاب و استأذنت لتغادر لكنه أوقفها قائلا :
– مريم … ممكن أسألك لو مفيهاش ازعاج يعني.
ضيقت حاجبيها بإستغراب و هزت رأسها بترقب فتنحنح و سألها بنبرة جادة :
– Are you okay… يعني من لما عمار سافر وانا شايفك متغيرة صحيح اتقدمتي كتير في شغلك و I’m Proud of you بجد.
بس ده مبيعنيشش انك تعملي مجهود اكتر من الازم و تهملي صحتك مش شايفة نفسك بقيتي عاملة ازاي.
بهتت مريم وهي تدرك تماما بأنه محق في كل يقولها لكنها إن لم تفعل ذلك و تضبع وقتها في العمل ستموت من شوقها له ، لقد مر أسبوع كامل بدون أن يتصل عمار بها يكتفي فقط ببعض الرسائل القصيرة التي يسأل فيها عن حالها ثم يختفي حسنا لا تنكر ان هناك حل آخر وهو الإتصال به لكنها ليست مستعدة من أجل أن تطلب رقمه ثانية.
هاجس عدم الرد يجتاحها في كل مرة تفكر فيها بأن تتصل بعمار لذلك لا تود الاقدام على هذه الخطوة مهما كانت بسيطة و تافهة بالنسبة للآخرين ، استعادت مريم نفسها و تنحنحت مرددة :
– انا بخير يافندم ومبسوطة لاني بعمل اكتر حاجة انا بحبها بس هحط كلامك في بالي و شكرا على اهتمامك … عن اذنك.
خرجت من غرفته فبقي ينظر لأثرها حتى رن هاتفه ليبتسم بتلقائية بمجرد قراءة اسم المتصل و فتح الخط على الفور :
– honey ، وحشتيني.
ابتسمت ندى عند سماع نبرته الرجولية التي تجذبها ثم همست بدلال :
– مش مصدقاك لو وحشتك كنت اتصلت بيا ع الاقل.
تنهد يوسف بحسرة و أردف :
– ما انتي اللي قولتي انك عايزة تقضي يومين في قصر البحيري لأن مامتك تعبانة وانا محبتش اضايقك يعني لو عليا كنت هجي ابات عندكو عشان متحرمش من عينيكي الحلوين.
– عارفة يا حبيبي بس مامي من وقت وفاة بابي وهي بتتعب كل شويا و الدكتور قال ان حالتها النفسية بتأثر ع صحتها فلازم ناخد بالنا منها و نهتم بيها … مش عارفة ازاي هنقدر انا وانت نستقر في لندن و اسيبها هنا لوحدها.
تنهدت ندى تشكو اليه حيرتها فأجابها الآخر بهدوء :
– طب ما طنط فريال اللي رافضة تروح معانا و بتقول مستحيل اسيب بيتي احنا حاولنا معاها كتير ورفضت … معلش يا حبيبتي احنا هنلاقي حل للموضوع ده بس انتي متزعليش نفسك ولو عوزتي حاجة اتصلي بيا فورا ماشي.
– Fine, يلا انا هقفل دلوقتي.
ودعته وأغلقت الخط أما يوسف فدخل لمعرض الصور ليتأمل شكل القلادة المزينة بالزمرد و التي طلبها خصيصا من أجل حبيبته و سوف تصل في غضون يومين مؤكد أنها ستفرح عندما تراها و تنسى حزنها بسبب حالة والدتها التي ازدادت عنادا و عصبية بعد وفاة زوجها.
. وفي طريقها الى القسم تصادمت مع السيد رأفت فتلجلجت بتلقائية قبل ان تهز رأسها إحتراما له و تتابع سيرها لكن بعد دقائق رن الهاتف الأرضي وكانت المساعدة تخبرها بأن رأفت طلب حضورها إلى مكتبه سريعا ، تفاجأت مريم و ترددت قليلا لكن رضخت في النهاية وذهبت اليه ، طرقت الباب فأذن لها بالدخول لتدلف و تجلس أمامه بصمت منتظرة ما سيقوله.
لكن رأفت بقي ينظر اليها بدون أن يتطق فتوجست ريبة و حمحمت متسائلة :
– خير يا رأفت بيه ممكن اعرف حضرتك ليه طلبتني.
أفاق من شروده الذي غرق فيه بينما يطالعها محللا شخصيتها بموضوعية ودون أي حكم مسبق منه فوجدها اِمرأة قوية و طموحة تبدع عندما تفعل شيئا تحبه و شجاعة بما يكفي لكي تدخل وسطا لا تعرفه و تتحدى ذوي الخبرة فتنجح و تظهر من بينهم ! و رغم أن الطريق الذي سلكته في الإنتقام خاطئ تماما لكن اتضح أنها معذورة فيما فعلته ، رباه لقد تسممت وقتل طفلها و فُعل بها الكثير من طرف أخيه لذلك حتى و ان قلبت قصرهم رأسا على عقب لن يلومها.
– رأفت بيه حضرتك معايا ؟
سألته مريم مجددا بتعجب فحمحم مومئا :
– أنا طلبتك عشان اعرفك انك هتاخدي انتي و فريقك مكافأة مالية على اخر مهمة عملتوها ونجحتو فيها.
– بجد شكرا لحضرتك.
ردت عليه بإبتسامة ليتابع الآخر وهو يرص حروفه بتدقيق :
– في حاجة تانية كمان كان لازم اقولهالك من زمان بس ملقيتش الفرصة المناسبة مبدئيا انا عرفت سبب الحادثة اللي حصلتلك وقصة التسمم و عايز … اعتذر منك لأن اخويا اتسببلك بكل الأذى ده.
اختفت ابتسامة مريم سريعا وحل مكانها الألم و الغضب فأكمل رأفت بجدية :
– انا كمان غلطت في حقك لما كدبت عليكي بخصوص عمار و عرضت عليكي فلوس مقابل انك تسيبيه و أوهمتك انه خانك اكتر من مرة و مهتمش بإجهاضك … على فكرة عمار هو اكتر واحد اتأذى من غيابك و دور عليكي كتير ومكنش هيخطب ندى لولا أصريت عليه أنا و والدتي الله يرحمها بس احنا كنا فاهمين طبيعة علاقتكم غلط أو ب الأحرى حرصي على عمار وسمعته و مستوانا الإجتماعي خلوني اعمل تصرفات غلط عشان احميهم حتى لو على حساب ابني … و انتي كمان ياريت لو كنتي جيتي من الأول وواجهتينا بدل ما تختفي و تجي تضيعي وقتك في الأوهام و تنتقمي بطريقة غلط.
شدت مريم على يدها بتزمت و تشنجت تقاسيم وجهها بكبت واضح لتتنحنح وهي تجلي صوتها ثم تقول :
– حضرتك معاك حق بس ياريت متنساش أن اللي بيعرف عيلتكم و يسمع قد ايه هي بتهتم بسمعتها على حساب أي حد هيلاقي صعوبة في انه يعرف اذا انتو بريئين فعلا ولا لأ اضافة لأني بعد هروبي فكرت كويس وكنت هتصل بعمار و اطلب منه نتقابل بس انت جيت و قولتلي كلام خلاني اتهم عمار يعني الغلط مش عليا انا بس.
رمقته بكبرياء وجرأة لا مثيل لهما ليطالعها رأفت بدهشة لحظية قبل أن يتمالك نفسه ويفكر بأن هذه المرأة تغيرت كثيرا عن أول مرة رآها بها ، حينما بحث عنها كثيرا حتى علم بمكانها فذهب اليها ووجدها تسير في الشارع بشحوب و هوان تحدق في من حولها بإرتجاف كمن تخشى إنقضاض وحش عليها في أي وقت ، صوتها الراضخ المهزوز بات الآن قويا يجبرك على الإنتباه اليها و عيناها اللتان لم تكونا تملكان الشجاعة الكافية لتتطلعا له أصبحتا الآن تقدحان قوة و شررا حسنا لقد كان رأفت يدرك جيدا بأن مريم بها شيء غريب يجذب عمار ناحيته و اليوم علم ماهو …
كونها تستطيع الانتقال بسرعة بين حالة الضعف و القوة ، الهدوء و الشراسة ، الرقة و الجدية فهذا وحده يكفي لكي يسلب لُبَّ إبنه !
– معاكي حق بس أهم حاجة ان المواضيع ديه بقت من الماضي و أنا عايز اعرف اذا علاقتك انتي و عمار بقت جدية و مفيهاش لعب زمان ايوة عارف انكم بتحبو بعض و موافق على علاقتكم لأني عذرتك ع كل تصرفاتك بس حطي في بالك يا مريم اني مش هغفرلك لو غلطتي في حق ابني تاني أو عملتي حاجة تضر سمعته و سمعتنا.
عادت كرامتها تقرصها من جديد لكي تثور عليه و تخبره بأنه ليس لديه شأن بالحكم على علاقتهما ولا داعي لهذه التهديدات لكنها تمالكت نفسها مفكرة بأنه أب ومن الطبيعي أن يقلق على ولده فإبتسمت مجيبة بدبلوماسية :
– متقلقش يافندم انا وعمار بخير مش هقدر ادخل في تفاصيل اكتر من ديه لأني مبحبش اتكلم عن حياتي الشخصية و حتى ابنك مش هيرضى ودلوقتي بعد اذنك لازم ارجع لشغلي.
– تمام تقدري تتفضلي.
اشار لها بالخروج وقبل أن تفعل أوقفها مجددا :
– صحيح انا كلمت عمار من شويا و قال انهم مشغولين جدا في الفترة ديه و ممكن يفضل قاعد في باريس كام شهر زيادة وبالتالي مش هيقدر يتواصل مع حد غيري انا و مجلس الإدارة يعني في حال لو قلقتي عليه.
تسمرت مكانها بذهول و شحب وجهها متخيلة أنها ستضطر لتحمل أشهر أخرى من الفراق ربما تمتد للسنة الموالية بدون تواصل حتى فعضت على شفتها بإرتجاف وكادت عيناها تغرورقان بالدموع لولا أنها تمالكت نفسها في اخر لحظة و انتظرت حتى تدخل للحمام و تستند على الباب معطية لنفسها حرية البكاء وهي تردد :
– انت قولتلي انك مش هتطول بس كدبت عليا عملت الحركات ديه قبل كده لما كنت بتسيبني بالشهور من غير اتصال و دلوقتي كمان … انا مش هسامحك يا عمار وحتى لو رجعت هقولك اني مبقتش عايزاك !
____________________
انقضى النهار و حل الليل ليبعث القمر نوره في الأرجاء و يضيء ظلامها … و يخفف حزن قلوب قاطنيها …
لكن بالنسبة لها لم يكن هناك شيء يكفي من أجل أن ينسيها ألمها و لوعة الفراق ، تقسم بأن قلبها يكاد يتشقق من شدة الشوق ،و الحزن و الغضب …
لم يكفها تحمل عدم سماع صوته منذ وقت طويل و لم يكتف هو بجعلها تنظر الى هاتفها كل دقيقة كالبلهاء منتظرة إتصاله ثم تعد الأيام المتبقية على عودته بل صدمها أيضا بحقيقة أنه سيغيب عنها … حسنا و بفرض أن الغياب ليس بيده لكن ألا يستطيع الإتصال بها و إخبارها بهذا بنفسه ؟
لقد قال لها رأفت بأن عمار لن يجد الوقت لمحادثة اي شخص غيره هو و كأنه كان يلمح لها خفية بأن تكف عن جعل عمار ينشغل عن عمله بسببها ، قالها مباشرة بعد نطق جملته بشأن أنه موافق على علاقتهما و اعتذر منها كذلك هل يعاني هذا الرجل من الإنفصام حسنا يبدو أن عمار ورث عن والده هذه التقلبات المزاجية.
زمت شفتها بغيظ و همست بينما تتأمل صور عمار على هاتفها الذي يكاد شحنه ينفذ :
– انت شايف نفسك ع ايه مش فاهمة يعني بس علشان حضرتك ابن عيلة البحيري المعروفة و ناجح و وسيم و ابتسامتك بتجنني بقيت فاكر نفسك مفيش منك اتنين ؟
قامت بتكبير الصورة مطالعة عيناه الزيتونيتان و رموشه الكثيفة وكل تفصيلة في وجهه لتتنهد في النهاية و تهمس بمكابرة بائسة :
– انت مبتوحشنيش اصلا.
ضمت مريم الهاتف لصدرها تشغل بالها بتخيل وجهه الذي بالطبع لم تشتق له أبدا ، ثم و بغتة تقبض قلبها اِستجابة لإهتزاز الهاتف الخاطف فوقه لتسارع وهي ترفعه لعينيها بلهفة و لوعة تبددتا عندما أدركت بأنها رسالة من أحد زملائها فاِنفرطت دمعتها التي كبتتها كثيرا ثم رمته بعيدا مغمضة عينيها وقد اتخذت الطريقة الوحيدة للهروب … النوم.
و في غمرة غفوتها استنفرت خلاياها ردا على ذلك الهجوم الكاسح الذي بدد سلامة نومها حين كانت تحلم بشخص واحد فقط دون سواه إلا أن الحلم هذه المرة كان يبدو حقيقيا لدرجة أن مريم انتفضت معتدلة في فراشها بحركة واحدة تنهب أنفاسها المخطوفة بنهم غريق طفا الى سطح الحياة بعد اختناق كاد يودي بحياته !
وضعت يدها على قلبها تتحسس خفقاته بذعر وقد بدت عنيفة بشكل آلمها لوهلة قبل أن تبتلع رمقها وهي تستمع لحركة خفيفة تصدر من خارج الغرفة !
ركزت مريم حواسها قليلا معتقدة بأنها تتوهم لكن الصوت اِزداد ليرتجف جسدها بوجل و جفت شفتاها بخوف متيقنة بأن هناك أحد ما في الشقة فوقفت سريعا متخيلة بأن هناك لصا تربص بها وهو يعلم بأنها تسكن بمفردها أو شخصا آخر يود أذيتها ، في كل الأحوال لم تستطع التفكير بمنطقية في هوية الدخيل خاصة عندما تناهى لأسماعها صوت جلجلة أقوى فشهقت برعب وقد كاد يغمى عليها !
هرعت مريم سريعا لهاتفها كي تطلب النجدة غير انها لعنت بداخلها مدركة بأنه انطفأ لأنها لم تشحنه منذ وقت طويل و بقي لديها حل أخير وهو حماية نفسها بنفسها ، صحيح لا يوجد شخص بجوارها الآن لكنها كفيلة بفعل الازم من أجل سلامتها.
أخذت نفسا عميقا و ارتسمت الحدة على وجهها وهي تستل مقصا من أحد أدراج طاولة الزينة ثم فتحت الباب ببطء و تسللت إلى الصالة على أطراف أصابعها تتبع مصدر الصوت حتى وقفت مكانها عندما أبصرت بمساعدة الضوء الخارجي جسدا ضخما يتحرك بين تلافيف الظلام فتجمدت دماؤها و أصبحت ساقاها كخيط رفيع من الهلام لا يقوى على حملها و كادت تصرخ لكنها تراجعت في آخر لحظة خوفا من أن يهاجمها فلا تستطيع مجابهته ، من الأحسن أن تهاجمه هي دون أن ينتبه لوجودها كي تتفادى أية أضرار قد تلحق بها لذلك اقتربت منه بحذر ..
ثم وحين همت بتوجيه المقص الحاد نحوه و غرزه في جسده استدار لها فجأة و اِنتفض وهو يجد يدا تمتد عليه فأمسكها سريعا لتصرخ مريم بشراسة موجهة قدمها لبطنه لكنه قبض عليها سريعا مغمغما بنبرته القوية :
– مريم يا مجنونة اهدي ده انا.
امتدت يده للقاطع يشعل الأضواء فتوضح له وجهها المنصدم و شعرها الأشعث ليزفر مبرطما :
– يخربيت جنانك انتي مسبتيش حاجة الا و عملتيهالي كان فاضل تقتليني واهو قربتي تعمليها لو ملحقتكيش.
لم تجبه مريم بل ولم تحرك رمشا واحدا حتى ، فقط تقف مقابلة له وهو يمسك يدها التي تحمل المقص الملتصق بكتفه تماما ولحسن الحظ أنه كان سريع الحركة فمنعها من غرزه بداخله بأعجوبة ، فغرت فاهها محدقة فيه بصدمة وكأنه شبح أو كائن فضائي و ظنت لوهلة بأنها لم تستيقظ من غفوتها بعد.
نعم هي نائمة الآن و لا بد أنها تحلم به مثل العادة لأن عمار مسافر ولن يستطيع العودة إلا بعد أشهر أخرى …
لكن ملامحه و بنيته ، صوته و رائحته و ملمس يده الخشنة على بشرتها تؤكد لها بأنه حقيقي كيف حدث ذلك و متى فليساعدها أحدهم و يرشدها للطريق الصحيح.
طالعها عمار بهدوء رغم أنفاسه المتسارعة و مرر عيناه عليها بلهفة يتشبع من وجهها الذي اِشتاقه حد الجنون و كاد يتكلم غير أن مريم قاطعته بتيه :
– انت … انت حقيقي … بتعمل ايه هنا ازاي.
ولم تدرك في غمرة صدمتها أن جسدها اِرتخى فأسندها بذراعه و همس بصوته الأجش :
– وحشتيني يا مريم … وحشني وجودك وكل حاجة فيكي.
تقدم منها يدفن أنفه في شعرها و يضمها إليه لكنها دفعته عنها صارخة بجنون وقد استوعب لعبته :
– انت كدبت عليا قولتلي انك مشغول ومش هتعرف تفضي نفسك ليا و والدك قال انك مش هتقدر تتواصل معايا الفترة ديه انتو كنتو بتلعبو بيا !
ابتسم عمار بشكل لا يناسب اِضطراب الموقف و قال موضحا :
– كنت عايز اعملهالك مفاجأة عشان اشوف انتي هتعملي ايه بس قصة والدي مفهمتها هو عمل ايه بالضبط.
يا الهي وهل هذا وقت الاستجواب و السؤال لقد غاب عنها سنة كاملة ألا تجد سوى هذا الوقت لكي تناسبه ، ارتعشت يدها بضعف وأسقطت المقص فأفلتها عمار و انقض عليها فجأة يعانقها بخفر لبته هي سريعا مهمهمة من بين شهقاتها المجنونة و ضربها لصدره بضراوة :
– وحشتني اوي يا عمار انا مش هسامحك لانك بعدت عني المدة الطويلة ديه انا بكرهك.
عتابها الأخرق لم يكن يناسب احتضانها له بهذا الشكل القوي فأدرك أن حبها يهزم غضبها لذلك قبض عليها بقوة و جذبها ناحيته هامسا بلوعة :
– و انا بحبك … بحبك لدرجة مبتتوقعيهاش يا مريم.
تأوهت بجذل و اغمضت عينيها مستسلمة لفيضانات الدموع التي تسيل منهما ثم ابتعدت عنه و قبلته بشغف نتج عنه جنون عمار الذي احتجزها بين ذراعيه يبادلها مشاعرها بلهفة و نبضات قلبه تتضارب مع بعضها البعض بعنف اختلجت له أنفاس مريم …
بعد مدة كان الإثنان جالسان في الشرفة يشاهدان شروق الشمس معا وضعت رأسها على كتفه بسلام بينما رفع هو اللحاف و غطاها به لتتمتم مريم معاتبة :
– طولت الغيبة يا عمار انت قولتلي هتسافر كام شهر بس بقالك سنة بعيد عني.
جذبها من ذراعها لتلتصق به أكثر و أجاب متنهدا :
– مكنتش متوقع ان المشروع هياخد مننا كل الوقت ده بس صبرت نفسي بذكرياتي معاكي و بالبوصلة اللي ادتيهالي و خليتك انتي اتجاهي دايما عشان كده جيتلك اول ما نزلت.
اِبتسمت بخفية دارتها وهي تقول بينما تمرر سبابتها على صدره :
– و متصلتش ليه طيب … تعرف ان والدك النهارده الصبح قالي انك هتضطر تغيب اكتر وقتها حسيت الدنيا بتلف بيا ووعدت نفسي اني مش هسامحك و مكلمكش تاني.
ضحك عمار بخفة و قال :
– مقدرتش اتصل لاني كنت يدوب بدخل لجناحي في الاوتيل الساعة واحدة الفجر و بنام عشان اصحى بدري و اروح للشغل و الحمد لله ان تعبنا مكنش ع الفاضي أما بابا فهو حب يلعب بأعصابك لانه كان عارف اني نازل النهارده و قابلني في المطار … بس قوليلي انا وحشتك اوي كده.
رمشت مريم بعينيها و كابرت بعناد :
– امم مش اوي يعني.
رفع عمار حاجبه بإستهجان من عدم مبالاتها الزائفة لأن وليد أخبره بأنها كانت تسأل عنه دائما و وجهها ينضح بالحزن عندما تسمع بأن سفره سيطول و حتى أنه رآها بنفسه منذ ساعات وكيف كان وجهها ملطخا بخيوط الدموع الجافة ، أخذ نفسا عميقا و طبع قبلة على شعرها ثم أدارها اليه وضم وجهها بين يديه مغمغما :
– كل دقيقة كانت بتمر عليا وانا بعيد عنك بتقتلني يا مريم مفيش ليلة عدت عليا غير وانا بفكر فيكي و بتأمل في صورك البوصلة اللي ادتيهالي مكنتش بتساعد في اني اتخطاكي ولو ثانية واحدة بالعكس بتخليني متشوق ليكي اكتر … علشان كده عايز أسألك يا مريم … تقبلي تتجوزيني.
– بس احنا متجوزين.
ردت عليه مريم بتلقائية فهز عمار رأسه نافيا ماتفكر به و شرح لها قصده بجدية :
– مش عايز مجرد كتب كتاب و علاقة في السر انا عايز نعمل فرح كبير و تلبسي فستان أبيض و عيلتك تسلمك ليا عايز اعملك فرح بيليق بيكي و بيخلي كل الناس تعرف اننا ملك لبعض.
يمكن انتي متفاجأة دلوقتي بس انا الفترة اللي مرت عليا بعيد عنك حسستني قد ايه محتاجك في حياتي علشان كده بعرض عليكي تكملي حياتك معايا بإرادتك و نفتح صفحة جديدة مع بعض … قوليلي يا مريم انتي موافقة.
تلجلحت مريم من حصاره و عيناها الامعتان بدموع التأثر وهي تتخيل نفسها بفستان أبيض مثل الذي تحلم به كل فتاة و بجانبها الرجل الذي اختاره قلبها ، هي لم تعش هذه اللحظات مع عمار رغم أنه راعاها في الليلة الأولى بينهما و أظهر لها حنانه و صبره من تخشبها و خوفها الظاهر على وجهها لكنه لم يكن يفعل ذلك بدافع الحب أبدا وحتى هي لم ترضخ له لأنها كانت تحبه وقتها.
أقصى حلامها كانت أن تزف إلى حبيبها الذي هي متيمة به حد الجنون و يعرف الناس بأنها زوجته و حاملة إسمه مع الأسف لم يستن لمريم فعل هذا لكن عمار يمنحها الآن فرصة تحقيق ما كانت تريده … إلا أن رغبتها أصبحت محملة بالأشواك التي لا يمكن لأحد قطعها بدون أن يصاب بأذى !
لم تكد مريم تفيق من صدمة عودته حتى باغتها بصدمة أكبر تخشب لها جسدها و جف بسببها حلقها فإهتزت عيناها بإضطراب و تمتمت :
– نعمل فرح يعني … ونبقى متجوزين وبنعيش في مكان واحد ؟
هز عمار رأسه مومئا بغبطة :
– مش هضطر اغيب عنك كتير او اعمل مليون حساب قبل ما امسك ايديكي في الشارع الكل عارف اننا بنحب بعض يبقى ايه فايدة التأجيل ده يا مريم انا غلطت اول مرة لما عرضت على عمك فلوس مقابل انك ترضي تتجوزيني في السر و وجعتك وزعلتك بس دلوقتي عايز اصلح غلطتي و اعمل فرح يليق بيكي.
كانت تستمتع لحماسه وإصراره فرق قلبها من أجله لكنها تجهمت سريعا و تملصت منه هاتف بإضطراب :
– انت فاجأتني بالموضوع ده انا مكنتش متوقعاه منك بس لازم افكر شويا لاني مش مستعدة للخطوة ديه.
– مش مستعدة ؟ مش انتي بتحبيني يا مريم و عايزة تقضي حياتك معايا وبعدين الكل عارف اننا متجوزين فين المشكلة بقى.
هتف عمار بتجهم و اِستنكار وهو يرى رفضها الباد على وجهها فكر في البداية أنها تتدلل عليه فقط أو تعبث بأعصابه إلا أن عيناها المشبعتان بالنفور من الفكرة أكدتا له بأنها ترفض حقا الزواج به خاصة عندما تمتمت بشجن :
– المشكلة اننا عملنا حاجات كتيرة في بعض و أنا أذيتك و أذيت عيلتك و الناس شهدت ع كرهنا لبعض ازاي هنطلع فجأة كده ونقول اننا هنتجوز وكمان … عمار انت عارف اني مبخلفش اا…
ذهل من عذرها هذا و كاد يظنها تسخر منه فسألها بإستهجان :
– مش بتخلفي … حبيبتي اقتنعي بقى ان مشكلتك هتتحل لو داومتي على العلاج وديه اثار بديهية لانك أجهضتي يعني مفيش داعي تفقدي الأمل وانتي محاولتيش تتعالجي حتى.
تمام نفترض ان كلامك صح ومش هتقدري تجيبيلي ولد يا ترى من بين كل المشاكل اللي اتجاوزناها مع بعض انتي لقيتي ان الخلفة هي الحاجز مابيننا و هتخلى عنك مثلا لو مخلفتيش.
تنهدت مريم بوهن وهي تدرك الوضع الكارثي الذي تسير نحوه ليلة اللقاء بعد الغياب ثم أنكست رأسها وغطت وجهها بيديها هادرة بحرقة :
– انت مش فاهمني يا عمار اللي حصل زمان لسه مأثر فيا ومبقدرش اتجاوزه بسهولة صعب عليا انسى كل اللي عشته و اصدق ان مشاكلي اتحلت و خلاص هعيش في سعادة و كمان حقيقة اني اتحرمت من فرصة اني ابقى أم صعبة يا عمار انا مش مستعدة اتأمل بالعلاج عشان افوق بعدها ع نتيجة سلبية !
اختنق صوتها بغصة في حلقها فطالعها عمار مستنيرا بالإدراك … إدراك أنها لم تخرج من تحت تأثير ظلام الحفرة التي أوقعت نفسها بها حتى وإن كانت تعلم بأنه لا وجود لحفرة من الأساس !
لهذا أخذ نفسا عميقا و سارع بمسح دموعها هادرا بتفهم :
– خلاص اهدي كل حاجة هتتحل بالراحة يا مريم و زي لما اتجاوزتي الصعوبات في الماضي هتعرفي تتجاوزيهم دلوقتي اطمني انا معاكي.
– اسفة الموضوع مش متعلق بيك بس انا … مش مستعدة يعني …
همهمت مريم بتقطع من بين شهقات بكائها فضمها إليه بلوعة محاولا إعطاءها الدفء و الأمان لكي يطمئنها و بقيا على هذه الحالات حتى غفت على صدره فحملها عمار ووضعها على السرير ثم خرج الى الشرفة مجددا وهو يفكر في حل لهذه المعضلة حتى خطرت هي بباله … هي الوحيدة التي يمكنها أن تساعد مريم.
___________________
بعد مرور يومين و داخل قصر البحيري.
وقف أمام المرآة يتحقق من هيأته بالطقم الرياضي الأسود الذي فتح سترته لتظهر الكنزة الخفيفة البيضاء من أسفلها مع حذاء رياضي أسود ثم أعاد خصلات شعره الى الخلف بعشوائية و ألقى نظرة أخيرة على نفسه ليغادر الغرفة فوصلته الأصوات المتداخلة من الطابق السفلي و أدرك بأن صديقاه قد جاءا لكي يرحبا به ، و عندما كان سيدخل الى المصعد سمع صوتا يصدر من غرفة والده فطرق الباب بهدوء و دخل متمتما بإبتسامة :
– صباح الخير انتو لسه منزلتوش.
رد عليه رأفت مبتسما هو الآخر :
– لا انا كنت تحت و لسه جاي عشان اقول لوالدتك تنزل اهو متتأخرش لان صحابك جم و بيخططو للحفلة اللي هتتعمل على شرف المدير التنفيذي بتاعنا.
غادر الجناح أما عمار فنظر إلى سعاد مرددا بإعجاب بينما يقترب منها :
– ايه الجمال ده كله يا ماما هاتي بوسة
طبع قبلة على وجنتها و أكمل :
– وحشتيني.
رمقته الأخرى بإقتضاب قبل أن تستدير الى المرآة لتضع قلادتها :
– عشان كده مهانش عليك تجي تشوفني اول ما رجعت من السفر ولسه جاي تسلم عليا … تمام يعني عارفة انك روحت لمراتك ومش بلومك على فكرة بس كمان ليا حق عليك مده انا منمتش طول الليل وانا بستنى فيك ولا عشاني مرات أبوك هتستخسر فيا اني اشوفك بعد غياب سنة كاملة.
– ايه الكلام ده بس يا سعاد هانم معقولة استخسر فيكي حاجة ده انتي هانم قصر البحيري و أمي اللي بحبها.
غمغم عمار بتعاطف وهو يسند رأسه على كتفها من الخلف مدركا أن شوقه لمريم أعماه عن المرأة التي لم يشبع من مناداتها بأمي بعد بينما زمت سعاد شفتها معلقة :
– مش باين على فكرة.
– طيب نتكلم جد انا قابلت بابا في المطار وقالي انه لسه مقالكيش اني رجعت علشان كده قولت لنفسي بما ان الوقت متأخر دلوقتي هسيبك تنامي وترتاحي بعدين اجي الصبح و اشوفك و بيني وبينك انا قعدت مع مريم كام ساعة عشان ابقى افضالك يا عسل يا مربى الفراولة انت.
شاكسها عمار بمشاغبة غير معهودة عليه فضحكت سعاد و استدارت اليه قائلة :
– كل بعقلي حلاوة وانت هعمل نفسي مصدقاك لانك ابني الوحيد ومليش غيرك احبه و ادلعه.
– في رأفت بيه محتاج يدلع.
ضربته على كتفه موبخة إياه :
– بس ياقليل الأدب انت بتتعلم الألفاظ ديه منين.
قهقه عمار بتلقائية و قبل يدها ثم أفسح لها الطريق كي تتقدمه و نزلا معا و بمجرد أن رآه وليد و يوسف نهضا يحتضنانه بشوق ثم رحب بفريال و ندى بهزة خفيفة من رأسه و أعطته هالة التي جاءت برفقة زوجها إبنها الرضيع فحمله عمار بإرتباك و حدق فيه بعاطفة لا تظهر عليه كثيرا فقال وليد بحماس :
– شبهي صح.
حدجه بسخرية مجيبا :
– شبهك ازاي بمناخيرك ديه لو سمحت متظلمش البيبي بالشكل ده.
ضحك الجميع عليه ليردد وليد بفكاهة :
– قمة طحن الخواطر هنشوف ابنك هيطلع شبهك ولا شبه … أمه.
تلجلج عمار لثوان متخيلا أنه سيحمل إبنه في يوم من الأيام ثم حمحم يجلي صوته و قال وهو يعطيه لهالة :
– يتربى في عزكم و دلالكم الف مبروك مع انها جت متأخرة.
– الله يسلمك شكرا.
أوما لها ببساطة ثم جلس مع عائلته بقلب منشرح وهو يستمع لضحكاتهم و مزاحهم و يرى سعادتهم البادية على وجوههم رغم ما يمر به كل شخص منهم ، و هنا أدرك بأنه لا داعي لكي تكون حياتك مثالية حتى تفرح و تضحك لأنه ببساطة لا وجود لحياة تتميز بالكمال نحن كلنا معرضون للسعادة و الحزن ، الضحك و البكاء ، الحب و الكره ، لكن لا يجب أن ندع عنصرا واحدا يؤثر على البقية لأن الحياة أقصر من أن تضيع في البكاء على الأطلال …
كانت هذه أفكاره بعد آخر جلسة علاجية خضع لها يوم أمس مع ريماس حين سألها عن موعده القادم فأخبرته بإبتسامة :
– انت بقيت كويس يا عمار ومش محتاج تتعالج ديه اخر Session معايا.
– ازاي يا دكتور طب و اذا حسيت نفسي مش كويس ومحتاج مساعدة.
– ساعتها هتقنع نفسك انك قادر تحلها زي ما حليت اللي قبلها انت اتجاوزت طريق طويل وصعب ياعمار ولولا قوتك مكنتش هتتحسن ابدا عشان كده انا واثقة فيك ولو جه يوم حسيت فيه انك محتاج مساعدة معنوية فمراتك موجودة وانا كمان هبقى موجودة بس بصفتي صديقة مش دكتور و افضل فاكر يا عمار ان الحاضر و المستقبل مش مبنيين على الماضي زي ما الناس بتقول طبعا مفيش مانع ناخد منه الايجابيات اللي بتحفزنا عشان نكمل بس السلبيات بتترمى مباشرة و الحياة اقصر من اننا نضيعها على الزعل و الكره و الحقد “
استفاق من شروده على ضحكة وليد المرتفعة فإبتسم و مد ذراعه ليحتضن رأفت والذي بدوره استقبل تصرفه بصدر رحب و دموع التأثر …
_________________
– ديه مش مسألة اقتناعك ب انك مش هتخلفي لان الدكتور قالك كده وبس … انتي من جواكي عايزة تصدقي الحقيقة ديه علشان تحمي نفسك.
هتفت ريماس بهدوء وموضوعية متطلعة إلى مريم التي جاءت اليها اليوم ، و تذكرت أن عمار اتصل بها صباحا و أخبرها أنه من الممكن ان تحضر اليها مريم في أي وقت سواء اليوم أو بعد عدة أيام و أوضح لها حالتها بالتفصيل و بالفعل جاءت الأخيرة و أخبرتها بأن عمار كان يحدثها البارحة عن مدى استفادته من تلقي العلاج النفسي فخطرت في بالها فكرة المجيء إليها لعلها تساعدها هي أيضا.
إلا أن كلام الطبيبة بدى لها غير منطقي فقضبت حاجبيها مرددة بإستهجان :
– وانا هحمي نفسي ازاي بفكرة اني مبقدرش اخلف ومقدرش ابقى مع الراجل اللي بحبه.
لم يبدو على ريماس الإنزعاج من تهكم مريم بل شرحت لها وجهة نظرها بمنطقية :
– عايزة تحمي نفسك من خيبة الأمل … كون انك بنوتة اتحرمت من أهلها في سن صغير و مراهقة اتخذلت في الحب و اتعرضت للتحرش وبعدين شابة اضطرت تتجوز في السر عشان تحمي نفسها من ابن عمها و في النهاية ست خسرت ابنها و ثقتها في الراجل اللي بتحبيه كل العوامل ديه أثرت على داخليتك و اتولد عندك شعور الخوف من الحب و السعادة.
بقيتي عايشة في تحفز دائم و استعداد ل انك تخسري سعادتك في اي لحظة و عقلك صورلك ان مفيش حاجة ممكن تكمل معاكي من غير أذى و خذلان علشان كده حطيتي نفسك في وضعية الدفاع و رفضتي كل عامل خارجي ممكن يبقى خطر عليكي.
انتي عشان اتعودتي ع انك تعيشي مع عمار في السر مبقيتيش عايزة تتجوزيه قدام كل الناس لانك خايفة تدي لقلبك الأمل ده وبعدين يخيب فيرجع قلبك ينكسر.
و نفس الفكرة بالنسبة للخلفة انتي اقنعتي نفسك انك مش هتقدري تحملي عشان تريحي دماغك.
صمتت لثوان كي تعطي للأخرى وقتا تستوعب فيه كل كلمة قالتها ثم تابعت :
– وده السبب اللي مخليكي لحد دلوقتي متقدريش تتصلي بعمار رغم انك بتحبيه و بتثقي فيه بس خايفة تغامري وتقومي تتعرضي لنفس الموقف فترجعي لنقطة الصفر مش كده يا مريم.
طالعتها بدهشة و انبهار من مدى تدقيق تحليلها و بدأت تستوعب بأن هذا ما كانت هي تعيشه حقا دون إدراك منها فإحتشدت المشاعر و الكلمات بداخلها عاجزة عن الرد و ظلت تتدبر في كل حرف سمعته حتى سألتها بخفوت :
– طيب ايه الحل اعمل ايه عشان ابقى كويسة.
– ابعدي عن منطقة الثبات العاطفي اللي انتي واقفة جواها دلوقتي و خلي عندك الشجاعة الكافية عشان تغامري زي الشجاعة اللي خلتك تقفي قصاد رجالة أكبر عيلة في البلد و تتحولي من طيف خايف صوته يطلع ل ست قوية و ناجحة في شغلها.
كانت هذه آخر جملة قالتها لها قبل أن تشكرها مريم و تغادر العيادة مفكرة في كل كلمة سمعتها ، اتجهت الى البناية و عند دخولها الى المصعد الذي يأخذها لشقتها صرخت بهلع بعد أن توقف المصعد في الهواء مجددا و انقطعت الكهرباء لينتشر الظلام من حولها على حين غرة !
أحست بتجمد الدماء في جسمها و تراقص صدرها مع تراقص خفقات قلبها بجنون الصدمة و الهلع … و تفاقمت عقدتها الأزلية من الأماكن المغلقة فاِرتجفت بهستيريا و انبثق من جوفها صرخة أخرى وقد ساورتها ذكريات كوابيسها الدائمة يوم إجهاضها بعد عدم استطاعتها من أن تتواصل مع أحد لكي ينقذها !
ازدردت مريم ريقها بصعوبة و جاهدت لكي يخرج صوتها طالبا النجدة لكنها خابت وهي تشعر بأن أحبالها الصوتية قد تم اتلافها فطفقت تضرب على باب المصعد هامسة بهوس :
– طلعوني من هنا … عمار … عمار …
سمعت أصواتا تأت من الخارج فأنكست رأسها و ارتجفت ساقاها وهي تهبط شيئا فشيئا حتى وقعت على الأرضية ، وضعت يدها على عنقها تتوسل هواء و انهمرت دموعها الحارة كخيوط من النار محاولة أن تتمالك أعصابها قبل أن يغمى عليها ، و فجأة أنير قلبها بإسم واحد فقط ظلت تردده في هذه اللحظة … عمار.
اصطكت أسنانها برعب وهي تمد يديها في الظلام تحاول ايجاد هاتفها الذي وقع منها حتى التقطته و قامت بفتحه و حينها اعترضتها أسماء كثيرة لم تجد منها ما يلفت نظرها سوى إسمه هو فاِنهمرت دموعها أكثر متذكرة إياه ، بحنانه و عطفه و وقوفه كجبل صلب خلفها و اختارت في هذه اللحظات أن تغامر و تطبق نصائح الطبيبة و توجيهات قلبها فضغطت على زر الإتصال بإرتعاش ثم أسندت رأسها إلى الخلف مستمعة للرنين المتقطع و الذي قد طال حتى أوشك على التوقف.
شهقت مريم بحرقة و يأس ثم وفي اللحظة التي استعدت فيها كي تسمع كلام الموظفة وهي تخبرها بأن مراسلها لا يرد … جاءها صوته الخشن المتلهف كخيط ضوء انبلج من رحم الظلام !
– مريم … مريم انتي معايا.
من الناحية الأخرى كان هو أيضا لا يستوعب أنها طلبت رقمه أخيرا فهاهو في سيارته التي كان يقودها متجها بها لصالة الرياضة لولا أوقفه رنين الهاتف في البداية اعتقد بأنه من أحد رفاقه فلم يعره اهتماما لكن للحظة عابرة وقعت عينه على الهاتف المعلق أمام المقود فضغط على المكابح فجأة بقوة كادت تلقيه من الزجاج الأمامي ! تعلقت أبصاره على أسمها بصدمة و بدون شعور منه رد عليها و كلمها بواسطة سماعة البلوتوث الموصولة بأذنه :
– مريم …. مريم انتي معايا !
وصلته أنفاسها المتقطعة ثم نشيجها الباكي فهدر بجنون :
– مريم ردي عليا انتي كويسة انتي فين.
ابتسمت الأخرى بهوان و همست :
– انت ليه متأكد اني اتصلت بيه عشان في مصيبة.
رمش بعينيه و انطلق بسيارته مجددا مغمغما :
– ممكن عشان مبيجيش من وراكي غير المصايب مثلا … اتكلمي بقى في ايه انا قربت اعمل حادث !
عادت لحالتها السابقة وأجابته بتقطع :
– الاسانسير … كنت طالعة للشقة بتاعتنا بس الاسانسير وقف فجأة … و الكهربا اتقطعت انا مش شايفة حاجة … عمار انا خايفة الحقني أرجوك.
ضرب على المقود بعنف و زاد في سرعته مرددا بإضطراب :
– متخفيش انا جايلك حالا اوعى تفصلي الخط تمام افضلي معايا و اوعى تستسلمي للدوخة ماشي.
لعن بداخله وهو يطلب رقم الصيانة ثم حارس البناية فأخبره الأخير بأن أفراد الفريق جاءوا و هاهم يحاولون إصلاح العطل فزفر بعصبية و عاد يتكلم مع مريم :
– الصيانة تحت و هتصلح العطل بس انتي افضلي معايا و متنسيش انك واحدة قوية و حاولتي تقتليني من يومين لانك فكرتيني حرامي و عملتي كوارث قبل كده.
– مش عارفة ليه حاسة انك بتحاول تدس السم في العسل و عامل نفسك بتمدحني بس انت بتهزقني بطريقة غير مباشرة.
– ديه الحقيقة انتي عندك سوابق يا بنت الغجر بس ده مبيمنعش اني بحبك بكل حالاتك حتى لو كنتي توكسيك.
– وانت مش قليل بردو نسيت نفسك عملت فيا ايه بس انا كمان بحبك و … انت الوحيد اللي فكرت استنجد بيه دلوقتي.
ابتسم عمار بسعادة لا تناسب الموقف وهو يستمع لإعترافها و بعد دقائق من قيادته السريعة وصل إلى البناية فركض لداخلها ليجدهم قد أصلحوا عطل النظام و بدأ المصعد بالنزول و عندما فتح منعهم بيده من التقدم و دلف هو بمفرده ليجد مريم تقبض على الهاتف بقوة كأنه إكسير الحياة و عندما رأته أمامها سالت دموعها فهرع إليها و احتجزها بين ذراعيه بجنون و قوة حتى كادت أضلاعها تنكسر لكنه لم يكن يبالي في هذه اللحظة بل شدد على عناقه لها و انقض عليها يقبلها في كل مكان يصل اليه مرددا بلهفة :
– انتي كويسة … انا هنا معاكي ياحبيبتي ومش هسيبك أبدا.
بادلته مريم بيدها المرتجفة و السلام يغمرها لكن ليس لأنه رد على اتصالها وحسب بل لأنه حطم أكبر حاجز كان يمنعهما عن بعضهما ..
لذلك و عندما انسلخ عنها عمار مجبرا لكي يرى وجهها و يمسح من عليه آثار الخوف بينما يسألها ان كانت بخير عاجلته هي بهمستها المتسائلة وهي تطالعه بعشق خالص :
– عمار … تتجوزني ؟
_________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية نيران الغجرية)